أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَحَدِّيَات الْعَوْلَمَة















المزيد.....



الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَحَدِّيَات الْعَوْلَمَة


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8294 - 2025 / 3 / 27 - 14:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ مَفْهُومُ الْعَوْلَمَة

مِنْ النَّاحِيَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ، يُمْكِنُ النَّظَرُ إلَى الْعَوْلَمَة "Globalization" عَلَى أَنَّهَا إسْتِمْرَار لِعَمَلِيَّة تَطَوُّرِ البَشَرِيَّةِ نَحْوَ تَحْقِيقِ أَهْدَاف أَكْبَر وَأَوْسَع، مُتَجَاوِزَة الْحُدُود التَّقْلِيدِيَّة لِلدَّوْلَة الْقَوْمِيَّة. فَالْعَوْلُمَة تَعْكِسُ رُؤْيَة لِتَشْكِيل عَالِم أَكْثَر تَرَابطا وَتَكَامَلَأ عَلَى الْمُسْتَوَى السِّيَاسِيّ وَالِإقْتِصَادِيّ وَ الثَّقَافِيّ. هُنَاكَ الْعَدِيدِ مِنَ الْمُنْظَرِينَ الْفَلْسَفَيين الَّذِينَ تَنَاوَلُوا مَفْهُوم الْعَوْلَمَة وَأَبْعَادَهَا. فَالْفَيْلَسُوف الْأَلْمَانِيُّ يُورَغن هَابَرْمَاس يَرَى أَنَّ الْعَوْلَمَة تَعْنِي زَوَالِ الْحُدُودِ الْجُغْرَافِيَّة وَ تَنَامِي التَّرَابُطَ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَالثَّقَافَات، حَيْثُ أَصْبَحَ الْعَالِم قَرْيَة كَوْنِيَّة وَاحِدَةً. أَمَّا الْفَيْلَسُوف الْفَرَنْسِيّ جَاكُ دِرِيدَا فَقَدْ إنْتَقَدَ مَفْهُوم الْعَوْلَمَة بِإعْتِبَارِه يَعْكِس سَيْطَرَة الثَّقَافَة الْغَرْبِيَّة وَ قِيَمِهَا عَلَى بَاقِي الثَّقَافَات وَالمُجْتَمَعَات. فَدِريدا يَرَى أَنَّ الْعَوْلَمَة تَمَثَّل هَيْمَنَة النَّمُوذَج الْأَمْرِيكِيّ عَلَى الْعَالِمِ، وَتُؤَدِّي إلَى مَحْوِ الْخُصُوصِيَّاتِ الثَّقَافِيَّة الْمَحَلِّيَّةِ. فِي الْمُقَابِلِ، يَرَى بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الْعَوْلَمَة تَمَثَّل فُرْصَة لِتَحْقِيق التَّفَاهُم وَالتَّعَايش بَيْنَ الشُّعُوبِ وَ الثَّقَافَات الْمُخْتَلِفَة. فَالْفَيْلَسُوف الْأَمْرِيكِيّ رِيتَشَارِد رُورْتِّي Richard Rorty يُؤَكِّدُ عَلَى إِمْكَانِيَّة بِنَاء هَوِيِّة إِنْسَانِيَّة كَوْنِيَّة عَابِرَة لِلْحُدُود الْقَوْمِيَّة وَ الْهُوِيَّة الثَّقَافِيَّة التَّقْلِيدِيَّة. وَ عُمُومًا، فَإِنْ النَّقَّاش الْفَلْسَفِيّ حَوْل الْعَوْلَمَة يَدُورُ حَوْلَ مَدَى إِمْكَانِيَّة تَحْقِيقِ التَّوَازُنِ بَيْنَ الْخُصُوصِيَّة الثَّقَافِيَّة وَ الْهُوِيَّة الْمَحَلِّيَّةَ مِنْ جِهَةِ، وَالِإنْفِتَاح وَالتَّفَاعُل الْكَوْنِيِّ مِنْ جِهَةِ أُخْرَى. فَالْعَوْلَمَة تَطْرَحُ تَحَدِّيَات فَكَرْيَّة وَ فَلْسَفِيَّة حَوْلَ مُسْتَقْبِل الْهِوَيَات الثَّقَافِيَّة وَ القَوْمِيَّة فِي ظِلِّ عَالَم مُتَزَايِد التَّرَابُط وَالتَّكَامُل. إنْ الْعَوْلَمَة هِيَ ظَاهِرَةٌ مُعَقَّدَة وَ مُتَعَدِّدَة الْجَوَانِب تَشْمَل التَّكَامُل وَالتَّرَابُط الْمُتَزَايِد بَيْنَ مُخْتَلِفِ دُوَلِ الْعَالَمِ وَ شُعُوبِهَا عَلَى الْمُسْتَوَيَات الِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّة وَالثَّقَافِيَّة. عَلَى الْمُسْتَوَى الِإقْتِصَادِيّ، تَتَمَثَّل الْعَوْلَمَة فِي تَحْرِيرِ التِّجَارَة الدَّوْلِيَّة وَتَسْهِيل إنْتِقَال رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَع وَالْخَدَمَات عَبَّر الْحُدُود الْوَطَنِيَّة، مِمَّا أَدَّى إلَى تَزَايُدِ الِإعْتِمَاد الْمُتَبَادَل بَيْن الِإقْتِصَادَات الْوَطَنِيَّةِ وَظُهُور سُوق عَالَمِيَّة مُوَحَّدَة. وَتَشْمَلُ أَيْضًا إنْتِشَار الشَّرِكَات مُتَعَدِّدَة الْجِنْسَيْات وَاَلَّتِي تُنْتِج وَ تُسَوَّق مُنْتَجَاتِهَا عَلَى نِطَاقٍ عَالِمِي، وَ تَقَليص دُورٌ الدُّوَلِ فِي تَنْظِيمِ الِإقْتِصَاد وَالِإعْتِمَاد بِشَكْلٍ أكْبَرَ عَلَى آلِيَات السُّوقِ. عَلَى الْمُسْتَوَى السِّيَاسِيّ، أَدَّتْ الْعَوْلَمَة إِلَى تَقْلِيصِ دَوْرِ الدَّوْلَة الْقَوْمِيَّة وَظُهُور مُؤَسَّسَات وَتَنْظِيمَات عَالَمِيَّة مِثْل الْمُنَظَّمَاتِ الدَّوْلِيَّةِ وَالِإتِّفَاقِيَّات الدَّوْلِيَّةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ عَلَى السِّيَاسَات الدَّاخِلِيَّة لِلدُّوَل. كَمَا أَدَّتْ إلَى زِيَادَةِ حَرَكَة الْأَفْرَادِ وَ الْجَمَاعَاتِ عَبَّر الْحُدُود الْوَطَنِيَّة وَ ظُهُور قَضَايَا عَابِرَة لِلدُّوَل مِثْلُ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ وَالْبِيئَة. عَلَى الْمُسْتَوَى الثَّقَافِيّ، تَتَجَلَّى الْعَوْلَمَة فِي إنْتِشَارِ الثَّقَافَة الشَّعْبِيَّة وَالْأَنْمَاط الِإسْتِهْلَاكِيَّة عَلَى مُسْتَوَى الْعَالَمِ، وَتَزَايُد التَّفَاعُل وَالتَّبَادُل الثَّقَافِيِّ بَيْنَ شُعُوبِ الْعَالَمِ. إلَّا أَنَّهَا أَيْضًا تَوَاجَه مَخَاوِفَ مِنْ هَيْمَنَة الثَّقَافَات الْغَرْبِيَّة وَ تَهْدِيد الهُوِيَّات الثَّقَافِيَّة الْمَحَلِّيَّةِ. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ جُذُور الْعَوْلَمَة تَعُودُ إلَى عُصُورِ سَابِقة، إلَّا أَنْ وَتِيرَتَهُا وَ حِدَتَهَا تَسَارعت بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي الْعُقُودِ الْأَخِيرَةِ نَتِيجَة التَّطَوُّرَات التِّكْنُولُوجِيَّة فِي مَجَالَاتِ الِإتِّصَالَاتِ وَ الْمُوَاصَلَاتِ، وَاَلَّتِي قَلَّلْت مِنْ أَهَمِّيَّةِ الْحُدُود الْجُغْرَافِيَّة وَ سَهُلَتْ إنْتِقَال السِّلَع وَالْأَشْخَاص وَ الْأَفْكَار. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْعَوْلَمَة هِيَ ظَاهِرَةٌ مُتَعَدِّدَة الْأبْعَاد تَمَسُّ جَمِيعَ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُعَاصِرَة، وَ تَحْمِلُ فِي طَيَاتها فُرَصًا وَ تَحَدِّيَات عَلَى مُخْتَلِفِ الْمُسْتَوَيَاتِ الِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّة وَالثَّقَافِيَّة. وَ تُوَاجِه الدُّوَل وَ المُجْتَمَعَات ضَرُورَة التَّكَيُّف مَعَ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ وَالِإسْتِفَادَةِ مِنْ فُرْصَها مَعَ التَّصَدِّي لِمَخَاطَرَهَا. نَسْتَخْلِص أَنْ الْعَوْلَمَة هِيَ ظَاهِرَةٌ مُعَقَّدَة تَتَدَاخَلُ فِيهَا عَوَامِلُ إقْتِصَادِيَّة وَسِيَاسِيَّة وَ ثَقَافِيَّة وَ إجْتِمَاعِيَّة، فَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا أَوْ تَنَاوَلَهَا مَنْ زَاوِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ. مِنْ الْمَنْظُور الْفَلْسَفِيّ، يُنْظَرُ إلَى الْعَوْلَمَة كَظَاهِرَة لَهَا جَوَانِبَ إِيجَابِيَّةً وَ سَلْبِيَّة، وَ تُثِير جَدَلًا حَوْل مَفَاهِيم الْهُوِيَّة وَ الثَّقَافَة وَالسِّيَادَة الْوَطَنِيَّة. تُعْرَفُ الْعَوْلَمَة فِي الْمَعْنَى الْفَلْسَفِيّ بِأَنَّهَا عَمَلِيَّة تَقْلِيص وَ تَقْرِيب الْمَسَافَات بَيْنَ مُخْتَلِفِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ، وَ تَزَايُد التَّرَابُط وَالتَّفَاعُل بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالمُجْتَمَعَات عَلَى الصَّعِيدِ الْكَوْنِيّ. هَذَا التَّعْرِيفِ يُشِيرُ إلَى أَنْ الْعَوْلَمَة هِي تَحَوَّل نَوْعَيْ فِي طَبِيعَةِ الْعَلَاقَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ وَ الثَّقَافِيَّة بِحَيْث أَصْبَحْتُ أَكْثَرَ إنْفِتَاحًا وَ تَكَامَلَأ عَلَى الْمُسْتَوَى الْعَالَمِيّ. مِنْ وَجْهَة النَّظَر الْفَلْسَفِيَّة، يَنْظُر الْبَعْضِ إلَى الْعَوْلَمَة بِإِيجَابِيَة بِإعْتِبَارِهَا تَعَزُّز قَيِّم الْحُرِّيَّةِ وَالدِّيمُقْرَاطِيَّةِ وَ التَّسَامُح، وَ تُفْضِي إلَى تَقْرِيب الشُّعُوب وَتَبَادُل الثَّقَافَات وَ الْأَفْكَار. فَهِي تُتِيح الْفُرْصَة لِإنْتِشَار الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَالَمِيَّة كَحُقُوق الْإِنْسَان وَ الْعَدَالَة الِإجْتِمَاعِيَّة. وَيُنْظَرُ إلَى الْعَوْلَمَة مِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ عَلَى أَنَّهَا تَجْسِيد لِمَفْهُوم "الْقَرْيَة الْكَوْنِيَّة" الَّذِي يُؤَكِّدُ عَلَى وَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّة وَتَشَابُكًهَا. فِي الْمُقَابِلِ، يَنْتَقِدْ آخَرُون الْعَوْلَمَة بِإعْتِبَارِهَا تَهْدِيدًا لِلَّهِوَيَات الثَّقَافِيَّة الْمَحَلِّيَّة وَ التَّنَوُّع الثَّقَافِيّ، وَتَعْزِيزِا لِلَّهِيَمْنَة الثَّقَافِيَّة الْغَرْبِيَّة وَخَاصَّة الأَمْرِيكِيَّة. فَهِيَ مِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ تُؤَدِّي إلَى "أَمْرَكَة" الْعَالَم وَ فَرْض نَمُوذَج ثَقَافِيّ وَاحِدٍ، مِمَّا يُهَدَّد الْخُصُوصِيَّات الثَّقَافِيَّة لِلشُّعُوب. كَمَا يَنْظُرُ الْبَعْضِ إلَى الْعَوْلَمَة عَلَى أَنَّهَا تُمَثِّلُ تَهْدِيدًا لِمَفْهُوم السِّيَادَة الْوَطَنِيَّة، وَتُؤَدِّي إلَى إضْعَاف دُور الدَّوْلَة الْقَوْمِيَّة وَقُدْرَتِهَا عَلَى إتِّخَاذِ الْقَرَارَات الْمُسْتَقِلَّة. مِمَّا سَبَقَ، يَتَّضِحُ أَنَّ الْعَوْلَمَة مِنْ الْمَنْظُور الْفَلْسَفِيّ هِيَ ظَاهِرَةٌ مُتَعَدِّدَة الْأَوْجَه تُثِير جَدَلًا حَوْل مَسَائِل الْهُوِيَّة وَالثَّقَافَة وَالسِّيَادَة السِّيَاسِيَّة. فَهِي تَحْمِلُ فِي طَيَاتها إِمْكَانَات إِيجَابِيَّة مِنْ حَيْثُ تَعْزِيز التَّوَاصُل وَ التَّفَاعُل الْعَالَمِيّ، لَكِنَّهَا فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ تُثِير مَخَاوِف بِشَأْن هَيْمَنَة الثَّقَافَة الْغَرْبِيَّة وَتَهْدِيد الْخُصُوصِيَّات الثَّقَافِيَّة الْمَحَلِّيَّة. وَهَذَا مَا يَجْعَلُ مُنَاقَشَة الْعَوْلَمَة عَلَى الْمُسْتَوَى الْفَلْسَفِيّ مَوْضُوعًا جَدَلِيًّا وَ مُعَقدا خُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإشْكَالٍيَة الْعِلْمُ وَ الْأَخْلَاق وَإِنْعاسات الْعَوْلَمَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَجَالِين الْحَيَوِيِّين.

_ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي عَصْرِ الْعَوْلَمَة

الْعَوْلَمَةِ هِيَ ظَاهِرَةٌ كَوْنِيَّة نَتَجَتْ عَنْ التَّقَدُّمِ الْعِلْمِيِّ وَالتِّقْنِيِّ فِي مَجَالَاتِ الْمَعْلُومَاتِيَّة وَالِإتِّصَالُ وَالْإِعْلَام، وَالتَّطَوُّر فِي الْإِنْتَاجِ الِإقْتِصَادِيّ وَإزْدِهَار التِّجَارَةِ الْعَالَمِيَّةِ. هَذِه التَّطَوُّرَات أَدَّتْ إلَى تَغَيُّرَات وَاسِعَةً فِي شَبَكَةٍ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ سُكَّان الْمَعْمُورَة، وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ وَذَاتُه، وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالتَّارِيخ وَ الطَّبِيعَة وَالْكَوْن، وَبَيْنَ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ. كَمَا نَجَمَ عَنْ الْعَوْلَمَة ظُهُور مَفَاهِيم جَدِيدَة مُتَدَاوَلَة حَوْلَ الْإِنْسَانِ وَالْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْفَرْد وَالْمُجْتَمَع وَ الْهُوِيَّة وَالسَّلَطَةِ وَ الِإقْتِصَاد وَالسِّيَاسَة وَالثَّقَافَة وَالْأَخْلَاقُ وَالدِّينُ وَالْعِلْمُ. هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ الْجَدِيدَةِ أَصْبَحْت مَحَطّ صِرَاع وَجَدَل بَيْنَ الْخُصُومِ وَالأَنْصَار، بَيْن الْمُؤَيَّدِين وَالرَّافِضِين لِلْعَوْلَمَة. بِالنِّسْبَة لِلْعِلْم، فَقَدْ شَهِدَ تَطَوُّرًا هَائِلًا فِي عَصْرِ الْعَوْلَمَة نَتِيجَة الِإنْفِتَاح المَعْرِفِيّ وَالتِّكْنُولُوجِيّ الْعَالَمِيّ. أَصْبَحْت الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَ تَبَادُلِهَا أَكْثَرُ سُرْعَة وَإنْتِشَارًا بَيْنَ مُخْتَلِفِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ. وَ سَاهَمَتْ الْعَوْلَمَة فِي إِتَاحَةِ الْمَوَارِد وَالْأَمْكِانَات اللَّازِمَةِ لِلْبَحْث الْعِلْمِيّ، وَتَعْزِيز التَّعَاوُنِ الدَّوْليِّ فِي الْمَجَالَاتِ الْعِلْمِيَّة. وَمَعَ ذَلِكَ، هُنَاكَ جَدَلٌ حَوْلَ تَأْثِير الْعَوْلَمَة عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ. فَالْأَخْلَاق الَّتِي يُرَكِّز عَلَيْهَا النِّظَامُ الْعَالَمِيّ الرَّاهِن وَتَسْتَنِد إلَيْهَا الْعَوْلَمَة ـ كَمَا تَرُوج لَهَا الَّأمْرَكَة الصِّهْيَوْنِيَّةُ ـ تَنْبُذُ الْآخَرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالتِّكْنُولُوجِيّ. فَهَذِهِ الْأَخْلَاق تَتَّسِم بِالْمَادَّيَّة الطَّاغِيَة وَتَنْطَلِق مِنْ فَلْسَفَةِ إلْحَادِيَة عِلْمَانِيَّة، لَا تَعْرَفُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ بِالدَّيْن و الْمُثُلِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. وَتَتَمَيَّز هَذِهِ الْأَخْلَاقِ بِتَصَوُّرَات عُنْصُرِيَّة بِغَيْضَة، تَلْتَقِي مَعَ عُنْصُرِيَّة الصِّهْيَوْنِيَّة، وَتَتَعَانَق مَعَ الْمَسِيحِيَّة الْمُتَشَدِّدَة الْإِرْهَابِيَّة فِي مُحَاوَلَةٍ لِإِلْغَاء وُجُودِ الْآخَرَيْنِ دِينِيًّا وَثَقَافِيًّا وَإجْتِمَاعِيًّا وَ سُلُوكِيَّا وَإقْتِصَادِيًّا وَسِيَاسِيًّا. فِي الْمُقَابِلِ، تَدْعُو الْأَخْلَاق الْإِنْسَانِيَّة إلَى مَبَادِئِ التَّمَاسُك وَالْوَحْدَة وَالتَّآلِفَ فِي الْحَيَاةِ، وَ الْأَمْر بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْإِحْسَان، وَإحْتِرَام الْحَيَاة وَ تَعْزِيزِها. وَ هَذِهِ الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ تَتَجَاوَز مَحْدُودِيَّة مَصَالِح الْبَشَر الْآنِيَة، فَهِيَ ذَاتُ طَابَع كُلِّيّ وَعَالَمِيّ، وَصَالَحَة فِي ظِلِّ الظُّرُوف وَالْبِيئَة الْمُتَغَيِّرَة. لِذَلِكَ، فَإِنْ مُوَاجَهَة تَحَدِّيَات الْعَوْلَمَة فِي مَجَالِ الْأَخْلَاق تَتَطَلَّب وَضَعَ خَطَّة عِلْمِيَّة لِتَأْصيل الْقَيِّمُ وَالْمَبَادِئِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالْحَدُّ مِنْ سَيْطَرَةِ الْأَخْلَاق الْمَادِّيَّة وَالْعُنْصُرِيَّة الَّتِي تَرُوجُ لَهَا الْعَوْلَمَة. كَمَا يَجِبُ الْعَمَلُ عَلَى إعَادَةِ صِيَاغَة إسْتِرَاتِيجِيَّة عَالَمِيَّة لِلتَّعَامُلِ مَعَ الْعِلْمِ وَ التِّكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَة، وَتَأْصِيل الْمَلامِح الْحَضَارِيَّةَ فِي الشَّخْصِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّة، وَخَلَق إعْلَام نَاضِج يُحَافِظُ عَلَى هَوِيِّة الْأَمَم وَ قِيَمِهَا. أَنَّ تَأْثِيرَ الْعَوْلَمَة عَلَى الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْأَخْلَاقِيّ عَلَى الْمُسْتَوَى الْعَالَمِيّ مُتَعَدِّد الْجَوَانِب وَوَاسِع النِّطَاقُ. مِنْ النَّاحِيَةِ الْإِيجَابِيَّة، سَاهَمَت الْعَوْلَمَة فِي نَشْرِ الْمَعْرِفَة وَالتَّقَدُّمِ الْعِلْمِيِّ بِشَكْلٍ غَيْرِ مَسْبُوقٍ مِنْ خِلَالِ تَسْهِيل إنْتِقَال الْمَعْلُومَات وَ التِّكْنُولُوجْيَا عَبَّر الْحُدُودِ. فَقَدْ أَصْبَحَ مِنْ الْمُمْكِنِ الِإطِّلَاعِ عَلَى أَحْدَث الْبُحُوث وَالدِّرَاسَات الْعِلْمِيَّة بِسُهُولَة وَبِأَسرع وَقْتَ، كَمَا سَهُلَتْ الْعَوْلَمَة التَّعَاوُن الْعِلْمِيّ الدَّوْلِيّ وَتَبَادُلِ الْخِبْرَاتِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْبَاحِثِين مِنْ مُخْتَلَفِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ. وَمِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، فَإِنْ الْعَوْلَمَة قَدْ أَثَّرَتْ سَلْبًا عَلَى الْفِكْرِ الْأَخْلَاقِيّ وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة عَلَى الْمُسْتَوَى الْعَالَمِيّ. فَقَدْ أَدَّى إنْتِشَار الثَّقَافَات وَ النَّظْم الْقِيَمِيَّة الْمُخْتَلِفَةِ إلَى تَآكُلِ بَعْضَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّة وَإزْدِيَاد حَالَاتِ عَدَمِ الِإسْتِقْرَارِ الْأَخْلَاقِيّ. كَمَا أَنَّ التَّنَافُس الِإقْتِصَادِيّ الشَّدِيدِ فِي ظِلِّ الْعَوْلَمَةِ قَدْ أَدَّى إلَى إنْتِشَارِ السُّلُوكِيات الْأَنَانِيَة وَالْمَادِّيَّةِ عَلَى حِسَابِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّة. وَهُنَاك مَخَاوِفَ مِنْ أَنَّ تُؤَدَّي الْعَوْلَمَة إِلَى صِرَاعٍ بَيْنَ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة الْجَدِيدَةِ الَّتِي تَنْتَشِر مَع الثَّقَافَات الْأُخْرَى. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، أَدَّتْ الْعَوْلَمَة إلَى إنْتِشَارِ ظَاهِرة الْعَمَل الطُّفُولِي فِي بَعْضِ الْمَنَاطِق النَّامِيَة، حَيْث تَسْتَغَلّ الشَّرِكَات مُتَعَدِّدَة الْجِنْسَيْات الْأَطْفَالِ فِي ظُرُوف عَمَلْ سَيِّئَةً بِهَدَف تَحْقِيق أرْبَاح أَعْلَى. كَمَا أَدَّتْ الْعَوْلَمَة إلَى إنْتِشَارِ ظَاهِرة الِإتِّجَار بِالْبِشْر وَالْجَرِيمَة الْمُنَظَّمَة عَبَّر الْحُدُود الْوَطَنِيَّة. هَذِهِ الظَّوَاهِرِ تَتَعَارَضُ مَعَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة الْأَسَاسِيَّة وَتُشَكِّل تَحْدُيا كَبِيرًا أمَام الْمُجْتَمَع الدَّوْلِيّ. عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ الْعَوْلَمَة قَدْ أَثَّرَتْ عَلَى إسْتِقْلَالِيَّة الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَحُرِّيَّتِه، حَيْثُ أَصْبَحَتْ البُحُوثِ العِلْمِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مُرْتَبِطَة بِمَصَالِح شَرِكَات وَ مُؤَسَّسَات كُبْرَى تَسْعَى لِتَحْقِيق أَهْدَافَهَا الْخَاصَّة بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ الْأبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة. هَذَا قَدْ يُؤَدِّي إلَى إضْعَافٍ النَّزَاهَة الْعِلْمِيَّة وَتَوْجِيه الْبُحُوث بِمَا يَخْدُم مَصَالِح جِهَاتٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَى حِسَابِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذِهِ التَّحَدِّيَات، هُنَاكَ جُهُودٌ دَوْلِيَّة مُسْتَمِرَّة لِمُوَاجَهَة الْأثَار السَّلْبِيَّة لِلْعَوْلَمَة عَلَى الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْأَخْلَاقِيّ. فَقَدْ تَمَّ وَضَع مُدَوَّنات أَخْلَاقِيَّة دَوْلِيَّة لِتَنْظِيم الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَحِمَايَة الْحُقُوق الْأَخْلَاقِيَّة لِلْأَفْرَاد وَالمُجْتَمَعَات. كَمَا تَسْعَى الْمُنَظَّمَاتِ الدَّوْلِيَّةِ وَالْمُجْتَمَع الْمَدَنِيّ إِلَى تَعْزِيزِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالْمَسْؤُولِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّةِ فِي ظِلِّ الْعَوْلَمَةِ مِنْ خِلَالِ سَنّ التَّشْرِيعَات وَتَعْزِيز التَّعَاوُنِ الدَّوْليِّ وَلِذَلِك، يَتَّضِحُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْعَوْلَمَة عَلَى الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَ الْأَخْلَاقِيّ عَلَى الْمُسْتَوَى الْعَالَمِيّ لَه جَوَانِبَ إِيجَابِيَّةً وَسَلْبِيَّة مُتَدَاخِلَة. وَتَتَطَلَّب مُوَاجَهَة التَّحَدِّيَات النَّاتِجَةِ عَنِ هَذَا التَّأْثِيرِ جُهُودًا مُتَضَافِرَةٌ عَلَى الصَّعِيدِ الدَّوْلِيّ لِضَمَان إسْتِمْرَار التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ فِي إِطَارِ مِنْ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة وَالْمَسْؤُولِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّة.

_ الْأثَارُ الرَّئِيسِيَّة لِلْعَوْلَمَة عَلَى الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ

الْعَوْلَمَةِ هِيَ ظَاهِرَةٌ مُعَقَّدَة لَهَا تَأْثِيرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى مُخْتَلِفِ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ، بِمَا فِي ذَلِكَ الْفِكْرُ الْعِلْمِيّ. يُمْكِنُ تَلْخِيصُ بَعْضِ الْأثَارِ الرَّئِيسِيَّة لِلْعَوْلَمَة عَلَى الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ كَمَا يَلِي:
. تَعْزِيزِ التَّعَاوُنِ وَالتَّبَادُل الْعِلْمِيّ الدَّوْلِيّ : الْعَوْلَمَة قَدْ عَزَزْت مِنْ التَّعَاوُنِ وَالتَّبَادُل الْعِلْمِيّ عَبَّر الْحُدُود الْوَطَنِيَّة، حَيْثُ سَهَلَتْ إنْتِقَال الْبَاحِثِين وَالْخَبَرُات وَتَبَادُلِ الْمَعْلُومَات وَالْبَيَانَات بَيْنَ الدُّوَلِ. هَذَا أَدَّى إلَى تَطْوِيرٍ وَتَعْمِيق الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَقِيَام مَشَارِيع بَحْثِيَّة دَوْلِيَّة مُشْتَرَكَة.
.تَسْرِيع وَتِيرَة الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ : الْعَوْلَمَة عَزَزْت مِنْ سُرْعَةِ نَقَل الْمَعْرِفَةِ وَالتِّكْنُولُوجْيَا، مِمَّا دَفَعَ الْمُؤَسَّسَات الْبَحْثَيْة إلَى تَسْرِيعٍ وَتِيرَة الْبَحْث وَالتَّطْوِير لِمُوَاكَبَة هَذَا التَّقَدُّمِ الْمُتَسَارِع. كَمَا أَتَاحَتْ الْعَوْلَمَة وُصُول الْبَاحِثِين إِلَى مَصَادِرَ مَعْلُومَات وَبَيَانًات أَكْثَرُ تَنُوعا وَغَزَارَةِ، مِمَّا أَسْهَمَ فِي إِثْرَاءِ وَتَعْمِيق الْأَبْحَاث.
.تَزَايَد التَّخَصُّص وَالتَّنْوِيع فِي مَجَالَاتِ الْبَحْثِ : مَعَ تَنَامي التَّفَاعُل وَالتَّبَادُل العِلْمِيِّ عَلَى الْمُسْتَوَى الدَّوْلِيِّ، ظَهَرَتْ مَجَالَات بَحْثَيَّة جَدِيدَة وَتَخَصُّصًات دَقِيقَةً أَكْثَر، انْعِكَاسًا لِتَنَوُّع الِاهْتِمَأَمَات وَالِاحْتِيَاجَات الْبَحْثَيْة عَلَى الصَّعِيدِ الْعَالَمِيّ. وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى ثَرَاء وَتَنَوُّع الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة.
. تَحَوَّل النَّمَط البَحْثِيّ نَحْو التَّطْبِيقِيَّة : رَكَزْت الْعَوْلَمَة عَلَى رَبْطِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ بِالتَّطْبِيقَات الْعَمَلِيَّةُ وَالْحَاجَات الْمُجْتَمَعِيَّة، بِمَا يَتَمَاشَى مَعَ الْمَنْطِقِ الِإقْتِصَادِيّ لِلْعَوْلَمَة. وَأَصْبَح هُنَاك ضَغْط مُتَزَايِد عَلَى الْبَاحِثِين لِتَوْجِيه أَبْحَاثِهِمْ نَحْو إنْتَاج مُخْرَجَات قَابِلَة لِلتَّطْبِيق وَالِإسْتِثْمَار.
. ظُهُور تَحَدِّيَات أَخْلَاقِيَّة وَقَانُونٍيَّة : مَعَ التَّقَدُّمِ السَّرِيع وَ الْمَتْنِوِّع لِلْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ فِي ظِلِّ الْعَوْلَمَةِ، بَرَزَتْ تَحَدِّيَات أَخْلَاقِيَّة وَقَانُونٍيَّة جَدِيدَةٍ تَتَعَلَّق بِقَضَايَا مِثْل الْمُلْكِيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ، وَأَخْلَاقِيَّات الْبَحْث، وَالتَّأْثِيرَات الِإجْتِمَاعِيَّة وَالبِيئِيَّة لِلْإِكْتِشَافَات الْعِلْمِيَّةِ. مِمَّا إسْتَدْعَى وَضْعَ ضَوَابِطَ وَتَشْرِيعَات دَوْلِيَّة لِلتَّعَامُلِ مَعَ هَذِهِ الْقَضَايَا.
بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَإِنَّ الْعَوْلَمَة قَدْ أَثَّرَتْ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ عَلَى الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ مِنْ خِلَالِ تَعْزِيزِ التَّعَاوُنِ وَالتَّبَادُل الْعِلْمِيّ الدَّوْلِيّ، وَ تَسَرِيعْ وَتِيرَة الْبَحْث وَالتَّطْوِير، وَ زِيَادَة التَّخَصُّص وَالتَّنَوُّعُ فِي مَجَالَاتِ الْبَحْث، وَتَحَوَّل النَّمَط البَحْثِيّ نَحْو التَّطْبِيقِيَّة، بِالْإِضَافَةِ إلَى ظُهُورِ تَحَدِّيَات أَخْلَاقِيَّة وَقَانُونٍيَّة جَدِيدَةٍ. وَمَعَ إسْتِمْرَارِ تَقَدُّم الْعَوْلَمَة، مِنْ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ تَسْتَمِرَّ هَذِه التَّأْثِيرَات وَ تَتَطَوَّر فِي الْمُسْتَقْبَل.

_ الْعِلْمِ وَ تَحَدِّيَات الْعَوْلَمَة

إنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّةِ فِي عَصْرِ الْعَوْلَمَة وَاجَهَتْ تَحَدِّيَات وَتَغَيُّرَات كَبِيرَةٌ، وَاَلَّتِي تَتَطَلَّب إعَادَة التَّفْكِيرِ فِي دُورِ الْعِلْم وَأَوْلَوِيَّاته وَآلِيَات إنْتَاجِه وَتَوْظِيفِه.
. أَوَّلًا، ظُهُور الْمُؤَسَّسَات وَالشَّرِكَات الْعَمَلَاقة مُتَعَدِّدَةٍ الْجِنْسَيْات وَاَلَّتِي بَاتَتْ تَمْتَلِك إمْكَانِيَّات هَائِلَةٍ فِي تَمْوِيلِ الْأَبْحَاثُ الْعِلْمِيَّةُ وَتَوْجِيهُهَا بِمَا يَخْدُم مَصَالِحِهَا الِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ. فَقَدْ أَصْبَحَ الْعِلْم رَهِينَة لِلشَّرِكَات الْكُبْرَى وَمُتَطَلَّبَات السُّوق بَدَلًا مِنْ خِدْمَةِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْإِنْسَانِيَّة. وَهَذَا أَدَّى إلَى ظُهُورِ أَنْمَاط جَدِيدَةٍ مِنْ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ تَتَّسِم بِالتَّبَعِيَّة وَ التَّرْكِيزِ عَلَى الْبُحُوث التَّطْبِيقِيَّة الْقَصِيرَة الْمَدَى عَلَى حِسَابِ الْبُحُوث الْأَسَاسِيَّة وَالنَّظَرِيَّة.
. ثَانِيًا، أَصْبَح الْعِلْمِ أَدَّاة لِلَّهِيَمْنَة وَالسَّيْطَرَة فِي عَصْرِ الْعَوْلَمَة، حَيْث اُسْتُخْدِمَتْ الدُّوَل وَالمُؤَسَّسَات الْقَوِيَّة عِلْمِهِمْ وَ تِكْنُولُوجِيَّتُهُم لِفَرْضٍ هَيْمَنَتِهِمْ عَلَى الدُّوَلِ وَالمُجْتَمَعَات الْأَضْعَف. فَمُنْذ إخْتِرَاع الْقُنْبُلَةِ الذَّرِّيَّةِ وَإسْتِخْدَامُهَا ضِدّ الْيَابَان فِي الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ، أَصْبَح الْعِلْم وَالتِّكْنُولُوجْيَا مِنْ أَهَمِّ أَسْلِحَة الْقُوَى الْعُظْمَى فِي صِرَاعَاتٌهَا السِّيَاسِيَّة وَالْعَسْكَرِيَّة.
. ثَالِثًا، أَدَّى إنْتِشَار الْعَوْلَمَة إلَى تَفَاقُمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الدُّوَلِ الْمُتَقَدِّمَة وَالدُّوَل النَّامِيَةِ فِي مَجَالِ الْعِلْمِ وَالتِّكْنُولُوجْيَا، مِمَّا أَدَّى إلَى تَرَاجُعِ دُور الْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ فِي الدُّوَلِ النَّامِيَة وَتَرْكِيزَها عَلَى الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالتَّطْبِيقِيٍّة بِهَدَفِ اللَّحَاق بِرَكْب التَّقَدُّم التِّكْنُولُوجْيّ. وَهَذَا بِدَوْرِهِ أَدَّى إلَى تَجَاهَل البُحُوثِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي تَهْتَمّ بِالْقَضَايَا الْمُجْتَمَعِيَّة وَ الْإِنْسَانِيَّة.
. رَابِعًا، بَرَز دُور جَدِيد لِلْعِلْمِ فِي عَصْرِ الْعَوْلَمَة كَأَدَاة لِلتَّنْمِيَة الِإقْتِصَادِيَّة وَالصِّنَاعِيَّة، حَيْثُ أَصْبَحَتْ الدُّوَل تُقَاس بِقُوَّتِهَا الْعِلْمِيَّة وَالتِّكْنُولُوجِيَّة وَقُدْرَتِهَا عَلَى الْمُنَافَسَةِ فِي الْأَسْوَاقِ الْعَالَمِيَّةِ. وَهَذَا أَدَّى إلَى تَرْكِيز الْحُكُومَات وَالمُؤَسَّسَات الْبَحْثِيَّة عَلَى الْبُحُوث ذَاتِ الطَّابَعِ التَّطْبِيقِيّ وَالعَمَلِيِّ عَلَى حِسَابِ الْبُحُوث النَّظَرِيَّة وَالْأَسَاسِيَّة.
. خَامِسًا، أَدَّتْ الْعَوْلَمَة إلَى تَزَايُدِ الِإهْتِمَام بِالْعُلُوم وَ التِّكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَة كَالذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ وَعُلُوم الْحَيَاة وَ الطَّاقَة الْمُتَجَدِّدَة، وَهِي مَجَالَات تَتَطَلَّبُ إسْتِثْمَارَات ضَخْمَة وَ تَتَنَافَس فِيهَا الدُّوَل وَالشَّرِكَات الْكُبْرَى. وَهَذَا أَدَّى إلَى إهْمَالِ بَعْضِ الْمَجَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْأُخْرَى كَالْعُلُوم الْإِنْسَانِيَّة وَ الِإجْتِمَاعِيَّة.
. سَادِسًا، أُفْرَزَتْ الْعَوْلَمَة تَحَدِّيَات أَخْلَاقِيَّة لِلْعِلْم، حَيْثُ أَصْبَحَ الْعُلَمَاءُ مُطَالَبِين بِالتَّفْكِيرِ فِي الْأثَارِ الِإجْتِمَاعِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة لِأبْحاثهم وَتَطْبِيقاتُّهِم الْعِلْمِيَّةِ. فَالْعَدِيد مِنْ الِإخْتِرَاعَات الْعِلْمِيَّةِ كَالْأَسْلِحَة الْفَتَّاكَة وَالتِّقْنِيَّات الْحَيَوِيَّة أَثَارَتْ جَدَلًا وَاسِعًا حَوْل الْمَسْؤُولِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة لِلْعُلَمَاءِ.
فِي ظِلِّ هَذِهِ التَّحَدِّيَات، أَصْبَحَ مِنْ الضَّرُورِيِّ إعَادَةِ النَّظَرِ فِي أَهْدَاف الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَأَوْلَوِيَّاته، وَالْعَمَلُ عَلَى رَبَطَه بِالْقَضَايَا الْإِنْسَانِيَّة وَالْمُجْتَمَعِيَّة. كَمَا يَجِبُ تَعْزِيز إسْتِقْلَالِيَّة الْمُؤَسَّسَات الْبَحْثَيْة وَحِمَايَتِهَا مِنْ التَّبَعِيَّةِ لِلْمَصَالِح الِإقْتِصَادِيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ، وَتَشْجِيع الْبُحُوث الْأَسَاسِيَّة وَالنَّظَرِيَّة بِجَانِب الْبُحُوث التَّطْبِيقِيَّة. وَأَخِيرًا، لَا بُدَّ مِنْ تَطْوِيرٍ مَنَاهِج وَ أَخْلَاقِيَّات جَدِيدَةٍ لِلْعِلْمِ تَضَمَّن تَوْظِيفِه لِخِدْمَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَ الْحِفَاظِ عَلَى الْقَيِّمِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي عَصْرِ الْعَوْلَمَة.

_ الْبَحْثُ الْعِلْمِيّ وَإكْرَاهًات الْعَوْلَمَةِ

الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ هُوَ أَحَدُ أَهَمّ مُقَوِّمَات التَّقَدُّم وَالتَّطَوُّر لِأَيّ أُمِّة، فَهُوَ يُسْهِمُ فِي بِنَاءِ نَظَرِيَّات عِلْمِيَّة صَحِيحَة وَتَعْزِيز قُدْرَتِهَا التَّنَافُسِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَوَى الْعَالَمِيّ. وَقَدْ أُحْدَثَتْ ظَاهِرُة الْعَوْلَمَة تَأْثِيرَات كَبِيرَةٌ عَلَى الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، سَوَاءٌ عَلَى مُسْتَوَى تَوَافُر المَصَادِرُ وَالمَرَاجِعُ أَوْ عَلَى مُسْتَوَى الْمُمَارَسَات وَالْمُنَاهِج الْمُتَّبِعَة. فَمِنْ نَاحِيَةِ، سَاعَدَتْ وَسَائِل التِّقْنِيَّة الْحَدِيثَةِ عَلَى تَوْفِيرِ الْكَثِيرِ مِنْ الْمَصَادِرِ وَالْمَرَاجِعِ الْعِلْمِيَّة، مِمَّا يَسْهُلُ عَمَلِيَّةِ الْبَحْثِ وَالتَّحْقِيقِ. وَلَكِنْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، ظَهَرَتْ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْمُخَرِّبُين الَّذِينَ إنْطَلِقُوا لِلْعَمَلِ فِي مَجَالِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ دُونَ أَنْ تَتَوَافَر لَدَيْهِمْ الْأَدَوَات اللَّازِمَة مِثْل سَعَةِ الِإطِّلَاعِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْفَهْمِ وَالتَّحْلِيل، مِمَّا أَدَّى إلَى ظُهُورِ الْكَثِيرِ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْهَزِيلَة وَالمُضَلَّلة. كَذَلِكَ أَتَاحَتْ الْعَوْلَمَة وَالِإنْفِتَاح المَعْرِفِيّ وَسَائِل عِلْمِيَّة وَمَعَرْفِيَّة لَمْ تَكُنْ مُتَاحَة مِنْ قِبَلِ، وَاَلَّتِي كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ تُؤَثِّرَ إيجَابًا عَلَى عَمَلِيَّةِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ لَوْ تَمَّ التَّعَامُلِ مَعَهَا بِطَرِيقَةٍ صَحِيحَةٍ. فَأَصْبَحَ مِنْ السَّهْلِ تَحْلِيل الْمَعْلُومَة وَإسْتِقْرَاء الشَّوَاهِد وَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تُسَاعِدُ فِي إصْدَار أَحْكَام صَحِيحَةٌ. وَلَكِنْ يُلَاحَظُ أَنَّ بَعْضَ الْبَاحِثِين يَتَعَامَلُون مَع الْمَعْلُومَةُ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، مِمَّا يُنْتِج عَنْه الْمَزِيدَ مِنْ الْمُغَالَطَات وَالنُّقُول الْمُرْتَبِكَة وَ التَّوْثِيق العَشْوَائِيّ. مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، أَحْدَثَتْ الْعَوْلَمَة تَأْثِيرَات عَلَى الْمُؤَسَّسَات الأَكَادِيمِيَّة وَ البَحْثِيَّة، حَيْثُ أَصْبَحَتْ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَات أَكْثَر إنْفِتَاحًا عَلَى الْعَالِمِ الْخَارِجِيّ، مِمَّا أَدَّى إلَى ظُهُورِ تَحَدِّيَات جَدِيدَة تَتَعَلَّق بِتَطْوير الْبَرَامِج وَالْمَنَاهِج الدِّرَاسِيَّة وَأَسَالِيب التَّدْرِيس وَالْبَحْث الْعِلْمِيّ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ مُتَطَلِّبَاتِ الْعَوْلَمَة. كَمَا أَثَّرَتْ الْعَوْلَمَة عَلَى قَضَايَا الْمُلْكِيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ وَالتّرَاخيص وَالبَرَاءَات الْمُرْتَبِطَة بِالْبَحْث الْعِلْمِيّ. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذِهِ التَّأْثِيرَات السَّلْبِيَّة، فَإِنَّ هُنَاكَ الْعَدِيدِ مِنَ الْفُرَصِ الَّتِي أَتَاحَتَهَا الْعَوْلَمَةِ لِلْبَحْث الْعِلْمِيّ، مِثْل تَعْزِيزِ التَّعَاوُنِ وَالتَّوَاصُل الْعِلْمِيّ الدَّوْلِيّ، وَتَسْهِيل تَبَادُل الْمَعْلُومَات وَ التِّقْنِيَّات، وَتَوْفِير فُرَص التَّمْوِيل وَالدُّعْم الْمَادِّيُّ لِلْمَشْرُوعَات الْبَحْثَيْة مِنْ مَصَادِرِ عَالَمِيَّة. وَيُتَطَلَّب الِاسْتِفَادَة مِنْ هَذِهِ الْفُرَصِ الْقِيَام بِجِهَود حَثِيثَة لِتَطْوِير الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَرَبْطِه بِإحْتِيَاجات الْمُجْتَمَعُ وَالصِّنَاعَة، وَتَعْزِيز الشِّرَاكِات الْبَحْثَيْة الدَّوْلِيَّة، وَتَوْفِير الْبِيئَة التَّشْرِيعِيَّة وَالتَّنْظِيمِيَّة الْمُنَاسَبَة. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ مُحَاوَلَة الِإسْتِفَادَةِ مِنَ الثَّوْرَة الْمَعْرِفِيَّة وَالإِعْلَامِيَّة الَّتِي أَفْرَزَتِهَا الْعَوْلَمَةِ، وَإسْتِثْمَار ثَقَافَة صِنَاعَة الْمَعْرِفَة وَتَوْظِيفِهَا بِمَا يَخْدُم خُصُوصِيَّة وَاقَعَهَا الِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ. كَمَا يَجِبُ الْعَمَلُ عَلَى إعَادَةِ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ وَفْق مَنْظُورًات حَدًّاثيَّة وَاقِعِيَّة تَتَوَاصَل مَع الْهُوِيَّة الْحَضَارِيَّة لِهَذِه الْمُجْتَمَعَات. وَ فِي ضَوْءِ ذَلِكَ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْبَحْثَ الْعِلْمِيِّ فِي ظِلِّ الْعَوْلَمَةِ يُوَاجِه تَحَدِّيَات كَبِيرَة تَتَطَلَّب جُهُودًا مُتَضَافِرَةٌ عَلَى مُسْتَوَى صُنَّاع السِّيَاسَات وَالمُؤَسَّسَات الْبَحْثَيْة وَالْأَكَادِيمِيَّة وَالْقِطَّاعِ الْخَاصّ لِتَطْوِير مَنْظُومَة الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَرَبَطَهَا بِإحْتِيَاجات الْمُجْتَمَعُ وَالصِّنَاعَة، وَتَعْزِيز قُدْرَتِهَا التَّنَافُسِيَّةِ عَلَى الصَّعِيدِ الْعَالَمِيّ. أَنْ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ فِي ظِلِّ الْعَوْلَمَةِ يُوَاجِه عِدَّة تَحَدِّيَات رَئِيسِيَّة نَذْكُرُ مِنْهَا الْاتِي :
. ضَعْف الدَّعْم الْمَالِيّ وَ الْمُؤَسَّسَي لِلْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ: فِي الْكَثِيرِ مِنْ الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُحْظَى الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ بِالدَّعْم الْكَافِي مِنْ الْحُكُومَاتِ وَالْقِطَّاع الْخَاصِّ، مِمَّا يُحَدُّ مَنْ إمْكَانِيَّات الْبَاحِثِين وَيَضْعُف الْبِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ لِلْبَحْث.
. ضَعْف الحُرِّيَّات الأَكَادِيمِيَّة وَالْفِكْرِيَّة: هُنَاكَ قُيُودٌ وَضَوَابِط عَلَى حُرِّيَّةِ الْبَحْث وَالتَّفْكِيرِ فِي بَعْضِ الدُّوَل، مِمَّا يُعِيقُ الْإِبْدَاع الْعِلْمِيّ وَالِإبْتِكَار. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ مُحَاوَلَات لِفَرْض أَجْنَدات سِيَاسِيَّة أَوْ دِينِيَّةً عَلَى الْبَحْثِ الْعِلْمِيّ.
. هِجْرَة الْكَفَاءَات الْعِلْمِيَّة وَالْبَاحِثِين إلَى الْخَارِجِ: تَشْهَد الْكَثِيرِ مِنْ الْبُلْدَانِ الْعَرَبِيَّةِ هِجْرَة لِأَصْحَاب الْكَفَاءَات وَالْخَبَرُات الْعِلْمِيَّةِ إِلَى دُوَلِ أُخْرَى مِمَّا يُضْعِفُ القُدُرَات الْبَحْثَيْة الْمَحَلِّيَّة.
. ضَعْف التَّنْسِيق وَالتَّعَاوُن البَحْثِيّ بَيْن الْمُؤَسَّسَات: إفْتِقَار الْبِنْيَة الْمُؤَسَّسَيَّة وَالتَّنْظِيمِيَّة الدَّاعِمَة لِلْبَحْثِ الْعِلْمِيّ، وَعَدَمِ وُجُودِ شَبَكَات تَعَاوُن بَحْثيَّة إِقْلِيمِيَّة وَدَوْلِيَّة فَعَّالَة.
. تَأْثِير الْعَوْلَمَة عَلَى الْمِلْكِيَّةِ الْفِكْرِيَّة وَبَرَاءَات الِإخْتِرَاع: ظُهُور تَحَدِّيَات جَدِيدَة مُرْتَبِطَة بِحِمَايَة الْمِلْكِيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ وَحُقُوق الْبَاحِثِين، وَصُعُوبَة الْمُنَافَسَة مَع الْمُؤَسَّسَات الْبَحْثَيْة الْعَالَمِيَّة.
. ضَعْف رَبَط الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ بِإحْتِيَاجات الْمُجْتَمَعُ وَالصِّنَاعَة: إفْتِقَار آلِيَات فَعَّالَة لِنَقْل نَتَائِج الْبُحُوث إِلَى التَّطْبِيقِ العَمَلِيِّ وَ خِدْمَة التَّنْمِيَة الِإجْتِمَاعِيَّة وَالِإقْتِصَادِيَّة.
لِذَا، فَإِنَّ تَطْوِير الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ فِي ظِلِّ الْعَوْلَمَةِ يَتَطَلَّب جُهُودًا مُتَضَافِرَةٌ عَلَى الْمُسْتَوَيَات السِّيَاسِيَّة وَالتَّشْرِيعِيَّة وَ الْمُؤَسَّسيَّة لِتَوْفِير الْبِيئَة المُحَفِّزَة وَالدَّاعِمَة لِلْإِبْدَاع الْعِلْمِيّ، وَ رَبَط الْبَحْث بِإحْتِيَاجات الْمُجْتَمَعُ، وَتَشْجِيع التَّعَاوُن البَحْثِيّ الدَّوْلِيّ.

_ عَوَّلَمَة الْأَخْلَاقِ

عَوَّلَمَة الْأَخْلَاقِ هِيَ مَفْهُومُ مُرَكَّب يُجْمَعُ بَيْنَ ظَاهِرَة الْعَوْلَمَة وَ الْأَخْلَاق الْعَالَمِيَّة. الْعَوْلَمَة هِيَ ظَاهِرَةٌ كَوْنِيَّة أَدَّتْ إلَى تَشَابُك وَ تَدَاخُل الثَّقَافَات وَالمُجْتَمَعَات فِي عَالَمِ الْيَوْم. وَتَعْنِي عَوَّلَمَة الْأَخْلَاقِ مُحَاوَلَة تَرْسِيخ مَنْظُومَة أَخْلَاقِيَّة عَالَمِيَّة مُوَحَّدَة، تَتَجَاوَز الْحُدُود الْجُغْرَافِيَّة وَالثَّقَافِيَّة لِلشُّعُوب وَالمُجْتَمَعَات. هُنَاك جَدَل كَبِير حَوْل إِمْكَانِيَّة وُجُود أَخْلَاق عَالَمِيَّة مُوَحَّدَة، فِي ظِلِّ تَنَوُّع الثَّقَافَات وَالْخَلَفِيَّات الدِّينِيَّةُ وَالِإجْتِمَاعِيَّة لِلشُّعُوب. فَالْعَوْلَمَة تَطْرَحُ تَحْدُيا كَبِيرًا أمَام الْهُوِيَّة الثَّقَافِيَّة وَ الْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَعَات، وَتَسْعَى إِلَى فَرْضٍ نَمُوذَج أَخْلَاقِيّ وَاحِدٍ عَلَى الْجَمِيعِ. مِنْ نَاحِيَةِ، هُنَاكَ مِنْ يَرَى أَنَّ الْعَوْلَمَة فُرْصَة لِتَقْرِيب وِجْهَاتِ النَّظَرِ الْأَخْلَاقِيَّة بَيْنَ الشُّعُوبِ، وَتَحْقِيق تَقَارَب ثَقَافِيّ وَحَضَارِيّ، مِنْ خِلَالِ تَبَادُل الْمَعَارِف وَ الْخَبَرُات. فَالتَّفَاعُلُ بَيْنَ الثَّقَافَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ قَدْ يُؤَدِّي إلَى تَبَّنِي قِيَمٍ أَخْلَاقِيَّةٍ مُشْتَرَكَة، كَالْعَدْل وَالْمُسَاوَاة وَالتَّسَامُح. وَمِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، هُنَاكَ مَخَاوِفَ مِنْ أَنَّ تُؤَدَّي الْعَوْلَمَة إلَى طَمَس الْخُصُوصِيَّات الثَّقَافِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعَات، وَفَرْض أَنْمَاط سُلُوكِيَّة وَقِيَم أَخْلَاقِيَّة غَرْبِيَّة بَعِيدَةٍ عَنْ هَوِيتُهَا. فَالمُجْتَمَعَات التَّقْلِيدِيَّة تَخْشَى مِنْ زَوَالِ قِيَمِهَا الْأَخْلَاقِيَّة الْأَصِيلَة، وَتَحَوُّل هَوِيتُهَا الثَّقَافِيَّة إلَى ثَقَافَة عَالَمِيَّة مُوَحَّدَة. وَ مِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، بَرَزَتْ مُطَالَبَات بِضَرُورَة الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الدِّينِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّة لِلْمُجْتَمَعَات، فِي ظِلِّ تَيَّارَات الْعَوْلَمَة. حَيْثُ إنَّ الِإلْتِزَام بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة الدِّينِيَّة وَالثَّقَافِيَّة يُعَدّ ضَرُورَةً مُلِحَّةً لِحِمَايَة الْهُوِيَّة وَالْخُصُوصِيَّة، وَتَحْقِيق التَّنْمِيَة الْمُسْتَدَامَة لِلْمُجْتَمَعَات. وَلِذَلِكَ، فَإِنَّ تَحَدَّي عَوّْلَمَة الْأَخْلَاقِ لَيْس سَهْلًا، وَ يَتَطَلَّب جُهُودًا حَثِيثَة لِإِيجَاد تَوَازُنُ بَيْنَ الِإنْفِتَاحِ عَلَى الثَّقَافَاتِ الْعَالَمِيَّة، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَصَالَةِ وَ الْخُصُوصِيَّة الثَّقَافِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَعَات. فَالْأَخْلَاق الْعَالَمِيَّة المَنْشُودَة يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً عَلَى أَسَاسِ مِنْ التَّفَاهُمِ وَالتَّسَامُح وَالْإحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَ الْحَضَارَات. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، تَبْرُز أَهَمِّيَّة دُور الْأَدْيَان وَ الثَّقَافَات فِي تَرْسِيخِ مَنْظُومَة أَخْلَاقِيَّة عَالَمِيَّة مُشْتَرَكَة، تَقُومُ عَلَى الْقَيِّمِ الْإِنْسَانِيَّة الْكَوْنِيَّة. فَالْأَدْيَان السَّمَاوِيَّة تَتَضَمَّن مَبَادِئَ أَخْلَاقِيَّةٍ عَالَمِيَّة كَالْعَدْل وَالرَّحْمَة وَالتَّسَامُح، وَاَلَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَسَاسًا لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ. كَمَا أَنَّ الْحِوَارَ بَيْنَ الثَّقَافَاتِ وَالْحَضَارَات أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِإِيجَاد أَرْضِيَّة مُشْتَرَكَةٍ مِنْ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة. فِي الْخِتَامِ، فَإِنْ عَوَّلَمَة الْأَخْلَاقِ تَطْرَح تَحَدِّيَات كَبِيرَةٌ أَمَامَ الْمُجْتَمَعَات، لَكِنَّهَا فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ تَفْتَح أَفَاقَا وَاعِدَة لِتَحْقِيق تَقَارَب ثَقَافِيّ وَحَضَارِيّ عَالِمِي، مِنْ خِلَالِ بِنَاءِ مَنْظُومَة أَخْلَاقِيَّة مُشْتَرَكَة قَائِمَةً عَلَى الْقَيِّمِ الْإِنْسَانِيَّة الْكَوْنِيَّة. وَهَذَا يَتَطَلَّب جُهُودًا مُشْتَرَكَةٍ مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَطْرَاف، لِإِيجَاد التَّوَازُنِ بَيْنَ الِإنْفِتَاح وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ الثَّقَافِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة.

_ تَأْثِير الْعَوْلَمَة عَلَى الْأَخْلَاقِ

لَا شَكَّ أَنَّ الْعَوْلَمَة قَدْ أَحْدَثْتَ تَأْثِيرَات جَوْهَرِيَّة عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ حَوْل الْعَالَمِ. هَذَا التَّأْثِيرِ لَه جَوَانِبَ إِيجَابِيَّةً وَأُخْرَى سَلْبِيَّة، وَتَخْتَلِف دَرَجَةَ هَذَا التَّأْثِيرِ مِنْ مُجْتَمَعٍ إِلَى آخِرِ وَفْقاً لِعَوَامِل عَدِيدَة.
. الْجَوَانِب الْإِيجَابِيَّة لِتَأْثِير الْعَوْلَمَة عَلَى الْأَخْلَاقِ:
تَعْزِيز قَيِّم الْمُسَاوَاة وَالْعَدَالَة الْعَالَمِيَّة:
لَقَدْ سَهُلَتْ الْعَوْلَمَة إنْتِقَال الْأَفْكَار وَالْمَمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة الْإِيجَابِيَّة كَتَعَزيز قَيِّمُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَكَافُؤ الْفُرَص بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ الِإنْتِمَاء الْوَطَنِيّ أَوْ الدَّيْنِيُّ أَوْ الْعِرْقِيّ. كَمَا سَاعَدَتْ عَلَى نَشْرِ ثَقَافَة احْتِرَامُ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ وَالْحُرِّيَّاتِ الأَسَاسِيَّةِ عَلَى نِطَاقٍ عَالِمِي. تَعْزِيز التَّسَامُح وَالتَّفَاهُم بَيْنَ الثَّقَافَاتِ: مَعَ تَزَايُدِ التَّوَاصُل وَالتَّفَاعُل بَيْنَ الشُّعُوبِ وَ الثَّقَافَات الْمُخْتَلِفَة بِفَضْل تَطَوُّر وَسَائِلِ الإِتِّصَالِ وَالمُوَاصَلاَتِ، ظَهَرَتْ أَخْلَاقِيَّات جَدِيدَةٍ تَدْعُو إلَى التَّسَامُحِ وَالتَّفَاهُم وَقَبُولُ الْآخَرِ وَالتَّنَوُّع الثَّقَافِيّ. هَذَا سَاهَمَ فِي الْحَدِّ مِنْ الصِّرَاعَات وَ النِّزَاعات الْقَائِمَةِ عَلَى الِإخْتِلَافَات الثَّقَافِيَّة وَالدِّينِيَّة.
. نَشْر ثَقَافَة الْمَسْؤُولِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّة:
لَقَدْ فَرَضَتْ الْعَوْلَمَة عَلَى الشَّرِكَات وَالمُؤَسَّسَات الْكُبْرَى ضَرُورَة الِإلْتِزَام بِمَعْايِير أَخْلَاقِيَّة وَبِيئِيَّة وَإِنْسَانِيَّةٍ فِي مُمَارَسَاتِهَا وَأنْشِطَتِهَا، مِمَّا عَزَّز ثَقَافَة الْمَسْؤُولِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ. وَأَصْبَح إلْتِزَام الشَّرِكَات بِقَضَايَا الْمُجْتَمَع وَ الْبِيئَة أَمْرًا مَطْلُوبًا وَمُتَوَقَّعِا مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَهْلْكَيْن وَالْمُجْتَمَعُ كَكُلّ.
. الْجَوَانِبِ السَّلْبِيَّةِ لِتَأْثِير الْعَوْلَمَة عَلَى الْأَخْلَاق :
. تَحَلَّل الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ التَّقْلِيدِيَّة:
لَقَدْ أَدَّتْ الْعَوْلَمَة إلَى إنْتِشَارِ نَمَطِ الحَيَاةِ وَالْقَيِّم الْغَرْبِيَّةِ فِي مُخْتَلَفٍ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ، مِمَّا أَدَّى إلَى تَآكُلِ الْعَدِيدِ مِنَ الْقِيَمِ وَ الْأَخْلَاقِ التَّقْلِيدِيَّة فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمَحَلِّيَّة. وَأَصْبَحَتْ الْقَيِّم الْمَادِّيَّة وَالْفَرْدِيَّة أَكْثَر سَيْطَرَةً عَلَى حِسَابِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَ الرُّوحِيَّة وَالْجَمَاعِيَّة
. إنْتِشَارُ السُّلُوكِيات السَّلْبِيَّةِ وَالْأَنْمَاط الِإسْتِهْلَاكِيَّة:
مَعَ إنْتِشَارٍ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ وَالتَّرْفِيه الْعَالَمِيَّة، أَصْبَح تَأْثِيرُ الثَّقَافَةِ الِإسْتِهْلَاكِيَّة وَالسَّلْوَكَيَّات السَّلْبِيَّةِ كَالْعنف وَالْجَرِيمَة وَ الْإِدْمَانُ أَكْثَرُ وُضُوحًا فِي الْمُجْتَمَعَاتِ. كَمَا سَاهَمَت الْعَوْلَمَة فِي إنْتِشَارِ بَعْض الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة السَّيِّئَة كَالْفَسَاد وَالرِّشْوَة عَلَى نِطَاقٍ عَالِمِي.
. تَهْدِيد الْهُوِيَّة الثَّقَافِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَعَاتِ:
أَنْ سَيْطَرَة النَّمُوذَج الثَّقَافِيّ الْغَرْبِيّ وَتَسْوِيقَه عَالَمِيًّا مِنْ خِلَالِ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ وَالتِّكْنُولُوجْيَا، أَدَّى إلَى تَهْدِيدٌ الْهُوِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة وَالثَّقَافِيَّة لِلْعَديد مِنْ المُجْتَمَعَاتِ، خَاصَّةً فِي الْعَالَمِ النَّامِي. وَ أَصْبَح الْحِفَّاظُ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ الثَّقَافِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة تَحْدُيا كَبِيرًا أَمَامَ هَذِهِ المُجْتَمَعَاتِ.
إِنْ الْعَوْلَمَة قَدْ أَحْدَثْتَ تَأْثِيرَات مُتَبَايِنَة عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَبَيْنَمَا عَزَزْت بَعْضَ القِيَمِ الأَخْلَاقِيَّةِ الْعَالَمِيَّة كَالْمُسَاوَاة وَالتَّسَامُح، إلَّا أَنَّهَا فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ أَدَّتْ إلَى تَحَلُّلٍ بَعْضَ القِيَمِ الأَخْلَاقِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّة وَإنْتِشَار سَلُوكَيَّات سَلْبِيَّة. وَيُتَطَلَّب الْأَمْر جُهُودًا مُتَوَاصِلَة لِتَعْزِيز الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْإِيجَابِيَّة وَحِمَايَة الْخُصُوصِيَّة الثَّقَافِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَعَات فِي ظِلِّ تَنَامي ظَاهِرَة الْعَوْلَمَة.

_ مَوْت الْعَوْلَمَة وَإِعَادَةِ الِإعْتِبَارِ لِلْأَخْلَاق وَالْعِلْمُ

الْعَوْلَمَةِ وَمَوْتُهَا هِيَ ظَاهِرَةٌ مُتَعَدِّدَة الْأبْعَاد وَ مُرَكَّبَةٌ تَشْهَد تَحَوُّلَات جِذْرِيَّة فِي عَصْرِنَا الْحَالِيّ. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ النَّظْرَةِ الْمُشْرِقَة لِلْعَوْلَمَة فِي بِدَايَةِ إنْطِلَاقُهَا كَآلِيَة لِتَوْحِيد الْعَالِم وَ تَبَادُل الْمَعْرِفَة وَالثَّقَافَات بَيْنَ الشُّعُوبِ، إلَّا أَنْ الْوَاقِعُ الْعَمَلِيُّ كَشَفَ عَنْ جَوَانِبَ سَلْبِيَّة لِلْعَوْلَمَة تُهَدِّد الْهِوَيَات الثَّقَافِيَّة وَ الْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة لِلْبَشَرِيَّة. يَرَى الْكَثِيرِ مِنْ الْمُفَكِّرِين أَنْ الْعَوْلَمَة الِإقْتِصَادِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة قَدْ أدَتْ إِلَى تَرَاجُعِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَ الْإِنْسَانِيَّة فِي الْمُجْتَمَعَاتِ. فَالتَّرْكُيز الْمُفَرِّطُ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمَادِّيَّةِ وَالرِّبْح قَدْ زَادَ مِنْ الْفَجْوَةِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَعَزَز ثَقَافَة الِإسْتِهْلَاك وَالْمُنَافَسَة عَلَى حِسَابِ التَّضَامُن وَالْمَحَبَّةِ. كَمَا أَنَّ السَّعْيَ نَحْو الْهَيْمَنَة وَالسَّيْطَرَةَ عَلَى الْمَوَارِد وَالْأَسْوَاق الْعَالَمِيَّةُ مِنْ قِبَلِ الْقِوَّى الِإقْتِصَادِيَّة الْكُبْرَى قَدْ أَدَّى إلَى تَهْمَيش دُورٌ الدُّوَل الْأَصْغَر وَإنْتِهَاك سِيَادَتِهَا، مِمَّا يَتَعَارَضُ مَع مَبَادِئ الْعَدَالَةِ وَالْمُسَاوَاةِ. هَذَا إلَى جَانِبِ مَا أَحْدَثَتْهُ الْعَوْلَمَة مِنْ تَغْرِيبِ ثَقَافِيّ وَإنْتِشَار قَيِّم ثَقَافَة الِإسْتِهْلَاك وَالْمَادِّيَّةِ عَلَى حِسَابِ الْقِيَمِ الرُّوحِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّة. مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، لَا يُمْكِنُ إنْكَار الْإِنْجَازَات الْعِلْمِيَّة وَالتِّكْنُولُوجِيَّة الَّتِي أَفْرَزَتِهَا الْعَوْلَمَةِ وَاَلَّتِي أَثَّرَتْ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ عَلَى حَيَاةِ الْبَشَرِ. فَالتَّقَدُّم الْمُذْهِلُ فِي مَجَالَاتِ الْمَعْلُومَاتِيَّة وَالِإتِّصَالَات وَ الطِّبّ وَ الْفَضَاء وَغَيْرِهَا قَدْ غَيَّرَ وَجْهَ الْعَالِم وَ حَسَّنَ نَوْعَيَّة الْحَيَاة لِمَلَايِين الْبَشَر. وَ مَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ هَذَا التَّقَدُّمِ الْعِلْمِيِّ لَمْ يَكُنْ خَالِيًا مِنْ الْأثَارِ السَّلْبِيَّة. فَقَدْ أَدَّى التَّسَارُع التِّكْنُولُوجْيّ إلَى مَخَاطِرَ بِيئِيَّة كَالِإحْتِبَاس الْحَرَارِيِّ وَالتَّلَوُّث، وَإسْتِخْدَام الْعِلْمِ فِي أَغْرَاضٍ عَسْكَرِيَّة وَتَدْمِيرِيَّة. كَمَا أَنَّ سَيْطَرَة الْمَنْطِق الرِّبْحِيّ عَلَى الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ قَدْ حَدَّ مِنْ الِإسْتِقْلَالِيَّة وَالْمَوْضُوعِيَّة فِي الْعِلْمِ وَرَبْطِه بِمَصَالِح الشَّرِكَات وَالْقِوَّى السِّيَاسِيَّة. أَنْ إنْهِيَار النَّمُوذَج اللِّيبْرَالِيّ لِلْعَوْلَمَة وَ التَّوَجُّهِ نَحْوَ عَالَمٍ مُتَعَدِّد الْأَقْطَاب يَفْتَح الْبَابِ أَمَامَ إعَادَةِ النَّظَرِ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. فَالْحَاجَة مُلِحَّة الْيَوْم لِتَطْوِير أُطُّرْ أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَة تَحَكُّم مُمَارَسَات الْعِلْمُ وَالتِّكْنُولُوجْيَا بِمَا يَضْمَنُ حِمَايَة الْبِيئَة وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالِإبْتِعَادِ عَنِ الْمَصَالِح الضَّيِّقَة لِلشَّرِكَات وَالدُّوَل. كَمَا يَتَطَلَّبُ هَذَا الِإنْتِقَالِ نَحْو عَوَّلَمَة بَدِيلَة. إعَادَة تَوْزِيع الثَّرْوَة وَ الْمَوَارِد عَلَى نَحْوِ أَكْثَرُ عَدَالَةً، وَ تَعْزِيز التَّنَوُّعِ الثَّقَافِيِّ وَ الْهُوِيَّات الْمَحَلِّيَّةَ، وَ إِشْرَاكُ الْمُجْتَمَع الْمَدَنِيُّ فِي صِنَاعَةٍ الْقَرَارِ. وَهَذَا بِدَوْرِهِ سَيُّمَكِن الْعِلْمُ مِنْ الِإنْعِتَاقِ مِنْ سَيْطَرَةِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ وَالتَّرْكِيزِ عَلَى خِدْمَةِ الصَّالِح الْعَامّ وَالتَّنْمِيَة الْمُسْتَدَامَة. وَ بِالتَّالِي، فَإِنَّ مَوْتَ النَّمُوذَج الْحَالِيّ لِلْعَوْلَمَة وَ بُرُوز نَمَاذِج بَدِيلَة يُمَثِّل فُرْصَة لِإِعَادَةِ الِإعْتِبَارِ لِلْأَخْلَاقِ فِي مُمَارَسَات الْعِلْمُ وَ التِّكْنُولُوجْيَا، بِمَا يَخْدُم مَصَالِح الْإِنْسَانِيَّةِ جَمْعَاءَ وَلَيْس فَقَطْ مَصَالِح الْقِلَّة المُهَيْمِنَة. وَهَذَا يَتَطَلَّب جُهُودًا مُتَوَاصِلَة مِنْ قِبَلِ الْمُجْتَمَعَات وَالْحَرَكَات الِإجْتِمَاعِيَّة لِلضَّغْط مِنْ أَجْلِ تَأْسِيس نِظَام عَالِمِي جَدِيدٍ قَائِمٍ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالتَّضَامُن.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : أَسَاسِيًّات التَّقَدُّمُ
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : إنْتِقَادَات مَا بَعْدَ الْحَدَاثَة ...
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَسَاؤُلَات الْحَدَاثَةِ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَشْكِيلَات الْحَضَارَةُ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق: الْمَنْظُور الْفَلْسَفِيّ التَّارِي ...
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: رَمَزَيات الْمَيثولُوجْيَا
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: جُذُور الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : تَجَاوُزَات الْأَيْدُيُولُوجِيَّا
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْغَنُوصِيَّة
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْهَرْمُسِيَّة
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مَبَاحِث الْآكْسِيُّولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ إشْكَالَيْات الْكُوسْمُّولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي سِيَاقِ الثَّيُولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ تَصَوُّرَات الِأنْطولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مُقَارَبَات الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
- نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
- الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي ...


المزيد.....




- انتشال جثامين 15 مسعفاً بعد أيام من مقتلهم بنيران إسرائيلية، ...
- إعلام: طهران تجهز منصات صواريخها في أنحاء البلاد للرد على أي ...
- -مهر- عن الخارجية الإيرانية: الحفاظ على سرية المفاوضات والمر ...
- صحيفة -لوفيغارو-: العسكريون في فرنسا ودول أوروبية أخرى يستعد ...
- الخارجية الروسية: لن ننسى ولن نغفر كل شيء بسرعة للشركات الأو ...
- -حماس-: ما يشجع نتنياهو على مواصلة جرائمه هو غياب المحاسبة ...
- ترامب يعلن عن قرار بقطع شجرة تاريخية في البيت الأبيض بسبب مخ ...
- -أكسيوس- يكشف موعد زيارة ترامب للسعودية
- حادث إطلاق نار في مورمانسك بشمال روسيا.. والأمن يلقي القبض ع ...
- ترامب: زيلينسكي يحاول التراجع عن صفقة المعادن وستكون لديه مش ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَحَدِّيَات الْعَوْلَمَة