أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - لماذا الحكمة أفضل من الجمال ؟















المزيد.....

لماذا الحكمة أفضل من الجمال ؟


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 06:13
المحور: الادب والفن
    


الحكمة والجمال: جدلية العقل والروح:
في أعماق الفكر الإنساني، يتجلى الجمال كإشراقٍ للحقيقة، ويتبدى كظلٍ للحكمة، فلا يُدرَك أحدهما دون الآخر، ومن ثم، فالحكمة، وهي إدراك الكُنه وبلوغ جوهر الأشياء، لا تُفهم بعيدًا عن الجمال، ذلك النور الذي يشع من ترتيب الكون وتناغمه، وبينما يتساءل العقل عن طبيعة الوجود، يجد الجمال إجابة صامتة، تتجلى في انسجام الأشياء وتناسقها، حيث يصبح الجمال هو الوجه الحسي للحكمة، والحكمة هي الإدراك العميق للجمال.
ليس الجمال محض انعكاسٍ للمظهر، ولا تقتصر الحكمة على تراكم المعارف، بل كلاهما تجربة تتجاوز حدود المدركات الحسية نحو أفق أكثر رحابة، فكما أن الحكمة ليست تكديسًا للمعلومات بل بصيرة تكشف الحقيقة من خلف الأوهام، فإن الجمال لا يُقاس بمدى إشراقه الظاهري، بل بقدرته على تحريك الروح واستدعاء الإحساس بالكمال.
إن الإنسان، في سعيه الدائم نحو المعنى، يجد نفسه موزعًا بين نداء الحكمة وسحر الجمال، بين التأمل العميق في جوهر الأشياء والانبهار العفوي بما هو متناسق ومتوازن، لكن هل الجمال انعكاس للحكمة، أم أن الحكمة هي إدراكٌ لما يجعل الجمال جميلاً؟ وهل يمكن للإنسان أن يكون حكيمًا دون أن يكون مفتونًا بالجمال، أو أن يتذوق الجمال دون أن يكون قد تذوق الحكمة؟
في هذا الامتزاج الخفي بين الحكمة والجمال تكمن أعمق تجارب الوجود، حيث لا انفصال بين الحقيقة وما يجعلها بهية، ولا بين الفكر وما يجعله متساميًا. فهما، في جوهرهما، نبضان لحقيقة واحدة، لا تُدرَك إلا بمن استعدت روحه لأن ترى بعيني القلب والعقل معًا.

الجمال في الفلسفة: رحلة البحث عن الحقيقة والكمال:
لطالما كان مفهوم الجمال محط اهتمام الفلاسفة والمفكرين، حيث تجاوز كونه مجرد تجربة حسية إلى كونه فكرة مجردة تتصل بالوجود والمعرفة والفضيلة، ففي الفلسفة اليونانية القديمة، كان الجمال يعكس النظام والتناسق، بينما في الفلسفة الحديثة والمعاصرة أصبح أكثر ارتباطًا بالتجربة الذاتية والمعايير الثقافية، ومع تطور الفكر الإنساني، أصبح التساؤل حول ماهية الجمال وإدراكه أحد المحاور الأساسية التي شغلت العقل الفلسفي.

الجمال في الفلسفة اليونانية: بين المثالية والواقع:
سقراط وألكيبياديس: الجمال والعقل.
في محاورة "ألكيبياديس" لأفلاطون، نجد سقراط يناقش مفهوم الجمال مع شاب طموح يُعرف بجاذبيته الجسدية وشخصيته الكاريزمية، وهنا يرى سقراط أن الجمال ليس مجرد مظهر، بل هو انعكاس للفضيلة والمعرفة، مؤكداً أن القيادة الحقيقية لا تأتي من الجاذبية الخارجية بل من الحكمة والفكر السليم، وحينما حاول ألكيبياديس تعريف العدالة، فشل في تقديم إجابة دقيقة، مما دفع سقراط إلى توجيهه نحو إدراك جهله كخطوة أولى نحو التعلم والتحسن.

أفلاطون والجمال كحقيقة مطلقة:
أما أفلاطون، فقد تناول الجمال في نظريته حول "عالم المُثُل"، حيث يرى أن الجمال الحقيقي ليس في الأشياء التي نراها، بل في فكرة الجمال المطلقة، والتي لا يمكن إدراكها إلا عبر التأمل الفلسفي، فالجمال الحسي، برأيه، مجرد انعكاس مشوّه للحقيقة الكاملة، وفي محاورته "المأدبة"، يشرح كيف يمكن للحب أن يكون وسيلة لاكتشاف الجمال الروحي، حيث يبدأ الإنسان بحب الجمال الجسدي، ثم ينتقل تدريجيًا إلى حب الجمال العقلي والروحي، وصولًا إلى إدراك الجمال في صورته المثالية.

أرسطو والجمال كتناغم وتناسق:
ويختلف أرسطو عن أستاذه أفلاطون، حيث يرى أن الجمال موجود في العالم الحسي نفسه، ويمكن قياسه وفق معايير التناسق والتناغم والوظيفة، فهو يربط الجمال بالملاحظة الحسية والقوانين الطبيعية، معتبرًا أن الجمال يتحقق عندما يكون الشيء متناسقًا في أجزائه ومتماشيًا مع غايته ووظيفته.

الجمال في الفلسفات الوسطى والإسلامية:
أما في العصور الوسطى، فقد تأثرت الفلسفة الجمالية بالمعتقدات الدينية. كان القديس أوغسطين يرى أن الجمال انعكاس للإرادة الإلهية، بينما رأى توما الأكويني أن الجمال يتمثل في التناسق والوضوح والنظام، مما يجعله متصلًا بالحقيقة والخير.

الجمال في الفكر الإسلامي:
تعمّق الفلاسفة المسلمون في مفهوم الجمال وربطوه بالتصور الإلهي للكمال. كان الفارابي يرى أن الجمال يتجسد في الانسجام بين الأجزاء، بينما رأى ابن سينا أن الجمال هو انعكاس للنظام الكوني. أما المتصوفة، فقد نظروا إلى الجمال كطريق للتقرب إلى الله، حيث رأوا أن الجمال الحقيقي هو تجلٍّ للوجود الإلهي في الكون. جلال الدين الرومي، على سبيل المثال، عبّر عن الجمال من خلال الشعر والموسيقى كوسائل للتواصل مع الروح الإلهية.

الجمال في الفلسفة الحديثة والمعاصرة:
إيمانويل كانط: الجمال بين الذاتي والموضوعي:
يطرح كانط في كتابه نقد ملكة الحكم رؤية جديدة للجمال، حيث يفرق بين الجمال "الحر" الذي لا يرتبط بأي غاية، والجمال "التابع" الذي يرتبط بوظيفة أو هدف معين. يرى كانط أن الجمال لا يمكن حصره في الأشياء ذاتها، بل هو تجربة إدراكية ذاتية تعتمد على أحكامنا الجمالية التي تتسم بالعمومية دون أن تكون قائمة على مفاهيم محددة.

شوبنهاور والجمال كمهرب من المعاناة:
يرى شوبنهاور أن الجمال يمنح الإنسان فرصة للهروب من معاناة الحياة، إذ يحرره من الرغبات المادية ويمنحه تجربة تأملية خالصة. يعتقد أن الفن والموسيقى من أرقى أشكال الجمال لأنها تسمح لنا بمشاهدة العالم من منظور يتجاوز الحاجات اليومية.

نيتشه: الجمال والقوة:
يقدم نيتشه نظرة مختلفة عن الجمال، حيث يرفض المعايير التقليدية ويعتبره متصلًا بالإرادة والقوة. في فلسفته، لا يكون الجمال مجرد تناغم أو تأمل، بل هو تعبير عن الحياة والقوة الخلاقة. يرى أن الإنسان يجب أن يخلق جماله الخاص وفقًا لقيمه وإرادته، دون التقيد بالمعايير الأخلاقية التقليدية.

الجمال في الفكر ما بعد الحداثي:
مع ظهور الفلسفات ما بعد الحداثية، تم تحدي المفاهيم التقليدية للجمال، حيث ركز فلاسفة مثل دولوز وفوكو على السياق الثقافي والاجتماعي للجمال، معتبرين أنه مفهوم متغير يخضع للسلطة والخطاب المجتمعي. أصبح الجمال يُنظر إليه كمجال للتفاوض الاجتماعي، وليس كقيمة مطلقة أو ثابتة.

الفلسفة والجمال في عصرنا الحديث:
في زمن تهيمن عليه التكنولوجيا والإعلام، أصبح للجمال بُعد مختلف. فوسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الرقمية أعادت تشكيل معايير الجمال، حيث أصبح الجمال يتحدد وفقًا لما هو رائج ومقبول اجتماعيًا. ولكن هل يمكن اعتبار هذه الصورة المعاصرة امتدادًا لفكرة الجمال الفلسفي؟ أم أنها انحراف عن جوهر الجمال الحقيقي الذي يتصل بالمعرفة والفضيلة؟

إذن، أين نجد الجمال الحقيقي؟
ما نستخلصه من هذه الرحلة الفلسفية أن الجمال ليس مجرد مظهر زائل، بل هو تجربة عقلية وروحية تتجاوز حدود الجسد. في عالمنا اليوم، حيث تُقدَّر الصورة السطحية على حساب العمق، ربما آن الأوان لإعادة التفكير في مفهوم الجمال، ليس فقط كإحساس بصري، ولكن كقيمة إنسانية ترتبط بالحقيقة والأخلاق والمعرفة.
فإذا كنا نبحث عن الجمال الحقيقي، فلننظر إلى ما وراء المظاهر، ولنسعَ نحو المعرفة التي تُثري أرواحنا وتصقل إنسانيتنا.
ومن ثم، لماذا تتفوق الحكمة على الجمال؟
أجمع الفلاسفة على أنه، إذا كان الجمال ومضةً تخطف الأبصار، فإن الحكمة نورٌ يشع من أعماق الوجود، لا يخبو مع الزمن ولا ينحسر أمام تقلبات الحياة، إن الجمال حِسّي، يُدرك بالعين، لكن الحكمة إدراكٌ عقلي وروحي يُرى ببصيرة الفكر. وبينما يُولد الجمال من الصدفة أو الطبيعة، فإن الحكمة ثمار التأمل والتجربة والبحث الدؤوب عن الحقيقة.
الجمال بطبيعته عابر، يخضع لتحولات الزمن ويتلاشى مع تقدم العمر، أما الحكمة فتنمو وتترسخ، تزداد إشراقًا كلما تعمق الإنسان في فهم ذاته والعالم من حوله. فقد يكون الجمال مصدرًا للإعجاب والانبهار، لكنه يظل أسير اللحظة، بينما تمنح الحكمة صاحبها قدرة على البقاء فوق تقلبات الحياة، تُرشده حين تضل الأبصار وتضيء له الطريق حين يعمّ الظلام.
إن الجمال قد يكون قوة، لكنه قوة محدودة، تعتمد على الإدراك الحسي للآخرين، ولا تمنح صاحبها القدرة على فهم العالم أو التحكم في مصيره. أما الحكمة، فهي ليست مجرد معرفة، بل رؤية متجاوزة للظاهر، قدرة على تحليل المعاني واستخلاص العبر، والتفاعل مع الوجود بفهم أعمق وأشمل. الجمال قد يجذب القلوب، لكنه لا يضمن الفهم أو التقدير الدائم، أما الحكمة فهي التي تمنح الإنسان قدرة التأثير العميق والبقاء في الذاكرة عبر الأزمان.
الجمال، مهما بلغ من كمال، يظل بحاجة إلى الحكمة ليمنحه معنى، فبدون إدراك عميق، يصبح الجمال قشرة خاوية، مجرد صورة لا روح فيها. أما الحكمة، فهي التي ترفع الجمال من كونه مجرد مظهر إلى كونه جوهرًا متكاملًا، ينعكس في أفعال الإنسان وأفكاره وقراراته. فحين ينظر الإنسان إلى الحياة بعيون الحكمة، يرى ما وراء السطح، ويُدرك أن الجمال الحقيقي ليس في تناسق الأشكال، بل في الانسجام بين الفكر والروح، بين الفهم العميق والوجود ذاته.
وهكذا، حين يُخير الإنسان بين أن يكون جميلًا أو حكيمًا، فإن اختياره للحكمة ليس مجرد تفضيلٍ لعقلٍ على جسد، بل هو اختيارٌ للأبقى على الفاني، للأعمق على السطحي، وللحقيقة على الوهم.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحب والكراهية عند نيتشة وفلسفة قلب الموازين
- سقوط الدول عنوانه: التدهور الثقافي والفروق الطبقية الحادة
- لماذا تنهار الأمم ؟
- دراما رمضان وصراع الهوية الوطنية بين -مصر الكومباوندات- و-مص ...
- قراءة في أشهر رباعية للشاعر صلاح جاهين كادت أنت تسجنه:
- قراءة في- قصيدة الناس في بلادي- للشاعر صلاح عبد الصبور
- الشاعر صلاح عبد الصبور .. حكاية أسطورة قتلها التنمر !
- مأساة الحلاج ونقد أحد أشهر أشعاره
- سيلفيا بلاث: حكاية اسطورة الشعر التي احترقت في فرن التنمر ال ...
- بابلو نيرودا: الكلمة التي حملت سرّ النار
- بين الفلسفة والتصوف والعلم: هل آن الأوان للثورة الفكرية الجد ...
- محمود ياسين صوت مصر ونجمها الذي أحبته
- -مسرح رمسيس- وقيمة الفنان في الشرق
- مسرحية لحظة حب على قاعة صلاح جاهين بمسرح البالون في مصر
- نظرة على تاريخ المسرح العربي في مصر
- نساء في حياة سيد درويش
- ثورة الفلاحين في قرية -بهوت- هي من صنعت صلاح جاهين !
- فولتير يعلن تفاؤله على خشبة المسرح القومي بمصر
- مهرجان المسرح التجريبي 2020 الدورة السابعة والعشرون - تغطية ...
- هل سيكون ( لقاح ) كورونا وسيلة لإختراق دماغ البشر والتحكم بأ ...


المزيد.....




- -التوصيف وسلطة اللغة- ـ نقاش في منتدى DW حول تغطية حرب غزة
- قدمت آخر أدوارها في رمضان.. وفاة الممثلة التونسية إيناس النج ...
- وفاة الممثلة التونسية إيناس النجار إثر مضاعفات انفجار المرار ...
- فيلم -وولف مان-.. الذئاب تبكي أحيانا
- الفنانة التونسية إيناس النجار تودع الحياة بعد صراع مرير مع ا ...
- وفاة الفنانة إيناس النجار بعد إصابتها بتسمم الدم
- نيكاراغوا.. افتتاح مهرجان الأفلام الحربية الروسية
- سنو وايت، فيلم أشعلت بطلته الجدل، ما القصة؟
- بجودة عالية..استقبال تردد قناة روتانا سينما على النايل سات و ...
- أجمل عبارات تهنئة عيد الفطر مكتوبة 2025 في الوطن العربي “بال ...


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - لماذا الحكمة أفضل من الجمال ؟