سماك العبوشي
الحوار المتمدن-العدد: 8297 - 2025 / 3 / 30 - 22:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان ياما كان في قديم الزمان، هناك عرب - قبل ظهور الإسلام – كانوا على جانب كبير من مكارم الاخلاق وحلو السجايا، كالشهامة، والرجولة، والغيرة، والنخوة العربية، والوفاء بالعهود والمروءة، وغيرها الكثير امن صفات ومكارم الأخلاق التي كان العربي آنذاك يتصف بها، بل ويتباهى ويتفاخر بها في المجالس ودواوين العرب، هذا كما وجاء في كتب التاريخ أيضا أن العهد الذي تعطيه القبيلة العربية أيام (الجاهلية) يكون أمرا مقدسا، لا يجوز النكول به تحت أي ظروف كانت، فنقضه كان يعرّض تلك القبيلة العربية وأفرادها للمعرّة والمنقصة، ولنا في ذلك شواهد تاريخية مشرفة سأسرد لكم منها مثلين اثنين على سبيل المثال لا الحصر:
1- كانت لملك الحيرة، النعمان بن المنذر، ابنة فائقة الجمال، فطلبها امبراطور الفرس كسرى ابرويز من أبيها للزواج، فرفض النعمان طلبه، فغضب امبراطور الفرس على النعمان بن المنذر واعتبرها انتقاصا بحقه ، ودعاه للمثول أمامه، فأدرك النعمان ما يخبئه كسرى له، فلجأ النعمان إلى هانئ بن مسعود الشيباني (حاكم بادية بنو شيبان التابعة لقبيلة بكر بنو وائل الشهيرة) فاستودعه أهله وماله وسلاحه، ثم توجه الى كسرى الذي سجنه ثم قتله، وأرسل كسرى إلى هانئ بن مسعود يطلب منه تسليمه وديعة النعمان، فأبى هانئ دفعها إليه دفعاً للمذمة عند العرب، فغضب كسرى على بني شيبان وعزم على مقاتلتهم واستئصالهم، فجهّز لذلك جيشاً ضخماً من الفرس يقودهم الهامرز وجلابزين، وجرت المراسلات بين بني شيبان وقبائل العرب، كما جرت المراسلات بين قبائل بكر نفسها، فجاءت الوفود من بني بكر بن وائل في اليمامة والبحرين، واجتمع العرب واتفقوا على محاربة جيوش كسرى الرهيبة المتجهة اليهم، فكان يوم "ذي قار"، وهو أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وذلك عندما أذاب العرب خلافاتهم!!.
2- ضرب (السمؤال بن غريض بن عاديا بن رفاعة بن الحارث الأزدي) مثلاً أخر في وفاء العرب بالعهد، واحترام الكلمة المعطاة، وذلك عندما أودع أمرؤ القيس عند السموأل دروعاً وسلاحا له، وذهب إلى قيصر الروم يستنجد به على أعدائه، لكن أمرؤ القيس ما لبث أن فارق الحياة وهو في طريقه الى قيصر، فاستغل الحارث بن شمر الغساني هذه الفرصة فطلب وديعة امرؤ القيس من السموأل وأصر على انتزاعها منه، لكن السموأل أبى تسليمه الوديعة وتحصن بقصره في تيماء، وصادف أن كان ابنه خارج القصر، فأخذه الحارث الغسانى رهينة عنده، وأخذ يساومه، وهدده بقتل ابنه إن لم يستجب لمطلبه، إلا أن السمؤال ظل محافظاً على عهده حتى وهو يرى ابنه يذبح أمامه، فكان المثل العربي الشهير "أوفى من السمؤال"!!
ذاك لعمري غيض من فيض خصال العرب الحميدة في زمن الجاهلية، ثم جاء الإسلام الحنيف ليرسخ مكارم الأخلاق وعظيم السجايا الموجودة عند العرب في زمن الجاهلية، ولعل ما يؤكد تلك الخصال والسجايا الكريمة عند العرب أيام الجاهلية ما ورد على لسان نبينا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فهو (صلى الله عليه وسلم) لم يقُل إنَّما بُعثت لأقيم صرح الأخلاق، وإنما قال لأُتممها، بمعنى أن يبني على أساساتها الموجودة أصلا، وذاك دليل وبرهان على أن بنيان تلك الأخلاق الحميدة وصرحها كان قائما، وأنه قد جاء ليتمم ما بها من نقص.
نستدل من حديث نبينا آنفا بأن رسالة الإسلام قد جاءت فزادت من خصال (عرب الجاهلية) الحميدة وسجاياهم الطيبة ورسختها وأضافت إليها بُعدا آخر حثّ عليه الإسلام وشدد عليه، كالتضامن والتكافل بين المسلمين وقت الشدة والضيق، وبهذا الخصوص دعا نبينا المصطفى على ضرورة التزام المسلمين بالتعاضد والتضامن بينهم وقت الشدة فقال: " المؤمن للمؤمن كالبيان؛ يشد بعضه بعضاً"، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة".
أتذكرون قصة امرأة عمورية العربية المسلمة التي صرخت (وا معتصماه) تدعو الخليفة العباسي المعتصم لنجدتها من الروم، فما أن وصل إلى أسماع المعتصم نداء هذه المرأة العربية المسلمة حتى تحركت نخوته العربية الممزوجة بتعاليم الإسلام وضرورة نصرة المؤمن المستغيث من جور وظلم، فبعث رسالة إلى أمير عمورية قائلا له: "من أمير المؤمنين إلى كلب الروم، أخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي، وحين لم يستجب الأمير الرومي لرسالة المعتصم، انطلق المعتصم بجيشه لمحاصرة عمورية، فلما استعصت عليه قال: اجعلوا النار في المجانيق ( جمع منجنيق) وارموا الحصون رميا متتابعا ففعلوا، فاستسلمت عمورية ودخلها المعتصم وبحث عن المرأة فلما حضرت أمامه قال لها: هل أجابك المعتصم، فقالت نعم!!.
هكذا لعمري كنا كرام النفس أعزتها، سواء في الجاهلية أو بعد ظهور الإسلام، لا ننام على ضيم، نحافظ على العهد ونصون الكلمة المعطاة، أصحاب شهامة ومروءة ونخوة، لا نخون الأمانة، فلهذا كله لم نهن يوما، ولم نخضع لعدو غاشم، يشد بعضنا بعضا، ونهبّ لنجدة أخينا المسلم إن أصابته مصيبة أو اعتداء من عدو غاشم، فلا نتركه يعاني القهر والطغيان والاستبداد، بعكس ما نراه ونعيشه اليوم، من خذلان عربي وهوان إسلامي إزاء ما يجري في غزة العزة والكرامة والضفة الغربية وجنوب لبنان، حيث لم نعد نرى نخوة العروبة، وكأن العروبة قد أصبحت في خبر كان، هذا كما وأصبحنا للأسف مسلمين بالهوية ودون إيمان حقيقي في القلوب بعدما ضعف الايمان في قلوبنا وابتعدنا كثيرا عن ديننا الحنيف وتعاليمه، فلم نعد للأسف الشديد نكترث لما جاء بكتاب الله أو لوصايا وتوجيهات نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) الداعي والحاث على نصرة المسلم لأخيه المسلم إذا ما اضطهد، حيث روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما، أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما من امرئ يخذل امرؤ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته"، فما بال غزة تُنتهك حرمتها، ويُنتقص من عرضها، وتعاني ويلات الإبادة الجماعية بأبشع صورها، ولا نجد من الزعماء المسلمين والعرب من ينصرها، ويذود عن حرمتها ويستر عرضها!!
إننا نعيش أكثر عهود الانحطاط والعهر والتخاذل العربي والإسلامي إزاء ما يجري من مجازر كبرى تجري على نساء غزة، وتنتهك كرامتهن أيما انتهاك، ويتضورن جوعا وعطشا، فيما لا تعير أنظمتنا العربية والإسلامية لهن بالا ولم تهتز لهن نخوة العروبة ولم تتحرك شيم العقيدة الإسلامية، وكأننا والله وتالله وبالله كمن فقدنا نخوة العروبة، كما وتبخر الإيمان من قلوبنا، ولعل هذا التخاذل والهوان الذي نعيشه في قرن الشيطان إنما هو انعكاس لتداعيات حالة الوهن والخنوع الذي تلبسنا وأحكم قبضته علينا، فأصبح همنا حب الدنيا، وحوّل الجيوش العربية والإسلامية إلى حصون للأنظمة الحاكمة لحمايتها والدفاع عنها، فهي لا تتحرك إلا لتنقض على شعوبها أو على شقيقاتها، أو لتشارك في عمليات أو مناورات مشتركة مع أعدائهم ومن يتحكم في أوطانهم ويسلبها إرادتها!!
رسالة مفتوحة أوجهها بصدق وشفافية لقادة أنظمتنا العربية والإسلامية:
إن حالة الهوان والصّغار وانعدام الوزن التي نراها اليوم في مشهدكم ستكون لها عواقب ونتائج وخيمة على عموم أنظمتكم العربية والإسلامية في السنوات القليلة القادمة، لاسيما في ظل:
1- عدم اكتراث معظم أنظمتكم العربية والإسلامية – الا من رحم ربي- لما يجري في غزة، وتقاعسها عن أداء واجبها الشرعي والقومي في نصرة أبنائها!!
2- تمسك بعض أنظمتكم باتفاقيات التطبيع مع الكيان اللقيط وعدم ممارسة الضغوط الحقيقية عليه من خلال التلويح والتهديد بتجميد ذلك التطبيع، واستعداد وتهيؤ أنظمة أخرى لإبرام اتفاقيات التطبيع معه حالما تتاح الفرصة أمامها!!
3- تهافت بعض أنظمتكم العربية والإسلامية على كسب ود الولايات المتحدة الأمريكية رغم مساندتها الصريحة والواضحة واللا مشروطة (عسكريا وسياسيا) للكيان الغاصب!!
4- انسياق بعض أنظمتكم العربية والاسلامية واذعانها صاغرة والتماهي مع دعوات الكيان اللقيط الداعية لتجريد غزة من شرف المقاومة التي أقرها القانون الدولي، وما سيسبب ذلك إلى ضياع قضية فلسطين إلى الأبد!!س
5- تأكدوا وتيقنوا تمام اليقين بأن الكيان اللقيط يستعد للانتقال الى مرحلة تنفيذ مخططه وتحقيق شعاره ( أرضك يا إسرائيل من الفرات الى النيل، نزولا الى خيبر في المدينة المنورة) وذلك متى ما تيسر له القضاء على المقاومة الشريفة في غزة العزة واجتث جذورها (لا قدر الله)، ولكم أيها الحكام الكرام عبرة بظروف وأسباب سقوط الاندلس، ودرسا بليغا لتداعيات ذلك السقوط وما جرى بعده، فلقد أخبرنا التاريخ أن الإسبان قد حاصروا (طليطلة) طوال سبع سنوات متواصلة، وعندما استسـلمت، سُئِل أهلُها: ما دمتم كنتم ستستسلمون، فلماذا صبرتم كلَّ هذه السنين!؟، قالوا: كُنَّا ننتظر المددَ من ملوك الطّوائف، فقال الإسبان: ملوك الطّوائف كانوا معنا في حصاركم!!، أما تداعيات ذاك الخنوع والهوان الذي اتصف به ملوك الطوائف في الاندلس وعدم نصرتهم لطليطلة، فإنه يتمثل بقيام الاسبان بالإغارة عليهم بعدما تمكنوا من مدينة (طليطلة)، فشتّتوا شملهم وأسقطوا دويلاتهم جميعا!!
فما أشبه اليوم بالأمس!!
وما أشبه فلسطين اليوم بأندلس الأمس!!
والله المستعان.
قال تعالى في محكم آياته:
" لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيم"...(النساء:95).
" الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً"...(النساء:139).
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينا"...(النساء:144).
العراق 30/3/2025
#سماك_العبوشي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟