جليل إبراهيم المندلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8295 - 2025 / 3 / 28 - 08:14
المحور:
الادب والفن
لم يتبق منها سوى تلك العينين، اللتان دائما ما قيل لها بأنهما جميلتين، لتتحدى بهما موبقات الدهر الذي أبى أن يتخل عنها إلا وهي ركام بين بقايا ذكريات في أذهان لا تعرف معنى للحياة إلا عبر أجساد تتمايل وأرداف تتراقص وعقول ذاهبة، حيث لا مكان للعقول في تلك الليالي المبهرجة بألوان زائفة والتي كانت تقضيها وهي ترقص فحسب، بجسد بالٍ تحت أضواء باهتة.. لترقص.. وترقص.. حتى يسيل اللعاب من أفواه تفوح منها روائح لا تختلف عن تلك التي تخرج في غفلة منهم بعد امتلاء بطونهم حتى التخمة.. فهم لا يرونها إلا كما يريدون حتى أضحوا في غفلة عن ذلك المعدن النفيس الذي حملته وهنا على وهن كما تحمل المرأة جنينها دون أن تعلم هي جنسه، لكن الدنيا ليست بذات مأمن، والويل لمن أرادت أن تراقصه فيأبى الرقص، حيث تحل عليه لعنتها وتمطر عليه نقمتها..
عينان بريئتان فقط هما كل ما تبقى منها، فكل ما فيها قد تدنس، لم يهمس لها أحد بذلك لأن جميع من حولها لا يريد لهما أن تكونا بريئتين بقدر ما يريد أن تكونا مغريتين فحسب، فما بين البراءة والإغراء سد ذا القرنين ما أن ينكسر حتى ينتشر الرعاع على جسدها لتصبح جثة هامدة.. فقبل أن ينهار السد كانتا تحملان مزيجا من قلق لفه صمت مهيب.. أذبل شفاها، وكسّر جفونا، وأحنى ظهورا.. حين داعبت أنوثتها أياد قذرة، جلّ غايتها العبث بكل ماهو جميل وبكل جزء منها حتى أصبحت أسيرة بين تلك الأيادي.. لتصبح أخيرا كحديقة للورد ضربتها عاصفة ترابية هوجاء عبثت بمحاسنها، لكن الياسمين يبقى ياسمينا إذ ينتفض من بين ذرات الغبار، وهل ينكر عاقل فتنة الياسمين.. غير إنه ورغما عنه يبقى بحاجة لأن يسقى كي يحتفظ ببريقه ورونقه.
إنها كبغداد التي عبث بها الأنذال في ليل بهيم.. تلك المدينة التي ولدت وترعرت بين أزقتها العتيقة، إذ تألمت ولا زالت تتألم.. تصرخ.. تستغيث.. وهناك من يبني على أوجاعها عروشا جديدة.. لتحمل ياسمين هذه المرأة الثلاثينية آلامها وتخبئها بين طيات فؤاد يتمزق.. حالها كحال الكثير من نساء بغداد اللاتي هصرْنَ تحت رحى صراعات دموية قصمت ظهورهن حين فقدن من كان يحمل عنهن أوجاعهن.. حيث تبعثرت أوراقها بعد أن فقدت من كان يصونها وكأنها لؤلؤة في محارة بين أعماق البحر، حيث تكسرت المحارة بعد أن جف ماء البحر لتتلاقف الأيادي تلك اللؤلؤة حتى أصبحت كل أسرارها مباحة في جسد أرهقته أصابعا باردة، أصابع كثيرة لا هم لها سوى العبث بالأسرار.. لتحمل كل أوجاعها في نظرات يتلظى بها كل من حاول سبر أغوارها..
إنها ليست كما يقولون.. لكن الواقع يفرض عليها أن تكون مثلما يقولون، تتهادى بصمت بين ليل وليل، والليالي كلها سواء لديها.. كل من رآها يحاول التقرب إليها ليحولها الى فريسة لنهمه، بل يتخذ منها صنما ليعبده مع بقية أوثانه، لتصبح كآلهة يذبح عند قدميها قرابينه العجاف، كي يحظى منها ببركة جسد يظنه دافئا وما هو إلا قطعة من جليد لأنها مجرد صنم.. لكنها لم تكن سوى صنم من لحم ودم ودموع.. جسد أخفت مشاعره وجمدت أحاسيسه انتقاما ممن حطم لها الرغبة في الحياة ومزق كل صورها الجميلة، لترقص كما أرادت لها الدنيا على ألحان غبية لربما يتاح لها فرصة التخلص من لعنة تصيب كل من أبى أن يرقص لها..
كيف كانت.. وكيف عاشت.. وكيف تعيش.. وأين تمضي.. و... مئات من الأسئلة لا يرغب أحد من رهبانها البحث عن إجابات لها، ولا حتى تناولها بألسنتهم التي تأبى أن تتناول اللحم إلا حين يكون غضا طريا، ربما لأنهم يعتقدون بأن مثل هذه الأسئلة سوف تقتل رغبة جامحة.. في ذبح القرابين، وشهوة جياشة في عبادة الأوثان.. وأنها لربما تعيد العقول الذاهبة التي لا يرغب في عودتها متعبد في محرابها.. بل وأنها تدمر حتى الأسرة الدافئة.. فليس مهما ما كانت وما تكون.. طالما لا زالت تستطيع جعل اللعاب يسيل وتهز الأسرة ومن عليها لتنفض الغبار حتى عن الغرائز المدفونة.. حين تصرخ ساخرة بآهات مزيفة لتشق بها صمت الليالي لتذكر الرجال بأنهم لا زالوا رجالا.. ولم يحالوا على التقاعد مع خيول الشرطة، لذا كانت كل لياليها سواء.. وكل من حولها يراها ترقص.. ويأبى أن يصدق بأنها تتراقص لقدر أعمى ودنيا لم تحظ منها إلا بالنكبات..
التفتت الى ذلك الغريب الذي يبدو بأنه كافر بدين الكهنة حولها وهو يتقدم نحوها بخطوات واثقة في غفلة من قدرها، في حفل رسمي كانت هي إحدى المدعوين إليه.. لم يشأ أن يترك يدها الممدودة إليه وهي تصافحه ليتمسك بها ويضغط عليها بقوة دون أن يشعر ودون أن تقاوم هي أيضا أو حتى تسحب يدها حين علق بنظراتها المليئة بشقاء دنيا يعرفها كما يعرف ذلك النوع من الشقاء.. لينجذب نحوها بقوة أنسته جسده المرهق من أعباء يومه والأيام التي سبقته.. لحظات قصيرة كانت كافية لأن يغوص في أعماقها حين ظن أنه استطاع ملامسة معدنها الأصيل لتبقى عالقة في ذهنه، بصورتها الحقيقية.. وصوتها الناعم الذي ظل يشجي مسامعه رغم أنها لم تتحدث معه سوى بضع كلمات كانت كافية ليصنع منها لحنا يطارده وكأنه نشيد قومي يتردد في ذهنه صباحَ مساء.. فضلا عن نظرات كانت كافية لتؤرقه وتذيقه مرارة الشوق..
استيقظ فجأة لما ظن أنها لحظات سحرية ليترك يدها معتذرا عما يمكن أن يكون قد سببه لها من إحراج حين تمسك بها بقوة، لتتراقص ابتسامة خجولة على وجهها وهي تقدم له باقة من الورد كانت قد جلبتها لإحدى صديقاتها.. استعجب من تصاريف الدهر إذ دفع له بتلك الباقة بين يديه حين أهدته إياها بصورة مفاجئة، ليقبلها على مضض حيث لم يجد لتلك الباقة أي أهمية خصوصا وأنه يعلم بأنها لم تكن قد جلبتها له أساسا.. فلم يهتم لها حين خطفها أحد اصدقائه من بين يديه أو هو من تخلى عنها..
لحظات اللقاء انتهت على عجل كما تمضي أي لحظة جميلة دون أن نشعر بجمالها إلا بعد أن تنتهي.. تمنى أن يطلب منها موعدا ليلتقي بها مجددا.. لكنه خشي أن تفهم رغبته هذه على إنها مجرد دعوة راهب لمعبد وثني.. كما لم يمتلك الجرأة الكافية لإعلان رغبته الحقيقية التي ارتعش لها جسده وخفق لها فؤاده حين تسللت بين خبايا روحه دون إرادة منه.. فلم تكن بينهما سوى لحظات من حلم جميل، استفاق بعدها على مرارة الواقع ليستسلم لحرقة الشوق وأرق الليالي.
كيف كانت.. وكيف عاشت.. وكيف تعيش.. وأين تمضي.. و... مئات من الأسئلة التي لا يرغب أحد من رهبانها طرحها أو البحث عن إجابات لها، لكن ثمة رغبة جامحة دفعته لسبر أغوارها، والبحث عن أجوبة شافية لتلك الأسئلة.. والبحث فيها عنها وعن هويتها الحقيقة، غير تلك الزائفة التي تظهر بها أمام جميع مريديها، بل وأمامه أيضا، فقد كانت ترغب بشدة في أن يكون أحد مريديها ويؤمن بما يدين به رهبانها لتمنحه بلا مقابل جسدا طريا ودافئا بعد أن عادت الدماء تجري في عروقه غير ذلك الجسد البارد الذي كانت تمنحه لبقية الرهبان، لكنه أبى إلا أن يبقى على كفره، فهو لا يرغب أن يكون راهبا بقدر ما يتمنى أن يكون عاشقا، فاختفت من حياته لتختبر مدى صبره على الفراق، لكنها لم تطق صبرا على فراقه، فهو لم يكن راهبا كما إنها من لحم ودم، فعادت مرة أخرى لتظهر مجددا في حياته لتذكره بتلك الباقة من الورد والتي كان قد تخلى عنها بإرادته.. فقد كان متأكدا بأنها لم تكن له.. ليكتشف أخيرا إنها ليست كما يقولون.. لكن الواقع فرض عليها أن تكون مثلما يقولون..
#جليل_إبراهيم_المندلاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟