أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم ابو جويدة - اغتراب الذات وتشظي الهوية: البنية النفسية للخطاب المسرحي في -حكاية درندش-















المزيد.....


اغتراب الذات وتشظي الهوية: البنية النفسية للخطاب المسرحي في -حكاية درندش-


كاظم ابو جويدة

الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 18:09
المحور: الادب والفن
    


(اغتراب الذات وتشظي الهوية: البنية النفسية للخطاب المسرحي في "حكاية درندش")
بقلم: كاظم أبو جويدة
تمرّدَ العرض المسرحي "حكاية دَرَندش" على المنظومة الإبستمولوجية السائدة في المشهد المسرحي العراقي المعاصر، إذ قدّم الفنان ماجد درندش تجلياً حياً لرؤى المسرح ما بعد الدرامي حين فكّك النسيج التقليدي للسرد المسرحي وأطاح بالمسلّمات الأرسطية. تجلّت عبقرية العرض في تقويضه المتعمد للتسلسل الكرونولوجي للأحداث، مؤسساً لخطاب مسرحي ينفلت من قبضة البنية المعيارية الصارمة نحو فضاء جماليات التشظي والتفكيك. لقد استطاع درندش أن يتحرر من سطوة الثالوث الأرسطي المقدس (البداية-الوسط-النهاية) مستعيضاً عنه ببنية سردية متشظية تعكس وبعمق شديد حالة التمزق الوجودي للذات العراقية المأزومة، فبدا العرض وكأنه حفرية أنثروبولوجية في طبقات اللاوعي الجمعي العراقي المثقل بأضغاث أحلام مؤجلة، أحلام التحرر والكرامة الإنسانية التي ظلت - على الدوام - تصطدم بجدران القمع والاستلاب في وطن مصادَر الحريات ومعطَّل الأحلام.
عند التابلوه الافتتاحي للعرض، تجلّت سيميائية الظلام بوصفها استعارة كبرى استحوذت على فضاء الخشبة المسرحية، إذ انغمرت أرجاء المسرح في عتمة كثيفة لم يبددها سوى ومضة ضوئية خافتة كشفت عن كتلة بشرية ضبابية المعالم، هلامية الحدود، كان يتوارى في ثناياها بطل "حكاية درندش" الفنان ماجد درندش. تزامن هذا التشكيل البصري مع تسلل أنغام أغنية للفنان حسن بريسم موشاة بالشجن، متسربلة بالحزن، مترعة بالوجع، وكأنها صيغت من جوهر المعاناة العراقية وترسبات الذاكرة المثقلة بأوجاع الحروب ومآسي الفقد والضياع. شكّل هذا التمازج بين العتمة البصرية والصوت المتأوه عتبة سيميائية فائقة الكثافة، إذ لم تكن الأغنية مجرد خلفية صوتية عارضة، بل كانت بمثابة معادل موسيقي للحالة الوجودية التي تستنطقها المسرحية، فكانت بذلك تدشيناً رمزياً للفضاء الدلالي للعرض، ومفتاحاً إشارياً لاستنطاق الطبقات العميقة من المأساة الجمعية التي تنبض بها حكاية درندش.
مدفوعاً بالموضوعية النقدية وجدت أن الافتتاحية البصرية شكلت منعطفاً تأسيسياً متميزاً عن كثير من التجارب المسرحية الأخرى التي شهدتها الساحة الثقافية العراقية فقد تأسست على ثنائيات ضدية توظفت فيها سيميائية الظلام الدامس الذي غمر فضاء الخشبة مع الحضور الصوتي الدافئ للأغنية مشكلةً ثنائية جدلية جمعت بين العدم البصري والوجود السمعي الذي استحضر تاريخ الألم العراقي وأرشيف الوجع الإنساني.
فلسفياً وسيميائياً كان اختيار الظلام كمكون سينوغرافي حاضن للحدث الافتتاحي خياراً إخراجياً شديدَ العمق ودقيق الحساسية تمثلت وظائفه الدرامية في:
تعاطياً: أدى إلى تعطيل الاعتماد على الوظيفة البصرية وتفعيل حاسة السمع وتحفيز خيال المتلقي على الإنصات العميق لمضامين النص.
جدلياً: رمز الظلام إلى غياهب الماضي وطبقاته المجهولة التي كشف عنها العرض تدريجياً عبر رحلة البطل الدونكيشوتية المتماهية مع الرمزية العالمية للشخصية الأدبية المعروفة.
تاريخياً: استدعى الظلام مرجعيات ذاكرية مرتبطة بالمرحلة الحالكة التي عاشها العراق إبان الحروب والحصار الاقتصادي والقمع الاجتماعي مما أكد أن العراق مثّل بؤرة للمعاناة الإنسانية على المستوى العالمي.
إثر هذا التمهيد الموسيقي المشبع بالحزن انطلق النص المنطوق بتساؤلات وجودية قلقة ومضطربة وكذلك مفاجئة وصادمة "شكو شصاير" "شنو اللي صار" فاكتمل بذلك المشهد الافتتاحي بتناغم جمع بين الموسيقى والصورة والكلمة بانسيابية استثنائية حافظت على الاتساق البنيوي للعمل واستمراريته الدرامية.
تميز عرض "حكاية درندش" بما يمكن تسميته "المسرح التجريبي التوثيقي" الذي يجمع بين الوثيقة والتجريب، بين الواقعية التسجيلية والتعبيرية الرمزية حيث استثمره بتفرد يحدث لأول مرة في المسرح العراقي. ولم يسقط العرض في فخ التقريرية المباشرة، بل قدم رؤية جمالية اعتمدت على التكثيف والاختزال، وهذا ما جعله يتجاوز حدود الرصد الواقعي إلى مستوى التأويل الفلسفي لمعنى الهوية والانتماء في عصر الشتات، مؤسساً لما يمكن تسميته "نموذج التطابق الوجودي" في فضاء المسرح العربي المعاصر.
على مستوى التصنيف النوعي، انتمى هذا العمل إلى ما يمكن أن نصطلح عليه "المسرح السيرذاتي" حيث تجاوز فيه الفنان مفهوم التمثيل بمعناه التقليدي ليصبح شاهداً على تجربته الخاصة ومجسداً لها، محققاً بذلك ما أطلق عليه فيليب زاريلي مصطلح "الأصالة الأدائية" إذ أعاد الممثل تشكيل ذاته وتجربته الحياتية ضمن إطار جمالي محدد، مما منح العرض سمة التفرد والخصوصية الإبداعية.
تمحورت البنية الدرامية للعرض حول مفهوم "اغتراب الذات" الذي طرحه إريك فروم في أطروحاته النفسية والاجتماعية، فقد جسّد درندش حالة الانفصال الوجودي عن الواقع والبحث المستمر عن هوية مفقودة. وقد تجلى هذا الاغتراب بوضوح في المشاهد التي روى فيها البطل رحلة هروبه من العراق بهوية مزيفة (هوية سعيد المصري)، وشكلت هذه المفردة استعارة درامية عميقة عن تشظي الهوية في زمن الحروب والهجرات القسرية.
مستنداً إلى الأسس الجمالية البريختية، قدّم العرض نموذجاً للدراما الملحمية بمفهومها النقدي المتجاوز للمحدودية الفردية، حيث تخطت الحكاية حدود القصة الشخصية لتصبح سرداً ملحمياً لمعاناة شعب بأكمله. وتجلت هذه الملحمية في المشاهد التي تناولت حقبة القصف الكيماوي والخوف الجماعي الذي عاشه العراقيون، وقد تميزت هذه المقاطع الدرامية بقدرتها الاستثنائية على استثارة الذاكرة الجمعية للمتلقين.
في سياق إبداعي وتوثيقي، مثلت مسرحية "حكاية درندش" وثيقة درامية جوهرية لا يمكن تجاوزها لفهم التجربة العراقية المعاصرة، حيث شكلت قصة البطل الفنان المسرحي الذي يروي سيرته الذاتية نموذجاً صارخاً للمصير الجمعي للعراقيين الذين تعرضوا لشتى أشكال القمع والاضطهاد والحرمان. ولم تكن المسرحية مجرد عمل فني جمالي، بل مثلت شهادة حية على تاريخ شعب كامل واجه محناً متتالية.
رمزياً، شكل وجود درندش المغترب تجسيداً لحالة الإنسان العراقي الذي تمزق بين ارتباطه بأرضه وبين اضطراره للهجرة والنزوح، حيث روت المسرحية قصته بداية من عمله كطالب في الكلية يكافح للحصول على قوت يومه، إلى مواجهته للظروف القاسية التي فرضتها سنوات الحرب والحصار والقمع. فنطق على لسان البطل: "كنت متفق مع بعض المحلات يبيعون قرطاسية ويأخذون حصة شهرية من الأجهزة الدقيقة بسعر الحكومة واني آخذها منهم وأبيعها بسعر الجملة".
جلياً ظهرت في المسرحية جدلية الوطن المفقود والوطن المتخيل، فالبطل اضطر إلى الهروب من العراق حاملاً هوية مزورة في محاولة يائسة للنجاة والفرار من الاضطهاد، لكنه ظل مرتبطاً روحياً وعاطفياً بالعراق. ولم يقتصر الأمر على المكان الجغرافي فحسب، بل امتد ليشمل ارتباطه بالفن والمسرح كهوية ثانية ووطن بديل، إذ وجد في تقديم العروض المسرحية في المنفى وسيلة للمقاومة والبقاء وإثبات الذات.
بدقة متناهية تداخلت في المسرحية قصة درندش مع قصص أصدقائه من الفنانين أمثال صادق عباس وفلاح إبراهيم وكريم جمعة، وغيرهم ممن تشتتوا في المنافي والمهاجر. ومنح هذا التضفير الدرامي بين المستوى الفردي والمستوى الجمعي المسرحية بعداً ملحمياً تجاوز حدود السيرة الذاتية ليصبح سجلاً توثيقياً لتاريخ جيل كامل من المبدعين العراقيين.
تاريخياً، مثّل المشهد الذي روى فيه درندش انتفاضة العمارة عام 1991 وكيف عاش "أربعة أيام بالعمارة بدون حكم بوليسي، بدون حكم دكتاتوري، بدون أي تقارير" تجسيداً لحظة التوق الجمعي العراقي للحرية التي اختنقت سريعاً تحت وطأة القمع والعنف، لتتحول لحظة الفرح والانعتاق إلى حالة من الفرار والمطاردة.
بحساسية فنية بالغة تناولت المسرحية آثار الحرب النفسية والوجودية على النسيج الاجتماعي العراقي، خاصة في المشهد الدرامي الذي وصف فيه البطل حالة الخوف المرضي من القصف الكيماوي حين قال: "كاعدين أني والعوائل بالغرفة، كل واحد قطنه وقطعة فحم ومنتظرين الكيماوي يضربنا، بغرفة محصورين، هسه يضرب وأطلع، كل شوية أطلع، أشتم". وكشف هذا التصوير البليغ عن هشاشة الحياة اليومية وعن الرعب المستمر الذي أصبح جزءاً من النسيج الروتيني للعراقيين.
مأساويةً جاءت مشاهد الغربة والمنفى لتشكل أكثر لحظات المسرحية فجيعة وإيلاماً، حيث وصف البطل رحلته المضنية من العراق عبر الأردن واليمن وغيرها من البلدان. فقد جسدت لحظة وصوله إلى الحدود الأردنية برؤيته مشهد موت الشاب المرافق له: "أول ما وضع رجله على الأرض وقع سكتة قلبية، مات"، تلخيصاً درامياً بليغاً لمأساة الهروب من الوطن والموت على أعتاب الغربة.
جوهرياً، جسّدت "حكاية درندش" لحظة فارقة في مسار المسرح العراقي المعاصر، حيث ارتكزت بنيتها الدرامية على تفكيك منظومة الثنائيات التقليدية التي قيّدت الفعل المسرحي العراقي ضمن أطر كلاسيكية محددة. فالعرض لم يكتفِ بتقديم سردية مسرحية تقليدية، بل عمد إلى خلخلة الأسس والمرتكزات المتعارف عليها، مؤسساً لرؤية مسرحية ثورية تماهت مع واقع عراقي متشظٍ.
من قلب هذا التفكيك برز إلغاء الحدود الفاصلة بين الممثل والشخصية، حيث ذاب الممثل في درندش وتماهى معه إلى درجة صعب فيها التمييز بين ما هو ذاتي وما هو تمثيلي. وشهدنا اندماجاً وجودياً عميقاً عكس بدوره انهيار الحدود بين هوية الفنان وهوية الشخصية، في إسقاط فني بليغ على واقع العراقي المأزوم الذي تداخلت في وعيه مستويات متعددة من الذات. ولم يقتصر هذا الاندماج على تقنية أدائية فحسب، بل امتد ليصبح فلسفة جمالية نسجت خيوطها عبر نسيج العرض بأكمله.
متسعاً، امتد هذا التفكيك ليطال ثنائية الواقع والخيال، فتراكبت الأزمنة وتداخلت، وأصبحت الذاكرة حاضرة بقوة الواقع إن لم تكن أشد قوة منه. وتعايش الحاضر والماضي في فضاء مسرحي ملتبس، وتحول الكابوس إلى حقيقة، واتخذت الحقيقة بُعداً كابوسياً. وتجلى هذا التماهي بين ما هو واقعي وما هو متخيل منذ اللحظة الأولى للعرض، حين تحولت الظلمة وصوت بريسم إلى معادل بصري-سمعي لتداخل الأزمنة والحالات الوجدانية. وكسر العرض بذلك الإيهام المسرحي التقليدي ليؤسس لإيهام من نوع آخر - إيهام متعدد المستويات تخطى الإيهام الأرسطي الكلاسيكي.
جدلياً، تحقق تجاوز ثنائية الفردي والجماعي في النص من خلال تحويل الفردي إلى جماعي والجماعي إلى فردي في حركة جدلية مستمرة. وتحولت قصة درندش الشخصية إلى قصة شعب بأكمله، وتحولت المأساة الجماعية إلى معاناة ذاتية حميمة. وتبدل صوت درندش المفرد إلى صوت جماعي، واختزل الجسد المسرحي الواحد معاناة أجساد متعددة. وعكس هذا التداخل بين ما هو شخصي وما هو عام حالة العراقي المعاصر الذي لم تعد تجربته الشخصية منفصلة عن التجربة الجماعية، بل أصبحت امتداداً لها وانعكاساً عنها.
التمثيل
برزت في العرض تقنية المونودراما التي أتاحت للأداء التمثيلي مساحة واسعة للتعبير عن الهواجس الذاتية المتشابكة مع الهم الجمعي. واستطاع الممثل تحقيق ما أسماه يوجين باربا "الشخصنة المسرحية" عبر تجسيد شخصيات متعددة ضمن الأطر الدرامية، متنقلاً بين المستويات السردية المختلفة التي تضمنت سيرة الذات وسيرة الوطن في آن واحد. وأسس هذا التنقل لما وصفه باختين بـ"التعددية الصوتية" حيث تعايشت أصوات متعددة داخل فضاء مسرحي أحادي الممثل رغم تعدد الشخصيات والأزمنة.
محورياً، شكّلت علاقة الممثل بالجمهور عنصراً أساسياً في نجاح العرض، فقد استطاع ماجد درندش توظيف تقنية كسر الجدار الرابع بأسلوب عفوي بعيد عن الافتعال. وتميزت هذه العلاقة بخصوصية نادرة تمثلت في كون أغلب الجمهور من المجايلين للممثل، الذين عاصروه ودرسوا معه وشاركوه المأساة الحقيقية بكل تفاصيلها. وأسهمت هذه الخصوصية في تحويل العرض من مجرد عمل مسرحي إلى طقس جمعي استدعى الذاكرة المشتركة وأعاد إنتاجها في سياق فني جديد. ولم تكن الوثائقية هنا حرفية جامدة، بل اتسمت بدينامية أتاحت للممثل كسر الجدار الرابع (Breaking the Fourth Wall) وإشراك الجمهور في حوارات متعددة، مما خلق حالة من التواصل الحميم بين خشبة المسرح وصالة العرض. وتعززت هذه الخصوصية العلاقاتية بحقيقة أن معظم الجمهور كانوا من معاصري درندش ومجايليه الذين شاركوه المأساة الحقيقية بكل تفاصيلها على مستوى الواقع المعيش، وليس على المستوى الافتراضي.
منهجياً، اعتمد أداء الممثل على المزج بين منهج ستانسلافسكي في "التقمص العاطفي" (Emotional Memory) وتقنيات غروتوفسكي في "المسرح الفقير" (Poor Theatre) الذي ركز على الطاقة الجسدية للممثل. وقدم هذا المزج المنهجي أسلوباً أدائياً متفرداً استطاع من خلاله درندش الاستحواذ على انتباه الجمهور طوال مدة العرض، معتمداً على قدرته في تنويع الإيقاع الدرامي والانتقال بين حالات نفسية متباينة بمرونة فائقة تجاوزت الحدود التقليدية للأداء المسرحي.
على المستوى الحركي، تميز أداء الممثل بتنويعات إيقاعية لافتة، تراوحت بين الخطو البطيء والحركات الأسرع والأوسع، مما أسهم في تكسير نمطية التشكيل الحركي داخل خشبة المسرح الضيقة المعالم جغرافياً. وجسّد هذا التنوع الحركي التي وظفها ماجد درندش بأسلوب تجاوز المعالجة التقليدية للفضاء المسرحي. واعتمد العرض على تكثيف المكان كمساحة مغلقة بحدود مقتصدة، مما حقق ما أسماه بيتر بروك "المساحة الفارغة" (Empty Space) التي تحولت إلى فضاءات متعددة عبر أداء الممثل وحركته التي تجاوزت حدود المكان الفيزيقي.
السينوغرافيا
بارزاً كان استخدام تقنية "المسرح الفقير" التي نظّر لها جروتوفسكي عبر تقليل عناصر الديكور والإكسسوارات، والتركيز على الأداء الجسدي للممثل، متماهياً مع منهج ستانسلافسكي في الإلقاء العاطفي الآسر وذلك في تجسيد رحلة الترحال القسري من العراق إلى الأردن واليمن ومنها إلى الهند ومن ثم كندا. وأتاح هذا الاختزال السينوغرافي فسحة أوسع لخيال المتلقي للمشاركة في إعادة تشكيل الفضاء المسرحي ذهنياً.
تقنياً وسينوغرافياً، وظّف العرض "حكاية درندش" الإضاءة بأسلوب تأثيري أسهم في خلق ما أسماه أدولف آبيا "الفضاء الإيحائي" فكانت الإضاءة الخافتة والمتقطعة في بعض زوايا العرض رمزاً بصرياً لحالة الاضطراب النفسي والخوف المستمر الذي عاشه البطل. وفي الجانب المقابل، مثلت الإضاءة الفيضية رمزاً آخر لواقعية واضحة تسيدت اعترافات أو انثيالات الذاكرة الدرندشية التي اتسمت بالشجاعة، وكأنه أراد أن يقول: "ليس هناك في سيرتي شيء موارب ومخفي وغامض، ها أنا ذا أتحدث بكل شجاعة وحرية ووضوح". هذا وقد تناغمت المؤثرات الصوتية البسيطة لعازف العود مع هذه الإضاءة لتجسيد أصوات القصف والحرب، مما شكّل نسيجاً سمعياً-بصرياً-زمنياً كثيفاً عكس وحشية الواقع وقسوته، وعزز قدرة الممثل على الاستحواذ على الجمهور ومد جسور التفاهم والتماهي معه في فضاء تشاركي فريد.
بعض مثابات العرض
1. تميزت المعالجة اللغوية في العرض بالمزج الفاعل بين الفصحى والعامية العراقية، وهو تناوب لغوي عكس الصراع بين الرسمي والشعبي، بين الثقافي والهوياتي. هذه الثنائية اللغوية جسّدت مفهوم "الهجنة اللغوية" (Linguistic Hybridity) الذي طرحه هومي بابا في دراسات ما بعد الكولونيالية، وأسهمت في تعزيز التواصل مع الجمهور عبر توظيف لغة قريبة من وجدانه ومخيلته الجمعية
2. برز في العرض توظيف التناص المسرحي عبر استدعاء قصة "الدجاجة والثعلب" التي رواها البطل للأطفال أثناء القصف. شكّلت هذه الحكاية الشعبية مسرحاً داخل المسرح وهي تقنية ميتامسرحية أحالت إلى تراث الحكواتي العربي مع إعادة تأويله في سياق مأسوي جديد. أتاحت حرية الانتقال بين السرد والتمثيل فرصة لكسر الرتابة المتوقعة لعروض الدراما من خلال خلق تنويعات درامية أسهمت في استدامة تواصل الجمهور مع الحدث المسرحي.
3. تميزت المعالجة الزمنية في العرض بتقنية التداعي الحر التي سمحت للشخصية بالانتقال عبر المراحل الزمنية المختلفة. هذه التقنية تجاوزت التسلسل الخطي للأحداث إلى ما أسميته بــــ "الديمومة الإنفعالية" حيث تداخلت الأزمنة في وعي البطل ليصبح الماضي والحاضر نسيجاً واحداً من المعاناة المستمرة.
4. جسّدت مشاهد الغربة والمنفى عناصر التراجيديا الأرسطية من خلال مفهوم "التطهير" (Catharsis)، حيث نقلت معاناة البطل من المستوى الفردي إلى الفضاء الجمعي. برزت في هذه المشاهد جمالية "المسرح الفقير" بتقليل عناصر الديكور والإكسسوارات، والتركيز على الأداء الجسدي للممثل في تجسيد رحلة الترحال القسري من العراق إلى الأردن واليمن.
ملامح درامية توثيقية عمادها إرهاصات حوارية درندشية:
1. المعاناة من الاغتراب القسري: وكمسار خارج السياق قد تدان من اجله الشخصية البطلة التي نراها قد هربت من العراق ليس دعة ولا هروباً من الواجب الوطني بل رفضاً للمشاركة في قمع الشعب حيث يقول البطل دفاعاً عن خياراته وقناعاته: " لست بهارب من خدمة الوطن العسكرية أنا هارب من الجريمة كي لا أقف مع جيش الدكتاتور وأقتل الشعب."
2. السجن والعذاب الجسدي: قضى سنوات في سجون الهند بظروف قاسية، حيث وصف المعاناة: "أخذوني إلى السجن المركزي... فيه قاعة طويلة" وروى تجارب الإهانة والتعذيب، وكان يبيع نصف طعامه ليشتري احتياجاته الأساسية.
3. الوحدة والحنين للوطن: من أقسى مشاهد المسرحية وصفه لأيام الزيارات في السجن: "يروحون يقابلون عوائلهم... أخوه، أبوه، زوجته، حبيبته، أبنائه... أنا أقعد بصمت بالقاعة... وحدي" وفي مشهد مؤثر يتخيل محادثة مع أمه: "يمه حبيبتي... أنت مريضة؟"
4. الظلم المزدوج: المفارقة المؤلمة أن من رفض المشاركة في القمع حُرم من حقوقه: "بينما اللي عدمنا وقتلونا... دياخذون حقوق... رجعوهم أعطوهم حقوق تقاعد"، بينما هو الذي رفض المشاركة في الجريمة حُرم من الحقوق نفسها. وهنا إشارة من طرف خفي إلى تجربتي البعث وداعش في انتزاع لقمة العيش من درندش سابقاً ولاحقاً وكأن وسم "مظلوم" المختوم على جبهة وجوده هو حقيقته وحقيقة كل من آمن بحب الوطن والولاء له.
5. ضياع الهوية والانتماء: عبّر عن إحساسه بالضياع: " چنت تايه بالغربة" وبعد سنوات من المحاولة للاندماج في كندا، عاد ليكتشف أنه لم يعد ينتمي لكل جوازات العالم سوى روح العراق وهمس عصافيره وهي تغني صباحا "يا شميسه" لكن الصدمة بعد العودة تمثلت في مسارات عدة: جوهرياً، مثّلت عودة درندش من كندا إلى العراق محملاً بثلاثة نصوص مسرحية لحظة مفصلية في سيرة الفنان الوجودية، فقد نطق على لسانه: "كان بجعبتي / جايب نصين، ثلاثة راح يغيرن المسرح العراقي ويسوون انقلاب ثوري وفكري وتكنيكي". وشكّلت هذه اللحظة الساخرة استعارة درامية عميقة لمعاناة المثقف العراقي المهاجر الذي تظل روحه مشدودة إلى مسقط رأسه، حاملاً أحلامه وطموحاته لتغيير الواقع الثقافي وإحداث نقلة نوعية في المشهد الإبداعي.
مأساوياً، واجهت هذه النصوص المسرحية الثلاثة المبتكرة إهمالاً مؤسساتياً صادماً، إذ جسّد المشهد الذي روى فيه معاناته قائلاً: "كنا متوهمين يا وطني..." حالة الانفصام بين طموح المبدع العائد من المنفى وبين واقع ثقافي غير مستعد لاستيعاب تجارب جديدة خارجة عن المألوف. وتحولت النصوص من مشروع لإحداث ثورة في المسرح العراقي إلى شاهد على مأساة الفجوة بين المغترب وواقعه الأصلي الذي عاد إليه.
تاريخياً، جاءت هذه الواقعة ضمن سياق عودة درندش للعراق عام 2013، حيث قال: "هلو قاسم زيدان حبيبي... تعال عندك دعوة لمهرجان بغداد". وجاءت مشاركته في مهرجان بغداد فرصة للعودة إلى الوطن بعد سنوات من الغربة، حاملاً معه ثمار تجربته الإبداعية في المهجر، لكن الواقع الثقافي لم يكن مهيأً لاستقبال هذه التجارب الجديدة التي تجاوزت السائد والمألوف في المشهد المسرحي العراقي.
رمزياً، شكلت حكاية النصوص الثلاثة تجسيداً لما أسماه إدوارد سعيد "صدمة العودة"، حيث يصطدم المثقف المهاجر عند عودته بواقع مختلف عما تخيله أو حلم به طوال سنوات الغربة. فقد جسّد اعترافه "قلت هاي أنا وين رايح" حالة الضياع والتيه التي شعر بها نتيجة الإهمال الذي لاقته نصوصه التي اعتقد أنها ستغير وجه المسرح العراقي.
استنتاجاً، مثلت هذه الواقعة انعكاساً صادقاً لمأزق المثقف العراقي المهاجر بين حلم العودة إلى الوطن وإسهامه في إثراء المشهد الثقافي، وبين واقع مغاير لا يستوعب تجاربه الجديدة ولا يقدر قيمتها الإبداعية. وتجسدت حالة الوعي الممزق عندما أدرك الفنان عمق الهوة بين ما حمله من أحلام وطموحات، وبين واقع ثقافي يتسم بالجمود والانغلاق على التجارب الجديدة، مما دفعه للتساؤل: "وجدت نفسي ... هاي آني وين چنت رايح؟"، في إشارة إلى الغربة المزدوجة التي عاشها؛ غربة المنفى أولاً، ثم غربة العودة إلى وطن لم يعد قادراً على التعرف عليه أو التواصل معه.
النهاية تلخص (المعاناة الأكبر) المتمثلة بالاضطرار للرحيل مرة أخرى وترك كل شيء: "2024 راح أرحل بالاتجاه المعاكس... وسوف لن أنظر إلى الخلف أبداً... كل شي ما راح آخذ وياي... حتى قميص ما آخذه وياي".
الختام
ورغم عديد الصفعات الوطنية التي أكلت خده الأيمن منذ انتحاله هوية سعيد المصري وقبلها، وجدناه قد عرض لها خده الأيسر أيضاً لترسم عليه أساليب اضطهادها الشوفيني إلا أنه لم يتغير. لم يكن إلا ماجد درندش ابن العمارة البسيط المؤمن بعراق سعيد ومرفه لذلك قدم مسرحية تدعونا للتفكير في مستقبل العراق وفي إمكانية بناء وطن يتسع للجميع، وطن يحترم كرامة الإنسان وحقه في العيش بأمان. مسرحية تدعونا للتفكير في دور الفن والثقافة في مقاومة الظلم والاستبداد، وفي بناء الذاكرة الجمعية التي تحفظ هوية الشعب وتاريخه.



#كاظم_ابو_جويدة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الفجوة بين الطموح والتنفيذ: مأزق المعالجة الدرامية- قراءة ن ...
- (جماليات المقاومة والموت: قراءة سيميائية-تقنية للمشهد التأسي ...
- -العرض المسرحي عزرائيل وتقنيات المسرح التجريبي: بين الإبداعِ ...
- قراءة نقدية بعنوان (شعرية الألم: تحليل خطاب الجسد وتجليات ال ...
- الميتافورا المركبة في مسرحية (وين رايحين؟) الحافلة المعطلة و ...
- مقالة نقدية للعرض المسرحي جنون الحمائم تأليف واخراج د.عواطف ...


المزيد.....




- دليلك السياحي إلى اكتشاف ألبانيا.. الجوهرة المخفية في غرب ال ...
- نقابة المهن الموسيقية بمصر توقف منح تصاريح الغناء لهيفاء وهب ...
- سر منع هيفاء وهبي من الغناء في مصر
- ليوبولد سيدار سنغور رمز الأدب والسياسة في أفريقيا الحديثة
- بين الطبيعة الفريدة والتقاليد..مصور يبرز ثقافة أهل تبوك في ا ...
- هل يمكن أن تغرق مدينة الإسكندرية المصرية بسبب التغير المناخي ...
- أعمل حسابك تذاكر من دلوقتي “مواعيد امتحانات الدبلومات الفنية ...
- فلسطين تطالب بترجمة المواقف الدولية لخطوات رادعة تجبر الاحتل ...
- الموسيقى الكلاسيكية: قناة DW تبث حفل معهد الموسيقى الكلاسيكي ...
- الفنان اسماعيل الدباغ.. حالة فنية لها خصوصيتها وفرادتها في ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم ابو جويدة - اغتراب الذات وتشظي الهوية: البنية النفسية للخطاب المسرحي في -حكاية درندش-