حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 8293 - 2025 / 3 / 26 - 10:03
المحور:
الادب والفن
تختلف أذواق البشر في اختيار وإيثار كل شيء، وبضمنها في انتقائهم للمطربة والمطرب المحبب لديهم، ولكل مغنٍ جمهوره وزمانه؛ والناس والزمان متغيران. ومثل تيارات تقليعات الموضة، فإن بعض الأصوات الغنائية التي كانت متألقة بالأمس قد يخفت بريقها أو يتم تناسيها اليوم أو غداً؛ والعكس حاصل ويحصل أيضاً. وبقدر تعلق الأمر بالغناء عموماً، فهناك شيء خاص، ساحر وجذاب، في أصوات كل المطربات والمطربين المشهورين، بغض النظر عن نوع وقيمة الموهبة والطبقات الصوتية والمقدرات الأدائية، علاوة على حلاوة الأصوات الغنائية الخاصة بهم.
ولكن لشموخ الجدارة الفنية استحقاقاتها الخاصة التي تفرض نفسها على الزمن، عاجلاً، أم آجلاً. ومثلما تشمخ القمم العالية للعديد جداً من الشعراء العرب اليوم – مثل امرؤ القيس وأبو تمام وأبو نؤاس وأحمد شوقي والسيّاب والجواهري .. إلخ. - والتي يحلِّق فوقها عن استحقاق النجم المتفرد للمتنبي، فإن للأصوات الغنائية النسائية العربية ذراها الشامخة اليوم – مثل أم كلثوم وأسمهان وفيروز.. إلخ. – وسيأتي اليوم الذي تُقمر فيه عالياً فوقهن جميعاً عن كل استحقاق المطربة السورية ألأرمنية من حلب: رُبى الجَمَال، كما أزعم. وإذا كان المتنبي هو ماليء الدنيا وشاغل الناس في أوان زمانه، فإن النجمة سيئة الحظ "رُبى الجَمال" قليلاً ما نسمع بإسمها اليوم، رغم أنها "ماريا كالاس" العرب بكل حق وحقيق. ولكن الجدارة تفرض استحقاقاتها على الزمن، وإن بعد حين. كما أن للتألق الأكيد لنجمها كل العلاقة بالتفرد الذاتي، وليس أبداُ بالإزاحة ولا بالإلغاء ولا بتقلبات الأمزجة وتقليعات الموضة السائدة، ولا بالدعاية والاعلان والترويج ...
لقد امتلكت المطربة "ربى الجمال" (اسمها الحقيقي: زوفيناز خاتشادور ﮔرابيتيان (1966-2005)) صوتاً غنائياً فريداً هو – بلا منازع – أجمل وأقدر صوت نسائي يمكن أن تسمعه الأذن الرهيفة في تاريخ تسجيلات الغناء العربي في القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، وأقواها تسلطناً وثقافة ومساحة، وإن لم يسعفها لا الحظ ولا العمر ولا البيئة الفنية لتنال ما تستحق من اعتراف وشهرة وتكريم، لبالغ الأسف. صوتها هو من طبقة السوبرانو الموسيقية العليا، بمساحة أوكتافين (B3–C6)، زائدا أدنى درجة للقرار في زمانها، مما أهَّلها لابتكار تعبيرات صوتية فريدة الإشراق، ومتقنة التناغم والتلوينات، علاوة على أداء النغمات العالية بيسر وذلك بصوت حزين ينثال شجناً وصدى. ومن أغانيها المتوفرة اليوم على الشبكة العنكبية:
لا يوم جاني يقوللي (الغربة)/ بأمارة إي/ أروح لمين / قربك نعيم الروح / متخلينيش أكذب عليك / ليه يا يبنفسج / فاكر ولا ناسي / صعّبها بتصعب / عودت عيني / الأوِّله فى الغرام / إفرح يا قلبي / يا ليلة العيد / حرام / عودت عيني / أنساك / يا ظالمني / صبّرنى يا قلبي / بنفترق / من غير ليه / حا قابله بكرة / حلوة الدنيا / يا هاجرني / معرفش أنا ليه / أودعك / الأمل / يا فرحة / ليالى العمر / لأ يا قلبي / لماذا تخليت عني ..إلخ.
ومن المميزات الأساسية لصوتها: دفء وغنى النبرة الشجية عبر التمكن من التنويع الاعجازي في نبرات الصوت، والتسلطن الحاذق على دقة عزف النغمات، وقوة التحكم في التنفس مع ديناميكية التقنية في الغناء الناعم (وحدها تستطيع أداء مقطع غنائي بقرار لا يكاد يُسمع بحيث تتوهم الأذن غير المدربة بكونه انقطاعاً مفاجئاً في الصوت!) والعالي (أقوى "صوت رأس")، والاخلاص في فاعلية توصيل الأحاسيس والمشاعر، وسلاسة السيطرة على التنقل بين مختلف المستويات الصوتية، والذوق الرفيع في التحكم الذكي والفريد بالإهتزازات وخصوصاً في أداء صويتات العلة أو المَد، والوضوح الساطع في نطق صويتات الكلمات على نحو ثابت الدعم، والتفرد المدهش في أسلوب الأداء، ومطاولة جودة التناغم والاتساق في الصوت. وفوق هذا وذاك، فقد امتلكت رُبى الجَمَال صوتاً مثقفاً راقي التدريب على أداء الغناء الغربي والعربي، عالي الذبذبة، وصاف من النشازات. وليس هذا فقط، فقد امتازت بما يندر جداً أن يمتاز به غيرها من المطربات: المقدرة على الارتجال الفني الرفيع على نحو عجيب رهيب ومحيّر للسامع وللعازف على حد سواء. هل تجرؤ أي مطربة اليوم – مثلاً – على الارتجال الفني الراقي في أداء الأغاني الكلاسيكية لأم كلثوم كي تزيد على حلاوتها حلاوة باضافتها لقيم فنية جديدة عليها؟ وحدها "ربى الجمال" تستطيع فعل ذلك، وباقتدار مكين! اسمعوا – على سبيل المثال لا الحصر، أداءها الأدهش من المدهش لأغنية "الأمل" على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=VFLer1CMx5U
وهذا يصح على ادائها لكل أغنيات أم كلثوم وأسمهان، بلا استثناء! لأول مرة في تاريخ الغناء العربي نسمع العملاقتين أم كلثوم وأسمهان بصوت مطربة واحدة تبز في أدائها لأغانيهما حلاوة أم كلثوم وأسمهان الحقيقيتين، وهما مَن هما في العملقة الغنائية!
الجمال والاقتدار الفنيان يفرضان هيبتهما!
وعلاوة على كل هذا وذاك، فإن ربى الجمال هي المطربة العربية الوحيدة التي لا تكرر نفسها في أي واحدة من أغانيها: لكل أغنية لها عندها صوتها الخاص بها! إنه صوت ذهبي يمتلك كل تلاوين المخمل الملكي الشهي للذائقة الفنية كطعم العسل الدافيء الممزوج بقيمر الحلة!
وليس هذا فحسب! هل سمعتم بتكرار مغنية عربية لمقطع غنائي واحد بعينه (22) مرة ضمن أغنية قصيرة واحدة، وكل واحد من هذه التكرارات بتلوين مختلف عن غيره؟ إسمعوا أداء النجمة رُبى الجَمال لمقطع اللازمة:
وأحنا إللي عليه سألنا،
ما سألش علينا ليه؟
في أغنية "الغربة" المدهشة الأداء، على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=u8IiCOWMpWM
ومن المعلوم أن كل الغناء إنما يعتمد على التكرارات، ولكن الشامخة "ربى الجمال" لم تكن لتكرر تلوين لحن أي كلمة – ناهيك عن تكرار الكوبليهات التامة – التي تتردد في كل أغانيها مرتين، البتة! أي اقتدار فني جبار هذا؟
وزيادة على كل هذا وذاك، يأتي أستخدامها المتألق لـ "الحزام"، بتخزين الهواء بحرفنة في صدرها بغية مد اللحن. إسمعوا ، مثلاً، الاستخدام المقتدر للبيلت في أدائها لتمددات أغنية أم كلثوم "إفرح يا قلبي" على الرابط:
https://www.agha-alkalaa.net/archives/31681
وكذلك أغنية "يا ظالمني" على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=EmAJZx7v_WA
وأخيراً، وليس آخراً، يشدُّنا تمكنها في الابتكار والتحكم بتلوين الأهتزازات العندلية لصويتات المد في كلمات الأغنية. إسمعوا وتدبروا هذا التفرد الاستثناتي في اخراج وتلوين الاهتزازات لصويتات العلة القصيرة والطويلة في إدائها لكلمات أغنية "ليه يا بنفسج" - والتي تجعل البلابل من كل صنف تخجل من فتنة أغاريدها – على الرابط:
https://www.facebook.com/RobaElGamal/videos/%D8%AD%D9%81%D9%84-%D9%85%D9%86-%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%B1%D8%A8%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84-%D9%85%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%81%D9%84-%D8%B5%D8%A8%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D9%87-%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D9%86%D9%81%D8%B3%D8%AC-%D9%87%D9%88-%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%AD-%D9%88%D8%B5%D9%84%D8%A9-%D8%BA%D9%86%D8%A7/1043804136069487
أيه، أيتها البنت الحلبية الجميلة المظلومة مثل أهل مدينتك: رُبى الجَمَال؛ متى ينقشع الغمام عن نجمك الوضّاح الفوّاح الصدّاح؟!
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟