نادر عبدالحميد
(Nadir Abdulhameed)
الحوار المتمدن-العدد: 8295 - 2025 / 3 / 28 - 02:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن ما حدث في سوريا من تقدم عسكري لـ(هيئة تحرير الشام) والسقوط السريع لنظام بشار الأسد في (٨١٢٢٠٢٤)، هو حصيلة عملية تاريخية مرت بها البلاد ومنطقة الشرق الأوسط خلال العقود الثلاثة الماضية (١٩٩٠٢٠٢٤).
هناك جانبان لهذه العملية التاريخية: داخلي وخارجي؛ أي عالمي وإقليمي.
التحولات الاقتصادية وآثارها الاجتماعية والسياسية
لقد أدت سيطرة الدولة على اقتصاد البلاد تحت اسم الاشتراكية العربية(١) خلال العقود الثلاثة من حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين إلى تطوير البنية التحتية الاقتصادية الرأسمالية للبلاد، وشهدت رأسمالية الدولة نموا كبيرا في سوريا حتى بدأت عملية تسليم القطاع العام للقطاع الخاص في التسعينيات.
مع إِنَّ القطاع الخاص كان مدعوماً من قبل الدولة في العقود السابقة، إلا إن ما أطلقه حافظ الأسد في التسعينيات من القرن العشرين، وتسارعت وتيرته على يد ابنه بشار الأسد في بداية الألفية الثانية، كان عملية تحويل القطاع العام إلى القطاع الخاص والانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية النيوليبرالية.(٢)
إن انهيار الكتلة الشرقية السوفياتية، كتلة رأسمالية الدولة، في مواجهة الكتلة الغربية، كتلة رأسمالية السوق الحرة والنيوليبرالية، أعطى زخمًا لعملية تحويل رأسمالية الدولة إلى رأسمالية النيوليبرالية في جميع دول الشرق الأوسط، بما في ذلك تركيا ومصر والعراق وسوريا، حيث تم وإن بدرجات متفاوتة، تطبيق نموذج رأسمالية الدولة.
فيما يتعلق بسوريا، فإن العواقب الاجتماعية للتخلي عن رأسمالية الدولة، وتنفيذ السياسات الاقتصادية النيوليبرالية على مدى عقدين من الزمن، من بداية تسعينيات القرن الماضي إلى نهاية العقد الأول من الألفية الثانية (١٩٩٠ - ٢٠١٠) أدت إلى ظهور العديد من الشركات والمشاريع الاقتصادية واحتكار الأسواق من قبل الرأسماليين ورجال الأعمال المقربين من أسرة الأسد ومن السلطة، وانتشر الفساد والرشوة والطائفية في كل مفاصل الحياة ومؤسسات الدولة، وفي المقابل تَمَرْكَزَت الجماهير الكادحة في الأحياء الفقيرة في أطراف وهوامش المدن الكبرى، وظهرت العشوائيات وتنامى الفقر والبطالة، في ظل ظروف معيشية صعبة ونقص في الخدمات الضرورية للحياة اليومية.(٢)(٣)
هكذا أصبح المجتمع أكثر استقطابا من الناحية الطبقية. فمن جهة ظهرت أقلية من محتكري السوق الأثرياء المدعومين من السلطة السياسية، ومن جهة أخرى نشأت وتوسعت كتلة بشرية كبيرة من العمال والكادحين والشرائح المفقرة والمنكوبة في المجتمع، الذين تراقبهم وتتبعهم الأجهزة الأمنية التابعة للنظام ورجاله، بسبب استيائهم واحتجاجهم على بؤس حياتهم ضد السلطات الحاكمة، ومن هنا يتعرضون بصورة مداومة للمضايقة والملاحقة والاعتقال والتعذيب.
ولا ننسى أن دكتاتورية الدولة والمؤسسات القمعية للنظام السياسي، سَلَبَت من المواطنين الحرية الفكرية والسياسية والتنظيمية، ما أتاح المجال لدمج الاستياء الاجتماعي والطبقي للعمال والكادحين والشرائح المفقرة مع الاحتجاج الفكري والسياسي للمثقفين والحركات الفكرية السياسية المعارضة، في جَوٍّ من اِشتِداد الصراعات الجيو-السياسية بين الكتل الإمبريالية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط.
هذا في حين أن الجبهة الوطنية التقدمية التي أسسها حزب البعث في سوريا عام (١٩٧٢) وقادها إلى حين حلها رسميًا في (٢٩) كانون الثاني (٢٠٢٥) بعد سقوط بشار الأسد، كانت تتألف من عشرة أحزاب، أسماء معظمها تتضمن كلمة "اشتراكية" أو "شيوعية". مثلت هذه الجبهة، ظاهريًا ومن حيث الشكل، ديمقراطية التعددية الحزبية، لكن في الواقع، في غياب حرية أحزاب المعارضة، تجسد جوهرها في إضفاء الشرعية على الحكم الاستبدادي للدولة القومية العروبية العلمانية، وإن كانت تبدو معادية للإمبريالية والصهيونية.
لذلك ليس من المستغرب أن تكون الحركات السياسية التي أصبحت معارضة لهذا النوع من التشكيلة السياسية وهيكلية السلطة السياسية في سوريا هي الحركات الرجعية للإسلام السياسي المدعومة من قبل الدول الإمبريالية الغربية وتركيا وبعض دول الخليج العربي، والمعادية للعلمانية والاشتراكية وحرية المرأة، وأي شكل من أشكال ومظاهر تقدمية سواء كانت اجتماعية أو سياسية فكرية.
تمكنت هذه الحركات الإسلامية من الهيمنة على السخط الاجتماعي والاحتجاجات الجماهيرية، لذلك عندما بدأت الجماهير الكادحة والمُضْطَهَدة في سوريا بحركة ثورية في بداية عام (٢٠١١) مع ثورات شمال أفريقيا، سرعان ما استغلتها هذه الحركات وحولتها إلى حرب داخلية دامية، رجعية ومدمرة في سوريا، وحولت البلاد إلى ساحة للصراعات الجيوسياسية بين القِوى الإمبريالية العالمية؛ أمريكا وأوروبا وروسيا وبشكل غير مباشر الصين، والقوى الإقليمية؛ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تركيا، إسرائيل والمملكة العربية السعودية ودول الخليج.
نتجت عن الحرب الأهلية والصراع الجيو-السياسي بين القِوى العالمية والإقليمية من آذار/مارس (٢٠١١) إلى ديسمبر/كانون الأول (٢٠٢٤)، إضافةً إلى تدمير البنية الاقتصادية وانحلال النسيج الاجتماعي للمجتمع المدني السوري، سقوط نظام الأسد ومعه هزيمة الإمبريالية الروسية والجمهورية الإسلامية الإيرانية في سوريا، وصعود حركة الإسلام السياسي إلى السلطة بدعم عسكري ولوجستي من الدولة التركية وبمباركة الدول الإمبريالية الغربية، وفي الحصيلة النهائية وبسقوط النظام تغيرت خارطة القِوى السياسية والاجتماعية، وموازين القِوى المحلية والدولية.
ومن الجدير بالذكر أن وسائل الإعلام الليبرالية التابعة للدول الإمبريالية والبرجوازية الرجعية في دول الشرق الأوسط، بما في ذلك أعلام المعارضة، لا تسلط الضوء إلا على مظاهر الدكتاتورية والفساد في النظام السوري، وكأن المشكلة تكمن فقط بين نظام الأسد الدكتاتوري القائم على القمع القومي والطائفي وبين الجماهير المحتجة والمعترضة التي تطالب بالديمقراطية! ولا تكمن في النظام السياسي الطبقي والإقتصادي النيوليبرالي، وهي تخفي عمداً وعن قصد حقيقة وجود نظام اقتصادي رأسمالي وصراعات اجتماعية وقمع طبقي عند تناولها للتغيرات والأحداث التي جرت وتجري في البلاد.
كان النظام السابق في مراحله الأولى وبـتـبـنـيه رأسمالية الدولة وسياسة التشغيل المركزي، يقوم بتوفير فرص العمل ومجانية التعليم والصحة مع دعم السلع والبضائع الضرورية للاستهلاك اليومي، هكذا أرسى البنية التحتية لاقتصاد البلاد مترافقا مع قمعه السياسي الشديد. أما في مرحلته الثانية فقد تخلى عن هذه السياسة الاقتصادية وتمسك فقط بالاستبداد.(٢)(٣)
إن دكتاتورية النظام في هذه المرحلة الثانية، ومع إنها تبدو ظاهريا امتدادا للمرحلة السابقة، إلا إنها جوهرها تغير وأصبح يستند إلى قاعدة اقتصادية أخرى وهي النيوليبرالية. لذا فإن مأساة الجماهير في سوريا وخاصة في الربع الأول من الألفية الثانية (٢٠٠٠٢٠٢٤) هي حصيلة تطبيق النهج الرأسمالي النيوليبرالي باشتداده الفقر والبطالة والتهميش علاوة على حاجته إلى الإستمرار في ممارسة القمع السياسي وفرض الظلم القومي على الأكراد والطائفة الدرزية و ... إلخ.
الحركات السياسية المحلية والتصدي لميليشيات الإسلام السياسي
أن هزيمة الحركة الاحتجاجية الثورية للجماهير السورية وسيطرة الحركات المضادة للثورة والمتمثلة في الإسلام السياسي، قد دمرت أرضية اِلْتِحام جماهير العمال والكادحين في المناطق الكردية في شمال وشرق سوريا، (روج آفا، كوردستان سوريا)، وكذلك أمام العمال والكادحين في جنوب البلاد في المناطق التي يسكنها الدروز، كي يصبحوا جزءاً من حركة اجتماعية سياسية ثورية شاملة ضد السلطة المركزية، ليربط مصيرهم بمصير الجماهير الثورية والمنتفضة على صعيد البلاد.
ومن هنا، وفي ظل ضعف الحكومة المركزية وعدم تشكيل هذه الحركة الثورية للعمال والكادحين على صعيد البلاد، والخوف من الحركات الإسلامية السياسية عمومًا ونموذجها الفاشي أي (داعش) بشكل خاص، تمكنت القوى المنظمة سياسياً في هاتين المنطقتين، أي حزب اليسار القومي البرجوازي الكوردي (حزب الإتحاد الديمقراطي-(PYD) (٤) والحزب الدرزي الطائفي البرجوازي (حزب اللواء السوري)،(٥) من تنظيم الجماهير وتشكيل ميليشيات مسلحة للدفاع عن هذه المناطق ومنعها من الوقوع في أيدي ميليشيات الإسلام السياسي، وبالتالي تمكنت من إنشاء كيانها السياسي والإداري، أي (الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا) و الإدارة المحلية للمناطق الدرزية في جنوب سوريا، وذلك في مواجهة الثورة المضادة للميليشيات الإسلامية السياسية ومِلء فراغ السلطة المركزية لنظام بشار الأسد والآن في المرحلة الإنتقالية قبل تثبيت نظام أحمد شرع.
من الواضح أن هاتين القوتين المحليتين في سوريا مختلفتان للغاية، سواء من حيث محتواهما الفكري والسياسي أو من حيث طريقة حكمهما لمنطقتيهما، ولن نناقش هذا الأمر هنا.
ما نود الإشارة إليه هو أن هاتين الحركتين، بسبب محتواهما الطبقي وبنيتهما الاجتماعية السياسية، المنبثقة من الحركة القومية والطائفية، لم تكونا قط ولا يمكنهما أن تصبحا جزءاً عضوياً من حركة طبقية ثورية لجماهير العمال والكادحين على صعيد البلاد، ومن ثم فإن مصير جماهير العمال والكادحين في كوردستان سورية وفي المناطق الدرزية يرتبط بمساومة كل من حركة البرجوازية القومية اليسارية الكردية وحركة البرجوازية الطائفية الدرزية مع النظام السوري الذي نشأ حديثا.
ومن ثم، فإن مصير جماهير العمال والكادحين في كوردستان السورية وفي المناطق الدرزية مرتبط بمساومة كل من الحركة البرجوازية القومية اليسارية الكوردية والحركة البرجوازية الطائفية الدرزية مع النظام السوري الناشئ حديثًا.
وأخيرًا، مع سقوط نظام الأسد، فُتِح باب أوسع لتدخل القِوى الإمبريالية العالمية والقِوى الإقليمية في سوريا، وهذا يعني أن القِوى الإمبريالية الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، والقِوى الإقليمية، في الصراعات الجيوسياسية تحتاج إلى التعاون مع هذه القِوى والكيانات السياسية المحلية سواء بشكل مؤقت أو استراتيجي لتحقيق مصالحها، وبناء على ذلك فإن بقاء هذا القِوى وبقاء كياناتها السياسية والإدارية يعتمد على صراع إقليمي وعالمي أوسع بين تلك القِوى، ويعتمد أيضا على مدى سرعة استقرار السلطة السياسية المركزية.
إن ما يغيب عن النضالات السياسية والاجتماعية في سورية هو الحركة العمالية والشيوعية كقوة طبقية منظمة
-.---.---.---
1. جاء في الدستور [أن نظام سورية الاقتصادي هو نظام اشتراكي].
2. كمال ديب: [(الحرب السورية، تاريخ سورية المعاصر (1970 – 2015)]، وهو الجزء الثالث من تاريخ سورية السياسي والاقتصادي ويغطي المرحلة منذ بداية سبعينات القرن العشرين حتى عام 2015. أنظر الفصل الحادي عشر (الاقتصاد السوري حتى العام ٢٠٠٠) صفحات (٣٠٩٣٢٧).
3. حقائق عن الاقتصاد السوري في 53 عاما | سكاي نيوز عربية
4. https://pydrojava.org/
5. حراك السويداء: هل يتّجه دروز سوريا لحكم ذاتيّ؟ - ASAS Media
#نادر_عبدالحميد (هاشتاغ)
Nadir_Abdulhameed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟