|
في التربية!
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8298 - 2025 / 3 / 31 - 18:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما أروع هذا البيت الشعري للمتنبي والذي يُعد من أهم فلسفاته الشعرية حيث يقول: "وتصغر في عين العظيم العظائم، وتعظم في عين الصغير الصغائر!". إنَّ مفهوم "العظمة" و"الصغر" لدى البشر لا يتجاوز في جوهره المعايير التربوية التي تحدد المكانة الحقيقية لكل فرد. فكل إنسان، سواء اعتُبر عظيماً أو صغيراً، لا يعكس سوى مدى تأثير التربية التي تلقاها في تشكيل تصوره للعالم وتفاعله مع محيطه. فالتربية، بما تحمله من معانٍ وتوجهات، هي التي ترسم مسار العلاقة بين الإنسان وبيئته التي تتغير باستمرار، وبذلك فإنَّ الارتقاء أو التراجع يتحدد في مرمى تلك التربية التي تشكل الوجود نفسه. التربية، في جوهرها، هي عملية مستمرة يكتسبها الإنسان من مصادر اجتماعية متعددة، ومن خلال التجارب المتنوعة التي يمر بها طوال حياته. هذه العملية لا تتوقف عند مرحلة معينة، بل تمتد إلى نهايات العمر، حيث تتجدد باستمرار. فالتربية ليست ثابتة، بل تتطور في جوانبها الكمية والنوعية، في تكامل مع التحولات التي تطرأ على الفرد وبيئته، مما يجعلها حالة ديناميكية لا تنفصل عن حركة الحياة ذاتها. التربية، في إحدى تجلياتها، يمكن أنْ تُفهم كـ"تجربة" تنبثق منها الدروس والعبر التي تشكل تطور الإنسان. فالتجربة التي لا تثمر تربوياً، ولا تترك في النفس أثراً يعيد تشكيل الفهم أو السلوك، تصبح بلا جدوى. إنَّ الإنسان الذي يفتقر إلى الحكمة هو من يكرر التجربة نفسها دون أنْ يستخلص منها الدروس التي تمكنه من التقدم، وكأنَّه لم يمر بها من قبل. لذا، فالتجربة لا قيمة لها إلا إذا تحولت إلى تعليم وتغيير حقيقي في الوعي والسلوك، وهو ما يُدعى بالتربية الفعَّالة. تكمن القيمة التربوية للإنسان في الطريقة التي يتعامل بها مع تحديات الحياة، وكيفية نظره إلى المواقف المختلفة، وتقييمه للأمور وحكمه عليها. فهناك مشكلات قد تبدو بسيطة، لكنها تكون قادرة على تحطيم الإنسان، بينما قد تكون هنالك مصاعب عظيمة تزيده قوة وعزيمة. لذلك، ليس حجم المشكلة هو الذي يحدد تأثيرها، بل كيفية استجابة الفرد لها وتوظيفه لتلك التجربة في نموه الشخصي وتطويره الروحي والفكري. في مجتمعنا، يبدو أنَّ الإنسان لا يتلقى من التربية سوى ما يعزز من ضعف قدرته على التكيف مع التحولات المستمرة في بيئته الاجتماعية. فالتربية التي يتلقاها لا تساهم في تأهيله ليواجه الحياة بفهم صحيح لحقائقها، مما يجعله في مواجهة أي مشكلة ، مهما كانت صغيرة ، يظهر ضعيف الإرادة، مستسلماً، فاقداً لأي قدرة على التفاعل الفعَّال أو اتخاذ القرار. يصبح كأنَّ مشكلات الحياة تُحل بالتجاهل أو بالاستسلام لقدرية تستهين بوجوده، وتعجز عن تقدير دوره الفاعل وإمكاناته في التغيير.
في مسار نموه التربوي، يمر الإنسان بمرحلتين أساسيتين. في المرحلة الأولى، التي تبدأ منذ طفولته، يتلقى التربية من والديه والمدرسة، حيث تكون مصادر التعلم خارجة عنه، لكنه يعتمد عليها في تشكيله الأول. أما في المرحلة الثانية، التي تمتد طوال معظم حياته، يصبح هو نفسه المسؤول عن إعادة تربية ذاته، مسترشداً بتجاربه الشخصية ورؤيته الخاصة للعالم. هذه المرحلة يمكن أن نطلق عليها "مرحلة العصامية التربوية"، حيث يتحول الفرد إلى معلم نفسه. ولا شيء في التربية أصعب من إعادة التربية، فالتعامل مع النفس المتشكلة بالفعل ليس كالتعامل مع صفحة بيضاء، إذ إنَّ محو ما تم تعلمه سابقاً وإعادة تشكيله يتطلب جهداً أكبر بكثير من بناء الأساسيات من الصفر. يبدأ الإنسان في اكتشاف مواطن ضعفه وقوته في بنيته التربوية حينما يواجه، بشكل مفاجئ، بيئة اجتماعية جديدة لم يألفها من قبل. في هذه البيئة، يغيب الدعم الاجتماعي الذي كان يحيط به، والذي كان يشكل له شبكة أمان تمنحه شعوراً بالسهولة والراحة، وتحميه من التحديات. يصبح في هذه اللحظة وحده، مضطراً إلى إعادة تقييم قدراته واستجابته لظروفه الجديدة، ليكتشف أبعاداَ غير مألوفة من نفسه، تبرز فيها مواطن قوته وضعفه على حد سواء. في هذه اللحظة المصيرية وحدها، ينكشف للإنسان جوهره الحقيقي، فيواجه ذاته بكل ما تحمله من ثقل وجودي، مُعيداً تقييم تصوراته السابقة عن نفسه، تلك التي مزجت بين الوهم والحقيقة. فكثيراً ما ينسج المرء حول نفسه هالة من التصورات الزائفة، كأن يرى نفسه تجسيداً لنابليون بونابرت، ويتوقع من الآخرين أنْ يعاملوه وفقاً لهذه الصورة الوهمية.
لكن الوهم لا يتبدد إلا في بوتقة التجربة، حيث تُختبر جميع الأوهام وتتحطم أمام صخرة الواقع. ولا يتحرر الإنسان من أوهامه إلا حين يخوض غمار هذه التجارب، ويستخلص منها الدروس التي تُعيد تشكيل وعيه، ليعيش في انسجام مع الواقع، لا كمجرد عابر، بل كابنٍ شرعي له، في فكره ومشاعره وسلوكه. عندها فقط يصبح قادراً على حمل وزنه الحقيقي، لا وزن الأوهام التي اختلقها أو ورثها.
تتشكّل لحظةُ الاغتراب الاجتماعي المفاجئ حين يُلقى المرءُ في بيئةٍ غريبةٍ من دون تمهيدٍ أو استعداد كمرآةٍ وجوديةٍ تعكس بلا رحمةٍ هشاشةَ بنيته التربوية ومكامنَ قوّته. فهذه البيئةُ الجديدة، بضغوطها القاسية ووقائعها الصادمة، تُجبرُه على مواجهةِ ما كان كامناً في أعماقه من طاقاتٍ وإمكاناتٍ لم تُختبر من قبل.
هنا، في هذا الصراع بين الذات والواقع الغريب، تبدأ عمليةُ التحوّل الجوهري ، فصفاتُ الفرد وسلوكياته تتهاوى ثم تُعاد صياغتها تحت وطأة الحاجة إلى التكيّف. إنها ولادةٌ جديدةٌ تُفرض عليه، لا من خلال المثاليةِ أو التمنّي، بل عبر الاصطدامِ المتواصلِ بوقائعَ لم يألفها، وحقائقَ ترفضُ أنْ تُختزلَ إلى ما اعتاده من سرديات. فالتكيّفُ هنا ليس مجرّدَ استجابةٍ سلبية، بل هو فعلُ مقاومةٍ وجودي تُولدُ من خلاله ذاتٌ أكثرَ وعياً بحدودها وإمكاناتها. لا يخفى على المُتأمّل أنَّ جوهرَ التفوق التربوي يتجلى في تلك القدرةِ اللافتةِ على الانثناءِ أمامَ رياحِ التغييرِ الاجتماعي دون أنْ تنكسرَ القامةُ الوجودية. فالتكيُّفُ السريعُ مع التحوّلات الجذرية ليس سوى ثمرةٍ نادرةٍ لتربيةٍ فكريةٍ وسلوكيةٍ متينة، تمنحُ الفردَ ذكاءً وجودياً يُحيلُ الغريبَ إلى مألوف، والمجهولَ إلى مجالٍ للفعلِ والإمكان.
هذه المرونةُ ليست انبطاحاً أمام الواقع، بل هي دليلٌ على حيويةِ الذاتِ وقدرتها على إعادةِ تشكيلِ نفسها في بوتقةِ الظروف المستجدة. فالأصلُ في الإنسانِ الراشدِ تربوياً أن يُحاورَ التغييرَ لا أنْ يُنازعه، أنْ يذوبَ فيه مؤقتاً كي يعودَ إلى تشكيلِ ذاته من جديد، كالمعدن الذي يُعاد تشكيله ليصيرَ أصلبَ مما كان.
ليست الحياةُ مجردَ سلسلةٍ من الأحداث العابرة، بل هي بالأساس انعكاسٌ لرؤيةٍ فلسفيةٍ كامنة. فكل فعلٍ نقوم به، كل محاولةٍ نقدم عليها ، مهما بدت بسيطةً أو عظيمة ، تحمل في طياتها بذرةَ تصوّرٍ فلسفيٍّ خاص. انظرْ إلى رجلٍ يشبّ الحريقُ في بيته ، فقد يهرعُ إلى إطفائه بعقلانيةٍ عملية، أو يلجأُ إلى الدعاءِ والتضرع، أو يجمعُ بين المنهجين. في كلٍّ من هذه الخيارات، ثمة رؤيةٌ للعالم أو فلسفة خاصة تتحكّم بالسلوك، وإنْ لم يكن المرءُ واعياً بها.
الإنسانُ، في جوهره، فيلسوفٌ صامت. حتى في أبسط أفعاله اليومية، هناك سلوك خفي يُوجّه خطواته. فما نسميه "سلوكاً" ليس سوى ترجمةٍ ملموسةٍ لنظامٍ فلسفيٍّ مؤقتٍ نتبنّاه عن وعيٍ أو دون وعي لمواجهة تعقيدات الوجود. وهكذا، فإنَّ كلّ حركةٍ نقوم بها هي في الحقيقة بيانٌ وجوديٌ يعلن، بصمتٍ، عن نظرتنا إلى العالم ومكاننا فيه.
لم تكن شجاعةُ المحاربِ المسلمِ في ميدانِ المعركةِ مجردَ بطولةٍ عابرة، بل كانت تجلّياً لوضعيةٍ وجوديةٍ فريدة، تنبثقُ من رؤيةٍ فلسفيةٍ عميقةٍ للموتِ والحياة. لقد تحوّلَ الموتُ في وعيهِ من مصدرٍ للرعبِ إلى محضِ إرادةٍ إلهيةٍ لا تُقاوم، فأضحى الفناءُ الجسديُّ مجردَ انتقالٍ زمنيٍ محكومٍ بقدرٍ مسبق. هذه العقيدةُ المتجذرةُ في العقلِ والوجدانِ منحتهُ قوةً روحيةً هائلة، جعلتهُ ينظرُ إلى ساحةِ القتالِ كما ينظرُ الرياضيُّ إلى الملعب: بقلبٍ خفيفٍ وروحٍ مستعدة. على النقيض من ذلك، ينطلقُ المحاربُ الذي يرى الموتَ احتمالاً واقعياً لا قدراً محتوماً، حاملاً في وعيهِ ثقلاً وجودياً مختلفاً. إنه يدخلُ المعركةَ وكأنه يعبرُ حافةَ الوجود، حيثُ تميلُ كفةُ الفناءِ على كفةِ البقاء. هذه الرؤيةُ التي تضعُ الموتَ ضمنَ حساباتِ الصراعِ لا خارجَها تُفرزُ نمطاً من القتالِ مشوباً بالتردد، إذ تتحولُ ساحةَ الوغى إلى فضاءٍ من المجهولِ يُعيدُ فيه المقاتلُ حساباتهِ في كلِّ لحظة.
فبينما يتحركُ المؤمنُ بقدريةِ الموتِ في ساحةِ المعركةِ كجسدٍ لا يعرفُ الخوفَ إلا من مخالفةِ الإرادةِ الإلهية، يظلُّ هذا المقاتلُ أسيرَ معادلتهِ الوجودية ، فكلُّ ضربةٍ قد تكونُ نهايةً، وكلُّ خطوةٍ قد تقررُ مصيراً. هذه الفلسفةُ التي تجعلُ من الحياةِ والموتِ خيارين متصارعين لا تنتجُ إلا بطولةً مشروطةً، تفتقرُ إلى ذلك الانسيابِ الوجوديِّ الذي يمنحه اليقينُ المطلقُ بنتائجِ المعركةِ قبلَ بدئها. وهكذا يصبحُ مستوى البسالةِ مرهوناً بدرجةِ التحررِ من هاجسِ الموتِ لا بمواجهته. عَبَرَ كرومويل ساحاتِ الحربِ بِسَيْفِ اليقينِ الإلهي، مُؤمناً بأنَّ نِتاجَ كلِّ صراعٍ ليس سوى تجلٍّ مادي لإرادةٍ سماويةٍ حاكمة. هذا الاعتقادُ الجبريُّ حوَّلَ مسارَ حروبهِ من حساباتٍ أرضيةٍ إلى حركةٍ في فلكِ القضاءِ والقدر، فاندفعَ كقوةٍ طبيعيةٍ لا تُحاسَبُ بعواقبَ ولا تُوقَفُ بعواقب.
لقد استمدَّ قوَّتَه الحقيقيةَ من ذلك المصدرِ الميتافيزيقي، فَضَاعَفَ طاقتَه المعنويةَ إلى درجةٍ جعلتْ قواهُ الماديةَ تبدو كظلالٍ لتلك القوةِ الروحيةِ الجارفة. لم يكُنْ يقاتلُ بجيوشٍ فقط، بل بِعقيدةٍ حوَّلتْ كلَّ جنديٍّ إلى قوةٍ لا تُقهَر، لأنها نابعةٌ من يقينٍ بأنَّ النصرَ والهزيمةَ مُقدَّران سلفاً، ولم يبقَ سوى الفعلِ كشكلٍ من أشكالِ التسليمِ للإرادةِ العليا.
هكذا تحوَّلَ القتالُ عندَهُ إلى نوعٍ من العبادةِ الجهادية، حيثُ تُستَهانُ بالموتِ لأنَّ الحياةَ نفسَها لم تكُنْ سوى أداةٍ في يدِ القدر. فلم يكُنْ يُحاربُ لأجلِ النصرِ الأرضي، بل كان يُحاربُ لأنَّ الحربَ نفسَها كانتْ جزءاً من حتميةٍ إلهيةٍ يجبُ أن تُعاشَ بكلِّ ما أوتيَ المؤمنُ من قوة. في اليونان القديمة، حيث حاصر الموتُ أبناءَ اليونان حصاراً مصيرياً، تحوّل الفناءُ اليقينيُّ إلى مختبرٍ للروح الإغريقية. فلمّا استحال النجاة، وانقلب الموتُ حتميةً مطلقة، انفجرت أزمةٌ وجوديةٌ قلبتْ كيانَ المحاصرين فمات بعضهم قبل أن يموتوا، قتيل الرعبِ الذي تسرّبَ إلى شرايين الحياة نفسها.
في هذا المنعطف الحاسم، أبدع الفلاسفةُ حلاً وجودياً جذرياً: لقد حلّلوا الموتَ إلى لغزين متعاكسين. الأول: خوف الأحياء من شيءٍ لم يجرِ بعد. الثاني: استحالة إدراك الأموات لما حلّ بهم. فكانت النتيجةُ المنطقيةُ الصادمة هي أنَّ الموتُ لا يُختبر أبداً، لا من قبل الذي يخافونه، ولا من قبل الذي يعيشونه.
هذا الانزياح الفلسفيّ أحدثَ ثورةً في الوعي الإغريقي. فالمفارقةُ المنطقيةُ حول "الموت الذي لا يُختبر" تحوّلت إلى سلاحٍ وجودي. لم يعُد الموتُ تهديداً، بل صارَ وهماً لا معنى للخوف منه. فأصبح اليونانيون يعيشون وكأنهم خالدون، بينما الموتُ يحاصرهم من كلّ جانب ليس لأن الموتَ زال، بل لأن إدراكَ الموتِ هو الذي تلاشى.
في مسرح وجودنا، نجد أنفسنا نتحرك ضمن إطار أخلاقي دقيق، حيث تُقسم الأفعال إلى حلال وحرام. هذا التقسيم لا يعكس مجرد أحكاماً دينية، بل يشكل نظاماً تأويلياً يوجه سلوكنا. فالحلال، وإنْ تعارض مع نزوات النفس الأمّارة بالسوء، يصبح واجباً نتبعه. والحرام، وإنْ توافق مع شهواتنا، يتحول إلى خط أحمر لا نتجاوزه.
لكن ماذا لو اختفى هذا الإطار التربوي؟ عندها سنشهد تحولاً جذرياً في المفهوم الأخلاقي. فالحلال سيصبح مجرد ما يتوافق مع المصلحة الشخصية، والحرام سيكون فقط ما يعارض الرغبات الذاتية. هنا يبرز التناقض الفلسفي العميق ، فبدون ميزان الحلال والحرام، تتحول الأخلاق إلى معادلة نفعية بحتة، حيث تصبح القيمة الأخلاقية للفعل مرهونة بمدى إشباعه للرغبة الفردية.
هذا التحليل يكشف لنا أنَّ سلوكنا ليس محكوماً فقط بمبادئ مطلقة، بل أيضاً بالرؤية الفلسفية التي نتبناها لتفسير العالم. فاختلاف المنظور الأخلاقي سواء كان دينياً أو نفعياً يؤدي إلى اختلاف جذري في السلوك والتقييم، مما يؤكد أنَّ الفعل الإنساني هو دائماً تعبير عن رؤية فلسفية كامنة، سواء وعينا ذلك أم لم نعيه. ثمة بشرٌ يختزلون همومَ الوجود في ذَرَّةِ المشكلات، فيراها الواحدُ منهم كالقُبَّةِ التي تُظلِّلُ عالمَه. وفي المقابل، ثمة مَن يعبُرون المصائبَ وكأنها ظلالٌ عابرةٌ في رحلةٍ كونيةٍ أوسع. هذا الانزياحُ في الموقفِ الوجودي ليس مجردَ اختلافٍ في النظر، بل هو تباينٌ جوهريٌّ في وعيِ الزمنِ والمكانِ والذات.
علماءُ النفسِ يكشفون لنا عن مفارقةٍ عميقة ، فكلما اتسعَ القلقُ الوجودي (الكوزمولوجي) ذلك التأمُّلُ في مَجرَّاتِ الكونِ وأسرارِ النشوءِ والمصير تضاءلَ القلقُ الشخصي (اليومي). فالتفكُّرُ في السماواتِ والأرضِ ليس هروباً من الواقع، بل هو ارتقاءٌ به إلى مُستوىً تُصبحُ فيه المشكلاتُ اليوميةُ مجرَّدَ ذبذباتٍ في فضاءٍ لا نهائي.
هؤلاء الذين يسبحون في بحارِ الأسئلةِ الكبرى، لا يُنمّونَ فقط حصانةً ضدَّ ضغوطِ العيش، بل يبنونَ لأنفسهم منصةً وجوديةً ترى الدنيا من علٍ. فما يبدو للآخرين أزمةً وجوديةً، يصبحُ عندهم مجرَّدَ تفصيلٍ في لوحةِ الكونِ الشاسعة. وهكذا، فإنَّ القوةَ النفسيةَ الحقيقيةَ لا تأتي من تجاهلِ المشكلات، بل من إدراكِ ضآلتها في مواجهةِ سؤالِ الوجودِ الأكبر.
لو أنَّ الإنسان وُهِبَ تربية تمنعه من الغرق في التفاصيل الصغيرة، ومن الانغماس في لذّة تتبع أخبار الآخرين وأحوالهم الشخصية، لَشعرَ حينئذٍ بتماهيه العميق مع منطق الحياة، الذي يرتقي به كلما تَمسَّك به، في الفكر والمشاعر والسلوك. فكلما كانت أفكار الإنسان أكثر رُقيّاً، كان أعمق اتصالاً بالحقيقة الوجودية، وهذا يقودنا إلى القول: "أخبرني بما يشغل ذهنك، أخبرني من أنت". فالبشر يتفاوتون في مستوى حديثهم وأفكارهم، ويقسمهم هذا التفاوت إلى ثلاث طبقات: الأولى، هي الطبقة الدنيا، حيث ينشغل أفرادها بحكايات الناس وأخبارهم الشخصية؛ والثانية، هي الطبقة الوسطى، حيث يتحدثون عن "الأشياء" بشكل عام؛ أما الطبقة العليا، فتمثل أولئك الذين يتناولون في حديثهم "المبادئ"، وهم الأكثر سموّاً ورفعةً.
في مجتمعاتنا، ينتشر أولئك الذين نشأوا على تربية قاصرة، جعلت من تتبع أخبار الآخرين الشخصية حديثهم وشغفهم الدائمين، وكأن هذا الأمر جزء لا يتجزأ من وجودهم، تماماً كما هو الحال مع حاجتهم للتنفس أو شرب الماء. ففي هذا العالم الضيق، الذي لا يعدو كونه تفاصيل سطحية وتافهة، تكمن مصادر أفراحهم وأحزانهم، سعادتهم وتعاستهم، بحيث يصبح هذا الانشغال العابر هو محك حياتهم ومقياس رفاههم الروحي.
ويكثر بيننا أولئك الذين نشأوا على تربية قاصرة، شوهت لديهم مفهوم "الرجولة"، فصاروا يظنون أنَّ التعبير عن الجفاف العاطفي والعبوس هو المظهر الأصيل للرجولة. فيظهرون العبوس في أوقات الفرح، وكأنَّ الرجولة تتجسد في تكبيل مشاعر السعادة وكبتها، أو في إظهار أكبر قدر من القسوة على النفس والعواطف. في هذه الصورة المغلوطة، يُعتقد أنَّ الرجل الحقيقي هو من يظهر جمودا بدلا من البهجة، ويكبت الفرح في قلبه كأنما هو عيب أو تناقض مع مفاهيم القوة والتماسك. نراهم، حتى في علاقاتهم بأبنائهم، يبتعدون عن التعبير عن مشاعرهم الداخلية، كأنهم يخشون أنْ يكشفوا عن حبهم أو حنينهم أو شوقهم. يظنون، خطأً، أنَّ إظهار هذه العواطف يمس من هيبتهم أو يقلل من قوتهم الداخلية، وكأن التعبير عن المشاعر يعبر عن ضعف أو نقص في الرجولة. في هذا الفهم المشوه، يصبح قمع العاطفة مرادفا للقوة، وتصبح الجدران العاطفية التي يبنونها حواجز تمنعهم من الوصول إلى أعماقهم وأعماق علاقاتهم.
نراهم يظهرون التسلط والقوة في منازلهم وعلاقتهم مع الزوجة، فور عودتهم من الخارج، في تصرفات لا تمت إلى الرجولة الحقيقية بصلة. وكأنهم في محاولتهم لإثبات هيبتهم داخل البيت، يعوّضون بذلك ما يشعرون به من نقص أو خسارة معنوية في أماكن أخرى. هذه السلوكيات تصبح وسيلة لملء الفراغات الداخلية، محاولةً منهم للتعويض عن انكسارات أو صراعات لا يستطيعون التعبير عنها إلا عبر هذه الأفعال المغلوطة. نراهم يقودون سياراتهم بسرعة متهورة، في تصرفات تعكس تصوراً مشوهة للرجولة، وكأنَّ التهور والاندفاع جزء لا يتجزأ من هيبتهم. ولكن ما إنْ يوقفهم شرطي المرور، حتى يتحولون سريعاً من صورة الفارس المهاجم إلى صورة المستعطف الذليل، يسعون جاهدين لتجنب عقوبة صغيرة، فتنسحب منهم كل مظاهر القوة المصطنعة التي حاولوا إظهارها. في هذه اللحظة، تتكشف هشاشتهم، وتبدو محاولاتهم لإثبات الذات كأنها مجرد قناع زائف، سرعان ما يسقط أمام أول تحدٍ بسيط.
إنهم يختفون كفقاعة هواء تمزقها إبرة، حينما يواجههم الواقع ويدعوهم لأن يكونوا رجالاً بحق، فتتبدد صورتهم المضللة. أما في اللحظات التي لا تستدعي الاستئساد، يظهرون بتصرفات متعالية، ولكن ما هي إلا ملامح زائفة لرجولة مختلّة، لا تعبر إلا عن ضعف داخلي واضمحلال حقيقي في جوهرهم وفي مواقفهم. في غياب التحدي، يظنون أنَّ القوة في التسلط، لكنهم في الواقع يفرغون من معاني الرجولة الحقيقية ويقعون في فخ تظاهرهم. لقد زرعَتْ فينا التربية التي نشأنا عليها، والتي بات تغييرها، من حيث الشكل والمحتوى، أمراً ضرورياً للحياة وللحضارة، بذور الضعف على مستويات عدة: الفكرية والأخلاقية والحضارية والسياسية. ونتيجة لذلك، أصبحنا في مواجهة مع واقع الحياة وحقيقتها كمن يعاني من انفصام داخلي، وكأننا "كائنات وهمية" تم إلقاؤها في خضم الحياة دون هدف واضح سوى أنْ تلتهمها الأحداث وتنجرف نحو الفناء بسرعة وسهولة، دون أنْ تجد لها مكاناً أو وجوداً حقيقياً في هذا العالم.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وحدة الفلسفة والعلم أمر ممكن!
-
إمبريالية على الطريقة الأفلاطونية!
-
نساء ٣
-
الفلسفة والعلم والحقيقة -جدلياَ-!
-
متى نتعلَّم صناعة الأسئلة؟!
-
ثدي الموت!
-
الرأسمالية الأوروبية سلاحها العنصرية!
-
حكايتي معك!
-
تناقضات في قوة الاقتصاد الأمريكي!
-
ما زالت المرأة العربية عبدة للعبيد !
-
الحتمية ماركسياً ودينياً!
-
متى تأخذ الطبقة العاملة مصيرها بيدها؟!
-
تطوير الآلة وتأثيرها على المجتمعات!
-
عبث الظلال!
-
الترامبية وهم عابر أم إستراتيجية دائمة؟
-
ماركس يتحدى نقاده في الاقتصاد!
-
شبحُ ماركس يعود مع كل أزمة!
-
أَكَادُ أَتَفَجَّرُ!
-
في حرية التعبير!
-
الزمن!
المزيد.....
-
رقصت بالعكاز.. تفاعل مع إصرار هبة الدري على مواصلة عرض مسرحي
...
-
هل باتت فرنسا والجزائر على الطريق الصحيح لاستعادة دفء العلاق
...
-
الجزائر تعلن إسقاط طائرة درون عسكرية اخترقت مجالها الجوي من
...
-
من الواتساب إلى أرض الواقع.. مشاجرة بين المسؤولين العراقيين
...
-
قفزة بين ناطحتي سحاب تحول ناج من زلزال تايلاند إلى بطل
-
قراءة في تشكيلة الحكومة السورية الانتقالية : تحديات سياسية
...
-
قناة i24 الإسرائيلية: ترامب يعتزم لقاء الشرع خلال زيارته للس
...
-
إعلام أمريكي: دميترييف وويتكوف يلتقيان في البيت الأبيض
-
الخارجية الألمانية تعلن إجلاء 19 مواطنا ألمانيا مع عائلاتهم
...
-
الولايات المتحدة توسع قوائم عقوباتها ضد روسيا
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|