|
مسرحية الهارب من الماضي
رياض ممدوح جمال
الحوار المتمدن-العدد: 8295 - 2025 / 3 / 28 - 22:13
المحور:
الادب والفن
مسرحية من فصل واحد تأليف : رياض ممدوح جمال المكان : في منطقة صحراوية، لاوجود لأثر مدينة قريبة عنها. خيمة ومستلزمات حياة البدو. الزمان : وقت الغروب، في أي زمن كان.
الشخصيات : الضيف : رجل في الخامسة والثلاثين من عمره، قوي البنية صلب العود. يرتدي زي الحضر، كالبنطلون والقميص. الاب البدوي : في الاربعين من العمر. يرتدي الزي البدوي. حســــــنة : ابنة البدوي، حسنة الصورة والهندام. في الخامسة والعشرين من العمر.
(خيمة البدوي عند الغروب، الاب متكئاً على وسادة يسمع صوت نباح كلاب، وصوت رجل غريب ينادي).
الاب : (ينهض متجهاً الى باب الخيمة) من هناك، من المنادي ؟ صوت : انا مستطرق وعابر سبيل اريد المبيت عندكم الليلة. الاب : اهلاً بك تفضل الى الداخل. (يدخل الضيف، يرشده الاب الى مكان جلوسه) الاب : اهلاً وسهلاً بالضيف الحضري. الضيف : شكراً لك على كرمك، اخي العزيز. الاب : اعتبر نفسك في بيتك، ونحن الضيوف هنا. الضيف : كرم الضيافة، خصلة اصيلة فيكم. وانا اعلم ان من عادتكم ان لا تسألوا الضيف عن امره شيئاً الا بعد مضي ثلاثة أيام على اقامته بينكم. ولكن انا سأجنبك هذا، واختصر لك الأيام الثلاثة، واعلمك بأمري الان. الاب : انت لست مجبراً على ذلك، ولن اطلب منك توضيح شيء. الضيف : كلا، بل انا اريد ذلك. لأطمئن انا، لا انت. وانا من يطلب منك ان تسأل عن كل ما يجول بخاطرك. الاب : تكلم انت بما يحلو لك. وسأسأل انا ان احتجت للسؤال. الضيف : انا من احترقت كل المراكب خلفه، فليس له إلا الصحراء. وأصبحت هارباً من كل شيء. كل شيء في الحياة بات يتعبني، حتى الهدوء اصبح يتعبني، والصمت في داخلي يرهقني، والضجيج الساكن اعماقي يغلي ويفور، ستبقى ظلال تلك الاشياء كالأشباح تلاحقني. الاب : إلى أين تريد الذهاب ؟ الضيف : الى اللامكان. المهم عندي الان ان اكون بأبعد مكان يمكنني الابتعاد اليه. اصبحت المدن وكر ذئاب، لا مكان لعيش البشر. الاب : كل الاماكن جميلة حين تكون مرتاحاً، وكلها قبيحة حين لا تكون كذلك. من اي شيء تريد الهرب ؟ الضيف : من الجميع. ما عدت اعرف ولا يمكنني التفريق بين الذئب والحمل. لقد اختلطت علي الاوراق كلها. ما عدت اميز بين الرحمن والشيطان. تحت التعذيب توسلت بالموت اسأله كذبيحة تطلب السكين. الاب : (ينهض وينادي من وراء باب الخيمة) حسنة يا ابنتي، جهزوا العشاء للضيف. (يعود ويجلس في مكانه، قرب الضيف). يااااااه، كم انت مجروح يا رجل! الضيف : ليس جرحاً، بل جلد شاة مقلوب باطنه الى الظاهر، ومقلوب ظاهره الى الباطن. سوف لن اموت، فانا ميت منذ خمس سنوات. فهذا الموت ليس موتي، فانا ميت منذ ذلك الحين. هل عشت عمر النسر ؟ لان ما اتذكره من مشاهدات لا يكفيه عمراً كاملاً واحداً. الاب : اراك متعباً ومنفعلاً. من الافضل لك ان ترتاح هذه الليلة وغداً نتحدث. الضيف : كلا، فأنا الان جرح يريد أن يلفظ قيحه. وبركان يريد أن يلفظ حممه. الاب : ان كان هذا ما يريحك، فالخيار لك. رغم اني الى الان لم افهم ما هي مشكلتك بالضبط، لان فهمي بسيط. وانكم انتم الحضر كل شيء لديكم معقد، وغير مفهوم لدينا. الضيف : سأبسط لك الصورة. واختصر لك قصتي. وباختصار هي اني مطلوب من قبل الحكومة، لكوني انخرطت في مظاهرة تحت نصب الحرية قبل اكثر من خمس سنوات. الاب : هذه الامور، نحن ابعد الناس عنها، لا من قريب ولا من بعيد. ونستغرب اهتمامكم وتدخلكم بها. وان الحاكم عندنا بمثابة الاب الذي لا يجوز مخالفته. وان الواحد منا يكرس حياته لعائلته ومتع الحياة. ولا شيء غير ذلك. الضيف : نعم فأنتم تغرقون في قطرة الماء، وتتركون البحر. انا اربعون سنة قابع في حفرتي منتظراً فريستي، واذا بها تمر امامي متبخترة مظهرة لسانها لي. الاب : وكم انتم مولعون بتعقيد حياتكم ! الحياة مثل النهر الجاري، اننا نزيح الاحجار والصخور من طريقه. بينما انتم تضعون العراقيل لتغيير مجراه. عليكم ان تسيروا مع الطبيعة لا ضدها. فالنهر يختار مجراه. الضيف : لماذا لا تقول ان الحياة مثل الغابة الكثيفة، تحتاج دوماً للتهذيب والتشذيب، والا تصبح من المتعذر العيش فيها ؟ الاب : الحياة منحت لنا لنعيشها، وهي اقصر من ان نضيعها. والحياة تمنح لمرة واحدة فقط، وهي كعود الكبريت، تشتعل لمرة واحدة وانتهى. الضيف : كلا، ان الحياة فعل وامتداد من الماضي الى الحاضر والى المستقبل، فليست هي الحاضر فقط. وهي كالنخلة زرعها الذين قبلنا وسيأكل ثمرها الذين سيخلفونا، وما نحن الا محطة للعبور فقط. الاب : اذن انت تدرس وتتعمق في الماضي، وتخطط بإتقان للمستقبل، وتنسى ان تعيش الحاضر! وان الحياة زهرة قصيرة العمر، وليست نخلة. عالج ما بداخلك لا ما حولك. الضيف : كيف يمكن للإنسان ان يعيش من دون مبادئ ؟ الاب : المبادئ هي آلهة الجاهلية التي يصنعونها من التمر بأيديهم، ويعبدونها ومن ثم يأكلونها. الضيف : بالمناسبة، من أين لك كل هذه الافكار والمعلومات ؟ الاب : نحن كما تعرف كثيرو الترحال، فنكون مثل النحلة التي تمتص رحيق مختلف الازهار. (صوت الابنة من خارج الخيمة) الصوت : العشاء جاهز يا ابي. الاب : ادخلي يا ابنتي. (تدخل الفتاة حسنة، تحمل صينية، لا يتبين ما فيها. تضعها امام ابيها والضيف). حسنة : سلام الله عليكم. الضيف : وعليك السلام. الاب : أين امك يا حسنة ؟ حسنة : لقد نامت، انها متعبة. ان احتجتم اي شيء، فانا في خدمتكم، يا ابي. الاب : اجلسي معنا هنا، ما دمت بمفردك، يا ابنتي. ضيفنا هارب من المدينة. (تجلس حسنة بالقرب من ابيها) حسنة : عفواً يا ابي، لقد سمعت كل حديثكم تقريباً. وصوتكم يسمع لمن في الخيمة المجاورة. الاب : تفضل للعشاء أيها الضيف العزيز. سنأكل نحن الثلاثة سوية. هيا يا ابنتي. حسنة : لقد تناولت عشائي مع امي، قبل ان تنام. الضيف : وما هو رأيك بحديثنا، ما دمت قد سمعت معظمه، يا حسنة ؟ حسنة : بحكم كوني امرأة، اردت ان اعرف شيئاً عن زوجتك واطفالك. الضيف : (يظهر عليه التأثر الشديد) كان لي طفل رضيع واحد ومات، بعد أن ماتت أمه في السجن حسنة : انا اسفة لسؤالي هذا. كان يحسن بي ان لا اسأل هذا السؤال. الضيف : لا، لا عليك. لقد اتخذت السلطة من زوجتي رهينة، للإجباري على تسليم نفسي لهم. الاب : يا للوحشية ! الضيف : انها وحشية مني انا، لا منهم. فكنت مؤمناً انه كلما زادت حجم تضحياتي، زادت قيمة بطولاتي. الاب : على حساب عائلتك، تكون بطلاً ! الضيف : نعم، للأسف. حسنة : ان زوجتك اكثر بطولة وتضحية، منك انت. وانها كامرأة احبتك بصدق، لا تملكه انت نفسك. انت كنت تبحث عن البطولة، وهي كانت تبحث عن الاخلاص لك. الضيف : لقد كانت مبادئي، اقدس لدي من كل المقدسات. الاب : تقصد الهة التمر. الضيف : فليكن ذلك، كما تقولين. حسنة : نحن عندما نعشق، سواء كان رجلاً منا او امرأة، يخلص لعشقه، اخلاصاً مطلقاً. كما اخلصت لك زوجتك، وانت لم تكن مثلها مخلصاً. بحجج واهية وكثيرة، منها ما تسمونه المبادئ. الاب : ما تسمونه مبادئ، تجعل من واحدكم مقفل العقل، ويفجر نفسه بحزام ناسف. الضيف : يكفيني ملامة، يا رجل. الندم نار تنهش احشائي. حسنة : الماضي هو درس وليس حبس. يمكن للإنسان دائماً أن يبدأ من جديد ما دام حياً. الضيف : ابداً حياة جديدة على أنقاض الماضي ! حسنة : ممكن للأنقاض ان تكون اساس متين للبناء الجديد. الضيف : عدت ما أؤمن بكل أقوال وحكم العالم. إنها كلمات في كلمات. وما عدت أؤمن إلا بأنه قد فات الاوان على كل شيء. حسنة : بعد عشر سنوات من الان، ستندم وتتمنى لو انك قد بدأت قبل عشر سنوات، اي الان. الضيف : كلامك يتقبله عقلي، لكن يرفضه قلبي. ولكن قولي لي من اين لك هذه الافكار المتفائلة، وانتم محرومون من الشيء الكثير ؟ حسنة : يااااااه، كم انت واهم ! ان متعتنا بالحياة روحية، تفوق متعكم المادية فيها. عندما تستغني تغتني. الناس بحار فلا تحكم على اعماقهم وانت لا ترى منهم الا شواطئهم. الضيف : يااااااااه كم انا جاهل أمام خبرتكم، رغم اعتقادي اني عشت عمري بالعرض وليس بالطول. حسنة : انت لم تعش عمرك بعد، فللعمر بقية. وان غواص البحر يحتاج أن يخرج إلى السطح ليتزود بالهواء ثم يغوص ثانية. والحياة اعمق من البحر. الضيف : من أين لك كل هذه الافكار، يا حسنة ؟ حسنة : كان زوج خالتي حارس مدرسة وكنت اعيش معهم فتعلمت وتفوقت على جميع اقراني وان حياتي مثل فراشة امتصت رحيق مختلف انواع الزهور، بالعكس منك، فانت بحثت في حياتك عن اعمق الاشواك، لتصنع منها اكليل المسيح لتضعه على رأسك. المهم ليس جمع وتراكم المعلومات، بل المهم التركيز على معلومات مركزة، والعمل بها. الحياة مثل الزهرة تتفتح وتفوح من دون ان تسأل كيف ولماذا. وعلينا ان نعيشها، نعيشها فقط من دون اسئلة. فالحقيقة الاكثر بديهية هي الابعد عن التصديق. الضيف : ومن اين لكم كل هذا الاحساس بحب الناس وحب الحياة ؟ حسنة : حسن النية التي في داخلنا تولد المحبة. ونفترض ان جوهر كل انسان هو الطيبة والخير، وما شره الا طارئ عليه لظرف ما. والسعادة قرارك واختيارك انت بالذات. الضيف : اه، كم انتم جميلين من الداخل يا حسنة ! حسنة : سهل جداً ان تدرك اعماق الجمال الداخلي للإنسان حينما تكون في داخلك انت جميل. الرجل يتعلم طول حياته فهم الناس، والمرأة تولد وهي خبيرة في نفوسهم. فانظر الى العالم بقلب طفل، والحياة ستصبح اكثر جمالاً. الاب : ما خلقه الانسان من ملكية خاصة ومناطق واوطان وغيرها من هذه التقسيمات هي سجون داخل سجون كطبقات قشور البصل والانسان هو لبها. لماذا لا يعيش الانسان مثل الطيور والاسماك بلا حدود للأوطان ولا تقسيمات. انا ارى فيك انسان حطمته الوحوش. وما علينا نحن سوى ترميمه. (ينظر في عيني ابنته حسنة، تفهم هي ما يعنيه، يحمر وجهها خجلاً، تحني رأسها نحو الأرض) ما رأيك في كلامي، يا ابنتي حسنة ؟ حسنة : ...... الضيف : انها خجلة فلا تجيب. حسنة : اذا لم تستطع قراءة صمت اخيك فلن تستطع ان تفهم كلامه. الاب : أيها الرجل الطيب، اني اهدي ابنتي زوجة لك. الضيف : حسنة !!! الاب : نعم حسنة. ان حسنة مجنونة مثلك ولكن جنونها بحب الحياة عكس جنونك المدمر لها. الضيف : ياااااه ! انها هدية ثمينة جداً ! هل تقبلين بي زوجاً رغم نواقصي، يا حسنة ؟ حسنة : قد اتقبلك ناقصاً ولكني لا احتملك كاذباً. الضيف : (ينهض ويخطوا بضع خطوات ويكلم نفسه) هل سأعيش ايضاً كالفراشة متنقلاً امتص رحيق مختلف انواع الازهار ! واغادر حياة التماسيح في المستنقعات ! واعيش خارج الزمان والمكان، يا حسنة ؟ حسنة : (تبتسم) نعم، لكن هذا التمساح يحتاج الى الاغتسال والتخلص من اثار المستنقعات. الضيف : نعم، فلدي بقية العمر كله للاغتسال في نهر الحياة والانطلاق معك نحو السماء.
ستار
#رياض_ممدوح_جمال (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسرحية دهاليز
-
مسرحية -حطام اخر المطاف-
-
مسرحية القطار والعربة
-
مسرحية حوار الشمعة والالعاب النارية
-
مسرحية عندما تتكلم الأيام
-
مسرحية المحاكمة
-
مسرحية الضحية والجلاد
-
مسرحية اعترافات
-
مسرحية الجدار
-
مسرحية الكل هباء
-
مسرحية العقم
-
مسرحية (يوم خاص)
-
مسرحية -النافذة-
-
مسرحية (ريح السموم)
-
مسرحية العامل
-
مسرحية الدائن والمدين
-
الرعب قصة قصيرة
-
مسرحية زواج مُرتّب
-
مسرحية -لا مثيل له-
-
مسرحية سِرُّ ذو القوى الخارقة
المزيد.....
-
نيكاراغوا.. افتتاح مهرجان الأفلام الحربية الروسية
-
سنو وايت، فيلم أشعلت بطلته الجدل، ما القصة؟
-
بجودة عالية..استقبال تردد قناة روتانا سينما على النايل سات و
...
-
أجمل عبارات تهنئة عيد الفطر مكتوبة 2025 في الوطن العربي “بال
...
-
عبارات تهنئة عيد الفطر بالانجليزي مترجمة للعربية 2025 “أرسله
...
-
رحلات سينمائية.. كيف تُحول أفلام السفر إجازتك إلى مغامرة؟
-
وفاة -شرير- فيلم جيمس بوند -الماس للأبد-
-
الفنان -الصغير- إنزو يحسم -ديربي مدريد- بلمسة سحرية على طريق
...
-
بعد انتقادات من الأعضاء.. الأكاديمية تعتذر للمخرج الفلسطيني
...
-
“الحلم في بطن الحوت -جديد الوزير المغربي السابق سعد العلمي
المزيد.....
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
المزيد.....
|