محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8299 - 2025 / 4 / 1 - 06:38
المحور:
الادب والفن
رؤية ابن عربي والعراقي في الحب والوجود:
الجمال هو السر الإلهي الذي يتجلى في كل شيء، وهو البصمة الخفية التي تنبض بالحياة في الكون. منذ الأزل، كان الجمال بابًا يلجه العارفون ليشهدوا بهاء الحقيقة، فهو ليس مجرد انعكاس للمظاهر، بل نافذة تفتح على المطلق، وطريق يفضي إلى العرفان. إن تأمل الجمال هو رحلة في أعماق الروح، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والوجود، ويصبح الجمال ذاته تجليًا للحب الكوني الذي يربط بين الأرض والسماء. في هذا المقال، سنناقش الأسس الفلسفية للجمال، تجلياته في الفنون المختلفة، وأثره في تشكيل الذوق عبر العصور، ومن ثم، مَن أراد أن يرى وجهَ الحقِّ فليتبعْ شعاعَ الجمال. فإنَّ الكونَ ليس إلا كتابًا مفتوحًا، كلُّ حرفٍ فيه يهتف: «أنا غريبٌ في الغربة، فمَن يُعيدني إلى وطني؟». هنا، حيثُ يذوبُ النورُ في المرايا، وتتجلّى الأسماءُ الإلهيةُ في أرديةِ المخلوقات، يبدأ رحلةُ العارفين.
فالجمالُ ليس زينةً تُرى، بل لغةٌ تُسمع، وحوارٌ بين العاشقِ والمحبوب. هنا، يُصبحُ الحبُّ مركبًا، والخيالُ دليلًا، والوجهُ البشريُّ مِحرابًا تُرفع فيه أصواتُ الشوق:
«مَن عرف نفسَه عرف ربَّه».
وفي الرحاب الإسلامي، لا ينفصل الجمال عن الحقيقة، ولا الحب عن الوجود. فالجماليات الصوفية ليست مجرد تأملات في الفن أو الطبيعة، بل هي فلسفةٌ وجوديةٌ تبحث عن الله في مرايا الخلق. هنا، يبرز اسمان كأعمدة لهذا الفكر: **محيي الدين ابن عربي** (560–638 هـ/1165–1240 م)، المُلقب بـ"الشيخ الأكبر"، و**فخر الدين العراقي** (610–688 هـ/1213–1289 م)، تلميذ مدرسة ابن عربي والسهروردية.
ومن خلال كتاباتهما، نحت الاثنان مفهومًا للجمال يرتبط بالإدراك الروحي، حيث يصير الحبُّ لغةَ تواصلٍ بين الإنسان والوجود، والشكلُ البشريُّ أسمى تعبيرٍ عن التجلي الإلهي.
الفصل الأول: الإدراك – رؤية الله في مرايا الخلق:
1. ابن عربي: العينان اللتان ترى الواحد:
يصف ابن عربي الإدراك الصوفي بأنه "شهود" أو "كشف"، حيث يرى العارفُ اللهَ في كل شيء. في فصل "المشاهدة" من **الفتوحات المكية**، يميّز بين مستويين للإدراك:
- **التشبيه**: رؤية الصفات الإلهية في المخلوقات (كجمال الإنسان أو الطبيعة).
- **التنزيه**: إدراك تفرد الذات الإلهية عن كل تشبيه.
يقول:
"مَن رأى الأشياءَ بالله، لم يرَ غيرَ الله، ومَن رآها بغير الله، لم يرَ اللهَ فيها".
هنا، يصبح الكون كتابًا مفتوحًا، كل آيةٍ فيه تدل على الواحد. فالشجرة ليست شجرةً، بل علامةٌ على "الخالق"، والوجه الجميل ليس وجهًا، بل مرآةٌ تعكس "الجميل".
2. العراقي: الحب كعدسة الإدراك_
أما العراقي، فيرى في الإدراك فعلًا عشقيًا. في **اللمعات**، يكتب:
"كلُّ شيءٍ مرآةٌ لجماله، فكلُّ شيءٍ جميلٌ... لا يحبُّ العاشقُ إلا نفسَه، لأنَّه في مرآةِ المحبوبِ لا يرى إلا ذاتَه".
هكذا، يصير الإدراك حوارًا بين العاشق (الإنسان) والمحبوب (الله)، حيث يذوب التعدد في الوحدة، ويصير الجمالُ البشريُّ أقربَ صورةٍ لتجلي الحق.
الفصل الثاني: الشهادة – لغز الوجود وغايته
1. ابن عربي: الكون مرآة الله:
الشهادة عند ابن عربي هي الغاية من الخلق: "لو لم يشهد الحق الخلقَ لما كان". فالله خلق العالم ليرى أسماءه وصفاته فيه، مثل فنانٍ يعرض لوحته. يقول في **فصوص الحكم**:
"العالمُ مرآةُ الحق، فإذا رأيتَ العالمَ رأيتَ الحقَّ فيه".
لكن هذه المرآة لا تُظهر سوى "الواحد" عبر تعدده. فالشمس التي تسطع في المرايا الكثيرة تبقى شمسًا واحدة، وكذلك الله يتجلّى في الموجودات دون أن يتجزأ.
2. العراقي: الحب جوهر الشهادة:
يُدخل العراقي الحبَّ كعنصرٍ جوهريٍّ في الشهادة. ففي **اللمعات**، يربط بين خلق الكون وشوق الله إلى رؤية ذاته:
"أراد الحبُّ أن يرى ذاتَه، فخلق المرآةَ (العالم)، وفيها رأى جمالَه".
هكذا، يصير الحبُّ قوةً كونيةً تدفع العاشقَ إلى البحث عن المحبوب في كل شيء، حتى يكتشف أن البحثَ نفسه هو الوجود.
الفصل الثالث: الجمال – ما يُثير الحبَّ ويُحرّك الوجود:
1. ابن عربي: الجمال سِرُّ الخلق:
يعرّف ابن عربي الجمالَ بأنه "ما يثير الحبَّ"، مستندًا إلى الحديث: «إن الله جميلٌ يحب الجمال». لكن جمال المخلوقات ليس سوى ظلٍّ لجمال الله. في **الفتوحات**، يوضح:
"الجمالُ المطلقُ لله، وما في العالم إلا الجمالُ الإضافيُّ".
حتى القبح النسبي (كمرضٍ أو كارثة) يُفهم في إطار الحكمة الإلهية، حيث يقول:
"القبيحُ جميلٌ في مرآة الحكمة".
2. العراقي: الجمال البشريّ ذروةُ التجلي:
يرى العراقي أن الجمال البشريَّ هو أرقى صور التجلي، لأنه يجسّد التقاءَ الروح بالمادة. في شعره، يصف محبوبًا أرضيًا كرمزٍ للحب الإلهي:
"يا وجهَه المُشرقَ كالشمسِ، أأنتَ بشرٌ أم ملَك؟!
> فيك انعكستْ أسرارُ الأزلِ، فصرتَ للعارفينَ دليلًا".
هنا، يصير الجسدُ البشريُّ كتابًا يُقرأ فيه نورُ الله، والحبيبُ الأرضيُّ بوابةً إلى المحبوب السماوي.
الفصل الرابع: الخيال – الجسر بين العالمين:
1. ابن عربي: الخيالُ برزخُ الوجود:
يُعد الخيال عند ابن عربي عالمًا وسيطًا بين الروح والمادة. ففي **الفتوحات**، يشرح أن الخيالَ "عالمُ الأمثال"، حيث تتجسد المعاني المجردة في صورٍ محسوسة. الأحلامُ مثالٌ على هذا: فالمعاني (كالعلم أو الخوف) تظهر في صورٍ كالنور أو الوحوش.
هذا العالم الوسيط يسمح للعارف برؤية الله في الأشكال دون أن يحصره في صورة، كما يقول:
"الخيالُ يُريكَ المعنى في الصورة، والصورةَ في المعنى".
2. العراقي: النبيذ والكأس استعارةٌ للوحدة**
يستخدم العراقي الاستعارة الشعرية لشرح وحدة الوجود. ففي قصيدته:
"النبيذُ هو الساقي، والكأسُ ثغرهُ،
وكلُّ ما سواهما وهمٌ يزولُ".
هنا، النبيذُ (المعنى) لا يوجد دون الكأس (الشكل)، لكن الحقيقةَ واحدة. هذه الاستعارة تذكّر بقول ابن عربي:
> "الخمرُ واحدٌ، لكن الكؤوسَ مختلفةٌ".
الفصل الخامس: النقد والتأثير – جمالياتٌ تتجاوز العصور:
1. اتهامات بالحلول والاتحاد:
واجهت رؤية ابن عربي والعراقي انتقاداتٍ من فقهاء اتهموهما بـ"الحلول" (أن الله يحل في المخلوقات) أو "الاتحاد" (أن الإنسان يتحد بالله). لكن الاثنين نفيا هذا، مؤكدين أن تجليهما يعني "وحدة الشهود" لا "وحدة الوجود".
2. تأثيرهم في الأدب والفن:
ألهمت جمالياتهما الشعراءَ كـ**حافظ الشيرازي** و**جلال الدين الرومي**، وامتد تأثيرها إلى الفنون الإسلامية كالخط والهندسة، حيث تُرى الزخارفُ تعبيرًا عن تنوع الواحد.
والجماليات الصوفية لابن عربي والعراقي ليست نظريةً فنيةً، بل رؤيةٌ كونيةٌ تجعل من الجمال طريقًا للمعرفة، ومن الحبِّ جوهرَ الوجود. عبر شهود الجمال في الخلق، يدرك العارفُ أن اللهَ "أقربُ إليه من حبل الوريد"، وأن العالمَ قصيدةٌ تكتبها يدُ الواحد.
هكذا، يصير الجمال فنًا للحياة، حيث كلُّ ذرةٍ في الكونِ تُنشد:
"سبحان من أظهرَ الأشياءَ وهو عينُها".
عندَ منتهى الرحلة، حيثُ تنكسرُ الأقلامُ، وتخرسُ الألسنُ، يدركُ العارفُ أنَّ الجمالَ لم يكنْ إلا ظلًّا لحقيقةٍ لا تُدرك. فما رآه في المرايا – من أزهارٍ ووجوهٍ وأنوارٍ – كانَ وميضًا من وجهِ الحقِّ الذي «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ».
وختاما، نرى أن الجمال هو رحلة لا تنتهي، هو نور يتلألأ في قلب الوجود، ومسار يسير فيه العارف نحو الحقيقة المطلقة. إنه تجلٍّ للحكمة الإلهية التي تُظهر للإنسان عظمة الخلق ووحدة الكون. فالجمال ليس مجرد لون أو صوت أو شكل، بل هو انعكاس للسر الإلهي الذي يملأ الوجود بهاءً ورونقًا.
وفي تأمل الجمال، يتجلى اللانهائي في حدود الممكن، ويصبح الفن وسيلةً للتحليق نحو أفق أسمى، حيث لا انفصال بين الروح والواقع، ولا مسافة بين الإنسان وخالقه. كل لمحة من الجمال هي نفحة من الأبدية، وكل إبداع هو تذكير بأن الإنسان خُلق ليشهد هذا الجلال ويسير نحوه بشغف العاشق وسكينة العارف.
ولذا، فإن الجمال ليس فقط إدراكًا حسيًا، بل هو تجربة روحية عميقة، طريق نحو الفناء في الكمال الإلهي، ودعوة للذوبان في جوهر النور. إنه ذلك السر الذي تنكشف به حقائق الوجود، والذي تتردد أصداؤه في كل نغمة موسيقية، وكل بيت شعري، وكل لمسة فنية خالدة. إنه تذكرة بأن الإنسان، رغم محدوديته، قادر على معانقة المطلق، ورؤية ما وراء الحجاب، حيث لا يبقى إلا الجمال الأزلي متجليًا في كل شيء، وفي كل لحظة، لمن استطاع أن يرى بعين القلب قبل عين الجسد.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟