سالم ناصر المهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8298 - 2025 / 3 / 31 - 00:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نقدٌ علميٌ وفكريٌ لكتاب "الذكاء الاصطناعي الرأسمالي: تحديات اليسار والبدائل الممكنة"
بكل صراحة، أنا من المنتمين إلى التيار الليبرالي، وأعتز بالنظام الرأسمالي لما يوفره من حقوقٍ وحرياتٍ وديمقراطيةٍ وتقدمٍ هائلٍ في شتى المجالات. لذا، لا أرغب في النشر عبر منصةٍ مثل "الحوار المتمدن" التي تمثل توجهاً يسارياً واضحاً. غير أني أثناء تصفحي لأحد المواقع العربية، اطلعتُ على خبر صدور كتابٍ بعنوان "الذكاء الاصطناعي الرأسمالي: تحديات اليسار والبدائل الممكنة - التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟" لمؤلفه رزكار عقراوي. وعندما تتبعتُ سيرته، تبين لي أنه المنسق العام لتلك المنصة اليسارية، مما أثار لدي تساؤلاً جاداً حول مدى انفتاح هذا المنبر على نشر آراء - مثل هذا المقال - تخالف الفكر الماركسي الذي يتبناه.
من هذا المنطلق، أرى لزاماً علي تقديم هذا النقد العلمي لكتابه، انطلاقاً من قناعتي الراسخة بأن الذكاء الاصطناعي يمثل ذروة تطور اقتصاد السوق الحر، وليس أداةً بيد الطبقة العاملة أو حلماً يوتوبياً لليساريين أو مشروعاً تحررياً مؤدلجاً كما يحاول أن يصوره.
بدافعٍ من الشغف الفكري، اطّلعتُ على بعض من فصولٍ من هذا الكتاب الذي يحاول قراءة هذا التحول التكنولوجي الفريد من خلال عدسة الصراع الطبقي ومفاهيم الاستغلال والتراكم الرأسمالي. إلا أن هذه المقاربة ليست سوى إعادة تدويرٍ لأيديولوجيا بالية، ومحاولةٍ قسريةٍ لفرض نموذج تحليلي على واقعٍ لم يعد يتوافق معه. فكيف يمكن لتقنيةٍ تطورت عبر آليات السوق وبرؤية الشركات الريادية، أن تُختزل إلى مجرد أداةٍ تحررية تقودها "الطبقة العاملة"؟ هنا تتجلى محدودية الرؤية الماركسية التي تتجاهل تعقيدات الواقع المعاصر، وتصر على تفسير كل شيءٍ من منظور الصراع، حتى عندما يكون هذا الصراع غير موجودٍ أصلاً.
الذكاء الاصطناعي: ثمرة الرأسمالية لا ضحيتها
يتعامل الكاتب مع الذكاء الاصطناعي وكأنه أداةٌ بيد الشركات لتعزيز الهيمنة والاستغلال، غافلاً تماماً عن حقيقة أن هذه التقنية لم تولد في معامل الأنظمة الاشتراكية، ولا تحت رعاية الدول المركزية. لقد نما الذكاء الاصطناعي في أحضان اقتصاد السوق الحر، بين مختبرات الشركات الخاصة في كاليفورنيا ولندن وسيول وأبوظبي. كل الإنجازات الكبرى في هذا المجال جاءت ثمرةً للمنافسة الحرة واستثمارات رأس المال المغامر وسعي الأفراد والمؤسسات نحو الابتكار.
تجارب شركات مثل DeepMind التابعة لجوجل وOpenAI وNVIDIA تثبت أن الذكاء الاصطناعي ليس مشروعاً سلطوياً، بل هو تجسيدٌ للحرية المعرفية والاقتصادية، تطور بجهود آلاف العلماء والمبرمجين والمستثمرين، وليس بقرارٍ بيروقراطي أو حزبي.
أما على الصعيد العربي، فإن تبني دولٍ مثل الإمارات لمشاريع كـمركز محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، أو إدراج السعودية لهذه التقنيات ضمن رؤية 2030، يؤكد أن الاقتصادات العربية الحرة قد أدركت أن المستقبل يُبنى بالاستثمارات الواقعية لا بالشعارات الجوفاء. في هذه النماذج، لا نجد حديثاً عن التأميم أو مصادرة الملكيات، بل عن تمكين الأفراد وإكسابهم مهارات المستقبل، وتحويلهم إلى شركاء فاعلين في عملية الإنتاج لا ضحايا لها.
الإطار الفكري: إسقاطٌ أيديولوجي على واقعٍ متحول
يواصل المؤلف تحليله من منظور أيديولوجي ضيق، فيصور الذكاء الاصطناعي كأداة هيمنة رأسمالية على الجماهير، ويتحدث عن "البروليتاريا الرقمية" وكأن الزمن توقف عند حقبة الثورة الصناعية. بينما يقدم الواقع المعاصر صورةً مغايرة تماماً. فالذكاء الاصطناعي لا يكتفي باستبدال العمالة البشرية، بل يمنح البشر أدواتٍ غير مسبوقة للإبداع والتوسع وإعادة صياغة الأدوار الاقتصادية والاجتماعية.
يعمل اليوم ملايين العرب في مجالاتٍ ترتبط مباشرةً أو غير مباشرة بالذكاء الاصطناعي، من تحليل البيانات إلى تطوير المحتوى إلى إدارة الحملات التسويقية. هؤلاء ليسوا ضحايا كما يصورهم الخطاب الماركسي، بل فاعلين حقيقيين. بل إن منصات العمل الحر مثل "خمسات" و**"مستقل"** تظهر كيف أصبح الأفراد قادرين على تسويق خبراتهم دون وساطة الدولة أو المؤسسات التقليدية.
مع ذلك، يتجاهل المؤلف كل هذه التحولات الجذرية، ويتمسك بمفاهيم بالية مثل "الاغتراب" و"الاستغلال" و"التشيؤ"، التي نشأت في عصر الصناعة التقليدية، ولا تنطبق على واقع الاقتصاد المعرفي المتغير بسرعة. إنه يحاول إلباس التقنية الحديثة ثوباً فكرياً قديماً، ويقدم حلاً يتمثل في التأميم وإعادة التوزيع، دون أن يقدم نموذجاً عملياً ناجحاً لهذا الحل في أي مكانٍ من العالم.
نماذج تطبيقية: من وادي السيليكون إلى العالم العربي
في وادي السيليكون، لا يحتاج المبتكرون إلى موافقةٍ حكومية لإطلاق مشاريعهم في مجال الذكاء الاصطناعي. فآلاف الشركات الناشئة تنضم إلى هذا القطاع يومياً، مدفوعةً بحافزي الربح والإبداع. وفي دولٍ عربية مثل المغرب وتونس ومصر، ظهرت شركات ناشئة طورت حلولاً تعليميةً تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحسين نتائج الطلاب ومساعدة المعلمين على تخصيص التعليم. هذه المبادرات لم تأتِ من أحزابٍ يسارية أو نقابات عمالية، بل من شبابٍ طموح يسعى لتحقيق ذاته في سوق العمل.
وحتى في فلسطين، رغم ظروف الاحتلال الصعبة، يستغل المبرمجون أدوات الذكاء الاصطناعي للعمل مع شركات عالمية عن بُعد، محققين دخلاً يفوق متوسط الأجور المحلية. هذا النموذج من التمكين الفردي يناقض تماماً الخطاب الماركسي غير العلمي، الذي يزعم أن التحرر لا يتحقق إلا عبر "ثورة جماعية" ضد النظام الاقتصادي القائم.
خاتمة: لا تحرر دون حرية
إن محاولة تأطير الذكاء الاصطناعي ضمن سرديات ماركسية متقادمة ليست فقط قراءة مجتزأة، بل هي أيضًا نوعٌ من الإصرار على بعث أفكار فشلت تجريبيًا قبل أن تُهزم نظريًا. فكل التجارب الاشتراكية التي حاولت تطبيق تلك الرؤى، من الاتحاد السوفييتي إلى أوروبا الشرقية إلى كوبا وفنزويلا، انتهت إلى الانهيار أو الجمود، غير قادرة على مجاراة أبسط التحولات التقنية والاقتصادية.
إن التحرر الحقيقي لا يعني فقط الخلاص من الاستغلال، بل يتطلّب حرية الاختيار، وفتح المجال أمام المبادرة الفردية، وتمكين الإنسان من اتخاذ قراراته دون وصاية أيديولوجية أو مركزية بيروقراطية. وهذا ما لم تستطع أي تجربة يسارية أن تتيحه، بينما وفّرته الرأسمالية الليبرالية في أكثر من سياق.
لقد أثبت النظام الرأسمالي، رغم نواقصه، أنه الأكثر قدرة على قيادة مسيرة التقدم، وعلى احتضان التكنولوجيا وتوظيفها لصالح البشر. بينما بقي الخطاب الماركسي يدور في حلقة مفرغة من التنظير المجرد، غير قادر على تقديم نموذج واقعي واحد قابل للحياة. الذكاء الاصطناعي ليس نهاية التاريخ، لكنه دون شك إعلان صريح عن نهاية وهمٍ كبير اسمه "التحرر من خلال الدولة".
#سالم_ناصر_المهيري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟