رشيد عبد الرحمن النجاب
كاتب وباحث
(Rasheed Alnajjab)
الحوار المتمدن-العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 12:01
المحور:
الادب والفن
كثيرا ما تضيء سطور الكتب بعناوين متجددة لقراءات مستقبلية، فما أن انتهيت من كتاب الصديق المحامي الحيفاوي حسن عبادي بعنوان: "يوميات الزيارة والمزور" حتى بدأت بالبحث عن الرواية موضوع هذه السطور ، والموسومة "الجهة السابعة " للأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش الذي يقضي حكما بتسع مؤبدات في السجون الإسرائيلية، وما أن باتت الرواية بين يدي، حتى بدأت بتفحص غلافيه بمكوناتهما، وما تبع ذلك من إهداء، واستهلال فأدركت أن للنصوص الموازية وزنا مختلفا في هذا الكتاب.
بدءا من مستطيل تظلل بالسواد في قمة الغلاف الأمامي، وهل للزنزانة والأسر لونا أكثر بؤسا وكآبة من اللون الأسود؟ ثمة طيف من نور يخترق الصورة كاشفا عن يد متشبثة بنافذة الزنزانة وقد بدا عليها أثر السنين في السجن وملحقاته، تتشبث اليدان بحديد النافذة بقوة توازي رغبة الأسير في معانقة الحرية برغم أحكام المؤبد المتروسة بأعداد خيالية.
يمتد هذا الظلام ليغطي جزءا من خارطة فلسطين وإن كان الظلام يغطيها كلها في الواقع، إلا إن للغلاف رسالة أراد المؤلف أن يمررها، فقد تجلل باقي الغلاف بألوان زاهية بل مشعة ويقول فعل التحليق ما يقول ممثلا في مكونات مثل صورة الطائر المحلق الخافق بجناحيه، والطائرة الورقية بألوان علم فلسطين. ثم ظل إنسان متشبث بالحياة برغم المعاناة وسنين الحكم الطويلة ناهيك عن الظروف شديدة القسوة الماثلة في كل مكان خلف الجدران. مجمل هذه المكونات تشير بالضبط وبدقة إلى مضامين هذه الرواية.
في هذه الظروف يتساءل الكاتب في استهلال الرواية عن لغة الكتابة الممكنة فيقول:" أتروي لهم حكايتك كما هو مألوف؟ أو كما درجت عليه عادتهم في الاستماع أو المشاهدة أو القراءة؟ أم ترويها لهم على نحو مغاير؟ مؤكدا أن ثمة ظروف للعيش خلف هذه الأسوار والأبواب الموصدة ما استدعى هذا التساؤل: "ذلك لأنك ستحاول أن تقنعهم أنك تحيا في عالم آخر غير عالمهم المترع بالأحداث والتفاصيل الرتيبة والمكتظ بكل أشكال الحياة وألوانها وغرائبها فيما عالمك محاصر ليس جديرا أن يطلق عليه توصيف الحياة"
ثمة في ذلك العالم المحاصر قاعدة اعتمدها آلاف الأسرى سيما من قضوا عقودا خلف القضبان، تقول القاعدة المأثورة: "عش في السجن ولا تدعه يعيش فيك" ، ومن الطاقة الكامنة بين حروف هذه المقولة انبثقت أعمال أدبية وفنية عززت إرادة الحياة لدى الكثير من الأسرى
من هنا تأتي فكرة "الجهة السابعة" التي يمهد الكاتب لظروف نشأتها ومبرراتها في ص14 ثم لا ينفك يشير إليها في مواقع مختلفة ذات دلالة عبر السرد حتى نهايته. يقول كميل أبو حنيش:" "تحجبك الجدران والأسوار والأبواب الموصدة، تتأمل جهاتك الست فتجدها مكتظة بكل أشكال الحصار وألوان الوجع الإنساني، تتعاقب عليها فصول الاختناق والغثيان والرغبة في الانطفاء فصار يتعين عليك اختراع الجهة السابعة كي لا تتلاشى في الغياب الأبدي وأنت لا تزال على قيد الحياة"
ثم يردف في نهاية الصفحة :"مع الوقت سيساورك شعور أن الحلم والخيال أعلى منزلة من الواقع، فتغدو الجهة السابعة لبشر على شاكلة بشر يحيون معك في هذا البرزخ الأبدي هي الجهة الأكثر واقعية، وأنها حياة كاملة"
إلى أن يشرف على موقع يطل منه على هذه الجهة بمكوناتها الثلاث: "فكان لا بد من جهة أخرى تتسلل إليها خلسة تخترق الجدران الصماء، وهناك في تلك الجهة حيث لا هي زمان ولا مكان ستعثر على ثلاث بوابات ، واحدة للحب وأخرى للحلم، وثالثة للموت، فالحب لحظة خارجة عن الزمن، والحلم لحظة خارجة عن الواقع، والموت لحظة خارجة عن الحياة" .
عبر هذه البوابات الثلاث"الحب والحلم والموت" سيمضي المؤلف في تقديم معالم سيرة ذاتية ولكن بأسلوب مختلف قليلا من حيث علاقة السرد بالأحداث، فيروي من نقطة معينة ثم لا يلبث يعود للبدايات حيث الطفولة فنراه يشير إلى بعض الأحداث، ثم يعيد الكرة مفسرا ومفصلا، أما عن إيقاع السرد فتراوح بين المتمهل المغرق في الوصف سيما في بدايات الفصول، وآخر ذي ايقاع متناغم مع طبيعة الأحداث سيما في وصفه لأحداث الإنتفاضتين والظروف المتعلقة بهما.
يستهل الكاتب باب الحب بأبيات من قصيدة صوفية لأبي القاسم القشيري:
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفذ الشراب ولا رويت
هو ذا كميل أبو حنيش يتسلل عبر هذا الباب بعيدا عن السجن وحراسه، تقوده خطاه إلى عالم الحب حيث وجد نفسه فجأة وقد تحرر من تبتله الثوري، الذي يقتضي الحذر في موضوع الحب والعلاقات مع البنات سيما في ظروف الانتفاضة ، هكذا وجد الراوي نفسه في معبد الحب مع الهة الحب "أروى" تلك الفتاة التي أطلق العنان لخياله في تتبعها، ولقلمه في وصفها، كانت فعلا أشبه بآلهة في تعامله معها فلم يدن منها إلا صدفة، ولم يتحدث معها إلا لماما، ولكنها استقرت في وجدانه بعد أن غابت من مشهد الحياة اليومية، فطفق يبحث عن صفاتها أو بعض صفاتها في الأخريات فكانت فاتن، ومنى، ووصال ونبال ثم حنان، أسماء بكثير من المعاني، فهل كانت الأسماء واقعية في مصادفة عجيبة، ام ابتكرها ليفتح لنفسه آفاقا في ربط هذه الأسماء مع ما لمس منهن من صفات؟ تساؤل لن أتوقف عنده طويلا.
ثمة ما يجب الإشارة إليه في علاقاته بالفتيات من خطاب مبني على الإحترام للمرأة بشكل عام، فلم أجد في حديثه ما يشير إلى الإستعراض في الحديث عنهن بل كانت لعلاقته بكل منهن ظرفها، ثم هذا الموقف من حنان وتوجهه لإنهاء العلاقة معها بالتفاهم نظرا لصعوبة ظرفه الشخصي ورغبة منه في تجنيبها خطر المعاناة من هذه الظروف.
ويتابع كميل أبو حنيش مسيرته في بوابة الحب من الجهة السابعة وليس له من رفيق سوى ظل أروى وأوصافها، وأجواء تعزز هذا الحضور مستدعيا الشاعر البرتغالي فرناندو بيساوا، وابن عربي والحلاج. ثم يعقد لها هذا الوعد باللقاء المستمر فيقول: "سأظل أوافيك في جهتي السابعة كغزالة هاربة مني منذ ربع قرن، أنصب مصيدة لها في باب الحب، في تلك الجهة لعلي أظفر بها ولو في الحلم".
و يقرر الراوي أن يدخل إلى باب الحلم، الباب الثاني من أبواب الجهة السابعة، ويستهل هذ الباب في الربط بين الحلم والذاكرة، وبين الحلم والآتي من الأحداث داخلا إلى عالم الفنتازيا والخيال الواسع فيقول: "في السجن تقع تحت غواية سطوة الأحلام فترتقي بك عن الواقع وعن عالمك المحاصر ويغدو الماضي والآتي هو المادة الدسمة التي تتغذى عليها الأحلام".
وليس من صورة للماضي سوى الذاكرة التي يؤكد الكاتب على سطوتها : "في الجهة السابعة أنت مجرد من أي سلاح سوى الذاكرة فتعكف على اعتصارها بحثا عن كل ما هو آسر واستثنائي ص 101 وخارق ومذهل، وتكمن المفارقة في تطلع الكاتب الأسير لما هو آسر، فهل ثمة فارق بين الأسير المحاصر والأسير المحلق في جهته السابعة في عالم الخيال والفانتازيا؟
ويتابع الكاتب استعراض ما لعالم الأحلام من فضل: فيقول ص 104"وحدها الجهة السابعة من تُنقذ أحلامك، ولايملك السجان محاسبتك أو اقتفاء أثرك"، على أمل أن لا يتوصل السجان إلى ما توصلت إليه أسمهان وشقيقها جميحان من اختراق أحلام "محمد الأصغر" ثم ابتزازه كما في رواية منزل الذكريات لأديبنا المقدسي المبدع محمود شقير.
يطل المؤلف من باب الحلم في الجهة السابعة على مشاهد من مراحل مبكرة من الحياة حيث سندس ومغامرات الحب الطفولي الأول الذي لم يعمر طويلا، مرورا بمغامرات الطفولة ومحاولة تقليد الأكبر سنا، وزيارة الأقارب في السجون منذ مراحل الطفولة المبكرة واللجوء إلى الجدة مصدرا للمعلومات بين دعابة وجد، ثم ترتسم معالم علاقة مميزة مع الجدة التي تبات في مرحلة ما أمينة للسر، ليس ثمة ما يتعلق بحب أو شقاوة مراهقين بل أوراقا ائتمنها عليها وأبت إلا أن تردها له تسليم اليد،ولم يكن غريبا إذ ذاك أن تكون الجدة عريفة عنوانا للإهداء.
مراحل أخرى كثيرة من حياته تناولها المؤلف في باب الحلم، عن الدراسة والنجاح في الثانوية العامة، والعمل في الناصرة ، ثم الدراسة الجامعية وأجوائها و بداية تبلور الوعي السياسي سيما في الظروف العامة التي تصادفت مع تلك المرحلة من اتفاق اوسلو وتبعاته. ولم تغب اروى ورفيقاته الأخريات عن المشاهد كما لن يغبن في أثناء حديثه في باب "الموت " الباب الثالث والأخير من "الجهه السابعة"
يعبر الكاتب إلى باب الموت مارا بأبيات الشاعر أحمد شوقي
ولون أن الجهات خلقن سبعا لكان الموت سابعة الجهات
وفي هذا البيت ما فيه من معان وثيقة الصلة بعنوان الرواية، وعنوان هذا الفصل ومضمونه ما أنرك للقارىء أمر اكتشافه والخوض فيه، ولكن للموت دوما حضور في وعي الناس على مر الأزمان وطالما ارتبط في حضارات الشعوب أفكار ومعتقدات وفلسفات، أما المؤلف في هذه الرواية فقد تناوله من باب آخر هو ذا يعبر عن هاجس الموت الذي لا يمكن تجاهله يقول :" في السجن ومع توالي السنوات، تسمع هسيس الموت يدنوا بين الفينة والأخرى، هاجسك الموت قبل أن تعانق نسائم الحرية، وأن يحتجز العدو جثتك في الثلاجة أو في مقابر الأرقام لتغدو مجرد رقم بلا إسم ولا هوية"
إذن هو هسيس الموت الذي عبر عنه في مواقع مختلفة من هذا الفصل على درجات متعددة من الشدة تتناسب وقسوة الحضور ، لكنه أبدا لم يكن نادبا ولا متقوقعا بانتظار "هسيس الموت"
كانت الانتفاضة الثانية وما رافقها من اجتياحات مسرح أحداث هذا الفصل حتى اليوم الذي وقع فيه في براثن الأسر ، وقد صور التفاعل مع الموت من خلال ما يمكن أن يسمى يوميات الاجتياح حين يبدو رفيق الأمس مشهدا شديد القسوة في الشارع، وحين يتحول هسيس الموت إلى أرقام تحصي الشهداء في نابلس وجنين وغيرها .
وفي السجن باتت وقفة أحد السجناء بالباب نذيرا بعلو "هسيس الموت" واقترابه بصورة بشعة يتبعها الإعلان عن فقد قريب أو رفيق درب وصديق، ثم صرخة مدوية وبكاء.
ثم يأتي خبر وفاة الجدة فيقول:" تموت الجدة، ويضفي علي موتها معنى وجوديا مكثفا فألوذ للجهة السابعة، أتأمل حياتها وموتها وذلك الرابط الوثيق ال كان ولا زال يربطني بها"ص302
الجهة السابعة إذن كانت ملاذ كميل أبو حنيش أنى كان الباب الذي قصده سواء من باب "الحب" برفقة أروى وشبيهاتها، أو من باب" الحلم" وتفاصيل وذكريات حياة عابقة بالحياة ،أو حين دنى منه هسيس الموت ليفجعه يرحيل الرفاق فادي وجبريل ثم رحيل الجدة عريفة
يلوذ كميل أبو حنيش بالجهة السابعة حتى لا يعيش السجن فيه.
#رشيد_عبد_الرحمن_النجاب (هاشتاغ)
Rasheed_Alnajjab#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟