الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8287 - 2025 / 3 / 20 - 09:54
المحور:
الادب والفن
في عالمٍ تتآكلُ فيه الكلماتُ أحيانًا تحتَ ثقلِ التكرارِ والرتابةِ، حيثُ تفقدُ بريقَها الأوليَّ وتتحولُ إلى مجردِ أصداءٍ باهتةٍ تترددُ في فضاءٍ خالٍ من الإلهامِ، تأتي المجموعة القصصية "عبارات ملهمة" للكاتب المغربي جواد العوالي كنسيمٍ عابرٍ يحملُ في طياتِهِ رائحةَ التجديدِ والاختلافِ. هذه المجموعةُ القصصيةُ، التي لا تتجاوزُ في حجمِها الثمانينَ صفحةً، تُقدمُ نفسَها كعملٍ يتحدى المألوفَ، يُعيدُ تعريفَ الأدبِ الحقيقيِّ بوصفِهِ ليسَ مجردَ ترتيبٍ للحروفِ أو نسجٍ للجملِ، بل قوةً جبارةً قادرةً على هزِّ الأعماقِ، كزلزالٍ يضربُ بلا رحمةٍ في صلبِ الوجودِ الإنسانيِّ، مُحطمًا جدرانَ اللامبالاةِ، ومُعيدًا صياغةَ الأسئلةِ الأزليةِ التي طالما شغلتْ فكرَ الإنسانِ وقلبهُ بأدواتٍ جديدةٍ تتناسبُ مع تعقيداتِ الحاضرِ.
إنَّ "عبارات ملهمة" ليست مجردَ كتابٍ يُقرأُ، بل هي تجربةٌ وجوديةٌ مكثفةٌ، رحلةٌ طويلةٌ داخلَ متاهاتِ النفسِ البشريةِ، حيثُ يأخذُنا الكاتبُ بينَ ثنايا الشعورِ والفكرِ، مُستخدمًا خيوطَ السردِ كما يفعلُ الحكاءُ القديمُ الذي يمتلكُ خبرةَ القرونِ في نسجِ القصصِ. يمتازُ العوالي بقدرتِهِ الفائقةِ على تحويلِ اللحظاتِ العابرةِ – تلكَ التي قد تبدو عاديةً في ظاهرِها – إلى ملاحمَ صغيرةٍ تحملُ في طياتِها كلَّ ثقلِ الوجودِ وجمالِهِ وألمِهِ. ففي كلِّ قصةٍ من القصصِ الأربعَ عشرةَ التي تتألفُ منها المجموعةُ، نجدُ أنفسَنا أمامَ لوحةٍ سرديةٍ تتجاوزُ حدودَ الزمانِ والمكانِ، لتغوصَ في أعماقِ ما يجعلُ الإنسانَ إنسانًا: تناقضاتُهُ، أحلامُهُ، مخاوفُهُ، وصراعاتُهُ الداخليةِ التي لا تنتهي.
هذه القصصُ لا تُقدمُ نفسَها كنصوصٍ منفصلةٍ تقفُ كلٌّ منها على حدةٍ، بل كنُثارٍ من مرآةٍ مكسورةٍ، حيثُ يعكسُ كلُّ جزءٍ منها جانبًا مختلفًا من الروحِ الإنسانيةِ بكلِّ تعقيداتِها وتنوعِها. في هذا المختبرِ السرديِّ الفريدِ، يضعُ العوالي مشاعرَ الإنسانِ تحتَ مجهرِ الكلمةِ، مُختبرًا حدودَها ومداها: الحبُّ الذي يولدُ من رحمِ الخسارةِ كزهرةٍ تنبتُ بينَ أنقاضِ مدينةٍ مهجورةٍ، والخوفُ الذي يتحولُ إلى قوةٍ دافعةٍ حينَ يجدُ نفسَهُ على شفا الهاويةِ، واليأسُ الذي يكتشفُ، في لحظةِ إشراقٍ مفاجئةٍ، أنَّه لم يكن سوى قناعٍ يخفي خلفَهُ بذورَ الأملِ. العوالي لا يكتفي بسردِ الأحداثِ كما تنكشفُ على السطحِ، بل يغوصُ عميقًا في أوردةِ شخصياتِهِ وشرايينِها، مُستخدمًا الكلمةَ كمبضعٍ جراحيٍّ يشرِّحُ ما هو مخفيٌّ، مُظهرًا التناقضاتِ التي تعيشُها هذه الشخصياتُ بلا تزييفٍ أو تجميلٍ، كما لو أنَّه يقومُ بتشريحٍ أدبيٍّ يكشفُ ما وراءَ الأقنعةِ التي نرتديها جميعًا في حياتِنا اليوميةِ.
ما يميزُ هذا العملَ بشكلٍ خاصٍ هو قدرتهُ العجيبةُ على تحويلِ التفاصيلِ الصغيرةِ، تلكَ التي قد تبدو تافهةً أو عابرةً في سياقِ الحياةِ العاديةِ، إلى رموزٍ تحملُ أبعادًا كونيةً عميقةً. فالشخصياتُ التي يرسمُها العوالي، رغمَ بساطتِها الظاهرةِ وانتمائِها إلى واقعٍ ملموسٍ، تتحولُ في لحظاتٍ معينةٍ إلى أبطالٍ تراجيديينَ يواجهونَ مصائرَهم بلا دروعٍ أو حمايةٍ، مُعتمدينَ فقط على قوةِ إرادتِهم أو هشاشةِ أرواحِهم. نجدُ، على سبيلِ المثالِ، شخصيةً تستمدُّ خلاصَها من آيةٍ قرآنيةٍ تترددُ كهمسةٍ خافتةٍ في أذنِها، تُضيءُ لها الطريقَ وسطَ عتمةِ الحيرةِ، أو أخرى تُعيدُ بناءَ ذاتِها انطلاقًا من بيتِ شعرٍ قديمٍ يتألقُ كنجمٍ وحيدٍ في سماءِ اليأسِ. من خلالِ هذه اللحظاتِ، يطرحُ الكاتبُ تساؤلاتٍ ضمنيةً عميقةً: أليستِ الحياةُ ذاتُها نصًّا مفتوحًا يتيحُ لكلِّ فردٍ أن يقرأَهُ ويكتبَهُ بطريقتِهِ الخاصةِ؟ ألا يحملُ كلُّ إنسانٍ في داخلِهِ قصةً تستحقُّ أن تُروى، وإنْ بدتْ عاديةً في ظاهرِها؟
اللغةُ في "عبارات ملهمة" تُشكلُ بحدِّ ذاتِها عالمًا مستقلاً يستحقُّ التأملَ والدراسةَ. فهي تتراقصُ بخفةٍ مذهلةٍ بينَ الشاعريةِ المكثفةِ التي تأسرُ القلبَ، والواقعيةِ القاسيةِ التي تُواجهُ الذهنَ بحقائقَ لا مفرَّ منها. يُتقنُ العوالي فنَّ التوازنِ بينَ الإيجازِ الذي يضربُ كالرصاصةِ في صدرِ الهدفِ، والإيحاءِ الذي يتركُ للخيالِ مساحةً واسعةً للتجوالِ. فالجملةُ القصيرةُ عندَهُ ليست مجردَ أداةٍ لنقلِ فكرةٍ، بل سلاحٌ حادٌّ يصيبُ بدقةٍ متناهيةٍ، بينما لا يترددُ في الوقتِ نفسِهِ في الانجرافِ معَ تياراتٍ شعريةٍ جارفةٍ حينَ يقتضي الموقفُ ذلك. فنجدُهُ يصفُ ألمَ الفراقِ بأنَّهُ "وشمٌ يطبعُ الروحَ"، في استعارةٍ تحملُ في طياتِها كلَّ ثقلِ الذاكرةِ والخسارةِ، أو يشبِّهُ الأملَ الذي ينبعثُ من بينِ رمادِ اليأسِ بطائرِ الفينيقِ الأسطوريِّ الذي يولدُ من جديدٍ. هذه الانزياحاتُ اللغويةُ ليست مجردَ زخرفةٍ تضافُ إلى النصِّ لتجميلِهِ، بل هي عناصرُ حيويةٌ تتنفسُ معَ النصِّ وتُعطيهِ روحَهُ وحركتَهُ.
على الصعيدِ الفنيِّ، تتجلى براعةُ العوالي في التنوعِ السرديِّ الذي يميزُ قصصَ المجموعةِ. فمن حكايةٍ تُروى بصوتٍ داخليٍّ يشبهُ صرخةً مكتومةً تترددُ في جدرانِ الذاتِ، إلى أخرى تعتمدُ تقنيةَ التدفقِ الوعييِّ حيثُ تتداخلُ الذكرياتُ معَ الحاضرِ كما تتداخلُ الأمواجُ في بحرٍ مضطربٍ، نجدُ أنفسَنا أمامَ كاتبٍ يمتلكُ أدواتِهِ بثقةٍ ويستخدمُها بمرونةٍ مدهشةٍ. ورغمَ هذا التنوعِ في الأساليبِ، يبقى هناك خيطٌ خفيٌّ يربطُ بينَ القصصِ جميعِها، وهو ذلكَ الشعورُ بالقلقِ الوجوديِّ الذي يخيِّمُ بظلالِهِ على الشخصياتِ، دافعًا إياها إلى مواجهةِ لحظاتٍ حاسمةٍ معَ ذواتِها. هذا القلقُ لا يُقدمُ حلولاً جاهزةً أو إجاباتٍ نهائيةً، بل يتركُ القارئَ في حالةٍ من التساؤلِ المستمرِّ، مُذكرًا بأعمالِ أدباءٍ كبارٍ مثلَ كافكا أو سارتر، حيثُ يمتزجُ الشخصيُّ بالكونيِّ في نسيجٍ واحدٍ.
في خلفيةِ المجموعةِ الثقافيةِ، يبرزُ حضورٌ قويٌّ وملحوظٌ للتراثِ العربيِّ الإسلاميِّ، لكنَّهُ ليسَ حضورًا سطحيًّا أو زخرفيًّا، بل عميقًا ومتغلغلاً في بنيةِ النصِّ كالنسغِ الذي يغذي الشجرةَ. الآياتُ القرآنيةُ والأبياتُ الشعريةُ العربيةُ القديمةُ لا تظهرُ هنا كزينةٍ أو إضافةٍ خارجيةٍ، بل كعناصرَ فاعلةٍ تتدخلُ في مساراتِ الشخصياتِ ومصائرِها، كما لو كانتْ شخصياتٍ ثانويةً تؤدي دورًا حاسمًا في القصةِ. من خلالِ هذا الاستدعاءِ الذكيِّ للموروثِ، يبدو العوالي وكأنَّهُ يُعيدُ إحياءَ حوارٍ قديمٍ بينَ الماضي والحاضرِ، لكنْ دونَ أن يقعَ في فخِّ التبجيلِ الأعمى أو النظرةِ الرومانسيةِ الساذجةِ، بل بنظرةٍ نقديةٍ تبحثُ عن الجوهرِ الإنسانيِّ الذي يتجاوزُ الحدودَ الزمنيةَ والثقافيةَ.
معَ ذلكَ، قد يثيرُ هذا العملُ بعضَ الجدلِ بينَ النقادِ، إذْ يمكنُ أن يُنظرَ إليهِ كعملٍ يحملُ تناقضًا داخليًّا بينَ طموحِهِ الفلسفيِّ العالي وتزامُنِهِ معَ الواقعيةِ الاجتماعيةِ. فقد يرى البعضُ أنَّ التوجهَ نحوَ الرمزيةِ المكثفةِ في بعضِ القصصِ قد يُضعفُ من قوةِ الرسالةِ الإنسانيةِ التي يسعى النصُّ إلى إيصالِها، بينما قد يدافعُ آخرونَ عن أنَّ هذه الرمزيةَ بالذاتِ هي ما يرفعُ التجاربَ الفرديةَ إلى مستوى الأسئلةِ الكونيةِ العظيمةِ. هذا الجدلُ، في حدِّ ذاتِهِ، يُعدُّ دليلاً على غنى النصِّ وقدرتِهِ على استفزازِ الفكرِ وإثارةِ النقاشِ، رافضًا الاكتفاءَ بقراءةٍ واحدةٍ أحاديةِ الجانبِ.
في الختامِ، يمكنُ القولُ إنَّ "عبارات ملهمة" ليست مجردَ كتابٍ يُقرأُ ويُطوى، بل تجربةٌ حيةٌ تُعاشُ وتُختبرُ على مستوياتٍ متعددةٍ. إنها مرآةٌ لا تكتفي بعكسِ ما نرغبُ في رؤيتِهِ من أنفسِنا، بل تُجبرُنا على مواجهةِ ما نهربُ منهُ، ما نخفيهِ تحتَ طبقاتِ الروتينِ والعادةِ. الكاتبُ هنا لا يسعى إلى تقديمِ دروسٍ أخلاقيةٍ جاهزةٍ أو مواعظَ مباشرةٍ، بل يُشعلُ شعلةً صغيرةً في ظلامِ متاهةِ الوجودِ، تاركًا للقارئِ حريةَ اختيارِ الدربِ الذي يسلكُهُ. وربما يكمنُ سرُّ تميزِ هذا العملِ في قدرتهِ على الانتماءِ إلى كلِّ الأزمنةِ، لا إلى زمنٍ محددٍ، لأنَّهُ يتحدثُ إلى الإنسانِ في كلِّ حالاتِهِ، حاملاً رسالةً خالدةً عن البحثِ الدائمِ عن معنى الحياةِ وسطَ ضجيجِ العالمِ وصخبِهِ.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟