أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة البروكرستيَّةُ .














المزيد.....


مقامة البروكرستيَّةُ .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8288 - 2025 / 3 / 21 - 08:51
المحور: الادب والفن
    


تُعَدُّ (( البروكرستيَّةُ )) من أخطرِ أمراضِ العقلِ الحديثِ , لأنها تسحقُ الفرديَّةَ باسمِ التماثلِ , وتُحاربُ التنوُّعَ تحتَ رايةِ التَّجانسِ القسريِّ , وقد قالوا انها القولبة الجبرية , والتطابق المتعسف , والانسجام المبيت , انه افتئات على الواقع قلما يفلت من غضبة المنطق وانتقام الحقيقة, ولذا فأن مصطلح البروكرستية يطرق مجالات واسعة من الحياة ليشمل أي محاولة لصب كل الاختلافات في قالب واحد , وبروكرُست , شخصيةٌ أسطوريةٌ من الميثولوجيا اليونانية , عاشَ في غاباتِ أثينا كقاطعِ طريقٍ, مترصِّدًا للمارَّةِ في مكانٍ ناءٍ , وكانَ يعتقدُ أنَّهُ (( النموذجُ الأمثلُ للإنسانيَّةِ المتكاملة )) , وكانَ في منزلِهِ سريرٌ حديديٌّ يدعو ضيوفَهُ لقضاءِ الليلِ عليه , مظهرُهُ عاديٌّ لمن يجهلُهُ , لكنَّهُ في الواقعِ أداةٌ لرؤيتِهِ الجنونيَّةِ للإنسانِ المثاليِّ , فإذا كانَ الضيفُ أطولَ منَ السريرِ, عمدَ (( بروكرُست )) إلى بترِ جزءٍ من أطرافِهِ حتَّى يتساوى طولُهُ معَ السريرِ, وإن كانَ أقصرَ, شدَّهُ بعنفٍ حتَّى تتمزَّقَ مفاصلُهُ وتتفكَّكَ أطرافُهُ , كلُّ ذلكَ ليُجبرَ ضحيَّتَهُ على التوافقِ مع قياسِهِ المثاليِّ المُفتَرَضِ.

غيرَ أنَّ المثيرَ للسخريةِ أنَّ (( بروكرُست )) امتلكَ سريرينِ مختلفَيِ الطُّولِ , يختارُ منهما ما لا يُناسبُ الضيفَ عمدًا , ليضمنَ أنْ لا أحدَ ينجو من تعديلِهِ القسريِّ , ورغمَ بساطةِ هذهِ الأسطورةِ , فإنَّها خلَّفتْ مصطلحَ (( البروكرستيَّةِ )) , الذي يصفُ أولئكَ الذين يحاولونَ فرضَ مقاييسَ ثابتةٍ على البشرِ , غيرَ مكترثينَ باختلافاتِهِم الفكريَّةِ والعاطفيَّةِ والثقافيَّةِ , بل يسعونَ إلى تطويعِهِم قسرًا داخلَ قوالبَ صارمةٍ , دونَ اعتبارٍ لما يُناسبُهم من فكرٍ أو قانونٍ أو معتقدٍ.

تمتد البروكرستية الى جميع نواحي الحياة , وقد تكون أنت أو أنا قد مارسناها , أو وقعنا ضحيتها , لذلك في المرة المقبلة حين تحل أي فكرة ضيفا على عقلك , فحاول ان تعدل السرير لكي يلائم الضيف لا أن تقطع اوصال الضيف ليلائم سريرك , نعم قد نكون نحن مارسنا (البروكرستية) بشكل أو بآخر, بوعي أو بجهل , يحدث هذا عندما لا نقبل الاخر كما هو , بل نحاول حشره في صوره خلقناها لأنفسنا , ولاحظ عندما نحب من يشبهنا فإننا في الواقع نحب أنفسنا فقط , أما الآخرين فمجرد أطياف , والاختلافات مهما كانت صغيرة نحاول مطها أو بترها حتى تطابق سرير عقلنا الحديدي , نحن حين نقتنع بأننا لسنا محور الكون وبأن هناك أناس ربما يختلفون معنا فكرياً , وان ما نراه اليوم صواباً ربما نغير قناعتنا به مستقبلاً , وبأن رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب , حينها نكون قد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق الصحيح.

تذهب البروكرستية إلى مايسمى ب ((البروكرستية الاشتراكية )) , وهي محاولة لفرض التجانس على الناس وتفرض المساواة المطلقة على المواطنين بحيث تضع الجميع في قالب واحد من دون مراعاة حقيقة اختلافاتهم , اوتستخدمها الحكومات الماكرة فتوعز لاستخباراتها بان تفصل لها تقريرا يتناسب مع قرار سياسي مبيت لتكيف القرار وفقا للمعلومات , في حين كان أندريه جيد يعلل (( بان المساواة بين الناس ليست طبيعية , بل ليست شيئاً يُبتغى , فمن العدل أن يتفوق الأخيارعلى طغام الناس بما تُخولهم الفضيلة من امتياز, وهؤلاء الطغام إذا لم تُثر بينهم التنافس والتزاحم والغيرة ظلوا هامدين خامدين أشبه شيء بالماء الراكد )) , وعلى ذكر نظريات العدل والبروكرستية الاشتراكية تثار في عقولنا ابيات الأديب عباس محمود العقاد الذي يقول : ((انا نريد اذا ما الظلم حاق بنا عدل الاناسي لا عدل الموازين , عدل الموازين ظلمٌ حين تنصبه على المساواة بين الحر والدون , مافرقت كفة الميزان او عدلت بين الحلي واحجار الطواحين )) .

البروكرستية ليست سعيًا نحو المثالية , بل قمعٌ للتنوع باسم التماثل القسري , من يمارسها لا يبحث عن النظام , بل عن السيطرة , فيختار دومًا قالبًا يجعل الجميع ضحايا , الحرية ليست فوضى , لكنها ليست إجبارًا على التشابه , ومن يسجن الآخرين في (( سريره المثالي)) ينتهي أسيرًا له , وتنتهي الأسطورة عند هذا الحد , ولكن لا تنتهي المعاناة ,وقد تكون هي الطريقة الوحيدة النافعة لظرف أمتنا الراهن , لاسيما وأن الدين والتاريخ واللغة والأرض ووحدة المصائب لم تكن قادرة على توحيدها وإجتماع كلمتها , الا ان البعض يقول (( بأننا نحتاج لسرير (بروكرست) هذا كقالب بمقاس ثابت , يعدل ويحدث ويعيد قسرا تصميم الإنسان العربي الفوضوي لخلق جيل أو أمة أو حتى قطعان تسير على نسق متسق ونهج واحد وسبيل له هدف كباقي الشعوب والأمم , وقد تبدو الفكرة جنونية لكن مالعمل مع أمة غارقة في أوحال التخلف والجهل والخيال والأساطير والإقتتال العبثي لالشيء إلا لأنها تائهه وحائره ومشلولة وعمياء )) .

البروكرستيه ظاهرة اصيلة وثابته في بلادنا , وإن تلك الشخصية الأسطورية لم تمت إلا جسدًا , أما روحها فهي حاضرة وبقوة في جسد مجتمعاتنا العربية , وهي جوهر الدين السائد هنا , على مستوي النص , ولولا القانون لطبقها اتباعه علينا بحدة , في مجتمعاتنا نريد الأشخاص والأفكار والادب والفلسفة وحتى النظريات العلمية على مقاس سريرنا , والا مصيرها جميعا القتل والتشويه , أن مجتمعنا العربي يحمل سرير بروكرست معه في كل جلسة للحوار, ناسياً أنه كما لأقدامنا مقاسات , فإن لأفكارنا مقاسات , تأبي المط أو التشكيل أو القولبة , وإن بروكرست مازالت روحه سارية في مجتمعاتنا , تجد روحه في رجال السياسة وكذلك رجال الدين والإعلام , وتمتد روحه لتسكن المعلمين وأساتذة الجامعات , فإما أن تتطابق أحلام الآخرين وأفكارهم وبرامج حياتهم مع أحلام وأفكار وبرامج هؤلاء , وإما أن يتم إخضاعها وتكييفها بالقهر والقوة البروكرستية .



#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة يوم تهكسسوا .
- مقامة غبش الوطن .
- مقامة الفضفضة .
- مقامة الدونكيشوتية .
- مقامة الكلاوجي .
- مقامة الزلك .
- مقامة تهويمات سوريالية .
- مقامة المجرشة .
- مقامة الذين يشبهوننا .
- مقامة قهر العهود .
- مقامة زمام ألأزمة .
- مقامة شعر الديجيتال .
- مقامة العقم والحبل .
- مقامة العقم و الحبل .
- مقامة لتبق َهامْتُكَ سامقة .
- مقامة البقاء للأفسد .
- مقامة الشارب والشنب .
- مقامة مشكورة .
- مقامة التعود .
- مقامة الفاتحة .


المزيد.....




- سلاف فواخرجي: بشار الأسد ليس طاغية ونتوسم خيرا بأحمد الشرع
- تغريدة مثيرة عن الدراما المصرية في القنوات السعودية.. هل تصل ...
- مصر.. إعلامي شهير ينتقد قرار رئيس الوزراء عقب إعلان تشكيل لج ...
- إعلامي مصري يدعو للحنين إلى الماضي ومشاهدة الأفلام بالأبيض و ...
- -أحاديث بجانب المدفأة- حول فيلم -الخنجر- من إنتاج RT
- -مئذنة علي-.. روعة العمارة السلجوقية في أصفهان الإيرانية
- د. مرضية سراج.. طبيبة اثرت في ثقافة الاثار والمقاومة
- -إذا كنت لا تتقن الغناء فلا تعاقر الخمرة وتسكر-.. 6 من أشهر ...
- في عيد ميلاده.. قصيدة لافروف -هيئة السفراء- بلسان فنانين وري ...
- لافروف والفن الخفي.. قصة رسومات جمعها دبلوماسي سنغافوري


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة البروكرستيَّةُ .