|
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8297 - 2025 / 3 / 30 - 17:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ مَعْنَى فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف
فَلْسَفَةُ الِإخْتِلَافِ "Philosophy of difference" هِيَ فِكْرٍ غَيْرِ مُتَجَانِس رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ ضَمَّه تَحْتَ إسْمِ بِعَيْنِهِ، نَشَأَ وَتَطَوُّرٍ فِي سِيَاقِ فِكْرِي مَا بَعْدَ حَدًّاثي. إرْتَبَطَ هذَا الْفِكْرُ بِفَلَاسِفَةُ وَ بَاحِثِين غَرَبَيِّين مُعَاصِرِين الَّذِين سَاهِموا فِي تَأْسِيسِه وَ تَطْوِيرِه كَجَاك دِرِيدَا Jacques Derrida وَجِيل دَوْلَوز Gilles Deleuze وَ مَيِّشيل فُوكُّو Mechil Foucault وَ آخَرِين. أَنَّ فَلْسَفَةَ الِإخْتِلَاف تَنْطَلِقُ مِنَ رَفَض مَفَاهِيم الْهُوِيَّة وَالْوَحْدَة وَالْمُرَكَّزِيَّة الَّتِي طَالَمَا هَيْمَنَتْ عَلَى الْفِكْرِ الْفَلْسَفِيّ التَّقْلِيدِيّ، وَ تَدْعُو بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ إلَى تَبَّنِي قَيِّم التَّعَدُّد وَ الْمُغَايَرَة وَالنِّسْبِيَّة. وَ يَرْتَبِط ظُهُورِ هَذَا التَّيَّارِ الْفِكْرِيّ بِعِدَّة تَحَوُّلَات فِكْرِيَّة وَثَقَافِيَّة وَعِلْمِيَّة كَانَتْ تَشَهُّدُهَا الْحِقْبَةِ الْمُعَاصِرَةِ، مِثْل تَطَوُّر الْهَنْدَسَة اللَّاإقلِيَدَيْة وَمَيِّكانيكا الَكَمْ وَ ثَوْرَة فُرُويِد Freud عَلَى فَلْسَفَةِ الْوَعْي، وَالِإنْتِقَادَات الْمُوَجَّهَة لِلْمُرْكَزِيَّة الْغَرْبِيَّةِ مِنْ قِبَلِ الَّأَنْثْرُوبُّولُوجْيَا. كُلُّ هَذِهِ التَّحَوُّلَاتُ سَاهَمَت فِي التَّشْكِيكِ بِالْأَطْر الْفِكْرِيَّة الْكُلِّيَّة وَالْمُطَلَّقَة، وَ فَتَحَتْ الْمَجَال لِرُوَّى أَكْثَر إعْتِرَافًا بِالتَّعَدُّد وَالِإخْتِلَاف. فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف يُؤَكِّدُون عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَالْحَقِيقَةُ لَا تَتَجَسَّدُ فِي نَمُوذَج أَوْ هَوِيِّة وَاحِدَةٍ، بَلْ هِيَ عَمَلِيَّةُ مُسْتَمِرَّةٌ مِنْ آلإَنْزِيَّاح وَ الِإنْتِقَالُ وَالتَّفَرُّد. فَالكَيْنُونَة وَالْوَعْي وَ الْهُوِيَّة لَيْسَتْ ثَابِتَةً أَوْ مَرْكَزِيَّة، وَإِنَّمَا هِيَ مَفْتُوحَةٌ عَلَى إخْتِلَافَات مُتَعَدِّدَة وَمُتَغَيِّرَة. وَلِذَا فَإِنَّ مُهِمَّةَ الْفَلْسَفَة لَيْسَتْ الْبَحْثِ عَنْ أُصُولِ ثَابِتَةً أَوْ حَقِيقَةً مُطْلَقَةً، بَلْ إدْرَاكُ وَتَجْسِيد هَذَا الِإخْتِلَافِ وَالتَّعَدُّد الْمُسْتَمِرّ. وَتَتَمَثَّل أَبْرَز مُسَاهِمًات فَلَاسِفَةُ الِإخْتِلَافِ فِي نَقْدٍ مَفْهُوم الْهُوِيَّة الْمُوَحَّدَة وَالْحَقِيقَة الْمُطْلَقَة، وَإِبْرَاز قِيمَة التَّعَدُّد وَالِإخْتِلَاف كَأَسَاس لِتَصَوُّر جَدِيد لِلذَّات وَالْوُجُود وَالْمَعْرِفَة. فَالْأنَا لَيْسَتْ وَحْدَة مُتَجَانِسَة بَلْ هِيَ مُرَكَّبٌ مُتَعَدِّد وَمَفْتُوح عَلَى الِإخْتِلَافِ. وَالْحَقِيقَة لَيْسَتْ جَوْهَرًا ثَابِتًا وَرَاء الظَّوَاهِر، بَلْ هِيَ عَمَلِيَّةُ مُتَحَرِّكَة مِنْ آلإنْزِيَّاح وَ الِإنْفِصَال. وَبِحَسَب فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف، فَالْمَرْكَّزِيَّات الْفِكْرِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ الْكُبْرَى الَّتِي طَالَمَا هَيْمَنَتْ عَلَى الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ يَنْبَغِي تَفْكِيكُهُا وَنَقَدَهَا، لِأَنَّهَا تَنْطَوِي عَلَى قَمْع لِلِإخْتِلَاف وَإقْصَاء لِلْآخَر. وَبِالْمُقَابِل، يَدْعُونَ إِلَى إعْتِمَاد التَّعَدُّدِيَّة وَالنِّسْبِيَّة وَإرَساء ثَقَافَة الِإخْتِلَاف كَأَسَاس لِلتِّعَايِش وَالتَّوَاصُلِ بَيْنَ الْبَشَر. وَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ فَلْسَفَةَ الِإخْتِلَاف تُشْكِل ثَوْرَة نَوْعِيَّة عَلَى الْفَلْسَفَةِ التَّقْلِيدِيَّة الْمِعْيَارِيَّة، وَ تُمَثَّل مُسَاهَمَة بَارِزَةً فِي تَأْسِيسِ فَلْسَفَة مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ. فَهِيَ تَطْرَح رُؤْيَة بَدِيلَة لِلْفِكْر وَالْوُجُود وَالْمَعْرِفَة، تَنْطَلِقُ مِنَ الِإعْتِرَافِ بِالتَّنَوُّع وَالِإخْتِلَاف كَأَصْلٍ فِي الْوُجُودِ الْبَشَرِيِّ. وَتُشْكِلُ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ مُنْعَطَفًا هَامًّا فِي تَارِيخِ الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ الْمُعَاصِر. . لَقَدْ شَكَّلَتْ التَّبَايُنَات الْفِكْرِيَّة سِمَة الْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ مُنْذ الْعُصُور الْأُولَى. فَقَامَ جَدَل حَيَوِيّ بَيْن فَلَاسِفَة وَمُفَكِّرِين حَوْلَ قَضَايَا مُتَنَوِّعَةٍ، وَ لَمْ يَنْجَحْ أَحَدٌ فِي فَرْضٍ حَقِيقَتُهُ عَلَى الْآخَرِ، بَلْ بَقِيَ الْجَدَل قَائِمًا بَيْنَهُمْ. عَبَّرُوا عَنْ قَضَايَا مُثَقَّلَة بِمَسْأَلَتَيْن. مَسْأَلَة التَّطَوُّر وَمَسْأَلَة الْوَعْي. فَإِذَا أَصَرَّ هِيرَقْلِيطْسْ Heraclitus عَلَى أَنَّهُ "لَا يَجُوزُ لِأَيِّ كِيَان أَنْ يُوجَدَ بِحَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتِ وَاحِدٍ"، لَمْ يَتَّفِقْ مَعَ فَلْسَفَة بَارْمِنِيدْسْ Parmenides الْقَائِلَةُ "بِأَنْ يَبْقَى الْمَرْءِ عَلَى مَا يَكُونُ عَلَيْهِ"، وَ كِلَاهُمَا مِنْ مُؤَسِّسِي عِلْمَ الْوُجُودُ. وَ إِذَا إنْحَاز كَوْنِفُوشْيُّوسْ Confucius إلَى الْمُؤَسَّسَات التَّقْلِيدِيَّة قَابَلَهُ إنْتِقَاد مَوْتِزو MO tzu لِهَذِهِ الْمُؤَسَّسَات. وَإِذَا إنْتَهَى مَنْطِق مَارْكِسُ إِلَى الجَدَلِيَّةَ المَادِّيَّةَ فَإِنَّ مَنْطِقَ هِيغِلِ إنْتَهَى إلَى الْجَدَلِيَّة الْمِثَالِيَّة. حَتَّى دَاخِلِ الْإِسْلَام، وَجَدْنَا النَّقِيضِ فِي الْمُوَاجَهَة بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ عِدَّة أَبْرَزَهَا الْعَقْل. وَتَنَاقَضَتْ فَلْسَفَة آبْنُ خَلْدُونَ مَع فَلْسَفَة الْغَزَالِيُّ. كَمَا ظَهَرَتْ الْمُنَاظَرَات القَلَمِيِّة بَيْنَ الْأَمِيرِ شَكِيبْ أَرْسِلَان وَالشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ اليَّازِجِي حَوْلَ مَا إذَا كَانَ أَحْمَدُ شَوْقِي شَاعِرًا أَمْ نَاثِرًا، وَالْخِلَافُ بَيْنَ طَهَ حُسَيْن وَالْعُقَّاد وَالرَّافِعِيّ حَوْل أُسْلُوب الْكِتَابَة الْأَدَبِيَّة وَ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ. وَ عِنْدَمَا ظَهَرَتْ حَرَكَةُ الْقَوْمِيَّة الْعَرَبِيَّة، رَأَى الْعَلَائِلي فِيهَا حَقِيقَةً وَاقِعِيَّة، فِيمَا رَاهَا كَمَال جُنُبًلاط حَرَكَةُ تَوَسَّعيَّة لِأَمَةٍ تَفْقِد كِيَانَهَا الذَّاتِيّ. وَ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ذَاتُهُ، فِي مُحَاوَلَتِهِ الْوَعْي بِأَشْيَاء الْوُجُودِ، غَيْرُ مُتَطَابِقٌ مَعَ ذَاتِه. لَقَدْ كَشَفَتْ لَنَا هَذِهِ الْوَجْهَات الْمُتَعَاكَسَة لُعْبَةً التَّنَاقُضِ. وَالتَّنَاقُضُ هُوَ تَفَاعُلٌ يَسْتَعْصِي ضَبْطُه، يَحْفِز الْإِبْدَاع، وَيَقُود إلَى شَيْءٍ مِنْ الْوَحْدَةِ وَالتَّلَاقِي، وَعِنْدَهَا نَصِلُ إِلَى الْحَقِيقَةِ. فِي سِيَاقِ فِكْرِي مَا بَعْدَ حَدَّاثِي مُجَاوِزٍ لِفَكِّر الْأَنْوَارِ وَمَرَّكزيَّة الْعَقْلُ كَمَا ظَهَرَتْ مَع فَلْسَفَة الْوَعْي عِنْد دِيكًارت Descartes، بَرَزَتْ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف الَّذِين رَفَضُوا فَلْسَفَة الْهُوِيَّة وَالْوَحْدَة وَالْمُرَكَّزِيَّة، وَدَافَعُوا عَنْ قَيِّمِ التَّعَدُّد وَ الْمُغَايَرَة. فَقَدْ إتَّضَحَ هَذَا التَّوَجُّهِ أَكْثَرَ مَعَ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف الَّذِين إنْخَرِطُوا فِي سِيَاقِ تَارِيخِيّ وَفِكْرِي وَ إبِيسْتِيمِي شَهِدَ تَحَوُّلَات كُبْرَى هَزَّتْ الِإعْتِقَاد بِثَبَات الْحَقِيقَة وَأَقَرَّتْ إنْفِتَاحَهَا عَلَى التَّعَدُّدِ. فَظُهُور الْهَنْدَسَة اللَّاإقْلِّيدِيَّة وَ الْمِيكَانِيكَا الْكَمِّيَّة، وَ فَرْضِيَّة فُرُويِد عَنْ اللَّاشُعُور، وَالْأَبْحَاث الَّأَنْثْرُوبُّولُوجِيَّة الَّتِي خَالَفَتْ الْمَرْكَزِيَّة الْغَرْبِيَّة، كُلِّهَا شَكَّلَتْ قِوَّى دَفَعْت بِتَيَار الِإخْتِلَافُ الَّذِي دَافِعٌ عَنْهُ الْعَدِيدِ مِنَ رُمُوزِ الْفَلْسَفَةِ الْغَرْبِيَّة الْمُعَاصِرَة. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، لَعِب جِيل دَوْلَوز Gilles Deleuze دَوْرًا بَارِزًا، حَيْثُ حَمَلَ هَمْ مَوْت الْفَلْسَفَة وَإنْتِهَائِهَا، وَقَاوَم كُلَّ فِكْرٍ أَوْ عَلِمَ سَلَب الْفَلْسَفَة وُجُودِهَا وَ دَيْمُومَتَّهَا، وَ أَعْطَاهَا دُورًا فَاعِلًا فِي التَّارِيخِ بِكَوْنِهَا خَلَق الْمَفَاهِيم وَ إِبْدَاعِهَا، وَ رَبْطَهَا بِحُقُول عِلْمِيَّة وَفَنِّيَّة. وَ يَرَى دَوْلَوز إنْ الْفَلْسَفَة لَا تَمْتَلِك الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ، بَلْ إنَّهَا تُنْتِج مَفَاهِيم جَدِيدَة تَسَمُّح بِإسْتِيعَاب وَاقِع مُتَعَدِّد وَمُتَغَيِّر. فَالِإخْتِلَاف عِنْدَهُ لَيْسَ إنْحِرَافًا أَوْ نَقْصًا فِي الْوُجُودِ، بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ الْوُجُودِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ "الصَّيْرُورَةِ" الَّتِي تَقُومُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالتَّغَيُّر وَالتَّنَوُّع. وَ يَرْفُض دَوْلَوز مَفْهُومُ الذَّات الْمُوَحَّدَة وَ الْهُوِيَّةِ الثَّابِتَةِ، وَيُؤَكِّدُ عَلَى تَعَدُّدِ الذَّوَات وَالْهُوِيَّات الْمُتَحَوِّلة وَ الْمُتَمَايِزَة. كَمَا يَرْفُضُ الْفِكْرَة الْقَائِلَة بِوُجُود أُصُولٌ ثَابِتَةٌ أَوْ جَوْهَرٍ أَصِيل لِلْوُجُود، وَيُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ عِبَارَةٌ عَنْ تَدَفُّق وَتَغَيَّر دَائِمَيْن. وَهَكَذَا، تُشْكِل فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ عِنْدَ دَوْلَوز رُؤْيَةُ فَلْسَفِيَّة جَدِيدَة تَنْطَلِقُ مِنَ رَفَض الْمَرْكَزِيات وَالثَّوَابِتُ وَ الْهُوِيَّات الْجَامِدَة، لِتَؤَسِسَ لِمَفْهُومِ مُتَعَدِّد وَمُتَحَرِّك لِلْوُجُود وَ الذَّات وَالْمَعْرِفَة. فَالِإخْتِلَافُ لَيْسَ سَلْبِيًّا أَوْ إنْحِرَافًا، بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ الْوَاقِع وَأَسَاس إِمْكَانِيَّة التَّغْيِير وَالتَّجَدُّد وَالْإِبْدَاع. أَنَّ فَلْسَفَةَ الِإخْتِلَاف تُؤَسَّس لِرُؤْيَة إِيجَابِيَّة لِلِإخْتِلَاف، تَتَخَطَّى نَظَرَة الْقَبُول السَّلْبِيّ أَوْ التَّسَامُح الْمُتَرَدِّد، لِتَجْعَلَ مِنَ الإخْتِلاَفِ قِيمَة إِيجَابِيَّة وَمَصْدَرًا لِلتَّجَدُّد وَالتَّنَوُّع. فَالِإخْتِلَافُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَعَدَّدِيَّة ثَقَافِيَّة، بَلْ هُوَ أَسَاسُ لِبِنَاء ثَقَافَة إِنْسَانِيَّة مُشْتَرَكَة تَقُومُ عَلَى التَّنَوُّع وَالتَّفَاعُل وَالتَّوَاصُل. وَبِذَلِك تُقِرّ فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ بِأَنَّ الذَّاتَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَيْسَتْ جَوْهَرًا ثَابِتًا أَوْ هَوِيِّة مُتَكَامِلَة، بَلْ هِيَ تَعَدَّد وَتَمَايُز وَصَيْرُورَةُ دَائِمَةٌ. كَمَا تُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ الثَّقَافَة وَالْمَعْرِفَة لَيْسَتَا كُلِّيَّتَيْن ثَابِتَتَيْن، بَلْ هُمَا مَجَال لِلتَّحَوُّل وَالتَّفَاعُل وَالْإِبْدَاع الْمُسْتَمِرّ. وَتَدْعُو إِلَى نَبَذ الْمَرْكَزِيات وَالْهُوِيَّات الْمُغْلَقَة، وَإعْتِمَاد رُؤْيَة مُتَعَدِّدَة وَ مُنْفَتِحَة عَلَى الْآخَرِ وَالِإخْتِلَاف. وَ فِي ظِلِّ الْعَوْلَمَةِ وَتَدَاخُل الثَّقَافَات، تَأْتِي فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف لِتُؤَسِسَ لِحِوار حَضَارِيّ وَ ثَقَافِيّ بِنَاءً، يَقُومُ عَلَى الِإعْتِرَافِ الْمُتَبَادَل بِحَقّ التَّنَوُّع وَ الِإخْتِلَاف، وَيَرْفُض فِكرَة فَرْض ثَقَافَة عَلَى حِسَابِ أُخْرَى. فَالِإخْتِلَاف هُوَ الضَّمَانُ الْحَقِيقِيُّ لِلْكُوَنِيَّة الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَيْسَ تَهْدِيدًا لَهَا. وَ بِذَلِك تُسْهِم فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ فِي تَجَاوُزِ الصِّرَاعَات الْهُوِيَّاتِيَّة وَالحَضَارِيَّةَ، وَ تَفْتَح آفَاقَا جَدِيدَة لِبِنَاء عَالِم أَكْثَرُ تَسَامُحًا وَتَعَدُّدِيَّة، يَقُومُ عَلَى الِإعْتِرَافِ بِحَقّ الِإخْتِلَاف وَالتَّنَوُّع كَقِيمَة إِيجَابِيَّة وَمَصْدَر إِثْرَاء لِلْمَعْرِفَة وَ الثَّقَافَة الْإِنْسَانِيَّة.
_ مَنْظُورٌ فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف لِلْعِلْم وَالْأَخْلَاق
فِي ظِلِّ تَنَامي فَلْسَفَات الِإخْتِلَاف وَالتَّنَوُّعُ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، بَرَز مَنْظُور فَلْسَفِيّ جَدِيد يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق مِنْ مَنْظُورٍ يَرْفُض الْحَقَائِق الْمُطْلَقَة وَالثَّوَابِت الْجَامِدَة، وَيُؤَكِّدُ عَلَى الِإعْتِرَافِ بِالتَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَاف. وَفْقًا لِهَذَا الْمَنْظُور، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ كَشْف لِلْحَقَائِق الْمُطْلَقَة وَ الْقَوَانِين الْجَامِدَة. أَنْ فَلْسَفَات الِإخْتِلَاف تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ نَشَاطٍ إِنْسَانِيٍّ وَإجْتِمَاعِيٍّ مَحْكُوم بِالتَّارِيخ وَالثَّقَافَة وَالسِّيَاق، وَلَيْسَ هُنَاكَ حَقِيقَةُ عِلْمِيَّة مُطْلَقَةً بَلْ هُنَاكَ تَعَدُّدَ فِي الرُّؤَى وَ التَّفْسِيرَات الْعِلْمِيَّةِ. فَالْعِلْم مِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ هُو مُمَارَسَة ثَقَافِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّة تَتَشَكَّل وَفَقَأ لِلسِّيَاقِات وَالْمَصَالَحُ وَالْقَيِّم الْمُتَنَوِّعَة. فَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ وَاحِدٍ أَوْ طَرِيقَة مُوَحَّدَة لِلْبَحْث الْعِلْمِيِّ، بَلْ هُنَاكَ تَعَدُّدَ فِي المَنَاهِجِ وَالْأَسَالِيب تَتَنَاسَبُ مَعَ سِيَاقَات إنْتَاج الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. وَ هَذَا يَعْنِي أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ مُتَجَانِسَة أَوْ مُوَحَّدَةٍ، بَلْ هِيَ مَعْرِفَةُ مُتَعَدِّدَة وَ مُخْتَلِفَة تَعْكِس تَنَوُّع الرُّؤَى وَالْمُصَالَح وَالْقَيِّم. فَالْحَقِيقَة الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ كَشْفًا نِهَائِيًّا لِلْوَاقِعِ، بَلْ هِيَ بِنَاءٌ ثَقَافِيّ وَ إجْتِمَاعِيّ خَاضِع لِلِإخْتِلَاف وَالتَّغَيُّر. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ فَلْسَفَات الِإخْتِلَاف تَرْفُض النَّظْرَة الْمُطْلَقَة لِلْعِلْم، وَتُؤَكِّد عَلَى التَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَافُ فِي إنْتَاجِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة عَلَى الصَّعِيدِ الْأَخْلَاقِيّ، فَإِنْ فَلْسَفَات الِإخْتِلَاف تَرْفُض فِكْرَة الْأَخْلَاق الْمُطْلَقَة وَالْكُلِّيَّة، وَتُؤَكِّد عَلَى الِإعْتِرَافِ بِالتَّنَوُّع وَالِإخْتِلَافُ فِي الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة. فَالْأَخْلَاق مِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ لَيْسَتْ مَجْمُوعَة ثَوَابِت أَوْ قَوَاعِدِ جَامِدَة، بَلْ هِيَ مُمَارَسَة مُتَغَيِّرَة وَ دِينَّامِيكِيَّة تَتَشَكَّل وَفْقاً لِلسِّيَاقِات الثَّقَافِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة الْمُتَنَوِّعَة. وَيَرَى أَصْحَابُ هَذَا التَّوَجُّهِ أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ مَجْمُوعَة قَيِّم وَ ضَوَابِط عَالَمِيَّة، بَلْ هِيَ تَعْبِيرٌ عَنْ التَّنَوُّعِ الثَّقَافِيِّ وَالِإخْتِلَافُ فِي الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة. فَمَا يُعْتَبَرُ أَخْلَاقِيًّا فِي سِيَاقِ ثَقَافِيّ مُعَيَّنٍ، قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي سِيَاقِ آخَر. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ هُنَاكَ تَعَدَّدِيَّة فِي الْمُمَارَسَات وَالْأَنْسَاق الْأَخْلَاقِيَّة تَعْكِس التَّنَوُّعِ الثَّقَافِيِّ وَالِإجْتِمَاعِيّ. وَ هَذَا يَنْتَقِضُ مِنْ النَّظْرَةِ الْمُطْلَقَة لِلْأَخْلَاق الَّتِي تَرَى أَنْ هُنَاكَ مَجْمُوعَةً مِنْ الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكُلِّيَّة وَالثَّابِتَة. فَوَفْقاً لِفَلْسَفَات الِإخْتِلَافُ، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ هِي مُمَارَسَات مُتَغَيِّرَةً وَمُتَنَوِّعَة تَعْكِس الِإخْتِلَافَات الثَّقَافِيَّة وَ الِإجْتِمَاعِيَّة. وَمِنْ ثَمَّ، فَإِنَّ هُنَاك إعْتِرَافًا بِالتَّعَدُّدِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة وَ تَجَنُّبًا لِلْمُطْلَقِيَّة فِي تَحْدِيدِ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة. يُشْكِل مَنْظُور فَلْسَفَات الِإخْتِلَاف تَحَوُّلًا نَوْعِيًّا فِي النَّظَرِ إلَى الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، حَيْثُ يَنْظُرُ إلَيْهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا مُمَارَسَات ثَقَافِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّة مُتَغَيِّرَة وَمُتَعَدِّدَة، بَعِيدًا عَنْ النَّظْرَةِ الْمُطْلَقَة وَالْجَامِدَة. فَالْعِلْم مِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ لَيْس كَشْفًا نِهَائِيًّا لِلْحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ، بَلْ هُوَ بِنَاءٌ ثَقَافِيّ وَإجْتِمَاعِيّ مُتَعَدِّد. وَكَذَلِك الْأَخْلَاق لَيْسَتْ مَجْمُوعَةً ثَوَابِت أَخْلَاقِيَّة كُلِّيَّةً، بَلْ هِيَ مُمَارَسَات مُتَغَيِّرَةً تَعْكِس التَّنَوُّع الثَّقَافِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ. وَبِهَذَا فَإِنَّ فَلْسَفَات الِإخْتِلَاف تَمَثَّل رُؤْيَة جَدِيدَةٍ لِلْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، تُؤَكِّدُ عَلَى التَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَافُ فِي صِيَاغَةِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَالْمَمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة، بَعِيدًا عَنْ مُحَاوَلَاتِ فَرْض الْحَقَائِق الْمُطْلَقَة وَ الْمَعَايِير الْجَامِدَة.
_ مَفْهُومُ الْعِلْمِ عِنْدَ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف
إنْ مَفْهُومِ الْعِلْمِ لَدَى فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافِ, يَخْتَلِفُ بِشَكْل جَوْهَرِيّ عَنْ الْمَفْهُومِ التَّقْلِيدِيّ لِلْعِلْم كَمَجْمُوعَة مِنْ الْمَعَارِفِ وَ الْحَقَائِق الْمَوْضُوعِيَّة الثَّابِتَة. بِالنِّسْبَة لِفَلَاسِفَةُ الِإخْتِلَافُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ مُجَرَّدَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْحَقَائِقِ الْمُطْلَقَةِ، وَ إِنَّمَا هُوَ نِتَاجُ لِعَمَلِيَّات إنْشَاء الْمَعْنَى وَ التَّفَاوَض عَلَيْهِ ضَمِنَ سِيَاقَات ثَقَافِيَّة وَ إجْتِمَاعِيَّة مُحَدَّدَة. يَنْظُر فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافُ إلَى الْعِلْمِ بِإعْتِبَارِه مُمَارَسَة إجْتِمَاعِيَّة وَ ثَقَافِيَّة، وَ لَيْسَ مُجَرَّدُ نَشَاط مَوْضُوعَيْ وَ مُحَايد. فَالْمَعْرِفَةُ الْعَلَمِيَّةِ لَا تَنْشَأُ فِي فَرَاغِ، وَ إِنَّمَا تَتَشَكَّل ضَمِن عَلَاقَات الْقُوَّة وَ الصَّرَّاعَات السِّيَاسِيَّة وَ الْإِيدَيُولُوجِيَّة السَّائِدَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ. وَ بِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمَفَاهِيمَ وَ النَّظَرِيَّات الْعَلَمِيَّةِ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا عَنْ السِّيَاقَات التَّارِيخِيَّة وَ الِإجْتِمَاعِيَّة الَّتِي نَشَأَتْ فِيهَا. يَرَى فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافِ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُنْتِجُ حَقَائِق مُطْلَقَة وَثَابِتَة، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلِيَّةُ مُسْتَمِرَّة لِلتَّفَاوُض وَالتَّفَاعُلِ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَطْرَاف وَالرُؤَى الْمُتَنَافِسَة. فَالْحَقِيقَةُ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ شَيْئًا جَاهِزا وَمُعْطِي مَسْبُقا، وَإِنَّمَا هِيَ نِتَاجُ لِعَمَلِيَّات التَّفَاوُض وَ الصِّرَاع بَيْن الْفَاعِلِين الْمُخْتَلِفَيْن دَاخِل الْمَجَال الْعِلْمِيّ. كَمَا يَنْظُر فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافُ إلَى الْعِلْمِ بِإعْتِبَارِه مُمَارَسَة خَطَابِيَّة وَلَيْسَ مُجَرَّدُ تَجْمِيع لِلْحَقَائِق الْمَوْضُوعِيَّة. فَالْخِطَاب الْعِلْمِيِّ لَا يَنْقُلُ الْحَقِيقَة بِشَكْل مَحَايد، وَإِنَّمَا يُشَارِكُ فِي إنْتَاجِ وَتَشْكِيل الْمَعْنَى وَالْوَاقِعِ الِإجْتِمَاعِيّ. وَ بِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ شَفَّافَة أَوْ مُحَايِّدَة، وَ إِنَّمَا هِيَ مُتَأَثِّرَة بِأَنْسَاق الْقُوَّةُ وَالهَيْمَنَة السَّائِدَةِ فِي الْمُجْتَمَع. يُؤَكِّد فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الِإعْتِرَاف بِتَعَدَدِيَّة الرُؤَى وَ الْأَصْوَات دَاخِل الْمَجَالِ الْعِلْمِيِّ. فَالْعِلْمُ لَيْسَ مَجَالًا مُوَحِّدًا وَ مَتَجَانِساً، وَإِنَّمَا هُوَ فَضَاء لِتَنَافس الرُؤَى وَالتَّفْسِيرَات الْمُخْتَلِفَةِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الِإخْتِلَافَ وَالتَّنَوُّع هُمَا شَرْطَانِ أَسَاسِيًّان لِتَطْوِير الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَ دَيْنٌاميكِيَتِهَا. إذَنْ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ مَفْهُومَ الْعِلْمِ لَدَى فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف يَنْطَلِقُ مِنْ رَفْضِ النَّظْرَة الْكَلاَسِيكِيَّة لِلْعِلْمِ كَمَجْال مَوْضُوعَيْ وَمُحَايد، وَ إسْتِبْدَالُهَا بِرُؤْيَة تُؤَكِّدُ عَلَى طَبِيعَةِ الْعِلْم كَمُمَارِسَة إجْتِمَاعِيَّة وَ ثَقَافِيَّة، وَ عَلَى أَهَمِّيَّة الِإعْتِرَاف بِتَعَدُّد الرُؤَى وَ الْأَصْوَات دَاخِل الْمَجَالِ الْعِلْمِيِّ. وَ هَذَا الْمَفْهُومُ يُتِيح فَهُمَا أَكْثَر تَعْقِيدًا وَ دِينَّامِيكِيَّة لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِيَّة الْعِلْمِيَّة.
_ سِيَاقُ النَّظَرِيَّة الْعِلْمِيَّة و أُطْرُوحَة التَّعَدُّد الْمَنْهَجِيّ
أَنْ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافُ قَدْ أثَرُوا بِشَكْلٍ كَبِيرٍ عَلَى فَهْمِ نَظَرِيَّة الْعِلْم وَدَوْرُهَا فِي الْمَعْرِفَةِ. أَبْرَزَ مَا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ هُوَ رَفْضُهُمْ لِوُجُود مَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ وَاحِدٍ أَوْ أُنْمُوذَج عِلْمِي مُتَفَوِّق عَلَى غَيْرِهِ، فَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْمَنَاهِج وَالنَّظَرِيَّات الْعَلَمِيَّةِ هُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَحَتَّمي يُؤَدِّي إلَى ثَرَاء الْمَعْرِفَة الْإِنْسَانِيَّة وَقَبُول الْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ. يَرَى فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافِ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ يَخْتَلِفُون تَمَامًا حَوْل مَاهِيَّة الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ كَمَا يَخْتَلِفُونَ حَوْلَ أَيْ مَسْأَلَةِ فَلْسَفِيَّة أُخْرَى. فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُود مَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ وَاحِدٍ، وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ هُنَاكَ فَلَاسِفَة يَرَوْنَ أَنَّ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ يَسْتَدْعِي الِإخْتِبَار، بَيْنَمَا آخَرُونَ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ ضَرُورِيًّا. وَبِالتَّالِي، فَالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ حَقْل صِرَاعٌ بَيْنَ الْبَشَرِ، بَلْ هِيَ حَقْل تَنَافَس بَيْن الْمَنَاهِج وَالنَّظَرِيَّات الْمُتَعَارِضَة. كَمَا تَطَرَّق فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافُ إلَى نَقْدِ الْوَضْعِيَّة الْمَنْطِقِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تُسَيْطِرُ عَلَى فَلْسَفَةِ الْعُلُومِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ. فَالْوَضْعُيَّة الْمَنْطِقِيَّةِ تَرْفُض كُلُّ مَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ تَجْرِيبِيِّا، وَتَقْتَصِرُ الْمَعْرِفَة الْحَقَّة عَلَى مَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ مِنْ خِلَالِ الْمُلَاحَظَةِ وَالتَّجْرِبَةِ. وَهَذَا أَدَّى إلَى رَفْضِ الْمِيتَافِيزِيقَا وَالْفَلْسَفَات الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَخْضَاعِهَا لِلِإخْتِبَارِ التَّجْرِيبِيّ. فِي الْمُقَابِلِ، يَرَى فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافِ أَنَّ هَذَا الْمَوْقِفِ ضَيِّقٌ وَغَيْرُ كَافٍ لِفَهْم طَبِيعَة الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. فَالْعِلْمُ لَا يَتَطَوَّرُ مِنْ خِلَالِ نَمُوذَج وَاحِد أَوْ مَنْهَجِ وَاحِدٍ، بَلْ يَتَطَوَّر مِنْ خِلَالِ تَعَدَّد الْمَنَاهِج وَالنَّظَرِيَّات الْمُتَنَافِسَة. كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ السِّيَاقِ الِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ الَّذِي يَنْشَأُ فِيهِ، وَهَذَا مَا أَغَفَلَتْه الْوَضْعِيَّة الْمَنْطِقِيَّة. وَ عَلَيْه، يَرَى فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافِ أَنَّ فَهْمَ طَبِيعَة الْعِلْم وَتَطَوُرُه يَتَطَلَّب الِإعْتِرَاف بِتَعَدَدِيَّة الْمَنَاهِجِ وَ النَّظَرِيَّات، وَرَفَض الِإدِّعَاءَات بِوُجُود مَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ وَاحِد مُتَفَوِّق. كَمَا يَتَطَلَّب الِإهْتِمَام بِالسِّيَاق الِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ الَّذِي يَنْشَأُ فِيهِ الْعِلْمُ، وَعَدَمُ النَّظَرِ إلَيْهِ كَمَجْال مُجَرَّدُ وَمُنْفَصِل عَنْ الْوَاقِعِ. وَهَذَا يَفْتَح آفَاقَا جَدِيدَة لِفَهْم كَيْفِيَّة تَطَوُّر الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَبِنَاء نَظَرِيَّة لِلْعِلْمِ أَكْثَرُ شُمُولًا وَوَاقِعِيّة. وَ بِالتَّالِي، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافُ قَدْ سَاهَمُوا بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي تَطْوِيرِ نَظَرِيَّة الْعِلْمِ مِنْ خِلَالِ رَفَض الْأُنْمُوذَج الْوَضْعِيّ الْأُحَادِيّ، وَإعْتِمَاد رُؤْيَة مُتَعَدِّدَة لِلْمَنَاهِج وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة، وَرَبَط تَطَوُّر الْعِلْم بِالسِّيَاق الِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ الَّذِي يَنْشَأُ فِيهِ. وَهَذَا أَدَّى إلَى تَحَوُّلِ جِذْرِيٍّ فِي فَهْمِ طَبِيعَةِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَكَيْفِيَّة تَطَوُّرها.
_ الْخَصَائِصِ الْعِلْمِيَّةِ فِي فَلْسَفَةِ الِاخْتِلَاف (النِّسْبِيَّة و الذَّاتِيَّة و السِّيَاق)
فَلْسَفَةُ الِإخْتِلَافِ هِيَ مَنْظُومَة فِكْرِيَّة وَ فَلْسَفِيَّة تُؤَكِّدُ عَلَى قِيمَةِ الِإخْتِلَاف وَالتَّنَوُّعُ فِي الْآرَاءِ وَالْأَفْكَار، وَتَرْفُض التَّسَلُّط الْفِكْرِيّ وَالْإِيدَيُولُوجِيّ. وَتَنْظُرُ هَذِهِ الْفَلْسَفَةَ إلَى الْعِلْمِ مِنْ زَاوِيَةٍ مُخْتَلِفَة، حَيْثُ تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ مَصْدَر الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ، بَلْ هُوَ نِتَاجُ تَفَاعُل وَتَنَافُس بَيْن آرَاء وَأَفْكَار مُتَنَوِّعَة. فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف، يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ بِإعْتِبَارِه مُمَارَسَة إجْتِمَاعِيَّة وَثَقَافِيَّة، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ كَشْف مَوْضُوعَيْ لِلْحَقَائِق. فَالْعُلُوم لَا تَقُومُ عَلَى مَنْطِقٍ الْحَقَائِق الْمُطْلَقَةِ، بَلْ عَلَى مَنْطِقٍ التَّنَافُس وَالنَّقَّاش وَالتَّوَافُق الِإجْتِمَاعِيّ. فَالْحَقَائِق الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ مُجَرَّدَ إنْعِكَاس لِلْوَاقِعِ، بَلْ هِيَ نِتَاجُ لِتَفَاوض بَيْنَ الْبَاحِثِين وَالمُجْتَمَعَات الْعِلْمِيَّة حَوْلَ مَا هُوَ مَقْبُولٌ كَحَقِيقَة. وَ تَرَى فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ ثَابِتَةً أَوْ مُطَلَّقَةً، بَلْ هِيَ مُتَغَيِّرَةٌ وَمَفْتُوحَة عَلَى إعَادَةِ التَّفْسِير وَ النَّقَّاش. فَالنَّظَرُيَّات الْعِلْمِيَّةِ لَيْسَتْ إنْعِكَاسِات لِوَاقِع خَارِجِيّ مَوْضُوعَيْ، بَلْ هِيَ مُحَاوَلَاتٌ لِفَهْم وَتَفْسِيرُ هَذَا الْوَاقِعِ مِنْ خِلَالِ مُمَارَسَات وَأَطْر مَفَاهِيمِيَّة مُتَنَوِّعَة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الِإخْتِلَافَ وَالتَّنَوُّعُ فِي الْآرَاءِ وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة هُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَمَرْغُوب فِيهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَطَوُّر الْعِلْم وَتَجْدِيدِه. فِي هَذَا السِّيَاقِ، تَرْفُض فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ فِكْرَة الْعِلْم الْمَوْضُوعِيّ وَالْحَيَاد الْقِيَمِيُّ لِلْعُلَمَاء. فَالْعِلْمُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مَشْرُوع مَعْرِفِيّ نَقِيّ، بَلْ هُوَ نَشَاطٍ إِنْسَانِيٍّ وَإجْتِمَاعِيٍّ يَتَأَثَّر بِالْقِيَم وَالْمَصَالَح وَالسِّيَاقَات الثَّقَافِيَّة وَالسِّيَاسِيَّة. وَلِذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ لَيْسُوا مُجَرَّد بَاحِثِين مُحَايدِين، بَلْ هُمْ أَفْرَاد يَنْتَمُونَ إلَى سِيَاقَات إجْتِمَاعِيَّة وَثَقَافِيَّة مُعَيَّنَةٍ، وَهَذَا الِإنْتِمَاء يُؤَثِّرْ عَلَى مُمَارَسَاتهم الْعِلْمِيَّة. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، تَرَى فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ مُطْلَقَةً أَوْ جَامِدَةً، بَلْ هِيَ نِتَاجُ عَمَلِيَّة دِينَّامِيكِيَّة مِنْ التَّفَاوُض وَالتَّفَاعُل بَيْن الْبَاحِثِين وَالمُجْتَمَعَات الْعِلْمِيَّة. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الِإخْتِلَافَ وَ التَّنَوُّعُ فِي الْآرَاءِ وَالنَّظَرِيَّات الْعَلَمِيَّةِ هُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَمَرْغُوب فِيهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَطَوُّر الْعِلْم وَتَجْدِيدِه بِإسْتِمْرَار. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ فَلْسَفَةَ الِإخْتِلَاف تَنْظُرَ إلَى الْعِلْمِ بِإعْتِبَارِه مُمَارَسَة إجْتِمَاعِيَّة وَثَقَافِيَّة، وَلَيْس مَشْرُوعًا مَعْرِفِيًّا نَقِيًّا. فَالْعِلْمُ لَيْسَ مَصْدَر الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ، بَلْ هُوَ نِتَاجُ لِتَفَاوض وَتَفَاعَلْ بَيْن آرَاء وَأَفْكَار مُتَنَوِّعَة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الِإخْتِلَافَ وَالتَّنَوُّعُ فِي الْآرَاءِ وَالنَّظَرِيَّات الْعَلَمِيَّةِ هُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَمَرْغُوب فِيهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَطَوُّر الْعِلْم وَتَجْدِيدِه بِإسْتِمْرَار.
_ التَّطَوُّرِ الْعِلْمِيِّ وَفَلْسَفَة الِاخْتِلَاف
أسْتَعْرِضْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَفَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ، مَعَ التَّرْكِيزِ عَلَى كَيْفَ أَنَّ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ قَدْ غَذِّى وَأَثْرَى فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف. فَلْسَفَةُ الِإخْتِلَاف تَنْطَلِقُ مِنَ الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ وَاحِدٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، بَلْ تُوجَدُ مَنَاهِج عِلْمِيَّة مُتَعَدِّدَة وَمُتَنَوِّعَة. وَهَذَا التَّنَوُّع فِي المَنَاهِجِ الْعِلْمِيَّة يُؤَسَّس لِتَنَوُّع النَّظَرِيَّات وَالتَّفْسِيرَات الْعِلْمِيَّةِ، وَبِالتَّالِي قَبُول الِإخْتِلَاف وَالتَّعْدِدِيَّة فِي الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، الْوَضْعِيَّة الْمَنْطِقِيَّة logical position كَانَتْ تَنْظُرُ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْعِبَارَاتِ وَالْعَلَاقَات التَّجْرِيبِيَّة الْقَابِلَةَ لِلتَّحَقُّقِ وَالِإخْتِبَار. بَيْنَمَا مَنَاهِج نَقْدِيَّة أُخْرَى كَالْبْرَاجْمَاتِيَّة pragmatism وَالْبِنْيَوِيَّة Structuralis وَ الظَّاهِرَاتِيَّة Phenomenology تَنْظُرَ إلَى الْعِلْمِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، تُؤَكِّدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ السِّيَاق الثَّقَافِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ فِي تَشْكِيلِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَ تَفْسِيرُهَا. وَقَدْ سَاهِم هَذَا التَّنَوُّعُ فِي المَنَاهِجِ الْعِلْمِيَّةِ فِي تَعْزِيزِ فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف Philosophy of difference, وَ اَلَّتِي تَرَى فِي تَعَدُّدِ الْمَنَاهِج وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة ثَرَاء وَغِنَى لِلْفِكْر الْإِنْسَانِيّ، بَدَلًا مِنْ إعْتِبَارِهِ صِرَاعًا وَ تَنَاقُضًا. فَالفَلْسَفَة تَدْعُو إلَى قَبُولِ الْآخَرِ وَالِإخْتِلَاف الْفِكْرِيّ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَيْسَتْ حَكْرًا عَلَى مَنْهَجٍ وَاحِدٍ أَوْ نَظَرِيَّةِ وَاحِدَةٍ. كَمَا أَنَّ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ نَفْسَهُ قَدْ أَسْهَمَ فِي تَعْزِيزِ فَلْسَفَة الِإخْتِلَافُ مِنْ خِلَالِ الثَّوَرَات الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي شَهِدَهَا التَّارِيخ. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، نَظَرِيَّة النِّسْبِيَّة لِإِينشتاين Theory of relativity قَدِّمَتْ تَصَوُّرًا جَدِيدًا لِلزَّمَانِ وَ الْمَكَانِ، مُتَجَاوِزَة النَّمَاذِج السَّابِقَة. وَكَذَلِك الْهَنْدَسَات اللَّاإقَلَّيَدِيَّة Non-Euclidean geometries فِي الرِّيَاضِيَّات جَاءَتْ لِتَتِجَاوَز الْإِطَارُ الْإِقْلِيدِيّ التَّقْلِيدِيّ. وَ هَذَا التَّطَوُّر وَالتَّغْيِيرِ فِي النَّظَرِيَّاتِ وَ الْمَفَاهِيم الْعِلْمِيَّة عَبْرَ التَّارِيخِ يُشْكِل دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ حَقِيقَةً مُطْلَقَةً وَجَامِدَة، بَلْ هُوَ مَجَال لِلتَّنَوُّع وَ الِإخْتِلَاف وَ التَّجَدُّد. وَهَذَا مَا عَزَّز فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف وَقَبُول التَّعَدُّدِيَّة فِي الْعُلُومِ. وَ فِي الْمُقَابِلِ، فَإِنْ فَلْسَفَة الِإخْتِلَافُ قَدْ أَثَّرَتْ أَيْضًا فِي مَسَارٍ الْعُلُوم وَتَطَوُّرِهَا. فَالنَّقْد الْفَلْسَفِيّ لِلْعُلُوم وَلِلْمَنَاهِج الْمُخْتَلِفَةِ قَادَ إِلَى ظُهُورِ مَنَاهِج جَدِيدَة كَالْمَنْهَج البِنْيَوِيّ Structural approach وَ الظَّاهِرَاتٍي Phenomenological approach، الَّتِي تَنْظُرُ إلَى الْعِلْمِ فِي إِطَارِ سِيَّاقِي وَإجْتِمَاعِيّ وَثَقَافِيّ. كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْفَلْسَفَاتُ النَّقْدِيَّة سَاعَدَتْ فِي تَعْزِيزِ الْوَعْي بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ مُحَايِّدَة أَوْ مَوْضُوعِيَّة بِشَكْل مُطْلَقٍ، بَلْ هِيَ مَشْرُوطَةٌ بِعَوَامِل ذَاتِيَّة وَسَيَاقِيَة. إذَنْ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَالتَّنَوُّعُ فِي المَنَاهِجِ وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّةِ قَدْ غَذَّى وَأَثْرَى فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ، فِي حِينِ أَنَّ هَذِهِ الْفَلْسَفَةَ النَّقْدِيَّة لِلْعُلُوم سَاهَمَت هِيَ الْأُخْرَى فِي إِثْرَاءِ وَتَطْوِيرِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَتَنْوِيع مَنَاهِجِهَا. وَهُوَ مَا يُؤَكِّدُ عَلَى التَّكَامُل وَالتَّفَاعُل الْمُثْمِر بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ فِي سِيَاقِ التَّطَوُّر المَعْرِفِيّ لِلْإِنْسَان.
_ مَا هِيَ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَفَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ فِي فَهْمِ الْوَاقِع؟
عَلَاقَة الْعِلْم وَفَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ هِيَ عَلَاقَةٌ مُتَبَادَلَة وَ مُعَقَدَّة. فَمَنْ نَاحِيَة، يُؤَثِّرُ الْعِلْمُ عَلَى الْفَلْسَفَةِ مِنْ خِلَالِ النَّظَرِيَّات وَ الِإكْتِشَافَات الْعِلْمِيَّة الْجَدِيدَةِ الَّتِي تَتَحَدَّى الْأَفْكَار الْفَلْسَفِيَّة التَّقْلِيدِيَّة. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، أَحْدَثَتْ نَظَرِيَّات النِّسْبِيَّة وَالْكُمّ ثَوْرَةً فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَعْرِفِيَّة وَالْمَيِّتُافِيزِيقِيَّة. مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، تُؤَثِّر فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ عَلَى تَوَجُّهَات الْعِلْم وَمَنْهَجِيَّتَهُ المُسْتَقْبَلِيَّة. فَبَدَلًا مِنْ السَّعْيِ لِلْوَحْدَة وَالتَّجَانُس فِي الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة، فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف تَدْعُو إلَى تَبَّنِي مَنْظُور أَكْثَر تَعَدَّدِيَّة وَإنْفِتَاح عَلَى التَّنَوُّع وَالِإخْتِلَافُ فِي النَّظَرِيَّاتِ وَالْمُنَاهِج الْبَحْثَيْة. هَذَا الِإنْفِتَاحِ عَلَى الِإخْتِلَافِ قَدْ يُؤَدِّي إلَى تَبَّنِي مُقَارَبَات نَقْدِيَّة أَكْثَرَ فِي الْعِلْمِ، وَالْبَحْثِ عَنْ وَجِهَات نَظَر مُتَبَايِنَة، وَالِإسْتِفَادَةِ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَنَاهِج وَالْأَسَالِيب الْبَحْثَيْة. وَ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَزِّزَ الْمُرُونَة الْفِكْرِيَّة وَالِإبْتِكَار فِي الْمَجَالِ الْعِلْمِيُّ، وَيُقَلِّلَ مِنْ الْهَيْمَنَة وَالتَّحَيُّز فِي الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة. بِالتَّالِي، فَإِنْ مُسْتَقْبِل الْعِلْمِ قَدْ يَتَّجَهُ نَحْو تَبَّنِي مَنْظُور أَكْثَر تَعَدَّدِيَّة وَإنْفِتَاحًا عَلَى الِإخْتِلَافِ وَالتَّنَوُّع، بَدَلًا مِنْ الْأَحَادِيَة وَ الْجُمُودُ. وَسَتَكُون لِهَذَا التَّوَجُّه إنْعِكَاسِات هَامَةٌ عَلَى الْمَنْهَجِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَآفَاق التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
_ إنْتِقَادَات هَامَةٌ لِفَلْسَفَة الْعِلْمِ مِنْ مَنْظُورٍ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف
لَقَدْ أَثَارَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَا يُعْرَفُ بِـ "فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف" إنْتِقَادَات هَامَةٌ لِفَلْسَفَة الْعِلْم وَتَصَوَّرَهَا لِلْحَقِيقَة وَالْمَعْرِفَةِ. مِنْ أَبْرَزِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ نَذْكُر جَاكُ دِرِيدَا Jacques Derrida (1930-2004) إنْتَقَد دِرِيدَا الْفِكْرَة الْقَائِلَة بِوُجُودِ حَقِيقَةِ مَوْضُوعِيَّة وَمُطَلَّقَة يُمْكِنُ لِلْعِلْمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا. فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ وَالْحَقِيقَة هِيَ نِتَاجُ سِيَاق لُغَوِيّ وَ ثَقَافِيّ مُحَدَّدٍ، وَبِالتَّالِي لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ نِهَائِيَّة أَوْ حَقِيقَةً مُطْلَقَةً. دِرِيدَا إقْتَرِحْ مَفْهُوم الِإخْتِلَاف (Différance) كَبَدَيل لِلْحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ، حَيْثُ إنَّ الْمَعْنَى لَا يَنْبُعُ مِنْ وُجُودِ جَوْهَرِيٌّ لِلْأَشْيَاء بَلْ مِنْ الْعَلَاقَاتِ وَالْفُرُوقات بَيْنَهَا. أَمَّا مِيشِال فَوَكَّو Michal Foucault (1926-1984) فَقَدْ إنْتَقَدَ التَّصَوُّرُ الْكلاَسِيكِيّ لِلْعِلْم بِوَصْفِه نَشَاطًا مَوْضُوعِيًّا يَهْدِفُ إِلَى الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَةِ ثَابِتَة. فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة مُرْتَبِطَة بِأَنْظمَة السُّلْطَةَ وَالْخِطَاب السَّائِد فِي مُجْتَمَعٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ مَا يُعْتَبَرُ "حَقِيقَةٌ عِلْمِيَّة" هُوَ فِي الْوَاقِعِ نِتَاج لِعَمَلِيَّات إنْتِقَاء وَ إقْصَاء تَقُومُ بِهَا هَذِهِ الأَنْظِمَة. لِذَلِكَ، فَإِنْ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ مَوْضُوعِيَّة بَلْ تَعْكِس عَلَاقَاتِ القِوَّى وَالصَّرَّاعَات السِّيَاسِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة. فِي نَفْسِ الْوَقْتِ الَّذِي يُرْكَزُ فِيهِ جِيلٌ دَوْلَوز Gilles Deleuze (1925-1995) عَلَى نَقْد التَّصَوُّرَاتُ الْجَدَلِيَّة وَالتُّرَاتْبِيَّة لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَعْرِفَة، وَاَلَّتِي تَرَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَتَقَدَّم بِشَكْل تَرَاكُمِيّ نَحْوُ حَقِيقَة نِهَائِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، إقْتَرِحْ مَفْهُوم "الِإخْتِلَاف" كَعَمَلِيَّةُ مُسْتَمِرَّةً مِنْ إنْتَاج الْمَعْنَى وَ الْمَعْرِفَة دُونَ وُجُودِ أَيْ نِهَايَةُ مُحَدَّدَة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ شَبَكَةٍ مِنْ الْعَلَاقَاتِ وَالِإخْتِلَافَات الْمُتَغَيِّرَة بِإسْتِمْرَار. كَمَا أَنَّ جَان بِوَدِريار jean Baudrillard (1929-2007): إنْتَقَدَ مَفْهُومُ الْحَقِيقَة الْمَوْضُوعِيَّة لِلْعِلْم، وَ ذَلِك بِإِدْخَال مَفْهُوم "الشَّبَه" (simulacre) كَبَدَيل لَهَا. فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْعَالِمَ الْمُعَاصِر قَدْ أَصْبَحَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعَة مِنْ الصُّوَرِ وَالرُّمُوز الْمُنْفَصِلَةِ عَنْ أَيِّ أَسَاسٍ وَاقِعِيٍّ، وَأَنَّ هَذِهِ الصُّوَرِ هِيَ الَّتِي تُشَكِّلُ "الْوَاقِعِ" الَّذِي نَعِيشُه. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ مَوْضُوعِيَّة أَصْبَحَ غَيْرَ مُمْكِنٍ فِي ظِلِّ هَذَا الْعَالَمِ مِنْ الصُّوَرِ وَالتَّمْثِيلَات. إنْ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، مِنْ خِلَالِ مَفَاهِيمِ مِثْلُ "الِاخْتِلَافِ" و"الشَّبَه" و"أَنْظِمَة الْخَطَّاب"، قَدَمُوا نَقْدًا جِذْرِيًّا لِلتَّصَوُّرِات الْكَلاَسِيكِيَّة لِلْعِلْمِ وَالْحَقِيقَة الْمُطْلَقَة. فَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ إنْعِكَاسًا لِوَاقِع مَوْضُوعَيْ بَلْ هِيَ نِتَاجُ لِشَبَكَةٍ مُعَقَدَّ مِنْ الْعَلَاقَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَقِيقَةِ نِهَائِيَّة وَ مَوْضُوعِيَّة هُوَ مُحَاوَلَةُ خَاطِئَة، وَإِنْ عَلَى الْعِلْمِ أَنَّ يَتَعَامَلُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِوَصْفِهَا عَمَلِيَّة مُتَغَيِّرَة وَمُتَجَدِّدٌة بِإسْتِمْرَار. وَ بِذَلِك قَدَمَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ رُؤَى جَدِيدَة حَوْل طَبِيعَة الْمَعْرِفَةِ وَ الْحَقِيقَةِ، وَاَلَّتِي تَتَحَدَّى الِإفْتِرَاضَات الْأَسَاسِيَّةِ لِلتَّصَوُّر الْكِلاَسِيكِيّ لِلْعِلْم. فَهُمْ يَدَّعُونَ إِلَى ضَرُورَةِ التَّخَلِّي عَنْ الْبَحْثِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَة وَالْمَوْضُوعِيَّة، وَالتَّرْكِيزِ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَهْمِ كَيْفِيَّة إنْتَاج الْمَعْرِفَة وَإسْتِخْدَامُهَا فِي سِيَاقَات إجْتِمَاعِيَّة وَثَقَافِيَّة مُحَدَّدَة. وَهَذَا النَّقْد الْجِذْرِيّ لِفَلْسَفَة الْعِلْم الْكَلاَسِيكِيَّة كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ عَلَى التَّطَوُّرَات الْفَلْسَفِيَّة وَ النَّقْدِيَّة فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْعِشْرِين. فَمَنْ خِلَال تَقْوِيض الِإفْتِرَاضَات الْأَسَاسِيَّةِ لِلْعِلْم الْحَدِيث، فَتْح هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الْبَابِ أَمَامَ رُؤَى بَدِيلَة لِلْمَعْرِفَة وَالْحَقِيقَة، وَاَلَّتِي تُؤَكِّدُ عَلَى التَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَافُ بَدَلًا مِنْ الْوَحْدَةِ وَ الْمَوْضُوعِيَّة. وَبِذَلِك سَاهِموا فِي إحْدَاثِ تَحَوَّل جِذْرِيٍّ فِي فَهْمِ طَبِيعَةِ الْمَعْرِفَة وَتَطَوُّرِهَا، وَأثْرُوا بِشَكْلٍ كَبِيرٍ النَّقَّاش الْفَلْسَفِيّ وَالثَّقَافِيِّ فِي الْعُقُودِ الْأَخِيرَةِ.
_ الْأَخْلَاقِ فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف
مَوْضُوع الْأَخْلَاقِ فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَافِ هُوَ مَوْضُوعٌ مُعَقَد وَ مُتَشَعِّب، حَيْثُ يَنْظُرُ الْفَلَاسِفَة الْمُعَاصِرُون إلَى مَسْأَلَةِ الْأَخْلَاقِ فِي ضَوْءِ الِإخْتِلَاف الْقَائِمُ بَيْنَ الْبَشَرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِيَمِ وَ الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّة. يُؤَكِّد الْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الِإتِّجَاهَ أَنَّ الْخِلَافَ الْأَخْلَاقِيّ هُوَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ وَوَاقِعِيّ، فَلَيْسَ هُنَاكَ تُوَافِق عَامٍ أَوْ سِيَادَةٍ مُطْلَقَة لِلْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي تَحْدِيدِ مَا هُوَ صَوَابٌ وَمَا هُوَ خَطَأٌ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأَخْلَاقِيَّة. وَ يُعْزَى هَذَا الِإخْتِلَافِ إِلَى تَبَايُن الْمَبَادِئِ وَالْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي يَنْطَلِقُ مِنْهَا كُلَّ فَرِيقٍ. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، يُرَكِّز الْفَلَاسِفَةِ عَلَى دِرَاسَة مَصَادِرُ هَذَا الِإخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِيّ وَ أَسْبَابِه. فَالْبَعْض يَرَى أَنَّ الِإخْتِلَافَ يَنْبُعُ مِنْ إخْتِلَافِ الثَّقَافَات وَالْخَلَفِيَّات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالدِّينِيَّة لِلنَّاسِ، فَمَا قَدْ يُعْتَبَرُ أَخْلَاقِيًّا فِي ثَقَافَةِ مُعَيَّنَةٍ قَدْ لَا يُقْبَلُ فِي ثَقَافَةِ أُخْرَى. وَهُنَاكَ مَنْ يَرْجِعُ الِإخْتِلَافُ إلَى إخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ الشَّخْصِيَّة وَ الْجَمَاعِيَّة الَّتِي يَسْعَى كُلُّ طَرَفٍ لِتَحْقِيقِهَا. بَيْنَمَا يَذْهَبُ آخَرُونَ إلَى أَنْ الِإخْتِلَاف الْأَخْلَاقِيّ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ نَابِعٍ مِنْ تَعْقِيد الْمَوَاقِف الْأَخْلَاقِيَّة وَصُعُوبَة إيجَاد إِجَابَات بَسِيطَ لَهَا. يُنْظَرُ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافُ إلَى مَوْضُوعِ الْأَخْلَاقِ مِنْ زَاوِيَةٍ إبْسَتمولُوجِيَّة، أَيْ مِنْ حَيْثُ إِمْكَانِيَّة مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ الْأَخْلَاقِيَّة وَطَبِيعَة هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ. فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْأَخْلَاقِيَّة مَوْضُوعِيَّة وَيُمْكِن مَعْرِفَتِهَا عَبَّر الْعَقْل وَالْحُجَج الْمَنْطِقِيَّةِ، فِي حِينِ يَذْهَب آخَرُونَ إلَى أَنْ الْأَخْلَاق ذَاتِيَّة وَ تَعْتَمِدُ عَلَى الْمَشَاعِر وَالِإنْفِعَالَات الشَّخْصِيَّة. وَتَتَفَرَّع هَذِه الْجَدَلِيَّة إلَى مُنَاقَشَات حَوْل إِمْكَانِيَّة التَّوَصُّلُ إلَى أَخْلَاقِ عَالَمِيَّة أَمْ أَنَّ الْأَخْلَاقَ نِسْبِيَّة وَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ السِّيَاق. كَمَا تُناقِش فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف أَخْلَاقِيَّات التَّعَامُلُ مَعَ الِإخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِيّ ذَاتِه. فَهُنَاكَ مَنْ يَرَى ضَرُورَة التَّسَامُح وَالتَّعَايش مَعَ التَّنَوُّع الْأَخْلَاقِيّ، بَيْنَمَا يَرَى آخَرُون أَهَمِّيَّة الْبَحْثِ عَنْ أُسِّس أَخْلَاقِيَّة مُشْتَرَكَة يُمْكِنُ الِإتِّفَاقُ عَلَيْهَا. كَمَا يَطْرَحُ الْبَعْض مَسْأَلَةِ الْحُدُودِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَضْبَطَ الِإخْتِلَاف الْأَخْلَاقِيّ، وَمَا هِيَ الْآلِيَّاتِ الَّتِي يَجِبُ إتِّبَاعُهَا لِمُعَالَجَة هَذَا الِإخْتِلَاف. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُشْكِل مَوْضُوع الْأَخْلَاقِ فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف جَانِبًا أَسَاسِيًّا فِي الْمُنَاقَشَات الْمُعَاصِرَة حَوْل طَبِيعَة الْأَخْلَاق وَ مَصَادِرِهَا وَإِمْكَانِيَّة التَّوَصُّلُ إلَى أُسِّس أَخْلَاقِيَّة مُشْتَرَكَةٍ. وَهُوَ مَوْضُوعٌ بَالِغ التَّعْقِيد يَتَطَلَّب مَزِيدًا مِنَ الْبَحْثِ وَالدِّرَاسَةِ لِفَهْم أَبْعَادِه الْمُخْتَلِفَة.
_ نَظَرِيَّةٌ الْأَخْلَاقِ عِنْدَ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف
تُعْتَبَرُ الْأَخْلَاق بِمَثَابَة مَجْمُوعَةٌ الْمَبَادِئ وَالْقَوَاعِد السُّلُوكِيَّة الَّتِي تَحْكُمُ وَ تَوَجَّه سُلُوك الْأَفْرَاد وَ المُجْتَمَعَات نَحْوِ مَا هُوَ صَوَابٌ وَ خَيْر وَ فَضِيلَة. وَمَفْهُوم الْأَخْلَاق يَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ الْمَنْظُورات الْفَلْسَفِيَّة وَالثَّقَافِيَّة لِلْمُجْتَمَعَات وَالْأفْرَادِ. فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف، يُنْظَرُ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُطْلَقَةً أَوْ ثَابِتَةً، بَلْ نِسْبِيَّة وَ دِينَّامِيكِيَّة تَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ السِّيَاقَات الثَّقَافِيَّة وَ الِإجْتِمَاعِيَّة وَ التَّارِيخِيَّة. فَالْأَخْلَاق لَيْسَتْ حَقِيقَةً مُجَرَّدَةً أَوْ كُلِّيَّةُ، بَلْ هِيَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْقِيَمِ وَ الْمَمَارَسَات الَّتِي تَتَشَكَّلُ وَ تَتَغَيَّر وِفْقاً لِسَيِّاقَات مُحَدَّدَة. أَنْصَار فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف يَرْفُضُون الْأَخْلَاق الْكُلِّيَّةِ أَوْ الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَزْعُمُ وُجُود مَبَادِئَ أَخْلَاقِيَّةٍ ثَابِتَة وَعَالَمِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يُؤَكِّدُون عَلَى تَعَدَّدِيَّة الْأَخْلَاقِ وَتَنَوُّعِهِا بِحَسَبِ السِّيَاقَات الْمُخْتَلِفَةِ. فَمَا يُعْتَبَرُ أَخْلَاقِيًّا فِي سِيَاقِ مَا قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي سِيَاقِ آخَر. وَ بِالتَّالِي، فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَافِ، لَا تُوجَدُ أَخْلَاق وَاحِدَةٍ صَحِيحَةٌ أَوْ نَمَوْذَجِيَّة، بَلْ تُوجَدُ أَخْلَاقِيَّات مُتَعَدِّدَةٍ وَمُخْتَلِفَة تَعْكِس التَّنَوُّعِ الثَّقَافِيِّ وَالِإجْتِمَاعِيّ لِلْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ. الْأَخْلَاق هُنَا لَيْسَتْ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمَبَادِئِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ الِإلْتِزَامَ بِهَا، بَلْ هِيَ مُمَارَسَات وَقَيِّمُ نِسْبِيَّة تَتَشَكَّل وَفَقَأ لِلسِّيَاقِات الْمُحَدَّدَة. وَ هَذَا يَعْنِي أَنَّ مَفْهُومَ الْأَخْلَاقِ فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف يَنْطَلِقُ مِنْ رَفْضِ الْأَحَادِيَة وَ الْعَالَمِيَّة فِي الْأَخْلَاقِ، وَالتَّأْكِيدِ عَلَى تَعَدَّدِيَّة الْأَنْسَاق الْأَخْلَاقِيَّة وَتَنَوُّعِهِا بِحَسَبِ السِّيَاقَات الْمُخْتَلِفَةِ. فَمَا هُوَ أَخْلَاقِيّ فِي مُجْتَمَعٍ مَا قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي مُجْتَمَعٍ آخَرَ، وَمَا هُوَ أَخْلَاقِيّ فِي زَمَنِ مَا قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي زَمَنِ آخَرَ. فِي هَذَا السِّيَاقِ، تُؤَكِّد فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الِإعْتِرَاف بِالتَّنَوُّع الْأَخْلَاقِيّ وَعَدَمُ فَرْضِ نَمُوذَج أَخْلَاقِيّ وَاحِدٍ عَلَى الْجَمِيعِ. بَلْ يَجِبُ إحْتِرَام الِإخْتِلَافَات الْأَخْلَاقِيَّة وَ فَهْم سِيَاقَاتِهَا الْمُخْتَلِفَة. وَبِذَلِكَ تُصْبِحُ الْأَخْلَاقِ فِي هَذِهِ الْفَلْسَفَةَ مُرْتَبِطَة بِالسِّيَاقَات الْمُحَدَّدَة وَلَيْسَتْ حَقِيقَةُ مُجَرَّدَةً أَوْ كُلِّيَّة. بِالِإخْتِصَار، مَفْهُوم الْأَخْلَاقِ فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف يَرْفُض الْأَخْلَاق الْمُطْلَقَة وَالْعَالَمِيَّة وَيُؤَكِّدُ عَلَى تَعَدَّدِيَّة الْأَنْسَاق الْأَخْلَاقِيَّة وَتَنَوُّعِهِا وَإرْتِبَاطُهَا بِالسِّيَاقَات الْمُخْتَلِفَةِ. وَبِذَلِكَ، تُصْبِحُ الْأَخْلَاق نِسْبِيَّة وَلَيْسَتْ حَقِيقَةُ مُجَرَّدَةً أَوْ كُلِّيَّةً، بَلْ هِيَ مُمَارَسَات وَقَيِّمُ تَتَشَكَّل وَفَقَأ لِلسِّيَاقِات الْمُحَدَّدَة.
_ مَبْدَأُ تَعَدَّدِيَّة الْأَنْسَاق الْأَخْلَاقِيَّة فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف
فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف، تُشْكِل الْأَخْلَاق مَوْضُوعًا مُرَكَّزيا لِلْبَحْثِ وَالْمُنَاقَشَة، حَيْثُ إنَّ فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف تَعْتَرِفْ بِتَعَدَدِيَّة وَجِهَاتُ النَّظَر الْأَخْلَاقِيَّة وَتَسْعَى إِلَى فَهْمِ طَبِيعَةِ هَذَا الِإخْتِلَافِ وَأَسْبَابِه. وَاحِدٍ مِنْ أَبْرَزِ مُفَكِّرِي فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف الَّذِينَ تَنَاوَلُوا مَوْضُوع الْأَخْلَاق هُو الْفَيْلَسُوف الْفَرَنْسِيّ مِيشِيل فَوَكَّو. Michel Foucault, فَوَكَّو إنْتَقَدَ الرُّؤْيَة الْجَوْهَرَانِيَة لِلْأَخْلَاق الَّتِي تَرَى أَنْ هُنَاكَ حَقَائِقَ أَخْلَاقِيَّة مَوْضُوعِيَّة وَثَابِتَة، وَحَاجَة الْبَشَرِ إلَى إكْتِشَافِهَا وَالْخُضُوعُ لَهَا. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، إقْتَرِحْ فَوَكَّو إنْ الْأَخْلَاقِ هِيَ نِتَاجُ تَارِيخِيّ وَ سِيَاسِيّ وَثَقَافِيّ، وَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَسَاسٌ مِيتَافِيزِيقِيّ أَوْ إِلَهِي لَهَا. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ تَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ السِّيَاقَات وَ التَّقَالِيد وَالْمَمَارَسَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ. كَمَا دَرَسَ فَوَكَّو كَيْفَ أَنَّ السُّلْطَة تُمَارِسْ نُفُوذُهَا عَلَى الْأَفْرَادِ مِنْ خِلَالِ إنْتَاج أَنْمَاط مُحَدَّدَة مِنْ السُّلُوكِ الْأَخْلَاقِيِّ. فَالْأَخْلَاق لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَوَاعِد جَامِدَة، وَلَكِنَّهَا أَدَوَات لِلْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ وَالْآخِرِين وَ إِخْضَاعِهِمْ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ فَوَكَّو يَنْظَرُ إلَى الْأَخْلَاقِ بِوَصْفِهَا مُمَارَسَة سِيَاسِيَّة وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَبَادِئ فَلْسَفِيَّة. آخَرَ مِنْ مُفَكِّرِي فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف الْبَارِزَيْن فِي مَجَالِ الْأَخْلَاق هُو الْفَيْلَسُوفُ الْأَلْمَانِيُّ يُورَغن هَابَرْمَاس Jürgen Habermas، هَابَرْمَاس يَنْتَقِدْ الرُّؤْيَة الْبَرَاغْمَاتِيِّة لِلْأَخْلَاق الَّتِي تَرَى أَنْ الْأَخْلَاق مُجَرَّد تَفْضِيلَات شَخْصِيَّة أَوْ إتِّفَاقَات إجْتِمَاعِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يُؤَكِّدُ هَابَرْمَاس عَلَى وُجُودِ قَوَاعِد أَخْلَاقِيَّة عَالَمِيَّة قَائِمَةً عَلَى الْحِوَار وَالتَّفَاهُم الْمُتَبَادَل. وَفْقاً لَهُ، يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى مَعَايِير أَخْلَاقِيَّة مُشْتَرَكَةٍ مِنْ خِلَالِ عَمَلِيَّات الْحِوَار وَ التَّفَاوَض. وَهَابْرْمَاسْ يَرَى أَنَّ الِإخْتِلَافَات الْأَخْلَاقِيَّة لَيْسَتْ عَائِقًا أمَام إِمْكَانِيَّة التَّوَصُّلُ إلَى إجْمَاعٍ أَخْلَاقِيّ، وَلَكِنَّهَا فُرْصَة لِإِجْرَاء نَقَّاش عَقْلَانِيّ وَشَفَّاف حَوْل الْقِيَمِ وَالْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّة. فَالِإخْتِلَاف الْأَخْلَاقِيّ هُوَ دَافِعٌ لِلْحِوَار وَالتَّفَاهُم، وَلَيْس لِلصِّرَاع وَالِإقْتِتَال. بِالْإِضَافَةِ إلَى فُوكُّو وَهَابْرْمَاسْ، هُنَاكَ عَدَدُ مَنْ الْمُفَكِّرِين الْآخَرِينَ فِي فَلْسَفَةِ الِإخْتِلَاف الَّذِين سَاهِموا فِي تَشْكِيلِ رُؤْيَة جَدِيدَة لِلْأَخْلَاق. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يَرَى الْفَيْلَسُوف الْفَرَنْسِيّ إيمَانْوِيل لِيفِينَاسَ Emmanuel Levinas, إنْ الْأَخْلَاق تَنْشَأُ مِنْ الِإلْتِزَامِ تُجَاهَ الْآخَرِ وَ الْمَسْؤُولِيَّة عَنْه. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ نِظَامٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ، وَلَكِنَّهَا تَجْرِبَة وُجُودِيَّة وَعَلَاقَة شَخْصِيَّة. كَمَا أَنَّ الْفَيْلَسُوفَ الْأَمْرِيكِيّ رِيتَشَارِد رُورْتِّي Richard Rorty, َرْفُضُ الْفِكْرَة الْقَائِلَةِ بِأَنَّ هُنَاكَ حَقِيقَةُ أَخْلَاقِيَّة مَوْضُوعِيَّة، وَبَدَلًا مِنْ ذَلِكَ يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ هِيَ نِتَاجُ ثَقَافِيّ وَ سِيَاسِيّ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الِإخْتِلَافَات الْأَخْلَاقِيَّة هِيَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَمُتَوَقَّع، وَيَجِبُ التَّعَامُلِ مَعَهَا مِنْ خِلَالِ الْحِوَارِ وَالتَّسَامُح. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ فَلْسَفَةَ الِإخْتِلَاف تَنْظُرَ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا مَجَال مُتَعَدِّد الرُّؤَى وَ التَّصَوُّرَات، وَأَنَّ الِإخْتِلَافَ الْأَخْلَاقِيّ هُوَ أَمْرٌ حَتْمِيّ وَلَيْسَ عَيْبًا أَوْ خَلَلَا. فَالِإخْتِلَاف الْأَخْلَاقِيّ هُوَ دَافِعٌ لِلْحِوَار وَالتَّفَاهُم، وَلَيْس لِلصِّرَاع وَالِإنْقِسَام. وَتُؤَكِّد فَلْسَفَة الِإخْتِلَافِ عَلَى ضَرُورَةِ التَّعَامُلِ مَعَ هَذِهِ الِإخْتِلَافَاتِ بِرُوحٍ مِنْ التَّسَامُحِ وَالِإنْفِتَاح عَلَى وِجْهَاتِ النَّظَرِ الْمُخْتَلِفَة. يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ فَلْسَفَةَ الِإخْتِلَاف قَدِّمَتْ رُؤْيَة جَدِيدَة لِلْأَخْلَاق تَتَجَاوَز النَّظْرَة الْجَوْهَرَانِيَة وَالْعَالَمِيَّة إلَيْهَا، وَتُؤَكِّد عَلَى أَهَمِّيَّةِ الِإعْتِرَاف بِتَعَدُّد الرُّؤَى الْأَخْلَاقِيَّة وَضَرُورَة الْحِوَار وَالتَّفَاهُم بَيْنَ هَذِهِ الرُّؤَى الْمُخْتَلِفَة. وَهَذَا مَا يَجْعَلُ فَلْسَفَة الِإخْتِلَاف مُسَاهَمَة قَيِّمَةٌ فِي إِثْرَاءِ النَّقَّاش الْفَلْسَفِيّ حَوْل قَضَايَا الْأَخْلَاق.
_ مَفْهُومُ الْأَخْلَاق الِإخْتِلَافِيَّة عِنْدَ جِيلٍ دَوْلَوز
فَلَاسِفَةُ الِإخْتِلَاف مِثْل جِيل دُولُوز يُقَدِّمُونَ نَظَرِيَّة أَخْلَاقِيَّة مُخْتَلِفَةٌ عَنْ النَّظَرِيَّات الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة. يَرَى دُولُوز إنْ الْأَخْلَاق لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَوَاعِد وَأَوَامِر وَقَوَانِين يَنْبَغِي الِإلْتِزَامَ بِهَا، بَلْ هِيَ فَلْسَفَةُ حَيَاة تَقُومُ عَلَى مَفْهُومِ "الِإخْتِلَافُ"." Différance" بِالنِّسْبَةِ لِدُولُوز الِإخْتِلَافُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْأَسَاسِيَّة لِلْوُجُود. فَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْكَوْنِ مُخْتَلَف وَمُتَنَوِّع، وَ لَيْسَ هُنَاكَ أَيْ شَيْءٌ ثَابِتٌ أَوْ جَامِدٍ. الْوُجُودَ هُوَ تَدَفُّق دَائِم لِلِإخْتِلَاف وَالتَّغَيُّر وَالتَّنَوُّع. وَمِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ، يُنْبَذ دُولُوز فِكْرَّة الْهُوِيَّة الثَّابِتَة لِلْإِنْسَان أَوْ الذَّاتِ. فَالذَّات لَيْسَتْ جَوْهَرًا ثَابِتًا، بَلْ هِيَ عَمَلِيَّةُ مُتَغَيِّرَة وَمَتَحَوْلَة بِإسْتِمْرَار. وَبِالتَّالِي، تَرْتَكِز الْأَخْلَاقِ عِنْدَ دُولُوز عَلَى قَيِّمِ الِإخْتِلَاف وَالتَّنَوُّع وَ التَّحَوُّل. فَالْفِعْل الْأَخْلَاقِيّ هُوَ الَّذِي يَنْسَجِمُ مَعَ طَبِيعَةِ الْوُجُودِ الْمُخْتَلِفَة وَالْمُتَغَيِّرَة بِإسْتِمْرَار. بَدَلًا مِنْ الْخُضُوعِ لِقَوَاعِد أَخْلَاقِيَّة ثَابِتَة، يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ طُرُقِ جَدِيدَة لِلْحَيَاة وَالتَّصَرُّفُ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ عَلَى حِدَةٍ. فَالْأَخْلَاق لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَوَاعِد جَامِدَة، بَلْ هِيَ عَمَلِيَّةُ أَبَدًاعِيَّة مَفْتُوحَةُ عَلَى الِإحْتِمَالَاتِ اللَّامحدُودَة. كَمَا يَرْفُضُ دُولُوز الْأَخْلَاقِ الْقَائِمَةِ عَلَى مَفَاهِيمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْمُطْلَقَة. فَهَذِه الْمَفَاهِيم تَنْطَوِي عَلَى نَوْعٍ مِنْ التَّسَلُّطِ وَالتَّحَكُّمُ فِي الْإِنْسَانِ. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يَطْرَحُ دُولُوز مَفْهُومُ "الْقُوَّة" كَأَسَاس لِلْأَخْلَاق. فَالْفِعْل الْأَخْلَاقِيّ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ مِنْ قُوَّةِ الْإِنْسَان وَيُمَكِّنُهُ مِنْ التَّحَرُّر وَ الِإبْتِكَار وَالتَّعْبِيرِ عَنْ ذَاتِهِ. وَكُلِّ مَا يُعَزِّز قُوَّة الْإِنْسَانِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّل هُو أَخْلَاقِيّ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّا إذَا كَانَ يُصَنَّفْ عَلَى أَنَّهُ "خَيْرٌ" أَوْ "شَرٍّ" وِفْقاً لِلْمُعَايَير التَّقْلِيدِيَّة.وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، يَنْتَقِدْ دُولُوز الْأَخْلَاقِ الْكَانْطِيَّة وَالْإِرْسْطِيَّة الَّتِي تَقُومُ عَلَى مَفَاهِيمِ الْوَاجِبُ وَالْفَضِيلَةُ. فَهَذِه الْمَفَاهِيم تَفْرِضُ قُيُودًا عَلَى الْإِنْسَانِ وَ تَحُدُّ مَنْ حُرِّيَّتِه. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يَدْعُو دُولُوز إلَى أَخْلَاقِ تَحَرُرِيَّة تُمَكَّنَ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّعْبِيرِ عَنْ قِوَّاه الْخَلَّاقَة وَالِإبْتِكَارُيَة. وَلَا يَقْتَصِرُ نَقْد دُولُوز لِلْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة عَلَى الْمُسْتَوَى النَّظَرِيّ فَحَسْبُ، بَلْ يَمْتَدُّ إلَى الْمُسْتَوَى الْعَمَلِيِّ وَالسِّيَاسِيّ أَيْضًا. فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْمُتَحَجِّرَةِ الَّتِي تَفْرِضُ قَوَاعِد جَامِدَة قَدْ تُؤَدِّي إلَى قَمْع الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ وَتَكْرِيس أشْكَالٌ الْقَهْر وَالِإسْتِبْدَادُ السِّيَاسِيّ. لِذَلِك، يَدْعُو دُولُوز إلَى أَخْلَاقِ ثَوْرِيَّة تُعَزُّز الِإخْتِلَاف وَالتَّنَوُّع وَتَحَرَّر الْإِنْسَانِ مِنْ الْقُيُودِ التَّقْلِيدِيَّة. يُقَدَّم فَلَاسِفَة الِإخْتِلَاف مِثْل دُولُوز رُؤْيَةُ أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَة تَتَجَاوَز النَّمَاذِج الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة. فَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَى الْأَخْلَاقِ بِإعْتِبَارِهَا فَلْسَفَة حَيَاةَ قَائِمَةٌ عَلَى مَبْدَأِ الِإخْتِلَاف وَالتَّغَيُّر الْمُسْتَمِرّ، بَدَلًا مِنْ مُجَرَّدِ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأَوَامِر الْجَامِدَة. وَهَذَا يَتَطَلَّب مِنْ الْإِنْسَانِ التَّخَلِّي عَنْ الْهِوَيَات الثَّابِتَةِ وَالْبَحْثُ عَنْ طُرُقِ جَدِيدَة لِلْحَيَاة وَ التَّصَرُّفُ فِي ظِلِّ الظُّرُوف الْمُتَغَيِّرَة بِإسْتِمْرَار.
_ أَزْمَةِ الِإخْتِلَاف الْأَخْلَاقِيَّ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ
أَنَّ مُشْكِلَة الِإخْتِلَاف الْأَخْلَاقِيّ هِيَ مِنْ أَبْرَزِ الْقَضَايَا الْفَلْسَفِيَّة الْمُعَاصِرَةِ الَّتِي تُوَاجِهُ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَالْفَلْسَفَة الْأَخْلَاقِيَّة. هُنَاك الْعَدِيدِ مِنَ الْإِشْكَالِيَّاتِ الْمُرْتَبِطَة بِهَذَا الِإخْتِلَافِ فِي الْأَفْكَارِ وَ الْمُعْتَقَدَات الْأَخْلَاقِيَّة بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَات: 1. إشْكَالِيَّة النِّسْبِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة : أَحَدَ أَبْرَزِ الْإِشْكَالِيَّات هِيَ قَضِيَّةٌ النِّسْبِيَّة وَالْمُطْلَقِيَّة فِي الْأَخْلَاقِ. فَهُنَاكَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ نِسْبِيَّة وَتَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ الثَّقَافَات وَالْحَضَارَات، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَى أَيِّ سُلُوك بِأَنَّه أَخْلَاقِيٍّ أَوْ غَيْرَ أَخْلَاقِيّ بِشَكْل مُطْلَقٌ. فَمَا يُعْتَبَرُ أَخْلَاقِيًّا فِي مُجْتَمَعٍ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ أَخْلَاقِيّ فِي مُجْتَمَعٍ آخَرَ. فِي الْمُقَابِلِ، يَرَى الْبَعْضُ الْآخَرُ أَنْ هُنَاكَ قَيِّمًا وَمَبَادِئ أَخْلَاقِيَّة مُطْلَقَة وَعَالَمِيَّة لَا تَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ الثَّقَافَات. فَالْقَيِّم الْأَسَاسِيَّة كَالْعَدْل وَالْإِنْصَاف وَالْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً وَلَا تَتَغَيَّرُ. 2. إشْكَالِيَّة الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَالدَّيْن : إشْكَالِيَّة أُخْرَى تَتَمَثَّلُ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَالدَّيْن. فَهُنَاكَ مَنْ يَرْبِطُ الْأَخْلَاق إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالدَّيْن وَيَنْظُرُ إلَيْهَا كَجُزْء لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْمَنْظُومَةِ الدَّيْنِيَّةِ. فِي الْمُقَابِلِ، هُنَاكَ مِنْ يَرَى ضَرُورَة فَصْل الْأَخْلَاقِ عَنْ الدَّيْنِ وَتَأْسِيسِها عَلَى أُسُسٍ عَقْلَانِيَّة بَحْتَة. وَقَدْ أَثَارَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ جَدَلًا وَاسِعًا بَيْن الْفَلَاسِفَة وَعُلَمَاء الْأَخْلَاق. 3. إشْكَالِيَّة الْأَخْلَاق وَالسِّيَاسَةِ : كَمَا أَنَّ هُنَاكَ إشْكَالِيَّة فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَالسِّيَاسَة. فَالْبَعْض يَرَى ضَرُورَةً رَبَط السِّيَاسَة بِالْأَخْلَاق وَتَأْسِيس الْمُمَارَسَات السِّيَاسِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ أَخْلَاقِيَّة. فِي الْمُقَابِلِ، هُنَاكَ مِنْ يَعْتَبَرُ أَنْ السِّيَاسَة لَهَا مَجَالِهَا الْمُسْتَقِلّ عَنْ الْأَخْلَاقِ وَإِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُؤَدِّي إلَى تَحَدِّيَات وَصِرَاعَات 4. إشْكَالِيَّة الْأَخْلَاق التَّطْبِيقِيَّةِ : هُنَاكَ أَيْضًا إشْكَالَيْات تَتَعَلَّقُ بِتَطْبِيق الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ عَلَى قَضَايَا عَمَلِيَّة مُحَدَّدَة كَالإجْهُاض، وَالرَّحْمَةِ الْقَاتِلَة، وَالْهَنْدَسَة الْوِرَاثِيَّة، وَالْعِقَاب الْجِنَائِي وَغَيْرِهَا. فَهَذِه الْقَضَايَا تُثِير جَدَلًا وَاسِعًا حَوْل كَيْفِيَّة تَنْزِيل الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْحَالَاتِ الْخَاصَّة. 5. إشْكَالِيَّة الْأَخْلَاق الْفَرْدِيَّة وَالْأَخْلَاق الِإجْتِمَاعِيَّة : كَذَلِكَ هُنَاكَ إشْكَالِيَّة فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق الْفَرْدِيَّة وَ الْأَخْلَاق الِإجْتِمَاعِيَّة. فَالْبَعْض يُرَكِّزُ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْفَرْدِيَّة كَالْفَضَائِل وَالنِّزَعَات الشَّخْصِيَّة، بَيْنَمَا يَرَى آخَرُون ضَرُورَة النَّظَر لِلْأَخْلَاق مِنْ مَنْظُورٍ إجْتِمَاعِيّ يَهْتَمّ بِالْمَسْؤُولِيَّأْت وَ الْوَاجِبَاتِ تُجَاه الْمُجْتَمَع. وَهَذَا الِإخْتِلَافُ لَه تَأْثِيرُهُ عَلَى فَهْمِ مَاهِيَّة الْأَخْلَاق وَتَطْبِيقِاتِهَا. بِالِإخْتِصَارِ، تَوَاجَه الْفَلْسَفَة الْأَخْلَاقِيَّة الْمُعَاصِرَة الْعَدِيدِ مِنَ الْإِشْكَالِيَّاتِ النَّاتِجَةِ عَنِ الِإخْتِلَافِ فِي فَهْمِ وَتَفْسِير قَضَايَا الْأَخْلَاق، سَوَاءٌ عَلَى مُسْتَوَى الْمَفَاهِيمِ وَالْمَبَادِئ، أَوْ عَلَى مُسْتَوَى التَّطْبِيقَات الْعَمَلِيَّة. وَهَذَا التَّنَوُّع فِي الرُّؤَى وَ الْمُقَارَبَات الْأَخْلَاقِيَّة يُشْكِل تَحْدُيا كَبِيرًا أمَام مُحَاوَلَات تَأْسِيس أَخْلَاق عَالَمِيَّة مُوَحَّدَة. لِذَا يَنْبَغِي عَلَى الْفَلْسَفَةِ الْأَخْلَاقِيَّة الْمُعَاصِرَة أَنْ تَسْعَى لِإِيجَاد أَرْضِيَّة مُشْتَرَكَة تَحْتَرَم التَّنَوُّع وَتَعْمَلُ عَلَى تَقْلِيلِ الِإخْتِلَافَات وَتَوْحِيد الْمَبَادِئ الْأَسَاسِيَّة.
_ الْخُلَاصَةُ
فَلَاسِفَةُ الِإخْتِلَافُ قَدْ تَنَاوَلُوا قَضِيَّة الْعِلْم وَالْأَخْلَاق بِعِدَّةِ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفِي مُسْتَوَيَات مُتَبَايِنَة، هُنَاك مُنَاقَشَات حَوْل طَبِيعَة الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. هَلْ هُنَاكَ تَعَارُضٌ أَمْ تَكَامُل بَيْنَهُمَا؟ الْبَعْض يَرَى أَنَّهُمَا مُتَنَاقِضَان حَيْثُ يَرْفُضُ الْعِلْم الْمَوْضُوعِيَّة الَّتِي تَتَطَلَّبُهُا الْأَخْلَاقِ، بَيْنَمَا آخَرُون يُؤَكِّدُون عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُعَارِضُ الْأَخْلَاقِ بَلْ عَلَى الْعَكْسِ يَتَطَلَّبُهَا وَيُسَاعِدُ عَلَى إِرْسَاء دَعَائِمِهَا. فَالْعِلْم وَفْقَ هَذَا الرَّأْيِ لَا يَحِلُّ مَحَلَّ الْأَخْلَاق وَلَا يُغْنِي عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَنْحَصِرُ فِي مَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَ الْحَقَائِق دُونَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزِيح الْأَخْلَاق أَوْ يَسْتَغْنِي عَنْهَا، لِأَنَّ الْأَخْلَاق تَبْحَثُ فِي تَحْدِيدِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْحَقّ وَالْوَاجِب وَ الْمَثٌَل الْأَعْلَى. هُنَاك نقَاشات حَوْلَ أَزْمَة الْأَخْلَاقِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ وَعَلَاقَتِهَا بِالْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ. فَهُنَاك رَأَي يَرَى أَنَّ الْعَصْرَ الْحَدِيثِ شَهِدَ تَحَوُّلًا مِنْ النَّقْدِ الْأَخْلَاقِيّ لِلْحَضَارَة إلَى النَّقْدِ الْحَضَارِيّ لِلْأَخْلَاق وَتَقْلِيل مِنْ أَهَمِّيَّتِهَا فَالْبَعْضُ يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ سِوَى وَاحِدَةٍ مِنْ أَبْعَادِ الْحَيَاةَ الِإجْتِمَاعِيَّةَ إلَى جَانِبِ الْأبْعَاد الْأُخْرَى كَالقَانِونِيَّة وَالِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّة، وَلَا فَضْلَ لَهَا عَلَى هَذِهِ الْأبْعَادِ. كَمَا أَنَّ الْفِكْرَ الْعِلْمِيّ وَالْفَلَسِفِيّ المُعَاصِرُ أَصْبَح لاَ مُبَالِيًا بِالْأَخْلَاق وَ يَنْتَقِصُ مِنْ أَهَمِّيَّتِهَا بِإعْتِبَارِهَا أَمْرًا غَيْرَ عَقْلَانِيّ. وَهُنَاكَ مَنْ يَرَى أَنَّ مَعَايِير التَّطَوُّر الْحَضَارِيّ أَصْبَحْت مُقْتَصِرَةً عَلَى الْإِنْجَازَات الْعِلْمِيَّة وَالتِّقْنِيَة وَالرِّفَاه الْمَادِّيُّ مَعَ إهْمَالِ الْعَلَاقَات الْأَخْلَاقِيَّة بَيْنَ الْبَشَرِ. بَلْ إنْ الشَّخْصِيَّة الْمَنْبُوذَة وَالْمَرْفُوضَة الْيَوْمَ هِيَ تِلْكَ الَّتِي تَعْطِي أَهَمِّيَّة لِلْمَبَادِئ الْأَخْلَاقِيَّة، فِي حِينِ أَنَّ الشَّخْصِيَّة الْمَرْغُوبَة هِيَ الَّتِي تُنْكِرُ أَهَمِّيَّة الْأَخْلَاق وَتَتَجَاوَزَهَا. هُنَاكَ مُنَاقَشَات حَوْل أَخْلَاقِيَّات مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ وَعَلَاقَتِهَا بِالْعِلْم. فَالْبَعْض يَرَى أَنَّ الْعَصْرَ الْحَدِيثِ شَهِدَ نَقْدًا لِلتَّصَوُّرِات الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة وَ سِيَادَتُهَا، وَبُرُوزٍ تَصَوُّرَات أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَة تَتَنَاسَبُ مَعَ طَبِيعَةِ الْعَصْرِ مَا بَعْدَ الحَدَاثِي. فَالْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة الَّتِي كَانَتْ تَبْحَثُ عَنْ قَيِّمِ مُطْلَقَة وَكَوْنِيَّة بَاتَتْ مَوْضِعٍ شَكَّ وَتَسَاؤُل. وَظَهَرَتْ تَيَّارَات تُؤَكِّدُ عَلَى الِإخْتِلَافِ وَالتَّعْدِدِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة، مُشَكِّكَةً فِي إِمْكَانِيَّة وُجُود أُسِّس أَخْلَاقِيَّة عَامَّة وَثَابِتَة. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، بَرَزَتْ مَا تُسَمَّى بـ" الْأَخْلَاق التَّطْبِيقِيَّة" الَّتِي تُرَكِّزْ عَلَى تَطْبِيقِ المَبَادِئِ الأَخْلَاقِيَّةِ فِي قَضَايَا مُحَدَّدَة كَالْبِيئَة وَ الطِّبِّ وَالتِّكْنُولُوجْيَا، بَدَلًا مِنْ الْبَحْثِ عَنْ أُسِّس أَخْلَاقِيَّة عَامَّة. فَالْأَخْلَاق وَفْقَ هَذَا الِإتِّجَاهَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ نَظَرِيَّات فَلْسَفِيَّة مُجَرَّدَة بَلْ مُمَارَسَات عَمَلِيَّةُ تَتَأَثَّر بِالسِّيَاق الْمُتَغَيِّر. وَ بِشَكْلٍ عَامٍ، فَإِنْ فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافُ قَدْ نَاقِشوا قَضِيَّةُ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق مِنْ زَوَايَا مُتَعَدِّدَة. فَمِنْ جِهَةِ، بَحَثُوا فِي طَبِيعَةِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا وَإِمْكَانِيَّة التَّكَامُل أَوْ التَّعَارُضُ. وَمِنْ جِهَةِ أُخْرَى، تَطْرُقُوا إِلَى أَزْمَةٍ الْأَخْلَاقِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ وَعَلَاقَتِهَا بِالْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ. كَمَا نَاقِشوا ظُهُورُ تَصَوُّرَات أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَةً فِي ظِلِّ مَا بَعْدَ الحَدَاثَةِ وَتَأْثِيرِهَا عَلَى العَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. وَهَكَذَا تَنَوَّعَتْ الْمُنَاقَشَات وَالزَّوَايَا الَّتِي تَنَاوَلَهَا فَلَاسِفَة الِإخْتِلَافِ فِي هَذَا السِّيَاقِ.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : رِهَان الدِّرَاسَات المُسْتَقْبَلِ
...
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَحَدِّيَات الْعَوْلَمَة
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : أَسَاسِيًّات التَّقَدُّمُ
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : إنْتِقَادَات مَا بَعْدَ الْحَدَاثَة
...
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَسَاؤُلَات الْحَدَاثَةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَشْكِيلَات الْحَضَارَةُ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق: الْمَنْظُور الْفَلْسَفِيّ التَّارِي
...
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: رَمَزَيات الْمَيثولُوجْيَا
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: جُذُور الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : تَجَاوُزَات الْأَيْدُيُولُوجِيَّا
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْغَنُوصِيَّة
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْهَرْمُسِيَّة
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مَبَاحِث الْآكْسِيُّولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ إشْكَالَيْات الْكُوسْمُّولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي سِيَاقِ الثَّيُولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ تَصَوُّرَات الِأنْطولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مُقَارَبَات الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
المزيد.....
-
-مستقبل أمريكا هو المجر-.. كاتبة تبين ما فعله فيكتور أوربان
...
-
ماكرون وتبون يعيدان إطلاق العلاقات الثنائية بعد أشهر من التو
...
-
مصر ترحب باعتماد البرلمان الأوروبي شريحة الدعم المالى الثاني
...
-
تعليقا على الحكم بحق مارين لوبان، لا سياسي فوق القانون - الغ
...
-
-برفقة سليماني-... صورة أرشيفية للقيادي في -حزب الله- المسته
...
-
ميزات شاومي 15 الفاخر
-
ما الذي يجري بينهما.. خريطة تفاعلية تظهر مناورات بكين قرب تا
...
-
-صغننة قلبي-.. دنيا سمير غانم تحتفل بعيد ميلاد شقيقتها إيمي
...
-
بوتين يستقبل وزير الخارجية الصيني في الكرملين
-
قطر والإمارات تشاركان مع إسرائيل وأمريكا في تمرين -إنيوخوس 2
...
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|