|
الحضارة والإنسان
دهام حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1799 - 2007 / 1 / 18 - 11:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن الحضارة كظاهرة تاريخية في علم الاجتماع، وكمفهوم نظري، من أكثر المفاهيم التي يثار حولها الجدل بشأن تعريفها، وبيان معناها، وتحديد مجال استعمالها ومداها، نظرا لتعدد الآراء، واختلاف وجهات النظر في توضيح هـذا المصطلح، وأيضا، بسبب توسع مجال استعماله، وتعدد وظائفه. إن الحضارة تعني بأحد معانيها درجة من عملية التطور الاجتماعي، التي حلت محل البربرية، يقول إنجليز:" إن الوحشية هي فترة امتلاك المنتجات الجاهزة للطبيعة على الغالب 000البربرية هي فترة إدخال الرعي والزراعة فترة امتلاك طرق زيادة وإنتاج المنتجات بواسطة النشاط البشري؛ والحضارة هي فترة امتلاك التصنيع اللاحق لمنتجات الطبيعة0" إن هذا المقال لإنجليز، يفيـدنا من أن الحضارة ابتدأت بعد انتقال الإنسان من حياة البربرية إلى حالة من الإقامة الدائمة والاستقرار، حالة من الأنس والتوافق مع بني جنسه، حالة من السلم والأخلاقية، بدلا من الفظاظة والتقوقع و الأنانية. إن تلاقي الجماعات البشرية بدافع الحاجة، سواء لرد الأخطار أو تأمين مستلزمات البقاء والتواصل، واستنباط ما يمكن استنباطه من أدوات وسواها. إن هذا التلاقي والنشـاط والتفاعل هو اللبنة الأولى في صرح الحضارة البشرية. لقد كان الإنسان في بداياته ضعيفا عاجز أمام جبرية الطبيعة الجغرافية، لكنه باستئناسه لبني جنسه وتفاعله معه، وتفاعلهم مع الطبيعة، تجاوز عقدة ضعفه، وأصبح ينازل الطبيعة في صراع مستميت؛ استطاع بداية أن يتكيف مع عوامل الطبيعة ثم ما لبث أن صار قادرا أن يسخرها لمصلحته، وما تاريخ الحضارة في أحد أوجهه إلا حكاية صراع الإنسان مع قوى الطبيعة00 من المعلوم أن الحضارة لا تنشأ ولا تتأسس إلا بتضافر جهود عدد كبير من الأفراد والعديد من الجماعات البشرية كما أن نشأة الحضارة تتأثر فضلا عن التنظيمات البشرية، تتأثر- أيضا - بهذا القدر أو ذاك بالعوامل المناخية فقد تساهم الشروط المناخية المواتية في نمو وتطور الحضارة بخلاف العوامل المناخية القاسية التي تؤثر سـلبا في نموها وتأخرها 0 الحضارة كما هو معلوم ليست بكائن بشري عاقل، فهي لا تتكلم ولا تأكل ولا تزرع ولا تبني ولا تحارب 00إلخ مثل هذه الأعمال تناط بالإنسان وبالإنسان وحده، وبهذا فالطبيعة والإنسان طرفا المعادلة في الحضارة، همـا توأمان مرتبطان يشترط أحد هما الآخر.. والحضارة بهذا المعنى تترجم بعلاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالإنسان؛ لا انفصام بين الحضارة والإنسان، فالحضارة تشترط في وجودها بنشاط الإنسان الواعي وإبداعاته والإنسان هنا لا يعد عنصرا كالا عاجزا سلبيا، بل يعد ذاتـا مبدعة خالقة للتغيير، وهو مساهم نشيط في صنع الحضارة؛ والحضارة هي بالأساس مرادفة للتطور الاجتماعي. تظهر الحضارة عادة في حقبة زمنية معينة تكون مواكبة لتشكيلة اجتماعية ما، ومشروطة بمميزات ثقافية وسمات وخصائص عـقائـدية، ومنتجة حسب الرؤية الفكرية السائدة، لحالات ونظرات متسقة، لا سيم في القيم الروحية، مثل السلوك والأخلاق والنواحي الجمالية. إن كل حضارة تغتني بمكونات الحضارات الأخرى، في صورة مـن التأثر والتأثير المتبادلين؛ فقد يستغني أناس هذه الحضارة من بعض عناصر حضارتهم لعدم ملاءمتها وتماشيها مع البيئة الحضارية الجديدة، والاستعاضة عنها بعناصر جديدة؛ وقد لا تكون العناصر الجديدة مستنبطة في حدود تلك المساحة الحضارية بل من حضارة أخرى؛ فأفول أية حضارة، لابد أن كثيرا من قيمها وإبداعاتها، ترثها حضارة أخرى واعدة، أي أن الحضارة أخذ وعطاء، وقد تتحقق كثير من القيم والمبادئ في الحضارة الواعــدة الجديدة تفوق كثيرا عن قيم ومبادئ الحضارة الآفلة 00 إن الحضارة لا تتم وفق السير بخط مستقيم، فهي تبنى وتؤسس في سياق استغلال طبقة لطبقة أخرى، لأن "الجشع الدنيء "لقوى طبقية هو الدافع والمحرك لنشأة وتطور الحضارة حيث " تقدم لطبقة كل الحقوق تقريبا وتحمل الطبقة الأخرى كافة الواجبات "كما يقول إنجليز وتلك ضريبة التطور التاريخي والحضاري حيث أن" الإيجابي بمعنى التطور التاريخي لا يتوازى مع الإيجابي أخلاقيا " بتعبير الدكتور عبد الرزاق عيد 0 إننا بلا شك سوف نتعاطف أخلاقيا مع العمالة المصرية المستعبدة والمسخرة، الذين شادوا حضارة وادي النيل وإليهم يعود الفضل في بناء الأهرامات المصرية، وهم كانوا في الوقت نفسه ضحايا هذه الحضارة حيث كانوا يموتون بأعداد يوميا أثناء بناء الأهرامات، لتخلد ذكرى الفراعنة كصروح وشواهد. وتلك -كما أسلفنا- ضريبة التطور التاريخي. فإنجليز يقول: لولا عبودية العصر القديم لما كانت هناك اشتراكية؛ أي أن التطور البشـري لا يتم إلا عبر صراع طبقي 00 من المؤرخين من تكلم عن الدورة الكاملة للحضارة بحيث تبلغ الحضارة مداها وتنهي دورتها فتسود المساواة بين أفراد المجتمع ويمتثل الجميع أمام القانون وعندما تكتمل الحضارة ، تبدأ بالتراجع والانتكاسة ربما إلى البربرية من جديد، لتعاود الحضارة دورتها وتبدأ بحلقة البناء من جديد. ومن المؤرخين من ماثل دور الحضارة بحياة الكائن العضوي: ولادة، طفولة، شباب، نضوج، شيخوخة 00 أما توينبي المؤرخ الإنكليزي المعروف فيرجع الحضارة إلى استجابات بعض الجماعات البشرية لروح التحدي؛ فعندما تكون هناك عوامل مناخية قاسية فبعض المجموعات البشرية تستجيب للواقع استجابة سلبية أي تخضع للواقع، ومنها من تتكيف مع واقع جديد بنفس الروح دون تغيير يذكر من طبيعة حياتها، لتعاود حياتها الطبيعية التي اعتادت عليها حياة البداوة 0 ومن الشعوب من استجابت لروح التحدي فانتقلت إلى ودبان ومستنقعات فحولتها إلى أراض خصبة ولم تدخر جهدا في البذل والنشاط والتفاعل مع الواقع الجديد، لتبدأ معه في الأعمار والبناء والتحسين والتغيير والتطوير 00 يرى توينبي أيضا أن الحضارة لا يتوقف بناؤها على عرق بشري واحد، فالحضارة تساهم في بنائها أجناس بشرية مختلفة، وجراء تفاعل عوامل عديدة كما أسلفنا، طبيعية وبشرية وسياسية 00 والحضارة لا وطن لها فقد ظهرت في مختلف القارات، وفي أماكن عديدة شملت أسيا وأفريقيا وأوربا وأمريكا. إن أشهر هذه الحضارات هي حضارة الصين، وحضارة وادي النيل، وحضارة بلاد الرافدين، وحضارة الإغريق، وحضارة الرومان، وحضارة الغرب، والحضارة العربية الإسلامية. وللحضارات أهمية كبرى في حياة البشرية؛ فقد أشاد لينين بمساهمة حضارة الغرب في تطوير القوى المنتجة حيث قال: " إن الحضارة الرأسمالية أوجدت الإنتاج الضخم والمعامل، والطرق الحديدية، والبريد والهواتف وغيرها 00 لاشك أن البشرية تتطلع وتنشد حضارة هي أكثر عدالة وتطورا وإنسانية؛ تتحقق فيها سعادة البشرية قاطبة، وهذا ما يراه إنجليز في حضارة المستقبل التي سوف تتميز:" بالديمقراطية في الإدارة، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق، والتعليم العام "وهـذا ما كان يحلم به الاشتراكيون؛ ولا بـد لهذا الحلم من أن يستحيل إلى حقيقة وواقع ولو بعـد حين؛ لأن الحضارة المنشودة ، تستوجبها تطلعات الإنسان، ويقتضيها العقل، وتحتمها الأخلاق00
#دهام_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوحدة الوطنية .. دعوة أم شعار !
-
عن العراق ..من القلب و العقل
-
الاشتراكية..بين الثورة والإصلاح
-
الديمقراطية...والنظام العربي. ! عرض نقدي من منظور يساري
-
الماركسية .. داخل وخارج الأطر الحزبية وسياج الدولة .!
-
الأنظمة الشمولية ومرايا الرأي الواحد !
-
قراءة ماركسية و الآفاق الحزبية
-
الطريق الى السلطة
المزيد.....
-
كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
-
إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع
...
-
أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من
...
-
حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي
...
-
شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد
...
-
اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في
...
-
القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة
...
-
طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
-
الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
-
الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|