|
السنية السياسية كإطار جامع جدلية القيادة والشراكة في سوريا المتعددة
إبراهيم اليوسف
الحوار المتمدن-العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 02:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لقد لوحظ أن تصاعد الحديث عن أحقية السنة لقيادة زمام الحكم في سوريا الجديدة يتم من خلال الانطلاق من أمرين: أولهما كونها الأغلبية، بنظر دعاتها المبشرين والمروجين لها، وثانيهما بسبب عامل المظلومية، حيث نجد أن هذا الحديث يعكس تعقيدات عميقة في بناء الهوية السورية. فقد كانت المظلومية التي مست السوريين جميعاً بدرجات متفاوتة، إذ تم إعلان الحرب على السنة في إطار تمييزهم: تسريح وتجميد مئات الضباط منهم إلى جانب تجميد بعض الرؤوس العلويين من بينهم، ومحاولة إسناد مهمات: سياسية قيادية أو حقائب وزارية وإدارية لكثيرين منهم، وفتح المجال أمام نسبة كبيرة، لإغراقهم في مستنقع الفساد، حتى وإن كان ذلك ذرَّاً للرماد في أعينهم بدءا من وظيفة مستخدم الدائرة- الفرَّاش- وحتى وزيرها أو رئيس الحكومة، من دون أن ننسى أنه حتى أن كثيرين من العلويين نالوا من كأس عصارة العلقم، حيث كانوا وقود النظام في مواجهة معارضيه، ناهيك عن إفقار مناطقهم، ليتهافتوا كالفراش على نيران السلطات الهالكة، كي يمارس بعضهم ساديته بعد إطلاق يده، من دون أن يفكر، على المدى البعيد، بأنه يجني على نفسه وأسرته وذويه في لحظة ثأر طائفي قادم، لاسيما أن لمثل هذا التناحر جذوره التي لم تعالج، منذ قرون طويلة، وليس انتهاء بحماة الستينيات، في زمن الدكتاتور أمين الحافظ. وبالطبع، لقد كان الكرد في طليعة هؤلاء المظلومين، حيث تعرّضوا للممارسات القمعية نفسها التي تعرّض لها الآخرون، من قبل طائفة السلطة: المركبة حقاً، وفق مصالح رأسها وبطانته التي لاتعترف، بأية طائفة خارجها! لقد تصاعدت مظلومية السنة في سوريا بعد أحداث مدرسة المدفعية1979، كنتيجة أمرين: سياسات النظام الإقصائية بحق ضباط ومسؤولي السنة غير الموالين وبأعداد جد كبيرة- كعنوان إقصائي أول لمرحلة مديدة- مقابل استقطاب ضباط علويين جاهزي الولاء وإبعاد رؤوس معارضة له من بين الأخيرين- صلاح جديد- محمد عمران إلخ- وإن من خلال أعداد قليلة حيث إن نظام الأسد كان قد ثأر من جميع معارضيه على مختلف انتماءاتهم، كما انه كان قد استقطب مواليه، وفق سلم مدروس من قبله، إذ تم الرد على المجزرة بمجازر مفتوحة، وكان النظام نفسه وراء تصعيد مشروعهم أو خلقه، كما يعد هو ذاته ضلعاً في المجازر الأليمة التي استهدفت العلويين في الساحل، وقد بدأت هذه المرحلة من خلال الاعتماد على العلويين في الجيش السوري مقابل تجميد مئات الضباط السنة، بل ومنع دخول الكرد إلى قطاع الجيش نهائيًا. لم يكن في سوريا ضابط كردي واحد في الجيش السوري، ما يعكس سياسة التمييز والاحتكار التي كانت متبعة من قبل النظام. وفي هذا السياق، نجد العديد من الكتاب الذين تناولوا هذا الوضع بتفاصيل مختلفة. من بينهم الكاتب الفاضل أ. موريس عايق-1- الذي تطرَّق إلى مستقبل سوريا بعد سقوط نظام الأسد. في مقال له، يسلط فيه الضوء على صعود الهوية السنية كمحرك أساسي للصراعات الداخلية والإقليمية في سوريا. ويرى أن الهوية السنية قد تتحول إلى مشروع إقصائي إذا استمرت في التزاوج مع السردية السلفية الجهادية والطائفية المتشددة، ما يهدد بتأجيج التوترات الطائفية بشكل مشابه لما حدث في تجارب تاريخية أخرى مثل النازية. يرى عايق أن تحولات التحالفات الإقليمية، خاصة في مواجهة إيران وحلفائها، قد تؤثر على الواقع السوري بشكل عميق. من دون أن يتعرض للموقف من الكرد، فالمقال لا يتطرق بشكل مباشر إلى موقفه من خصوصية كل إثنية أو قومية، لكنه يشير إلى أن هذا النوع من الهوية قد يهدد التنوع السوري، حيث يمكن الاستدلال من خلاله أن الكرد وأقليات أخرى قد تتعرض للمزيد من التهميش في ظل هيمنة الهوية السنية الإقصائية. في الردود على هذا التصور، نجد رأي الصديق الدكتور حسام الدين درويش-2- في مقاله" في الهوية السنية لسوريا الجديدة: محكومون بالأمل، أم بالموت، أم بكليهما؟" الذي يرفض تعميم فكرة "الهوية السنية الفاشية" كما جاء في مقال عايق. إذ يؤكد درويش، أن المستقبل السوري لا يزال مفتوحاً على احتمالات عدة، وأن تحقق أي من هذه السيناريوهات يعتمد بشكل كبير على سلوك الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في سوريا. ويؤكد درويش أن السعي نحو بناء هوية وطنية سورية مشتركة يجب أن يظل بعيدًا عن الانزلاق نحو مشاريع طائفية ضيقة. أما الصديق الدكتور أحمد جاسم الحسين-3- في مقاله حول "تأملات في مسألة الهوية العربية السنية"- وهو أول من قرأت له شخصياً، من بين الثلاثة- فيناقش تطور الهوية السنية في سوريا في سياق الثورة. ويستخلص إلى أن الهوية السنية ليست ثابتة، بل هي في حالة صيرورة وتطور مستمر. ويركز على أهمية بناء هوية وطنية جامعة، قادرة على احتضان التنوع السوري، وأن هذا الهدف يتطلب حوارًا داخليًا بين مختلف الأطياف، من بينها الكرد والتركمان. كما يؤكد الحسين أن الهوية السورية يجب أن تقوم على القيم الإنسانية والتعايش المشترك. وبغض النظر عن الاختلافات التي يمكن التقاطها بين الرؤى الثلاثة فإنه يمكن القول إن هذه الآراء المتباينة تمثل محاولات لفهم الواقع السوري بشكل أعمق، بعيدا عن الانغماس في الطائفية أو القومية الضيقة، داعية إلى البحث عن هوية وطنية سورية تعترف بالتنوع وتحترم حقوق جميع المكونات. لقد شهدت سوريا على مدار تاريخها الحديث جدلاً متزايدًا حول مسألة الهوية والقيادة السياسية، خاصة فيما يتعلق بدور المكون السني في تحديد مصير البلاد. على الرغم من المظلومية التي لحقت بالسنة بعد اغتصاب حزب البعث للسلطة، من خلال دكتاتورييه المسميين بالأسدين، إلا أن السؤال الأهم هو: هل يمكن للسنة، كطائفة، أن يكونوا المظلة الحصرية للحكم في بلد متعدد الهويات مثل سوريا؟ أم أن الشراكة القومية، بما فيها الكرد كإطار فوق مذهبي، هي السبيل" الأنجع" لتحقيق التوازن والاستقرار؟ إذ لا يمكن إنكار أن نظام الأسد سعى إلى تحجيم النفوذ السياسي للسنة، إلا أن الصورة ليست بهذه البساطة. فقد كان هناك عدد كبير من المستفيدين السنة من هيكلية النظام، سواء في الدوائر الحكومية أو الوزارات أو حتى في رئاسة الحكومة، وحتى على مستوى أصغر موظف أو مستخدم في هذه المؤسسة أو تلك، إذ إن مستخدماً في دائرة كانت له سلطته أكثر من مديرها، في الكثير من الدوائر، تبعاً للانتماء أو الولاء للشبكة التراتبية السلطوية، ولقد ذاق من حولهم كما يقال" الأمرين" من قبلهم. إذ لم يكن الإقصاء تامًا بقدر ما كان إعادة توزيع للنفوذ وفق رؤية النظام لا وفق أسس طائفية خالصة. لقد لعبت الطائفة السنية، بما تمتلكه من تنوع داخلي بين العرب والكرد والتركمان والشركس والمستعربين وغيرهم، دورًا أساسيًا في المشهد السوري، ولكن هذا الدور لم يكن موحدًا، بل متشظيًا وفق الانتماءات القومية والمناطقية وحتى الطبقية. وبالتالي، لا يمكن اختزال الطائفة السنية في إطار سياسي واحد قادر على قيادة البلاد بمفرده. إذ تتباين وجهات النظر حول هوية سوريا المستقبلية، حيث يرى بعض المنظِّرين- الآن- أن الهوية العربية السنية يجب أن تكون المظلة الوطنية كما جاء في بعض الأطروحات التي قدمها د. أحمد جاسم الحسين، والتي تنطلق من أن "السنة هم الحامل الطبيعي لمشروع الدولة". غير أن هذا الطرح يتجاهل تعددية سوريا العميقة، والتي تضمُّ مكونات قومية ودينية لا يمكن دمجها قسرًا في إطار مذهبي واحد. إن تأسيس دولة تعددية حقيقية يتطلب الابتعاد عن فكرة المظلومية التاريخية كمسوغ للهيمنة، فكما تعرض السنة للتهميش في ظل حكم الأسد، فإن العلويين والمسيحيين والإيزيديين والشيعة والدروز وغيرهم لديهم هواجسهم الخاصة وخشيتهم من أن يتم استبدال هيمنة بعثية بهيمنة سنية. في لا مشروعية دولة "السُنّة" فكرة الدولة القائمة على الانتماء السُنّي تفتقر إلى المشروعية، لأنها تتجاهل التعددية الداخلية لهذا المكون. فالسُنّة ليسوا شعبًا واحدًا متجانسًا، بل أقوامًا متعددة، تجمعهم عقيدة دينية كما وتفرقهم الانتماءات القومية والجغرافية والثقافية، ناهيك عن الأيديولوجيات والأهواء العرضية. إن التركيب المعقَّد لهذا المكون يجعله غير مؤهل لتشكيل دولة موحدة تجمع تحت رايتها قوميات متباينة، إذ إن الدولة لا تُبنى على أساس طائفي ولا حتى ديني، بل على أسس قومية أو مدنية جامعة. كما أن هذا الطرح يتناقض مع فكرة المواطنة نفسها حتى في حدودها الأولى، ويفتح الباب أمام صراعات داخلية بين الجماعات السُنّية ذاتها، فضلًا عن أنه يتجاهل حقوق المكونات الأخرى التي تعيش ضمن الرقعة الجغرافية ذاتها. ومن يتابع الخط البياني لحكومة الشرع ير أنه يتعامل مع المكونات جميعها على أساس أفراد، متنكراً لقومياتهم وانتماءاتهم الفكرية المؤسسية، رغم أنه ذاته قادم من مؤسسة عسكرية جهادية، واعتمد فيما سماه: مؤتمر النصر على تشكيلات مؤسسية مماثلة، ضارباً عرض الحائط موقف ملايين السوريين، مستنسخاً انقلابية الأسد الابن، وأن من اعتمدهم حتى الآن هم من هذه الأرومة، لذلك، فحكومته لا تتعامل مع الكرد كأصحاب قضية لهم ممثلوهم من أحزاب عريقة وإلى جانبها منظمات مجتمع مدني مهنية، فاعلة، ذات تاريخ ناصع، ولهذا فإنه لو تم تعيين عشرين وزيراً كردياً من أصل بضعة وعشرين وزيراً، يتم انتقاؤهم على أساس أفراد تتوافر فيهم شروط السلطة الجديدة، فإن هؤلاء لا يمثلون إلا ذواتهم، مع احترامي لكل ذي قدر وجهد وسمعة طيبة منهم، أنى وجد. وعندما ننسب السنة إلى أنفسنا ولا ننسب أنفسنا إليها، ونراها كأنها "ماركة مسجلة"، فإننا نقع في فخ التسييس الذي يختزلها ضمن أطر ضيقة، بعيدًا عن جوهرها التاريخي والإنساني. وهنا، يبرز السؤال الجوهري: ماذا قدمنا لها تاريخيًا؟ هل كنا أوفياء لها، أم أننا جعلناها رهينة نزاعاتنا وخلافاتنا؟ منذ ما يزيد عن ثلاثة أرباع تاريخ الإسلام على امتداد ما يقارب خمسة عشر قرناً، لم يكن العرب السنة وحدهم من خدموا هذه المنظومة الفكرية والدينية؛ بل شاركهم في ذلك غير العرب، ومن بينهم الكرد، الذين لم يكونوا مجرد عناصر مساعدة، بل كانوا ولايزالون الأكثر تماسكًا وتنظيمًا، عسكريًا واجتماعيًا، في ظل وعي اندماجي متقدم، جعلهم قادرين على لعب أدوار محورية. ومع مرور الزمن، تحول هذا الوعي إلى منظور قومي، نتيجة ارتداد الآخرين: عرباً وفرساً وأتراكاً وسواهم، إلى دوائرهم الضيقة، وخصوصياتهم، بل خذلانهم الإطار الجامع ورموزه، في الوقت الذي لم ينفصل الكرد عن السياق العام، بل سعوا ليكونوا جزءًا أصيلًا منه. عند الحديث عن بناء سوريا الحديثة، كان الكرد جاهزين للمساهمة مع شركائهم لوضع حجر الأساس لدولة جامعة، لا تُقصي أحدًا، بل تحتضن جميع السوريين ضمن إطار وطني متكامل. لكن المفاجأة كانت في أن سوريا لم تسلك هذا الطريق، بل أُعيدت صياغتها وفق منظور ضيق، تم اختزالها في هوية واحدة، دون مراعاة للتنوع العميق الذي يميزها. ولم يكن يخطر في بال الكرد، وهم يسهمون في تشكيل معالم الدولة، أن تكون النتيجة حالة إقصائية، تحصر الهوية السورية ضمن بعدٍ أحادي، بدلاً من أن تكون فضاءً جامعًا. ومع ذلك، فقد ظلّت محاولات تعريب السنة قائمة، وكأنها مشروع مؤدلج يسعى إلى صبغها بلون واحد، غير عابئ بجذورها التي تشهد بأنها كانت دومًا أوسع من أن تُحصر في إطار قومي محدد. إن الطرح الذي يدعو إلى دولة خاصة بالسُنّة- حتى وإن تجاوزت هلاميتها إلى شرعنتها ومأسستها وانفتاحها- لا يؤدي إلا إلى مزيد من التقسيم، بل يعيد رسم العلاقات الإقليمية والدولية على أسس غير مستقرة. فبدلًا من أن يكون السنة كتلة مؤثرة في الدول التي ينتمون إليها، يتحولون إلى كيان جديد يقوض استقرار المنطقة، ويدفعها نحو نزاعات داخلية لا تنتهي، لاسيما في ظل الإحالات إلى تاريخ من الصراعات التي تصدع وتشرخ الحالة الوطنية وتمزقها. كما أن واقع التركيبة السكانية يظهر أن السُنّة، بعكس ما يُروَّج، قد لا يكونون الأكثرية في بعض المناطق التي يُطرح فيها هذا المشروع، بل قد يجدون أنفسهم أقلية وسط قوميات أخرى، ما يفتح الباب أمام صراعات لا يمكن التنبؤ بمآلاتها. الدولة الوطنية السليمة لم يعد خافياً على كل ذي بصر وبصيرة، أن الوطن ليس عقيدة جامدة، ولا هو امتداد لمظلومية فئة دون غيرها، إذ أن الظلم وقع على سائر المكونات، بل هو فضاءٌ رحبٌ تتفاعل فيه الأطيافُ الإنسانيةُ المختلفةُ في إطار المواطنة المختلفة عما يروج لها والتي لا تنفي دور المكون وتكون المواطنة هنا فخاً لهيمنة أحادية. إن الوطنية الحقة لا يمكن أن تُختزل في مذهبٍ أو طائفةٍ أو عِرق، لأن أي اختزال كهذا يعني الانحراف بها عن جوهرها التعددي إلى انغلاق يقود إلى الانقسام والتناحر. الوطنية التي تُبنى على التعددية لا تُصادر حقوق أي مكوّن، لكنها في الوقت ذاته لا تجعل أي مكوّن وصيًا على كل من حوله، لأن الوطن أكبر من موروثات الجماعات، وأعمق من حدود الانتماءات الضيقة. إن المظلومية، على فداحتها، ليست بحد ذاتها مسوغًا لفرض رؤية أحادية للوطنية. فالتاريخ مليء بالجراح، والذاكرة الجماعية تحتفظ بأحداثٍ كبرى من الغبن والقهر، لكن تحويل المظلومية إلى قاعدة لصياغة مفهوم الوطن يعني تكرار الظلم في صورة معكوسة. الوطنية السليمة تعني رفع المظلومية عن جميع المكونات والأفراد من دون أن تتحول إلى أداة لإنتاج مظلومية جديدة. حيث من حق أي جماعة دينية أو مذهبية أو قومية أن تضمن حريتها وخصوصيتها، لكن هذه الحرية لا ينبغي أن تتخذ شكل الهيمنة على المجال العام، بل أن تبقى في حدودها الإنسانية العادلة، حيث يكون المسجد أو الكنيسة أو المعبد فضاءً خاصًا لممارسة الشعائر، دون أن يُفرض أي بُعد ديني على طبيعة الدولة نفسها. وعندما ندعو لتسيد لغة واحدة أو ديانة واحدة فإننا هنا ننقض جوهر المواطنة في فضائها الموائم للتعددية أو تعدد المكونات، ولن يكون هناك من مناص سوى الدولة التعددية، من خلال مكوناتها! الدولة الدينية، بطبيعتها، غير مشروعة، لأنها تضع شرعية الحكم بيد تأويل محدد للنصوص، بينما الدولة العادلة هي تلك التي تنحاز إلى حقوق الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم. في الدولة المدنية، لا يُمنع المذهب من التعبير عن نفسه، لكنّه لا يتحول إلى هوية الدولة، لأن الدولة تنتمي إلى جميع المواطنين، والطائفة ليست كيانًا متجانسًا، بل هي فسيفساء من الأفكار والاتجاهات. من هنا، يكون العدل هو المقياس، حيث تُرفع المظلومية عن الأفراد لا بصفتهم ممثلي طوائف، بل باعتبارهم مواطنين متساوين أمام القانون. ويستثنى هنا من ينتمي إلى قومية أخرى تشاركية، إذ من حقها أن تؤمن عوامل حمايتها، ضمن الإطار العام، من دون أن ننسى أن حماية مجرد قومية أو دين يجعل بقية المكونات في موقع المطالبة بحقوقهم، ضمن الإطار العام، وفي كل هذا ما يدحض دعاوى الدولة السنية غير ممكنة التطور لخلق أنموذج مرض لجميع السوريين، نتيجة التبعات التي خلفتها سلطة القومية الواحدة، أو الدين الواحد، أو الاعتماد على الدين والطائفة لديمومة سلطة ما كما فعل البعث عبر دكتاتوريه! إن الوطنية السليمة هي تلك التي تُحرر الإنسان من القيود التي تحاول مصادرة انتمائه الأكبر إلى مجتمعه ككل، وهي التي تجعل العلاقة بين الدولة وأفرادها قائمة على الحقوق والواجبات لا على التمايزات التاريخية أو الدينية. حينها فقط، يمكن للوطن أن يكون وطناً، لا مجرد انعكاسٍ لصراعات الهوية الضيقة التي تعيد إنتاج الاستبداد في كل مرة بثوب جديد. الكرد إطار فوق مذهبي وشريك رئيس وحقيقة، يمثل الكرد ثاني أكبر قومية في سوريا، وهم ليسوا مجرد امتداد سني، بل كيان قومي يضم طيفًا واسعًا من الأديان والمذاهب، من إيزيديين ومسيحيين وشيعة وعلويين ومسلمين سنة ممن يشكلون سوادهم الأعظم. وبالتالي، فإن أي تصور للهوية الوطنية السورية لا يمكن أن يتم بدون وضع الكرد في قلب هذه الشراكة، لا كمجرد أقلية- كما يروج- بل كطرف متساوٍ في تقرير المصير. إن الدعوة إلى دولة لا مركزية وفيدرالية تعددية لا تعني تقسيم سوريا، بل تعني الاعتراف بحقائق الجغرافيا والتاريخ والمكونات المختلفة، بحيث يكون الحكم مبنيًا على الشراكة وليس على الهيمنة. ولا يمكن إغفال أن التجربة الكردية في العراق قد قدمت نموذجًا يمكن الاستفادة منه، حيث استطاع الكرد بناء كيان إداري قوي ضمن دولة فيدرالية، دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار الدولة الأم. مشروعية الفيدرالية للكرد والقوميات الأخرى في المقابل، فإن الحل الفيدرالي كما تراه هذه الورقة، هو الأجدى والانسب للسوريين، على أن يؤسس على أسس قومية واضحة، لا على انتماءات دينية عابرة للقوميات. الكرد، باعتبارهم قومية متميزة بلغتها وهويتها وتاريخها، يشكلون شعبًا يستحق الاعتراف السياسي والإداري ضمن كيان يضمن حقوقهم القومية، خاصة أن هناك قوميات أخرى تشاركهم هذه الجغرافيا، ما يجعل الفيدرالية النموذج الأكثر عدالة. الفيدرالية ليست تقسيمًا بقدر ما هي توزيع عادل للسلطة، يعكس التعدد القومي ويمنح كل مكون حقه الطبيعي في إدارة شؤونه دون أن يكون ذلك على حساب المكونات الأخرى.
التوازن بين الدين والدولة نحو رؤية أكثر شمولية ولا بد من التأكيد أن أحد أهم الأخطاء في الصياغات الدستورية السابقة لسوريا هو تضمين هوية دينية للرئيس، ما يعزز النزعات الطائفية ويقصي شرائح واسعة من المجتمع. في سوريا الجديدة، يجب أن يكون الرئيس ممثلًا لمجموع المواطنين، وليس محصورًا ضمن طائفة أو مذهب معين. إن التعددية لا تعني فقط التنوع الديني والمذهبي، بل تشمل أيضًا التنوع القومي والثقافي. ولذا، فإن أي نظام سياسي قادم يجب أن يضمن توازنًا بين جميع المكونات، بحيث لا يشعر أي طرف بالإقصاء أو التهميش. فالإقرار بحقوق جميع السوريين، من عرب وكرد وسريان ودروز وعلويين وغيرهم، هو السبيل الأمثل لبناء دولة مستقرة.
مستقبل التعددية السياسية في سوريا مؤكد أن أحد أهم معايير نجاح أي نظام سياسي قادم هو مدى قدرته على ضمان تمثيل عادل لمختلف المكونات، حيث يجب على السنة، بصفتهم الأغلبية، أن يدركوا أن شراكتهم مع الآخرين لا تقلل من دورهم، بل تعزز فرصهم في بناء دولة مستقرة. إذ أن التصور السياسي المستقبلي يجب أن يكون قائمًا على الاعتراف بالهويات المتعددة، وضمان حقوق جميع المكونات السورية، وإقامة نظام سياسي لا مركزي يسمح بتوزيع السلطة بشكل عادل. لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تطوير منظومة دستورية تحترم التنوع السوري وتحول دون تكرار أخطاء الماضي، سواء عبر هيمنة حزب واحد أو طائفة واحدة.
نحو عقد اجتماعي جديد لا لتحديد دين الرئيس!
من هنا، فإن بناء سوريا المستقبل لن يتحقق بإحلال طغيان بطغيان آخر، بل عبر إعادة صياغة العقد الاجتماعي على أساس الشراكة بين كل المكونات، بحيث تكون المواطنة، في مفهومها الموسع، غير المراوغ يقبل أقصى الحدود ضمن إطار الوطن، إلى درجة الفيدرالية، نتيجة تفشي ثقافات مشينة، نتيجة هيمنة الفكرالعنصري وثأريات الحرب. أجل، أن تكون المواطنة هي الأساس، من دون إنكار الحق القومي للشريك، و أن تكون الأديان والمذاهب إطارًا ثقافيًا وهوياتيًا، لا مشروعًا للإقصاء السياسي، وهذا ما يحتاج إلى الاشتغال عليه، بروح الحرص، ضمن سقف البلد، وليس عبر الوصفات المخادعة. إن سوريا التي يسعى إليها الجميع يجب أن تكون دولة تحترم تنوعها، وتتبنى نظامًا سياسيًا قائمًا على التوافق، بحيث لا يكون هناك مركزية قاتلة ولا استفراد بالحكم. إن الحلول المطروحة يجب ألا تنحصر في شكل الدولة، بل في طبيعة العقد الاجتماعي الذي يحكم العلاقة بين المكونات المختلفة. كما أن السنة، شأنهم شأن بقية المكونات السورية، لهم دور أساسي في بناء مستقبل البلاد. لكن هذا الدور يجب أن يستند إلى الشراكة الحقيقية، لا الإقصاء أو الهيمنة، مع بقية المكونات، وعلى رأسها الكرد باعتبارهم ثاني أكبر قومية في البلاد كما أن السنة، شأنهم شأن بقية المكونات السورية، لهم دور أساسي في بناء مستقبل البلاد. لكن هذا الدور يجب أن يستند إلى الشراكة الحقيقية، لا الإقصاء أو الهيمنة، مع بقية المكونات، وعلى رأسها الكرد باعتبارهم ثاني أكبر قومية في البلاد. إن سوريا الجديدة يجب أن تكون سوريا الجديدة دولة تعددية لا مركزية فيدرالية، بحيث لا يُشترط في رئيسها دين محدد، بل تكون المواطنة وحدها معيار الانتماء والمشاركة في الحكم. وما ينبغي معرفته من قبل السوريين- جميعاً- هو أن مستقبل سورياهم مرهون بقدرتها على تجاوز الخطابات الطائفية والقومية الإقصائية، والتوجه نحو عقد اجتماعي جديد يعكس تنوعها الحقيقي، ويؤسس لحكم رشيد مبني على التوافق والشراكة، وليس على التسلط والهيمنة.
ملاحظة ترددت كثيراً في نشر المقال- بعد أن أقصيت آخر قبله- لأني بحق أربأ بالخوض في موضوعة الطائفية، ولربما أن أي كردي ما كان يتكلم حتى في موضوعة- القومية- ذاتها، بحرقة القلب التي يفعلها الآن، لو أنه لم يتعرض للظلم العنصري في بلده، ولو كانت لغته رسمية وحقوقه القومية مصانة دستورياً، إلا أن أصدقاء عديدين ألحوا أن أنشر رؤيتي مع الاعتذار الكبير، من كل من يؤمن حقاً: بسوريا للسوريين جميعاً، غير" مؤله" لغة أو ديناً أو قومية، دون سواها، وبعكس من يطلق الشعار على نحو مراوغ!
المصادر والمراجع وباحترام كبير للباحثين والكتاب ممن ربما علقت لغتهم في المبحث في إطار محاورتها:
الحسين. د. أحمد جاسم- تأملات في مسألة الهوية العربية السنية على طريق الهوية الوطنية السورية موقع تلفزيون سوريا
https://www.syria.tv/%D8%AA%D8%A3%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9?fbclid=IwY2xjawJRepJleHRuA2FlbQIxMQABHUDy1cS9P6EFOCNfsMwFHs5VoOvXOxjYzOrPZKnqOUwHZpcy8JqOIa7VhA_aem_sziKwhs8YbfNBmuzGN46tQ
درويش. د. حسام الدين- في الهوية السنية لسوريا الجديدة: محكومون بالأمل؟، أم بالموت؟، أو بكيهما؟ موقع التلفزيون السوري https://syriauntold.com/2025/03/24/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D9%8A%D8%A9-2/ عايق، موريس- سوريا السنية...تزاوج بين سردية سلفية جهادية وسردية شديدة الطائفية. موقع حكاية ماانحكت. سوريا السُنيّة... تزاوج بين ِسرديّةٍ سلفية جهادية وسرديّة شديدة الطائفية https://syriauntold.com/2025/03/19/%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d9%8a%d8%a9/
#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من يرفع علم إسرائيل - 2-
-
وصايات وتوصيات النذر بالقيم وتناسي الذات!
-
من يرفع العلم الإسرائيلي؟ .
-
من يرفع العلم الإسرائيلي؟
-
حكومة دمشق الانتقالية: في امتحان الاعتراف بحقوق الكرد
-
بعد سقوط البعث العنصري ونظام أسده: قمم جيايي كورمينج تتوهج ب
...
-
الأسد والبعث وثنائية الأكثرية والأقلية
-
السيد الشرع في دوامته لا خريطة طريق للخلاص إلا عبر رفع آلة ا
...
-
دولة المماطلة: بين الحلم بالمواطنة وواقع الإقصاء
-
نقد قانوني للإعلان الدستوري المقر لسوريا في المرحلة الانتقال
...
-
نقد قانوني للإعلان الدستوري المقر لسوريا في المرحلة الانتقال
...
-
حصار الساحل السوري موت بطيء تحت الحصار لمن نجوا من القتل الج
...
-
قراءة نقدية قانونية للدستور الجديد: إشكاليات التمييز والهوية
...
-
السيد الرئيس الشرع: لا أوافق على دستورك ورئاستك بهذه الصيغة!
-
مذابح الساحل السوري: توثيق الجريمة وفضح رعاة القتلة
-
إبراهيم محمود عن شهداء الانتفاضة: اعذروني لن أكتب عنكم
-
اتفاقية- الأمر الواقع- ما لها وما عليها.
-
حجر أساس لبناء الجمهورية السورية في انتظار استكمال العمارة ا
...
-
الروح الكردية: تسامح لا يندم عليه، وأعداء متجددون!
-
-تفليل- العلويين ونفاق الإعلام العربي!
المزيد.....
-
ضباط الحرس الثوري الإيراني يردون على تهديدات ترامب بتذكيره ب
...
-
إيران تستدعي القائم بالأعمال في السفارة السويسرية بعد تهديد
...
-
من مسقط حتى مراكش: كيف يبدو عيد الفطر؟ - صور
-
كأس ألمانيا- ليفركوزن يواجه بيليفيلد ولايبزيغ يراهن على مدر
...
-
المدعي العام الروسي يلتمس تعليق حظر -طالبان-
-
القضاء الفرنسي يحكم يمنع مارين لوبن من الترشح للانتخابات بمف
...
-
تراجع الأسهم الأوروبية، ارتفاع جنوني للذهب ..ترقب عالمي قبل-
...
-
بريطانيا: ستارمر يوجه دعوة دولية للتعاون من أجل مكافحة مهربي
...
-
مسيرة العودة 2018 .. حلم الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم
-
-ردنا حاسم وفوري-.. ماذا قالت إيران بعد تهديدات ترامب بقصفها
...
المزيد.....
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
المزيد.....
|