منير المجيد
(Monir Almajid)
الحوار المتمدن-العدد: 8297 - 2025 / 3 / 30 - 00:12
المحور:
الادب والفن
كنتُ في بداية سنوات مراهقتي، حينما توفي أبي.
عاد من صلاة الجمعة شاحباً، وقال لوالدتي أنّه سيرتاح في غرفة النوم، لتصير راحته أبدية.
كانت عائلتنا ميسورة الحال، والسبب يعود إلى أبي الذي كان يدير محلّاً في سوق العَرَصة المسقوف لبيع الأقشمة، ومنها الأجواخ الإنكليزية الفاخرة، حتّى المُقلّمة منها كسترة شارلوك هولمز، التي كان يُقبل على شرائها زبائنه السريان.
محلّياً كان اسم محل كهذا يُدعى «مال فاتورة». والتسمية، حينما أتمعّن فيها اليوم لا تعني شيئاً. حاولتُ البحث عنها دون جدوى، لكني، وأكاد أكون مُتيقّناً، ترتبط بأزمنة الإستعمار البريطاني في العراق. ربّما «فاكتوري». أي أنّ الأقمشة مُحاكة بآلات المعامل، و«مال» تعني «يخصّ، أو ملكية» بالمحكية العراقيّة.
كنتُ أُساعده في فترة العطلة الصيفية بإيصال زوّادة طعامه المُتقنة الفائحة برائحة البامية والأرز، فيقول لي دوماً «سَعَتْ خشْ». سَعَتْ خشْ هي مثل «يعطيك العافية».
كنتُ، حينها، استرخي في فيء وبرودة السوق وشاهداً على ما يتمتّع به من إحترام، سواء من الزبائن أو أصحاب المحلات الاخرى. وكان خالي يأتي أيضاً ويساعده في عمليات البيع وقص القماش المفرود الذي كان يملأ المحل برائحة الأغنام المغسولة بالشامبو.
«سيّد»، يقولون له في تحاورهم. وسيّد تُطلق على أولئك الذين ينتمون إلى سلالة النبي. ولطالما فكّرت في التسمية وعبثية أن يُربط ككورديّ برجل عربيّ حجازي.
لقبه الرفيع هذا ورثه عن والده وأجداده.
يبدو أنّه أيضاً لم يمُانع شرف هكذا قرابة، لأن العمامة الخضراء لم تكن تُفارق رأسه إلّا في غرفة النوم.
ولطالما رافقتهُ بالذهاب إلى صلاة الجمعة في الجامع الصغير، أستمع دون مُبالاة إلى الإمام محمدي عليكو، ذي الذقن المُضمّخة بالحناء، يُلقي خطبته باللغة الكوردية ويُزّينها بآيات وأحاديث نبوية بلغة عربية، لن تشكّ لحظة بنكهتها الأعجمية.
هناك، وبعد إنتهاء الخطبة والصلاة، كان رهط كبير من الرجال يأتون لإلقاء التحية عليه، مُحاولين تقبيل يده، إلّا أنّه كان يسحب يده بلطف قائلاً «استغفر الله، استغفر الله».
وبعض النسوة كنّ يأتين لزيارته في بيتنا ويُسارعن إلى تقبيل كتفه، فيقوم بدمدمة شيء ما.
هؤلاء النسوة كنّ يتمنين تبريكاته لأسباب عديدة، قد تكون الدعاء بالشفاء من مرض أو الطمع بالحمل بصبي بدلاً من صبيّة.
كنتُ أيضاً، في حالات نادرة، لكن سعيدة بالنسبة لي، أُرافقه في رحلات عمله إلى حلب، مستقلين الأوتومتريس من محطة القطار التي كانت جزءاً من خط برلين-البصرة العتيد، مُجتازين الحدود التركية حتّى مشارف شمال حلب.
الذي كان يعجبني في هذه الرحلات إقامتنا في فندق بارون وتناول الكباب.
أمّا مُفاوضاته مع تجّار الجملة الحلبيين، مُستعملاً لغته العربية الركيكة، فكنت أراها مُضحكة، وأنا الذي أجدتها على يد معلمي المصري الذي كان يتحدث مثل عماد حمدي.
قام خالي بتسيير أعمال «مال فاتورة». يحتفظ بالقليل من المرابح، ويُسلّم الباقي للوالدة، حتّى بلوغي عمر الرجال لتولي المُهمّة.
هكذا كانت خطّة العائلة على الأقل.
مضت خمس سنوات، تزّوجت شقيقتاي، ورُزقت الأولى بصبي، وكبرت بطن الثانية، وأنا كنت أتحضّر لإمتحانات البكالوريا، لأروح في جولتين، صباحية وقُبيل مسائية واضعاً منشفه على رأسي للوقاية من حرارة ضارية مُفاجئة، حاملاً كتاب التاريخ أو الجغرافيا، إلى متنفّس ورئة حي قدور بك القامشلاوي، تلك الفسحة الشاسعة من السهل الواقع بين شمال الحي وحتّى سياج الحدود التركية الشائكة المزروعة بالألغام.
طريق المحطّة القديم، والمحطّة هنا يُقصد بها محطّة القطار إيّاها، كان يجمع بين تحضّرنا للإمتحانات المدرسيّة والتنزّه، في ذات الوقت، مع جحافل السكّان، إن سمحت شمس الربيع بطبيعة الحال.
كآخر بيت، كنّا نمرّ ببيت خنسة البضّة البيضاء التي احتلّت الجزء الأبرز في الأحلام الشبقة لمُجمل أجيال ذكور الحيّ، ومن ثمّة المقابر المسيحية على الجهة اليُسرى. على بعد بضع مئات من الأمتار تقع مقابر المسلمين من الجهة اليمنى.
هناك كنّا نختار، إما الإنعطاف نحو الشرق وسلك أحد الدربين الضيقين اللذين يشقّان حقول القمح، وعليهما كنّا نُقابل نسوة قرية المحمقيّة المُحاذية لأسلاك الحدود التركيّة، القادمات أو الذاهبات إلى أسواق القامشلي لبيع ألبانهنّ المحمولة في جرار نحاسية على رؤوسهن، أو الإستمرار على الطريق القديم الذي لم يكن مُعبّداً يوماً، وغطّته، ببقع، حشائش وزهور بريّة، وبعد نحو كيلو متر ينعطف الطريق بتسعين درجة، وقبل الوصول إلى الحدود التركية، نحو الشرق، مُتجاوزاً قرية المحمقية.
وبالوصول إلى المحطّة كانت رائحة الديزل والشحوم تملأ المكان المغبّر، لتُذكّرنا بشارع الجامع الكبير المزدحم بورشات الأرمن لتصليح الحافلات، ورصاص أحرف تنضديد مطبعة عبد الحليم طيّارة.
في مرّات قليلة كنّا نتّجه نحو الشرق، بعد بيت خنسة، سالكين الدرب الضيّق الذي يُحاذي مقابر المسلمين وينتهي بقرية المحمقية، خاصّة في أيام القيظ وتحضيراً لشرب الماء من البئر المهجورة التي كانت هناك في العراء. حين كنّا نرفع الدلو لم نلتفت يوماً إلى الديدان الصغيرة التي كانت تسبح في الماء.
مرّة عرجت على المقبرة لزيارة أبي. هكذا اعتدت أن أقولها «زيارة أبي».
لا أحد يعرف من الذي زرع شجرة العرعر دائمة الخضرة والزاهدة في طلب الماء، تماماً على جهة رأس أبي المتّجه نحو مكّة.
وحين وصلت غطّت رائحة الليمون المنبعثة من أوراقها الربيعية الجديدة المكان، أو ربما بسبب سيّدة كانت تربط منديلاً أخضر على غصنها القريب منها. وبجانبها فتاة ساحرة تُراقبها.
لم يكن منديل السيّدة وحيداً، بل كان هناك مجموعة كبيرة منها، بعضها ظلّ في مكانه رغم تمزّق أطرافه وتحوّل لونه إلى لون باهت يبعث على حزن إضافي للمقابر. وهذا يعود إلى منزلة أبي كـ «سيّدٍ». فوفاته لم تمنع الناس من جعل ضريحه مزاراً وطلب التبريكات بربط المناديل.
انتبهت السيّدة إلى وجودي، فابتسمت وقالت «ألست إبن السيّد؟».
«نعم» قلت لها. فاسرعت إليّ وقبّلت كتفي.
«لم يرزقنا الله إلّا بسعدية» وأشارت إلى الحسناء، التي نظرت إليّ وعلى شفتيها إبتسامة خجولة. «ليتقبّل الله دعائنا ويباركنا السيّد بأخ لها». أضافت السيّدة.
«إنشاء الله». قلتُ لها. ثمّ غادرت وفتحت كتاب التاريخ حالما صرتُ خارج مجال المقابر.
لم يمض سوى يوم، حينما لاحظت سعدية وهي تعترض طريقي المؤدي إلى المحمقيّة، مُحاولة أن تكون صدفة، وابتسمت تلك الإبتسامة.
في اليوم التالي سلكتُ ذات الطريق آملاً رؤيتها، وكانت هناك. وحينما ابتسمتْ، ابتسمتُ أنا أيضاً.
تكرّر الأمر عدّة أيام، إلى أن تجرأتْ وسألتني عن حالي. «جيد، أُحاول جاهداً الدراسة كلّ يوم». قلتُ لها. «سَعَتْ خشْ» قالت لي، فتذكّرت أبي على الفور.
ازداد الودّ، وكثرت الإبتسامات، ثم صارت تغمز لي بعينها بشيطنة المُراهقات، لتُزقزق عضلات بطني.
أخيراً أرادت أن نلتقي. «أين؟» سألتها وقلبي يخبّ فيه حصان.
«بيتنا يقع على طرف المقابر». أجابت. ولم تتركني أنتظر كثيراً لأفهم الرابط. «تعال اليوم إلى ضريح والدك حين تحلّ الظلمة». أضافت سعدية ومضت كنسمة.
لم تترك لي الفرصة في إبداء دهشتي في اختيار مكان موعدنا الغرامي الأول، علاوة على الهلع الذي أصابني بمجرّد زيارة المقابر في الليل.
فقدتُ التركيز على فهم أسطر كتابي، فعدتُ سريعاً إلى البيت مُحاطاً بالتفكير والحيرة. «هل أنت متوعّك؟». سألتني والدتي خائفة. «لا، فقط مُتعب»، أجبتها واتّجهت نحو غرفتي طامعاً في إستعادة طاقتي الجسديّة المُنهارة.
يبدو، أن هرمونات الشباب كانت أقوى، بمقدار ما، من الجبن في خوض تلك المغامرة الشيطانية، وكنتُ لحظتها كمن يقدر على تحويل الماء إلى نبيذ.
نظّفتُ أسناني ورششتُ وجهي ورقبتي برائحة الباكو رابان، ثم توجّهت نحو المقبرة بحذر شديد، ومررت بكلبين أو أكثر. كانت العتمة شديدة، ومع مرور الوقت صرت أتبيّن بعض اللطخات القاتمة، وتماماً قبل الدخول إلى مجال المقبرة توقّفتُ وعزمتُ العودة بعد أن داهمتني موجة هلع هائلة.
«جئتَ»، جاءني صوت هامس فانتفضت كريشة في عاصفة. تقدّمت سعدية نحوي. أمسكت يدي وقادتني إلى قبر أبي كخروف.
دون أن أرى ملامحها، ودون أن ترى ملامحي، التصقت بي، فأغرقتُ رأسي على كتفها قريباً من عنقها وأنا أرمش في تلك العتمة المُريبة. «رائحتك جميلة». قالت.
وعندها قبّلتها. لكنها أدارت رأسها والتقطت شفتي السفلى ومصّتها. هبّت نسمة لطيفة برائحة الربيع، وسمعت حفيفاً صامتاً لمناديل شجرة العرعر.
ولأنني ارتعبت من فكرة أن تلاحظ ما يجري في جسدي من تقلّبات في تضاريسه، جلستُ على طرف قبر أبي المُعزّز بجدار إسمنتي، وجلست بقربي وأتممنا تبادل القبلات مُتخلين عن حياءنا، حتّى أنني سمحت لنفسي بلمس ثدييها المتصلبين، لا بل أدخلت يدي المُلتفّة على رقبتها تحت فستانها وفركتُ حلمته اليسرى باصبعين وشعرتُ كأنها بحصة صغيرة دافئة مُتعرّقة بلطف، مُحاولاً تصوّر شكل جسدها عارياً وشكل تكويرة نهديها، فشهقتْ وشهقتُ.
سمعتُ صوت أبي يقول من عمق الأرض «سَعَتْ خشْ».
#منير_المجيد (هاشتاغ)
Monir_Almajid#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟