جليل إبراهيم المندلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8295 - 2025 / 3 / 28 - 08:14
المحور:
الادب والفن
بجرأة لم يعهدها لدى كثير من نساء الشرق أقبلت نحوه بخطوات رشيقة وهادئة، واثقة وكأنها سلطانة المماليك لتقف أمامه بأنفة وشموخ حتى بدا وكأنه أحد رعاياها، إذ أوردتها السبل الى محل عمله من أجل قضاء أمر يخصها.. كان مشغولا بالكثير من الأوراق المبعثرة على سطح منضدة من الحديد توسطت غرفة صغيرة داخل مبنى قديم لإحدى الدوائر الحكومية في العاصمة بغداد والتي تعج بالمراجعين على مدى ساعات الدوام الرسمية التي لا تنتهي حتى تخور قواه ويفتر نشاطه، فمن النادر أن تخلو غرفته من مراجعين اثنين أو ثلاث إن لم يكونوا أكثر من ذلك، لكن أن تخلو الغرفة نهائيا فهذا ضرب من الخيال، فظن بأنه يعيش لحظات من الخيال حين رآها تقف لوحدها بمواجهته بابتسامة ساحرة أربكت مشاعره وشتت ذهنه، ليلتفت يمينا وشمالا لربما يكون متوهما، لكنها كانت لوحدها..
دوى صوت انفجار بعيد اهتزت له النوافذ وارتجت منه بعض الستائر لكنه لم يهز له جفن وهو يراقب ابتسامتها تختفي من ملامحها شيئا فشيئا، ويشعر بأن كبرياءها يكاد أن ينزوي تحت أقنعة الخوف، لكنه لم يجري فزعا كعادته ليستفهم عن موقع الانفجار ويتقصى أنباؤه كما دأب في السابق مع كل انفجار يحدث في مدينته وهي كثيرة خصوصا في مواسم الأعياد.. بل نهض هذه المرة كالمجنون من كرسيه وكأنه خائف عليها من شظايا الزجاج المتطاير من النوافذ ليشير إليها بالجلوس بعيدا عن النافذة، ورغم ذلك لم يكن هناك أي زجاج متكسر فيبدو إن الانفجار هذه المرة لم يكن دويه مؤثرا على النوافذ، فكل ما تكسر في هذه الغرفة كان جفونها فقط، فبعد أن كانت تبدو مثل وردة تداعبها نسمات عليلة من الريح حتى يتراءى للناظر بأنها ترقص فرحا بالحياة، أصبحت كغصن كسير تلقفته ذراع النهر حتى ألقته وسط أحشاء المياه ليطفو بعيدا حيث بحر هائج بانتظاره..
حاول تهدئة روعها وهو يقدم لها قدحا من الماء البارد لتبلل ريقها الذي كاد يجف هلعا، وما هي إلا دقائق حتى استعادت رونقها من جديد وكأن الحياة تدب فيها مرة أخرى، فلحظات الخوف لا يمكن أن تستمر إذا ما هجم الخوف بنفس الرداء الذي يرتديه في كل مرة، فلم يكن هذا الانفجار الأول الذي تسمعه أو تشهده كما لن يكون الأخير، فعلام الخوف.. لكن، هل يجن الإنسان من النظرة الأولى، وأية نظرة هذه التي تثير فيه كل هذا الجنون.. نظرة لجسد ممتلئ مفعم بالحيوية، ونهدين بارزين زادا شموخها رفعة، فرائحة الأنوثة هذه تكفي لإيقاظ غرائزه التي كادت تأوي الى سبات عميق، لتشده نحوها دون أن تحرك ساكنا لتحل عليه لعناتها، كما حلت اللعنات على مدينته الغافية بين ذراعي دجلة والفرات، والتي كانت تعيش تحت سياط جلاد واحد بصمت، فتبكي بصمت، وتنزف بصمت، حتى حانت ساعة اليقظة.. ساعة واحدة لتعود بعدها الى صمتها، فقد هرب الجلاد من ساحات المواجهة في أول اختبار حقيقي لسطوته وجبروته، هرب ليكشف عن زيف قوته.. وبزغ فجر جديد، لكنه فجر لم يستمر سوى ساعة واحدة فحسب، ليهرب جلاد ويقبل جلادون ليسوا أقل دناءة ممن سبقهم، ليعبثوا بصمت بغداد، ويبعثروا دماء نزيفها الذي أضحى مزمنا، فقنبلة هنا، وانفجار هناك، وقتال يدور من شارع لآخر، حتى لم يعد هناك شارع، فعلام الخوف.. إنه عصر جديد يتجلى من بين أنياب قذرة أتت مع من أتى فوق حاملات ضخمة للطائرات وهي تشق عباب البحار والمحيطات لتحط أخيرا بين ذراعي دجلة والفرات.
لم يكن يرغب في معرفة سبب زيارتها، فلم يسألها عن أي شيء بشأنها، ربما شعر بأن هذه الطريقة مفيدة لكي يطيل من أمد بقائها، فحاول جاهدا المماطلة في الحديث عبر الدخول في مواضيع ليست ذا أهمية، فكانت تستمع له فحسب وقد حاولت عدم الانجرار الى حيله التي قد توقعها في حبائله، لكنها فشلت،، وحاولت التغطية على فشلها بضحكة حبستها في أعماقها لتطلق العنان لغرور يستمد قوته من جمالها، في حين كان هو يحاول الارتواء من سحر أنوثتها ليملأ كأسه الفارغ من العشق متحديا غرورها مبررا له بأنه من مقتنيات الجمال .
لم يكن لها سوى أن تنجر معه في حديث مسهب وطويل لتعلن سقوطها في الفخ الذي نصبه لها، فتحدثا في كثير من الأمور.. في لحظات تمضي غير آبهة بهما، بل وتأبى أن يقربا من كلمات العشق.. غير إن العشق ليس كلمات فحسب، ليطغى عليه شعور في كونها أجمل اللحظات..
في ثاني إطلالة لها عليه كانت كل الأسرار مكشوفة، وكل الأغوار مسبورة.. إذ لم تكن لديه الرغبة في أن يراوغ أكثر من أجل الوصول إليها طالما لمس منها تجاوبا، فكانت اللمسة الأولى أسرع مما كان يتوقع هو نفسه..
لم تكن أقل منه انجذابا حين استسلمت له لتتذوق معه طعم تلك اللحظات.. فمن أجل رغبة الأنوثة تأبى المرأة الاحتفاظ بعرشها لتتنازل عنه لأول مملوك يستطيع تسلق كبريائها ليكسر كل أبوابها الموصدة، ثم يتسلل بين ثناياها لتصبح أخيرا كجارية له تبحث عن رضاه ليمسي أخيرا مليكا لها، لكنها تبقى مليكة..
وسرعان ما تتحول اللمسات الى نيران تتلظى لا يمكن أن تهدا حتى يتعانق الجسدان، لكنه مع ذلك كان يعرف جيدا بأن الجوى الذي يكويه مع كل نفحة من أنفاسها ليس بشيء يذكر أمام الحرائق التي تمر بها بلاده والتي لم تمنعه من الشعور حتى بنشوة الجوى حين منحته رحيقا مع نفحات العشق فضلا عن الشعور بالأمل والاطمئنان اللذان يكاد يفتقدهما.. فالتوافق بين طرفين لا يحتاج الى أكثر من كلمة طيبة وقلب صادق ليتنازل كل عن عرشه للآخر، فما بال من يتصارع من أجل عروش زائفة حتى لا يمكنه التنازل عنها، ليصبح عبدا للعرش بدلا من سيد عليه..
لم يكن بحاجة الى تفخيخ الحواجز المؤدية الى قلبها بعبوات ناسفة كي يحصل على قبلة من شفتيها.. كما لم يكن بحاجة الى تشكيل ميليشيات مسلحة لاقتحام مشاعرها والسيطرة عليها.. فها هو يملك عرشها حين شعرت بالأمان قربه..
كانت فقط تخفي عنه الكثير من ماضيها خوفا من مجهول تأبى الاقتراب منه، رغم إنه كان أيضا يكره الخوض في ذلك الماضي الذي لم يكن يحمل سوى عذابات تصرخ في نفسها لتؤرقها حتى كادت تنسيها اللحظات الجميلة.. كما إنه لا يملك سلطة على ماضيها.. لذا كان يحاول الإبحار بين خلجات ذاتها المرهقة ليحتوي حاضرها ويتخيل لها مستقبلا لا يحمل بين طياته ما يعكر صفو القلوب ويؤرقها..
لم يتوقع أن تتأخر عن موعد لها معه، رغم أنه لا يعرف إن كانت معتادة على التأخر عن مواعيدها، فهو لم يقابلها سوى مرات قليلة، ربما ثلاث مرات فقط.. حاول الاتصال بها عدة مرات، وفي كل مرة كانت تخبره بأن أعباء الحياة حالت بينها وبين لقائه، لكنها آتية لامحالة.. وهو ينتظر..
الهواجس بدأت بالتحول الى وساوس لتوخز صدره، لكنه كان يجد لها مع نفسه عشرات الأعذار ليبعد الوساوس عن التوغل كثيرا في أعماق نفسه.. غير إن شكا واحدا فحسب أوجس منه أن يدمر صرح أعذاره التي يمنّي النفس بها.. حتى اعتذرت هي أخيرا عن الحضور لتخلصه من دوامة الانتظار دون أن تعرف بأنها أدخلته في جحيم الشك الذي حاول أن يطرده من رأسه بشتى الوسائل، مستعيدا شريط اللحظات الجميلة التي قضياها معا، ومتأملا لحظات قادمة أجمل.
للمرة الخامسة.. والسابعة و.. تأخرت أيضا.. ولم يتحقق اللقاء الرابع، أيعقل بأنه لا بد أن يتدخل القدر ليعكر صفو اللحظات الجميلة.. فالأعذار أصبحت كثيرة، والتبريرات أكثر حول أسباب تأخرها، بل وعدم حضورها، فكان مجبرا على تصديقها ليبقى متربعا على عرشها.. لكنها في النهاية أعذار، ومايحمله مجرد قلب.. والقلب ليس محصنا من الشك مهما بلغ امتلاؤه بالعشق.. فهناك موت في الشوارع ودماء سالت بسبب شكوك وهواجس.. فكيف له أن يقتل ذلك الشك؟!.. وكيف له أن يتخلص من هواجسه لينجو بعشقه، أو حتى بنفسه..
كما إن الغشاوة التي تسبغها الشكوك على القلوب تعمي البصيرة فالبصر لتحجب الحقيقة التي تمنع الدمار وتصد الموت وتنشر الحياة.. فكل ما كان عليه فعله هو أن يبعد تلك الغشاوة ليكتشف أخيرا بإن كل ما يجول في صدره كان مجرد هواجس تنحر العشق على مذبح الشك.. حيث كانت أسباب غيابها مقنعة له بعد أن التقى بها مجددا، حيث حل اللقاء الرابع أخيرا بمجيئها، ثم ليرجع قلبه ينبض من جديد.. نبضات تدفع بالحياة نحو الأمام.. بعد أن تيقن بأن أعذارها كانت حقيقة، وإن كل ما كان يجول في خاطره كان مجرد هواجس.. هواجس غبية فحسب..
#جليل_إبراهيم_المندلاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟