أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد علي مقلد - كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟















المزيد.....



كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟


محمد علي مقلد
(Mokaled Mohamad Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 09:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




الربيع العربي والدواعش

محمد علي مقلد







تمهيد

مبرر الجمع بين "الربيع" و"الدواعش" ليس، كما يبدو في الظاهر، انعكاساً لواقع الحال أو لما آلت إليه الأمور بعد سنوات قليلة على اندلاع الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج، بل تأكيد على صحة توقعاتي منذ اللحظة الأولى لأحداث تونس التي حق لها أن تحمل اسم الربيع، لنجاحات نسبية حققتها ثورتها، وأن تحمّله لما شابهها من الأحداث في العالم العربي، بالرغم من الاخفاقات المؤقتة التي منيت بها.
الفرضية التي يبنى عليها هذا النص تقوم، في شقها الأول، على أن ما حصل ويحصل في العالم العربي، والذي قد يستمر حصوله لسنوات طويلة، هو ثورة، بل هي الأولى، بالمعنى الدقيق للكلمة، بعد ثورة النبي محمد التي نشر فيها دعوته الاسلامية. كل ما عدا ذلك لم يكن سوى انتفاضات أو حركات تمرد أو حركات مطالبة بالسلطة، كثورة الزنج أو البابكية أو القرامطة، أو انقلابات في العصر الحديث بقيادة أصوليات يسارية أو قومية أو دينية، من سعد زغلول إلى عبد الناصر في مصر وأديب الشيشكلي وضباط حزب البعث في سوريا والعراق ومن جعفر النميري إلى عمر البشير في السودان، لا تعدو كونها تغييرات جزئية وموضعية، سلبية أحياناً وإيجابية أحياناً، من داخل المنظومة الحضارية والسلطوية ذاتها.
كنت توقعت أن تفضي مخاضات الأمة وقضاياها القومية إلى مثل هذه الثورة. ولم يكن ذلك من قبيل التنجيم، بل انبنى لبنة لبنة، على الصعيد النظري، خلال ما يزيد على عقدين من التعليم الجامعي كنت أبحث فيها في السؤال النهضوي الذي طرحه شكيب ارسلان، لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟ وكنت أعالج الإجابات الممتدة من أول حركة سلفية في العالم العربي، الوهابية، حتى آخرها، حزب الله اللبناني وداعش السوري العراقي، مرورا بسائر الحركات والشخصيات الاصلاحية، المهدية ، السنوسية ، الكاشانية، الخ. الأفغاني ، محمد عبده ، رشيد رضا، الكواكبي، طه حسين، شبلي الشميل، سلامة موسى،الخ. وصولاً إلى الاحزاب السياسية، من حزب الوفد المصري إلى سائر الأحزاب القومية والشيوعية وأحزاب الاسلام السياسي في العالمين العربي والاسلامي. وقد استنتجت أن ما يجمع بين أحزاب الأمة من نقاط التشابه أكثر مما يفرقها ويفجر الحروب بينها، فهي أغصان من شجرة الاستبداد ذاته، وهي نسخ متعددة من الأصوليات التي تبحث عن الحلول في النصوص المقدسة وفي بطون الكتب، وهي معادية للديمقراطية وترى في الآخر، أياً يكن هذا الآخر، عدواً لها، ويزعم كل منها أن في بنية قياداتها وإيديولوجياتها وبرامجها "قداسة" ما، تمنحها نوعا من العصمة وتحميها من الزلل، وتجعلها كلها كأنها "أحزاب الله"
من ناحية أخرى، على الصعيد العملي، أكدت الأحداث الممتدة من بدايات النهضة أن الإجابات المختلفة لم تكن صالحة لرسم خارطة طريق تفضي إلى إخراج العالم العربي من تخلفه المستديم، ولا كان تشخيص أسباب العلة دقيقاً. الحركات الدينية رأت العلاج بالعودة إلى الاسلام الصحيح، فأدخلت المسلمين ومن يعيشون داخل العالم الاسلامي في معضلة أشد وأدهى، بحثاً عن إي إسلام هو الصحيح، إسلام الاجتهادات المتعارضة والأحزاب المتناحرة؟ إسلام التنوير والمفكرين والفلاسفة أم اسلام المعممين وإبن تيمية أم إسلام السلف الصالح؟ الإيراني أم السعودي أم التركي أم الصومالي؟ إسلام العقل أم "ما قبل العقل" أم "العقل المستقيل" (الجابري). وحيث وصلت الحركات الدينية إلى الحكم لم تتجاوز برامجها "التنموية" موضوعي النساء والمشروبات الروحية، مستندين في ذلك إلى تفسيرات مغلوطة للنصوص.
الاحزاب القومية شخصت المرض بالاستعمار والعلاج بالتحرر منه، وقد أثبتت الوقائع حقيقة معاكسة تماما، وهي أن البلدان التي "استخدمها" الاستعمار "مقراً أو ممراً" كانت أكثر جاهزية للتطور والدخول في حضارة العصر من تلك التي لم يطأ الاستعمار أرضها، وأن البلدان التي تفاعلت مع الغرب الاستعماري كانت أسرع من سواها إلى الدخول في الحداثة ، وربما كان النموذج التونسي خير مثال على ذلك في تجربته التي سبقت الربيع أو في تلك التي تلت سقوط النظام القديم أيضاً. كما أثبتت أن العداء للاستعمار قد تلازم مع قيام أنظمة قومية استبدادية شمولية توسلت الانقلابات للاستيلاء على السلطة، وتحالفت مع المعسكر الاشتراكي من أجل "فك التبعية عن الاستعمار" وعن الغرب الرأسمالي، وتذرعت بالعداء للصهيونية فبالغت في الانفاق على جيوشها وعلى استعداء شعوبها. فلا هي حررت فلسطين ولا بنت الاشتراكية، بل وضعت بلدانها أمام خياري الاستبداد أو الحروب الأهلية. كما أثبتت أن الأوطان المستحدثة لم تتمكن من الحفاظ على المكتسبات التي تحققت أيام الاستعمار، ولا سيما على الصعيد السياسي، حيث سارعت القوى السياسية إلى إستعادة أنظمة الاستبداد والإطاحة ببذور الديمقراطية الفتية.
أما الاحزاب اليسارية فقد ركزت على الجانب الاقتصادي الاجتماعي، انطلاقاً من تفسير مغلوط لقانون العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية في الماركسية. ولئن لم تتمكن أحزاب شيوعية من الوصول إلى السلطة في العالم العربي، فهي تحالفت مع قوى قومية في الحكم أو تعاونت معها ، كما أنها استولت على السلطة في بلدان كثيرة من خارج المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، من أفغانستان واليمن في آسيا إلى أثيوبيا وبلدان أفريقية كثيرة، ولم تتمكن، لا في البلدان التي حكمتها مباشرة ولا في تلك التي دعمت الحكومات فيها، أن تقدم نموذجاً صالحاً لحل أزمة التخلف أو أزمة النهوض على امتداد أنظمة الحكم التي احتكرتها أو شاركت فيها.
وتقوم الفرضية، في شقها الثاني، على أن الثورة لا تكتمل إلا إذا ترافقت أو تتوجت بثورة سياسية، على هذا الأساس تسقط من التصنيف كل محاولات النهوض الاقتصادي والثقافي، مهما بلغت درجة نجاحها، إن لم يكن النهوض مصاناً بثورة في المجال السياسي قادرة على حماية الانجازات في سائر المجالات.
ليس هذا الاستنتاج مصادرة على المطلوب، بل هو مستخلص من تجربة الانتقال إلى الحضارة الرأسمالية في أوروبا. لقد انطلقت الثورة العلمية في كل أنحاء أوروبا، والثورة الاقتصادية بدأت في أنكلترا والبلدان المنخفضة، ومع ذلك فقد حظيت فرنسا بفضل السبق فاستحقت الحصول وحدها على شرف التسمية لأنها قدمت، على الصعيد السياسي، النموذج الجديد لنظام الحكم في الحضارة الرأسمالية وأمنت الحماية لمنجزات الثورات الثقافية والاقتصادية في سائر أنحاء أوروبا.
الدليل الثاني أوروبي هو الآخر. ذلك أن حركة الاصلاح الديني نجحت في الشمال الأوروبي بفضل الحماية السياسية التي وفرها الأمراء للحركة اللوثرية في ألمانيا والبلدان المنخفضة، وفشلت في جنوبه لأنه كان عليها أن تواجه الكنيسة والحكام معاً. أما في بريطانيا فقد كان نهوض الكنيسة الأنكليكانية (البروتستانية ) رهناً بتوفير غطاء ملكي أجاز لها التوسع والانتشار، حتى إذا رفع هذا الغطاء عنها تراجعت وانهارت وتعرض أتباعها للتنكيل وهاجروا وشكلوا، مع آخرين من شمال أوروبا، النواة الأولى للولايات المتحدة الأميركية التي حملت، في البداية، اسم انكلترا الجديدة، وكانوا جميعاً من أتباع الديانة البروتستانتية، من الناجين من الحروب الدينية في أوروبا.
يعتمد هذا النص منهجا مركبا. فهو يسعى إلى إعادة تركيب مصطلح الثورة الذي شوهته الانقلابات العسكرية المتنقلة بين بلدان العالم العربي، ثم إلى إثبات فرضية الثورة في النظام السياسي أو داخله أو عليه، مقابل كل التصورات المغلوطة التي شكلت الأساس لدى كل من التيارات الأصولية الثلاث، اليسارية والقومية والدينية، ولاسيما نظرتها الواحدة التي وضعتها في الخندق ذاته ضد عدو مشترك هو الحضارة الرأسمالية ومقوماتها، وخصوصا بنيتها السياسية وأنظمة الحكم المعتمدة فيها.
إما أن تكون الثورة ثورة في النظام السياسي وعلى النظام السياسي أو لا تكون. تلك هي المعضلة التي لم تجد لها الأصوليات حلا، لأنها غرقت في دوامة أو متاهة أو حلقة مفرغة. كلها حاولت أن تغير لكنها راوحت في مكانها حين اقتصرت الثورة عندها على استبدال سلطة بسلطة، وتوهمت أن من الممكن اختزالها بثورة ثقافية، دينية أو إيديولوجية، فأقحمت نفسها في ثنائيات مغلوطة حول التراث والحداثة والغرب والشرق والمادية والمثالية، والتقدم والتخلف، بحيث صار من الطبيعي أن تبدو تجاربها متباينة ومتنوعة على أكثر من صعيد، وتبقى متشابهة بل متطابقة في موقفها من قضيتي الديمقراطية وتداول السلطة.
إعادة تركيب مصطلح "الرأسمالية" ضرورة منهجية أيضاً لكي يستقيم بحث العلاقة معها كحضارة وليس كاستعمار فحسب. لذلك سنحاول أن نبين كيف أن حركة الاصلاح في العالم العربي ظلت قاصرة عن اللحاق بركب التطور لأنها تعاملت مع الوافد الغربي باعتباره غزوا حضاريا فحسب، متجاهلة حقيقة كون الحضارات كسباق البدل، ما إن تنتهي إحداها حتى تحمل الأخرى الراية.
وفي المنهج المقارن يمكن الاستفادة من تجربتين، الأولى هي الثورة الفرنسية التي شكلت النموذج الأول للثورات السياسية في الحضارة الحديثة، وحركة الاصلاح الديني اللوثرية في أوروبا الشمالية وعلاقتها بكنيسة روما، التي تمكنت من إحداث خرق هائل في جدار الجمود الكنسي السميك، وساعدت على تقديم صورة للدين المتأقلم مع التطور بدل دين الطقوس والجمود العقائدي وصكوك الغفران. لعل ذلك يفيد في تقديم صورة عن "دواعش" كنسية في القرون الوسطى وعن كيفية التعامل معها، وفي تفسير ظاهرة الدواعش الاسلامية ومآلاتها.
المقارنة بين القراءات المتعددة مفيدة هي الأخرى في توضيح الصورة. قراءة ثقافية للربيع العربي من أبرز رموزها أدونيس، كانت تعول على ثورة في الوعي، فيما عكفت قراءات اقتصادية من أبرز رموزها سمير أمين، فضلا عن اليساريين عموماً والشيوعيين خصوصاً،على قياس الأمور بمقاييس الصراع الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي. أما القراءات الدينية فظلت أسيرة مفاهيم ومصلطلحات سابقة على الثورة الحديثة المعرفية والفلسفية والعلمية، ولذلك استعصى عليها فهم أحداث الربيع العربي.
إذا كان من ضرورة لثورة ثقافية فهي لازمة بالدرجة الأولى على صعيد الدين، خصوصا وأن ظاهرة داعش قد أحدثت صدمة وارتباكا لدى الفقهاء والمؤسسات الدينية على حد سواء، وجعلت الوعي الشعبي يتجرأ على المطالبة بإعادة قراءة النص الديني والمساجلة معه لتكييفه مع المعطيات الثقافية الحديثة، مع ما يتطلبه ذلك من عدم اكتفاء بالسجال السياسي مع الأصوليات الدينية، والذهاب إلى ملامسة حواشي النصوص الدينية لإعادة النظر بمصطلح القداسة الذي اقتنص العاملون في الحقل الديني بعضا من وهجه، واستخدموه أداة للارهاب الفكري والاستبداد الديني، من غير التورط في نقاش فقهي لا يفيد الدراسة بل يبعدها عن مبتغاها.
مناهج البحث الأكاديمي لا توفر غير الإطار النظري، فيما ساهم الإطار العملي، البراكسيس، في تثبيت صحة الخلاصات، من خلال انخراطنا بمشروع يساري للتغيير، ومن خلال إعادة تقويم هذا المشروع غداة سقوطه، فأضيف إلى نقد الماضي، وهو ضروري بالمعنى الماركسي لرسم ملامح المستقبل، نقد التجربة الحزبية والشخصية بحاضرها الذي كان لا يزال ماثلاً أمامنا، ولم يتحول بعد إلى ماض. من غير الوقوع لا في الندم ولا في الأوهام، شكلت قسوة النقد الذاتي حصانة لقراءة تجارب الآخرين بالمستوى ذاته من القسوة، وللحؤول، بالتالي، دون رمي هذا النقد بتهمة الارتداد، خصوصا بعد ضياع البوصلة اليسارية وتشتت اليساريين في كل اتجاه.
اعتمدنا، أخيرا، على استقراء الأحداث واستخلاص العبر التاريخية منها، استنادا إلى منهج يشبه الرياضيات في تقديم الفرضية ثم إثباتها بالأدلة والبراهين والمقارنات المنطقية.





هل الرأسمالية حضارة؟


نعتقد أن الاجابات المغلوطة على أسئلة النهضة العربية ناجمة عن نظرة مغلوطة إلى الرأسمالية، كما نعتقد أن النهضة ليست شيئا آخر غير الخروج من حضارة العصر الاقطاعي إلى الرأسمالية، وأن الدخول إلى هذه الحضارة الجديدة من غير بابها السياسي قد يحقق إنجازات اقتصادية وثقافية وعلمية كبيرة، لكنه لا يؤمن لها الضمانة الأكيدة للحفاظ عليها ولتطويرها. من يدرس تاريخ أوروبا في القرون الوسطى يعرف إلى أي مدى كان التشابه كبيراً في طرق العيش والتفكير وفي علاقات الانتاج وآلياته، وفي القيم الاجتماعية والسياسية، بين بلدان عديدة متباعدة من أقصى الشرق الآسيوي حتى أقصى الغرب الأوروبي، مرورا بالمنطقة العربية، ويعرف كم أن عملية الانتقال، ولا سيما صعوباتها، متشابهة هي الأخرى.
جوابا على سؤال شكيب ارسلان، لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون، رحنا نبحث في معنى التقدم والتخلف، وفي الإجابات المختلفة على هذا السؤال، وتوصلنا إلى ترسيمة مقارنة بين ما كانت عليه أوروبا، قبل سقوط الاندلس واكتشاف أميركا، أي في نهاية القرن الخامس عشر، وما صارت عليه بعد ذلك، لنستخلص من هذه المقارنة مضمون عملية التحول تلك التي بدأت في غرب أوروبا، إسبانيا وبريطانا وفرنسا، وشمالها، البلدان المنخفضة، ثم أخذت تتسع لتشمل أوروبا كلها ثم العالم كله، والتي أحدثت نقلة نوعية في حياة البشرية لا تزال نتائجها تتتابع من غير انقطاع.
الفرضية القائلة بأولية التحول السياسي على سواه من التحولات تجعل الثورة الفرنسية عام 1789 حداً فاصلاً بين مرحلتين تاريخيتين. أخذاً بعين الاعتبار الخصوصيات الجغرافية والمناخية والثقافية لكل منطقة من المناطق الممتدة من الشرق الصيني حتى بريطانيا، يبدو أن ترسيمة مشتركة تنطبق عليها كلها قبل الثورة الفرنسية، على صعيد البنى الأساسية الثلاث، الاقتصاد والثقافة والسياسة، فيما ترسيمة ما بعد الثورة الفرنسية تنطوي على التباسات النهضة الحديثة وأسئلتها المستعصية ، ومنها سؤال شكيب ارسلان والإجابات المتنوعة عليه.

ثورة اقتصادية وثورة ثقافية
على الصعيد الاقتصادي كانت عملية الانتاج المادي تعتمد ، بصورة أساسية، على الزراعة والعمل في الأرض، مع ما ينشأ عن ذلك من قيم وأعراف وقوانين في نظام الملكية وفي المنظومات السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية التي تبدو كأنها نسخ متعددة لأصل واحد، وتنضوي جميعاً تحت مسمى واحد هو الحضارة الاقطاعية؛ وقد اشتق الاسم من أشكال الملكية السائدة في تلك المرحلة، والتي تتميز بحيازة ملكيات واسعة من الأراضي من قبل أفراد كان واحدهم يحمل لقب الأقطاعي، أي الذي يقتطع مساحات واسعة من الأراضي ويتملكها ويشغل الفلاحين فيها تحت صيغة من صيغ المحاصصة، أي بالمرابعة أو المخامسة أو المغارسة أو المساقاة، الخ؛ أو لقب النبيل في أوروبا والشريف في أميركا والمقاطعجي في لبنان والعمدة في مصر، مع ألقاب أخرى تبعا لمراتب الملكية والسلطة ، كالبيك والخواجا والأمير والآغا(لبنان).
في الحضارة الجديدة تحولت الركيزة الأساسية في الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة. بدأ التحول بالمكوك وصناعة النسيج، والانتقال من المشغل إلى المعمل ثم المصنع ومن العمل اليدوي إلى الصناعة الآلية إلى الالكترونية إلى الرقمية، الخ. ظهر العمل المأجور (العمل مقابل أجر نقدي) كثمرة لعلاقات جديدة بين مالكي وسائل الانتاج والمنتجين، بديلا من العمل بالمحاصصة، كما ظهر التعامل النقدي بديلا من التبادل بالمقايضة، الخ. في تلك الفترة، أنشئت، بفضل تدفق الذهب والفضة من أميركا الجنوبية إلى موانئ اسبانيا ومنها إلى مدينة أنفير، في بلجيكا، وإلى مدن أخرى في البلاد المنخفضة، البنوك والبورصة، وصار يتم التعامل بالصكوك والاعتمادات المصرفية، وشهدت بلدان أوروبا الغربية آليات جديدة جدا في عملية إنتاج البضائع المادية وفي وسائل تبادلها، فتطورت وسائل الاتصال والمواصلات، لتقريب المسافات وتقصير المهل والمواقيت وتسهيل عمليات التبادل التجاري والثقافي، الخ. وهو ما عرف بأنه آليات جديدة للانتاج والاستهلاك أطلق عليها ماركس مصطلح "نمط الانتاج الرأسمالي". تلك كانت بعض ملامح الثورة في عالم الاقتصاد.

ترافق هذا التحول على الصعيد الاقتصادي بثورة ثقافية وبثورة ميكانيكية قوامهما تقدم العلم والمكتشفات الجديدة واختراع الآلات والأجهزة والمطبعة والصحافة. لقد شكلت الأكاديميات ظاهرة جديدة في الحياة الثقافية الاوروبية، اطلق عليها فولتير اسم "مجتمع العقول الكبيرالمنتشر في كل مكان". الجمعية الملكية في لندن 1662، الأكاديمية الملكية للعلوم في باريس 1666، أكاديمية النروج 1760، أكاديمية نابولي للعلوم والآداب، 1778، الجمعية الملكية للعلوم والفنون في منطقة ما وراء البحار (سان دومينيغ) 1784، الأكاديمية الأمبراطورية للعلوم في سان بطرسبرغ، أكاديمية برلين 1790، أكاديمية ميونيخ 1759، الخ. ومن مهمات هذه الأكاديميات تحفيز البحث الجامعي وتسهيل التبادل العلمي مع سائر أكاديميات وجامعات أوروبا.( كتاب أوروبا التنوير، إيف بوروبير، ترجمة محمد علي مقلد، منشورات الكتاب الجديد، 2006، بيروت، وكتاب الحضارة الأوروبية في عصر الأنوار، بيار شونو، ترجمة سلمان حرفوش، منشورات دار كنعان، دمشق، 2003 ).
إلى جانب الأكاديميات بدأت الصحافة تنتشر مكتبوبة بخط اليد، إلى أن ظهرت المطبعة، ومعها طباعة الكتب، وصار تبادل العلوم والآداب متيسرا بين الأكاديميات والجامعات والمدن الأوروبية، وكان ذلك برعاية الأمراء والنبلاء الذين كانوا يتفاخرون بذلك ويتنافسون على تشجيعه.
من أولى نتائج هذه الثورة الثقافية استقلال العلوم عن الفلسفة، واكتشاف حقول معرفية جديدة، فكانت الرياضيات ثم علوم الطبيعة ثم العلوم الانسانية وبصورة خاصة العلوم الاقتصادية والاجتماعية. وقد وضعت الاكتشافات العلمية الجديدة في خدمة الثورة الاقتصادية، ما ترك تأثيره على المجالات الثقافية والاجتماعية وعلى أنماط المعيشة فتبدل سلم القيم وطال التغيير كل جوانب الحياة والعادات والتقاليد والأزياء وطرق المعيشة.
العقل، العلم،المعرفة، الصناعة، الاقتصاد، عناصر تكاملت الثورة فيها ضمن علاقة جدلية بين أطرافها. الحاجة أم المعرفة، والعقل هو السبيل إليها. في البدء كان المكوك لتطوير صناعة النسيج، ثم توالت الاكتشافات. صناعة الألوان مدخل إلى علم الكيمياء وعلوم الطبيعة، فالألوان مصدرها الطبيعة والتفاعل الكيميائي هو منجم ابتكار ألوان جديدة. صناعة الأجهزة مدخل إلى الفيزياء. المسننات ومحاور الحركة( أكسات)، وصناعة الساعة، كواحد من الأجهزة الداعمة لحواس الانسان ووعيه، ساعة الحائط وساعة اليد. صار للوقت معنى آخر وللعمل مقياس دقيق للقيمة.
من أهم هذه الأجهزة المبتكرة تلك التي تساعد العين على رؤية الأجسام الصغيرة جدا أو البعيدة جدا، التي لا تراها العين المجردة ، الميكروسكوب والتلسكوب. يمكن وصفهما بصاعقين فجّرا المعركة بين السببية وعلم الغيب، بين عالمين من المعرفة أحدهما مبني على التجربة، والآخر على الحدس و الماورائيات، بين نموذجين للوعي، أحدهما من نتاج عقل العلماء وآخر من نتاج الطقوس الكنسية.
يمكن القول إن هذين الجهازين هما اللذان أطلقا ثورة ضد المعرفة الكنيسة، لأنهما ساهما بتدمير عمارة المعرفة المبنية على التواتر السمعي، ناقلين المعرفة من الأذن إلى العين، ثم أرفقا ذلك بالتشكيك بالمعرفة العينية وبكل معرفة حسية قبل التثبت منها بأحكام العقل. ثورة علم الفلك بواسطة تلسكوب كوبرنيكوس ومن بعده غاليليه، سحبت الفضاء من سطوة الأساطير وجعلته مادة للعلوم العقلية. شكل انتقال المحورية من الأرض إلى الشمس قريناً لانتقال المحورية مما وراء الطبيعة إلى الطبيعة. كان الله هو محور الكون فصار الانسان. التلسكوب عوض قصور العين عن رؤية الأجسام البعيدة في عمق الفضاء، مثلما عوض الميكروسكوب قصورها عن رؤية الخلايا الصغيرة في بطون الأجسام القريبة.
"الصناعة"، مع عوامل أخرى، نقلت الانسان الأوروبي إلى الحضارة المكتوبة. المطبعة ساعدت الثورة العلمية على الانتشار، فتضاعف عدد القراء مثلما تضاعف " كم المعلومات بما يقرب من مائة ضعف" (بيار شونو، ص.33)، وتحولت أوروبا إلى وحدة ثقافية متفوقة، رأت " الموسوعة " فيها "أهم أركان العالم بتجاربها وملاحتها وخصوبتها وأنوارها وصناعتها وبمعرفة الفنون والعلوم والحرف"(شونو، ص.43)
ارتسمت في أفق تلك المرحلة لوحة تاريخية هائلة عن تقدم العقل البشري، أطلقها الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود) الذي وضع الانسان في مركز محور الكون بعد أن كان الله قد احتله لقرون طويلة. وقد صاغ الرياضي والفيزيائي ديكارت(1596-1650) المعادلة بذكاء لامع ليتفادى مواجهة مع الفكر الديني، داعيا العقل البشري إلى تبديل وجهة السؤال ومضمونه، فبدل الانشغال في مسألة وجود الله أوعدم وجوده، صاغ الاشكالية بطريقة أخرى، وافترض أن الله موجود وأنه هو الذي خلق الكون وقوانين الكون، وما على العقل البشري إلا البحث عن تلك القوانين واكتشافها. ثم أعاد الفيلسوف واللاهوتي مالبرانش(1637-1715) صياغة المعادلة بقوله" لندع للميتافيزيق دراسة القوة المجهولة " الفاعلة" في العلل( أي الله)، أما العلم فعليه الاكتفاء بمعرفة القوانين".
حين سأل نابليون العالم الرياضي والفلكي الفرنسي لابلاس(بيار سيمون لابلاس، 1749-1827) عن موقع "الله" ودوره في منظومته الفكرية، أو في منظومة العالم كما تصورها، أجاب:"يا مولاي، هذه الفرضية لا تلزمني". ذكرني هذا القول بجواب مماثل لعالم لبناني يعمل في النازا( وكالة الطاقة الأميركية) حين سئل في مقابلة تلفزيونية مع محطة إل بي سي اللبنانية ، في ضوء اكتشاف مجاهل الفضاء والمجرات والكواكب، عن رأيه بوجود خالق لهذا الكون، قائلا، حين نصل إلى أعماق الفضاء لا يكون مثل هذا السؤال مطروحا على طاولة البحث.
هذا المجرى الجديد للعلم والمعرفة لم يكن يطمح إلى غير بناء ميتافيزيقا جديدة تناسب الفيزياء الجديدة ولا تجافيها، أو، بعبارة أخرى، إلى بناء علم جديد يتفادى معركة مع علم الغيب. غير أن الطرف الآخر استشعر الخطر الناجم عن نشوء نظرية جديدة للمعرفة ومناهج جديدة في التفكير، الذي يهدد كل منظومته الفكرية، فبادر هو إلى استخدام العنف ضد كل المكتشفات الفكرية.
غير أن العنف لم يكن الشكل الوحيد لردة الفعل على نظرية المعرفة الجديدة المستندة إلى التجربة والحواس والمادة، بل كان للثورة العلمية فعلها أيضاً داخل المثالية ذاتها، فهي أحدثت فيها ثورة وأخصبتها، ودفعت إلى إعادة صياغتها وتقديمها بأشكال جديدة ومناسبة مثل المثالية الذرية عند لايبنز والمثالية التجريبية عند باركلي والمثالية الصورية عند كانط، والمثالية التاريخية عند هيغل"(دفاعا عن المادية والتاريخ، صادق جلال العظم، دار الفكر الجديد، بيروت، 1990، ص 56)، كما أن نقد كوبرنيكوس أو غاليلو لم يقف عند حدود النظام الشمسي ذاته، بل تعداه إلى نقد النظريات والتصورات المستندة إليه (م.ن. ص127) ، كما أن هذا النوع من النقد كان يؤدي إلى "التمرد على آلهة السماء وعلى آلهة الارض أيضاً" (م.ن. ص137)
الاعتماد على العقل في كشف حقائق الكون الخفية في الطبيعة والانسان شكل ضربة قوية للمصادر اللاهوتية للحقيقة واستبعد النصوص الموروثة والمزاعم المتراكمة فيها حول حقائق الكون، وجعل الأولوية لما تقدمه مناهج البحث التجريبي حتى في الموضوعات المعنوية، وحوّل كل ما يتعلق بالانسان والطبيعة البشرية والذهن الانساني والوعي إلى مادة للدراسة العلمية على طريقة علوم الطبيعة، وبفضل ذلك غدا من الممكن تفسير جميع الظواهر الطبيعية، بما فيها المتعلقة بالانسان، تفسيرا آليا سببياً رياضياً من دون الرجوع إلى أية قوى خارقة من خارج الطبيعة.
ماركس والثورة الرأسمالية
في خضم مهمتها الثورية، تعرضت الرأسمالية لنقد جذري من قبل الفيلسوف والاقتصادي وعالم التاريخ ، الألماني كارل ماركس، الذي وضع مع صديقه الانكليزي فريدريك إنغلز أسس فلسفة جديدة في قراءة التاريخ، استشرفا من خلالها حتمية انهيار الرأسمالية، وتوقّعا قيام حضارة جديدة على أنقاضها، وأطلقا الدعوة لقيام تنظيم سياسي يقود الثورة على الرأسمالية.
اعتمدت الفلسفة الماركسية نسقاً من المفاهيم الإجرائية التي تساعد على تحليل الوقائع والأحداث استناداً إلى نظرية المادية التاريخية. من بين هذه المفاهيم، علاقات الانتاج، قوى الانتاج، البنية التحتية، البنية الفوقية، الإيديولوجيا، التشكيلة المجتمعية الاقتصادية، الثورة، الصراع الطبقي. غير أن سياسيي الماركسية وحزبييها جعلوا من المفهومين الأخيرين محور اهتمامهم الأساسي، وأنكروا على الرأسمالية أي فضيلة أو صفة إيجابية، بما فيها تلك التي ذكرها ماركس عند كلامه عن البرجوازية ودورها الثوري، إذ قال:
"إن البرجوازية لعبت، في التاريخ، دوراً ثورياً بارزاً ... إذ إنها ، حيث ظفرت بالسلطة دمرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون، التي كانت تربط الإنسان بسادته الطبيعيين.فهي الأولى، التي بيَّـنت ما يستطيع النشاط الإنساني إتيانه. فأتت بعجائب تختلف كليا عن أهرامات مصر، و الأقنية الرومانية، و الكاتدرائيات القوطية، و قامت بحملات تختلف كليا عن الإجتياحات و الحملات الصليبية.
والبرجوازية لا تستطيع البقاء بدون أن تثوّر باستمرار أدوات الانتاج، وبالتالي علاقات الانتاج المجتمعية.
والبرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبَّعت الإنتاج و الإستهلاك، في جميع البلدان، بطابع كوسموبوليتي، و انتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط غم الرجعيين الشديد. و ما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على النتاج الفكري. فالنتاجات الفكرية لكل أمة على حدة تصبح ملكا مشتركا. و التعصب و التقوقع القوميّان يُصبحان مستحيلين أكثر فأكثر. و من الآداب القومية و الإقليمية ينشأ أدب عالميّ .
والبرجوازية، بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج، و بالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات، تـشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفا إلى الحضارة.
فالبرجوازية، في غضون سيطرتها الطبقية التي لم يَكد يمضي عليها قرن من الزمن، خَلقت قوى منتجة تفوق بعددها وضخامتها ما أوجدته الأجيال السابقة كلّها مجتمعة. فالآلة، و إخضاع قوى الطبيعة، و استخدام الكيمياء في الصناعة و الزراعة، و الملاحة البخارية، و سكك الحديد، و التلغراف الكهربائي، و استصلاح أراضي قارّات بأكملها، و تسوية مجاري الأنهار لجعلها صالحة للملاحة، و بروز عوامر كاملة من الأرض - أيّ عصر سالف كان يتصوّر أنّ مثل هذه القوى المنتجة كانت تهجع في صميم العمل المجتمعيّ؟" (وردت هذه المقتطفات في كتابه مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، بالفرنسية، منشورات سوسيال، 1972، المقدمة ص4 و5)
بالرغم من كل هذه الفضائل والمزايا المنسوبة، بقلم ماركس وتوقيعه، إلى البرجوازية، تحول المصطلح على يد الماركسيين الحزبيين إلى ما يشبه الشتيمة، ولم يروا فيها غير الاستغلال ونهب فائض القيمة والتوسع الاستعماري!
حدد ماركس مفهومه للثورة على أنها لحظة الذروة في الصراع (التناقض) بين علاقات الانتاج والقوى المنتجة، أي اللحظة التي لا تعود فيها علاقات الانتاج قادرة على استيعاب القوى المنتجة، (داخل المجتمع الواحد) وهي لحظة قد تمتد طويلا ولا يقتصر تأثيرها على علاقات الانتاج المادية للحياة الاجتماعية ، بل هي تؤثر، في الوقت ذاته، في البنية الفوقية للمجتمع أي في أشكال الوعي المجتمعي. غير أن الماركسيين استخدموا المفاهيم الماركسية بغير دلالاتها الحقيقية، ورأوا أن الصراع الطبقي هو هو الصراع السياسي بين قوى السلطة اليمينية وأحزاب المعارضة اليسارية ، ثم اختزلوه بالصراع الدولي بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي وحلفائه(العالم الثالث والأحزاب اليسارية في البلدان الرأسمالية) والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها،(الدول الرأسمالية الكبرى والرجعيات المحلية).
في ظل هذه الترسيمة ارتبط مفهوم الثورة بالمعسكر الاشتراكي وصار أعداؤه في صف المعادين للثورة، وتم تجريد الرأسمالية من كل أنجازاتها "الثورية، التقدمية". غير أن ذلك لم يحصل فحسب بسبب تفسير مغلوط للمصطلحات والمفاهيم الماركسية، بل كذلك بفعل التفسير الحرفي لنص مسبوك بقالب بلاغي وشعري يرى فيه ماركس الرأسمالية خاتمة " ما قبل تاريخ المجتمع الانساني ( م.ن). لقد بنى ماركس استنتاجه هذا على تحليل مستند إلى منهجه المادي التاريخي حيث يقول: "إن تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ نضال بين الطبقات، فالحر والعبد ، والنبيل والعامي، والسيد الاقطاعي والقن، والمعلم والصانع، أي بالاختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم ، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة ، حرب كانت تنتهي دائما إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وإما بانهيار الطبقتين المتناضلتين معاً" (ماركس وأنغلز، بيان الحزب الشيوعي، ضمن مختارات ماركس وإنغلز، الجزء الأول ، ص 49-50).
إن اعتبار الاشتراكية بداية للتاريخ الحقيقي للبشرية والنظر إلى ما قبلها على أنه مما قبل التاريخ، هو إطراء شعري ومديح للمرحلة التي يبشر بها ماركس بعد انقضاء عهد الرأسمالية، وليس كما فسرته الماركسية المبتذلة سبيلا لكي تشطب من التاريخ مرحلة ما قبل الاشتراكية بكل الإنجازات التي حققتها البشرية خلالها.
على أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه ماركس والماركسيون هو التفسير المغلوط والمشوه لفكرة الدولة وللموقف منها. لقد اقتصرت نصوص ماركس عن الدولة على مجموعة من التعليقات والتحليلات السياسية والفكرية، وعلى نقد مفهوم هيغل للدولة. رداً على هيغل الذي رأى أن الحرية هي غاية التاريخ وأن الدولة هي تجسيد الحرية، قال ماركس إن البشر لن يعرفوا حرية طالما الدولة موجودة. ذلك أنها، في نظره، أداة للهيمنة الطبقية والقمع الطبقي، وأداة لضمان ملكية الرأسمال ومصالحه ضد العمل. غير أن تلك الملاحظات المتفرقة التي أوردها ماركس عن الدولة كان يستكمل بها نقده للدولة في الحضارة الرأسمالية، وكان يستشرف زوالها في لحظة ما من التاريخ، وبالتحديد حين لا يعود المجتمع في حاجة إلى وجودها ، أي حين ينتقل المجمتع من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وتصبح الضوابط الاخلاقية بديلاً من الروادع القانونية.(سنتناول هذا الأمر بالتفصيل في كتاب سيصدر لاحقا تحت عنوان أحزاب الله)
اليسار الماركسي كان الأقدم عهداً في معارضة الدولة الرأسمالية، ثم تلاه الاسلام السياسي في منطقتنا معارضا لها بحجة كونها أحد تجليات حضارة موسومة بأنها "أجنبية ومسيحية ومادية"، ثم استكملت معارضتها من جانب القوى القومية بحجة كونها نتاجاً استعمارياً.
أتاحت لنا القراءة النقدية لتجارب النضال ضد "الصهيونية والرجعية والاستعمار" وضد الرأسمالية المتوحشة أن نكتشف هذه الأعطال في منظومتنا الفكرية، حين لم نكن نميز بين زوال الدولة وإزالتها، أو بين اضمحلالها والقضاء عليها، بين انتفاء الحاجة إليها أو تدميرها، أي حين فهمنا فهماً مغلوطا قانون النفي ونفي النفي، وجعلنا النفي الميكانيكي بديلاً من النفي الجدلي. لذلك عكفنا على نقد التجربة وجعلنا استنتاجاتنا بمثابة نقطة ارتكاز أتاحت لنا أن نستشرف الآفاق المستقبلية التي ارتسمت ملامحها في أحداث الربيع العربي، فكتبنا، في هذا الصدد، مقالة نرى من المفيد إيراد نصها بصيغته الحرفية من غير تعديل.

الماركسيون بين اضمحلال الدولة وبناء الدولة

"وضعَنا ماركس على أول طريق الاستشراف، لكن ورثته اطمأنوا إلى ما تركه، على طريقة الرعاة والاقتصاد الريعي. بحثوا عن شجرة مثمرة ولم يزرعوا، نقبوا في آباره ولم يحفروا بئرا.
اتفق الورثة والمريدون على أن ماركس افتتح قارة معرفية جديدة في علم الاقتصاد، وبرع في توصيف آليات الاقتصاد الرأسمالي، ومن هذه القارة فتح كوة استشرافه المجتمع الاشتراكي. كان على الورثة ألا يروا في الرأسمالية اقتصادا وصراعا طبقيا وتوسعا وسيطرة، الخ . فحسب، بل كان عليهم أن يروا فيها حضارة، أي علما وثقافة وفنونا وعادات وتقاليد وبنية أسرية وطريقة عيش، الخ. ولأنهم حجزوا أنفسهم فكريا في قمقم الاقتصاد الرأسمالي، جاء من يحكم عليهم السجن في صورة مثلثة بدوا فيها أعداء للأغنياء(بصفتهم يمثلون رأس المال) وللدين وللحرية، ومن هذه الصورة كان مقتل مشروعهم .
الرأسمالية حضارة. والحضارة لا تعني تفخيما ومدحا. إن هي إلا مرحلة من تاريخ البشرية، تختلف عن سائر الحضارات في ميلها إلى أن تكون حضارة كونية، في حين كانت سائر الحضارات السابقة عليها ذات طبيعة محلية، أيا كان حجم توسعها ومهما بلغ خيال القيمين عليها وتنامت قدرتهم على الفتوحات. وإن كنا نستبعد التفخيم عن تسمية هذه المرحلة الرأسمالية بالحضارة ، فلأنه ينبغي أن نستبعد التقبيح الذي أطلقه ورثة ماركس عليها ، حيث غدت الرأسمالية ومشتقاتها في قاموسهم شتيمة ومذمة .
لا هذا ولا ذاك. الرأسمالية حضارة. وقد سبقها في الزمن نمطان آخران من الحضارة(ربما ينبغي أن يعاد النظر بالحقبات الخمس): الحضارة (او الحضارات) الدينية، التوحيدية وغير التوحيدية، السماوية وغير السماوية، وهي كلها ديانات موصولة إلى حبل الصرة الفكرية ذاته، وفيها انفتح للبشر أفق للسيطرة على الطبيعة بالواسطة (الله بكل مسمياته والميتافيزيق). والحضارة (الحضارات) ما قبل الدينية التي كان السحر فيها سبيل البشر الوحيد في مواجهة الطبيعة. أما الرأسمالية فقد تسلّحت بالعلم . وفي كل الحضارات بنية تحتية وأخرى فوقية ، وهو ما قاله ماركس ، أما الماركسيون فقد ركزوا اهتمامهم على ما اهتم به ماركس وأهملوا ما أهمله، أي البنية الفوقية وتجسيداتها في الفكر وفي السياسة.
ولأنهم أهملوا ذلك، كان من الطبيعي ألا يستكملوا ماركس، وأن يناموا على حرير استشرافه السليم، واستعاروا من اكتشافاته الاقتصادية مفاهيم فكرية وسياسية، فأخطأوا في استخدام منهجه، حين نقلوا نقلا ميكانيكيا مصطلحات ومفاهيم من حقل الاقتصاد إلى حقلي الفكر والسياسة ، فوضعوا أنفسهم في مواجهات خاطئة مع الدين ومع الحرية .
اضمحلال الدولة هو المفهوم الأساس الذي بنى عليه الشيوعيون أخطاءهم اللاحقة . لقد اعتقد ماركس أن الحرية التي تحدث عنها هيغل هي الحرية الممكنة في الحضارة الرأسمالية، أي حرية رأس المال، حرية الفلاح أن يعمل أولا يعمل في أرض الإقطاعي، الخ. أما الحرية الحقيقية فلن يبلغها البشر إلا في المجتمع الاشتراكي. وردا على هيغل القائل بأن الدولة (الرأسمالية) هي التي تجسد الحرية، قال ماركس إن البشرية لن تعرف الحرية طالما الدولة موجودة ، ومنه انطلق في استشرافه ليقول إن التاريخ الحقيقي للبشرية يبدأ بالاشتراكية وأن ما قبل الاشتراكية هو مما قبل التاريخ .
قد يكون القضاء على الدولة أمرا سياسيا، لكن الدولة، الرأسمالية أو غيرها، جزء من حضارة. الماركسيون عموما والشيوعيون على وجه الخصوص استعجلوا قوانين التاريخ وأنفوا من المشاركة في بناء الحضارة الرأسمالية لأنهم حسبوها مما قبل التاريخ ، واستحثوا الخطى للقضاء على الدولة الرأسمالية ، ثم استدركوا ، بعد انهيار التجربة ، أن سياسة النيب اللينينية لم تكن تجسد إلا هذا التحدي: تحدي أن يقود الشيوعيون بناء دولة رأسمالية أو أن يشاركوا في بنائها ، إسهاما منهم في تحضير التاريخ للانفتاح على حضارة جديدة كان ماركس قد استشرف معالمها وسماها الاشتراكية
في الوضع الملموس داخل بلدان العالم الثالث، ونحن منه، بات واضحا أن الخيار أمام الشعوب اليوم لم يعد خيارا بين التخلف والاشتراكية، أو بين الرأسمالية والاشتراكية، بل هو بين بناء الدولة الحديثة، دولة الحريات والديمقراطية، بالمعنى الرأسمالي للكلمة، وبين الحروب الأهلية، أي أن بناء الدولة الأمة وصياغة وحدة وطنية هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات الخارجية التي تفرضها علينا آليات التوسع الرأسمالي . دليلنا على ذلك أن الدول التي نالت استقلالها في منتصف القرن الماضي مهددة اليوم بالعودة، على صعيد الدولة والمؤسسات السياسية، إلى مرحلة ما قبل الحضارة الرأسمالية، إي إلى تفتيت الدول القائمة والرجوع بها إلى مرحلة الدولة العشيرة أوالدولة القبيلة .
كل ذلك ليس من قبيل الاعتراض على الاستشراف الماركسي، بل من قبيل تأكيده. ذلك أن البشرية لم تكن في حاجة إلى مثل هذا الاستشراف حاجتها اليوم إليه."
نشرت هذه المقالة في جريدة النور الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوري، وكان ما فيها من تجرؤ على "المقدسات" (المقدس الحزبي هنا هو الموقف من الدولة) كافياً لعدم استقبال الجريدة مقالات أخرى مماثلة. حصل ذلك في بداية مرحلة انفتاح قصيرة الأمد أطلقها النظام السوري، في لحظة انتقال السلطة إلى بشار الأسد غداة وفاة أبيه. لكن التزمت حيال تأويل الموقف الماركسي من الدولة كان أقوى من سياسة الانفتاح تلك، وكان يجسد نهجاً كاملاً يتم تعميمه على القواعد الحزبية، حتى غدا جزءاً من المنظومة الفكرية لدى أي عضو ملتزم في الأحزاب الشيوعية. وإليكم نموذجاً من تلك الثقافة الحزبية المعادية للدولة في حوار على مواقع التواصل الاجتماعي، الفيسبوك.
في 30 -8- 2015 نشرت على صفحتي النص التالي: "مع بداية النقد لتجربتي الحزبية قلت إن الأولوية ليست لبناء الاشتراكية ولا لتحرير فلسطين، على أهمية القضيتين. الأولوية لبناء الوطن والدولة. حين زارني أحد الشيوعيين المخضرمين عاتبني لأنني أرفع علم لبنان على شرفتي. البارحة حين اعترضت على الشعارات التي تطالب بإسقاط النظام وتهدد الدولة والمؤسسات، اتهمني أحد الرفاق بالخروج على خط الحزب"
تفاوتت التعليقات على هذا النص بين مؤيد ومعارض، اخترت عينة منها تؤكد رسوخ الموقف المغلوط من الدولة في ثقافة المنتسبين فعلاً إلى اليسار الشيوعي، والمنتسبين زعماً الى الماركسية. يقول التعليق الأول لصاحبه، مشعل يسارmichaal yassar ( قد يكون إسماً وهمياً) "هيدا مش بس خروج على خط الحزب يا أستاذ، هيدا خروج كلي من الماركسية والشيوعية العلمية. الدولة وعلمها ونظامها ومؤسساتها مفاهيم طبقية. والشيوعي مفترض يحكي عنها بمنظور طبقي. يعني لا اشتراكية ولا فلسطين ، بس إعادة بناء الدولة البرجوازية المنهارة مش بسبب المتظاهرين، بل بسبب البرجوازية وخلافها عالحصص". ويقول الثاني، وهو في صيغة تساؤل ، جميل ابراهيم فارس (إسمه الحقيقي) ، "هل كان مطلوباً من الحزب الشيوعي أن يهمل أولية التحرير لننعم بالدولة المحتلة ؟ "
التعليق الأول أكثر فصاحة من الثاني وأكبر ثقة بالنفس. حكمه مبرم، بال"خروج الكلي من الماركسية والشيوعية العلمية"، ونحن نميل إلى الظن بأن صاحبه لم يأخذ حذراً كافياً من استخدام مصطلحين، الماركسية والشيوعية العلمية، ما يزالان مادة للنقاش، ولم يحسم الفكر "العلمي"، لدى كبار المفكرين الماركسيين استخدامهما بهذه الطريقة الجازمة والمطلقة، وذلك لأنه فكر علمي ولأن صاحب التعليق ليس سوى عينة من الرأي العام الشائع الذي يتلقى المعرفة عن طريق الأذن، بالإشاعة، وبالطريقة التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل الميكروسكوب والتلسكوب، أي من غير تمحيص ولا تدقيق، وتلك من شوائب الثقافة الحزبية المبنية على التعصب الأعمى لشعارات وكليشيهات يحمّلها الحزبيون مضامين ثابتة جامدة، ويمتنعون عن إدخالها إلى مختبرات التحليل العلمي.
وفي ظننا أيضاً أن العلماء لم يحسموا في علمية مصطلح "الشيوعية العلمية"، لأن علمية العلوم الانسانية أمر نسبي، ولأن ماركس توصل إلى تحليل علمي لآليات الاقتصاد الرأسمالي، لكن كلامه عن الشيوعية العلمية لم يكن استنتاجاً رياضياً بقدر ما كان نوعا من التوقع المبني على الحدس الذي يمكن نعته بالحدس العلمي، وعلى معادلة رياضية تشبه المتتاليات الهندسية أو الجبرية ، وهي ليست محصلة جهد نظري على منهج السببية، أو جهد عملي في المختبرات، بل هو مجرد استنتاج مبني على قواعد المنطق الصوري أو الشكلي، ولسنا ندري ما إذا كان ماركس قد تجرأ على ضم استنتاجه الحدسي هذا، إلى خلاصات توصل إليها في نهاية تحليله المعمق في كتابه الضخم ، رأس المال، أم أنه استخدمه كفرضية في كتاباته السجالية فحسب.

ورد في التعليق أن الدولة والعلم والنظام والمؤسسات هي مفاهيم طبقية، والمقصود بذلك أن الدولة ما قبل الاشتراكية هي دولة البرجوازية وعلمها علم الطبقة البرجوازية، ونظامها برجوازي ومؤسساتها برجوازية، ما يستدعي التمرد عليها وعلى مؤسساتها وعلى علمها وعلى نظامها، وبالتالي فإن رفع العلم الوطني هو، في اللاوعي الشيوعي أو اليساري، خيانة للمبادئ الحزبية وخروج من الماركسية وليس فحسب خروجاً عليها.
المعادلة في التعليق الثاني أكثر فظاعة. "نهمل أولوية التحرير أو ننعم بالدولة المحتلة". وضع الدولة والتحرير كنقيضين، إما الدولة(المحتلة) أو التحرير. الدولة قرين الاحتلال، والتحرير مهمة(نا) . أو كأن المعادلة تخفي مقارنة بين جحيم ونعيم ، جحيم الاحتلال ونعيم الدولة، وما من فارق كبير بينهما، أو تخفي سخرية من نعيم للدولة يشبه جحيم الاحتلال....
في جميع الأحوال، هذا الموقف من الدولة لم يكن موقف اليسار الماركسي وحده بل جميع الأصوليات



تحالف الأصوليات

بدايات القرن العشرين كانت حافلة بالأحداث؛ حربان عالميتان لم يفصل بينهما غير عقدين من الزمن؛ الثورة البلشفية عام 1917 التي أطلقت نهوض حركة يسارية ماركسية في العالم العربي والعالم؛ بداية انحسار الاستعمار الأوروبي واستقلال العديد من بلدان العالم الثالث، من بينها البلدان العربية.
أصوليات عربية ثلاث تعاونت في تلك المرحلة، من موقع الخصومة الحادة في ما بينها، للاعتراض على النموذج الرأسمالي الذي كان قد بدأ يغزو المنطقة قبل أكثر من قرن، وبالتحديد حين جاء نابليون بونابارت إلى مصر في عام 1798 وأيقظ بدوي مدافعه العالم العربي من سباته العميق.
الأصولية الأولى هي الأصولية الاسلامية التي نشأت مع الحركة الوهابية والتي بدأ اعتراضها، قبل ذلك، لا على النسخة الأوربية من النهضة المقترحة، بل حتى على النسخة السلطانية، فكانت مواجهتها الأولى مع قوات الدولة العثمانية وقوات محمد علي باشا. ولم تفلح حركة الاصلاح الديني التنويرية بقيادة جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده في تجديد الفكر الديني إلا لفترة محدودة من الزمن انتهت بموتهما، لتعود الحركة القهقرى مع الشيخ رشيد رضا وسائر الحركات والاحزاب السلفية من حزب الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا إلى القاعدة بقيادة بن لادن وداعش بقيادة البغدادي.
الأصولية القومية بدأت مع سعد زغلول المصري وبلغت ذروتها مع جمال عبد الناصر مع نسخ أخرى من بينها أحزاب قومية أهمها حزب البعث الذي أنهى حكمه بتفتيت العراق وتدمير سوريا، وشخصيات مثل معمر القذافي الذي تسبب حكمه بإعادة ليبيا إلى ما قبل السنوسية، فضلاً عن تنظيمات صغيرة متفرعة من الناصرية وحركة القوميين العرب وحزب البعث منتشرة في سائر أنحاء العالم العربي.
جورج قرم له رأي مختلف، فهو يرى " أن الثورة كانت قد بدأت بتأميم قناة السويس وملحمة الزعيم جمال عبد الناصر في مجابهة قوى الامبريالية والرجعية العربية المعادية للتقدم وفي مكافحة الهيمنة الخارجية الغربية ... وختمت باجتياح اسرائيل للبنان وعاصمته وانهيار ما قد تبقى من منظمة التحرير العربية والقوى الثورية العربية الأخرى " (السفير 5-8-2013). الثورة العربية، في نظره، تبدأ بعبد الناصر، وفي نظر سواه بالمواجهة السورية مع الانتداب الفرنسي، وفي نظر آخرين بأي انقلاب عسكري مع بيان يحمل الرقم واحد، وبرأينا مع بوعزيزي.
الأصولية اليسارية لم يتح لها أن تحكم إلا بصورة مواربة وملتبسة، إما حكماً عابراً ومحدوداً في الزمن، باستثناء تجربة اليمن الجنوبي التي دامت وقتاً أطول، أو بالتحالف مع قوى وأحزاب قومية دعماً لها من خارج السلطة، كما في مصر، أو بالتعاون معها في "جبهات وطنية"، كما في بعض المراحل في كل من سوريا والعراق والجزائر.
وقفت الأصوليات مواقف متفاوتة من الحضارة الرأسمالية. اعترضت الأصولية الاسلامية على البنية الفكرية الثقافية الإيديولوجية، وبلغ اعتراضها حده الأقصى بتكفير كل من يتقن لغة أجنبية أو من كان على علاقة بثقافة أجنبية( أحد طلاب الجامعة اللبنانية كفّر، في دراسة له عن القرآن، رئيس تحرير مجلة الأزهر لاختلاف معه في التأويل والاجتهاد، وكفّر أساتذته الذي تابعوا دراستهم العليا في أوروبا)، وتصالحت مع النظام الاقتصادي الرأسمالي، فاجتهدت في تفسير النصوص الدينية التي تمنع الربا واعتمدت نظاماً ماليا ومؤسسات تعمل بآليات رأسمالية، كالاستثمارات والبنوك الاسلامية. أما الأصولية القومية فقد تأقلمت مع الاقتصاد الرأسمالي ومع الثقافة والمؤسسات التعليمية، فيما اقتصر اعتراض الأصولية اليسارية على الاقتصاد الحر دون الثقافة و"العلم البرجوازي"، باستثناء ما يتعارض منه مع " العلوم الماركسية" بحسب الوصفة الستالينية.
رفعت الأصوليات في وجه الحضارة الوافدة شعارات الخصومة، فبدت، في نظر الاسلام السياسي ذات وجه غربي مسيحي مادي إلحادي، وفي نظر القوميين استعماراً وفي نظر اليساريين رأسمالاً متوحشاً حوّل الانسان وعمله إلى سلعة، وصار يبغي الربح ولو على حساب كل القيم الانسانية والحقوق ، بما فيها تلك التي رفعتها الرأسمالية إبان ثورتها ولخصتها بوثيقة شرعة حقوق الانسان. غير أن الأمر الوحيد الذي توافقت عليه كل الأصوليات هو الاعتراض الجذري على البنية السياسية التي اقترحتها الرأسمالية، أي على صيغة الدولة وأنظمة الحكم.
القاسم المشترك بين المختلفين هو، إذن، الموقف من الدولة. لقد تعاونت هذه القوى المتعارضة تعاونا غير مباشر، فعملت، ولكل منها مبرراتها وأسبابها، على إلغاء البذور الأولى للديمقراطية التي نشأت مع نشوء دول مستقلة، وتولى ضباط من الجيوش المستحدثة هذه المهمة فقاموا بانقلابات عسكرية وأطاحوا بالأنظمة القائمة واستبدلوا الدساتير بالأحكام العرفية وفرضوا حالات الطوارئ وطمسوا الإرادة الشعبية بشعارات شعبوية واستبدلوا دولة القانون والفصل بين السلطات بنماذج مبتكرة من الدولة الاستبدادية ، وأسسوا الجمهوريات الوراثية التي يتم اختيار الحاكم فيها بالتعيين أو بالوراثة، فكان أول انقلاب حصل في سوريا، عام 1949، ثم كرت سبحة الانقلابات في مصروالعراق والسودان وليبيا والجزائر وتونس، فضلا عن تجربة دموية فريدة في اليمن الجنوبي.
الاسلاميون لم يصلوا إلى الحكم وانحصر دورهم في مواجهات دموية مع أنظمة وقوى يسارية أخذوا عليها علمانيتها وخضوعها للغرب و"المصالح الدنيوية"، واستخدموا ضدها سلاح الاغتيالات إلى أن بلغ العنف مداه مع تنظيمي القاعدة وداعش وما بينهما من صنوف الأصوليات والسلفيات التي توسلت العنف للسيطرة على الحكم. أما التجارب السلمية التي تيسر لها النجاح في صناديق الاقتراع فقد أظهرت في برامجها المتواضعة أنها لا تملك أي برنامج غير ذاك المتعلق بسفور المرأة والخمرة، وأعلنت صراحة عداءها للديمقراطية باعتبارها، إلى جانب الماركسية، فكرا مستوردا من الغرب الملحد.
ذاك كان الجانب المشترك في تجاربهم حيث حكموا في بلديات الأردن والجزائر وفي نظام البشير في السودان والملالي في إيران. أما حيث عارضوا في كل مكان من العالم الاسلامي، فقد استخدموا العنف المسلح دونما خشية من التورط في حروب أهلية على غرار ما حصل في الجزائر والصومال وسوريا والعراق ومصر. أما الأحزاب اليسارية والقومية الحاكمة فقد وضعت شعوبها أمام خياري الاستبداد أو الحروب الأهلية، على غرار ما حصل في بعض بلدان الربيع العربي وقبله في اليمن الجنوبي.
الاجماع الأصولي على عداء الديمقراطية شكل عائقاً أمام انتقال العالم العربي انتقالاً سلساً وهادئاً إلى عالم الحداثة، وعلى الأخص الحداثة السياسية التي ليس لها تجسيد آخر غير الدولة المدنية الدستورية الديمقراطية. وباتت عملية الدخول في الحضارة الرأسمالية أمرا مستعصياً بعد أن أوصدت الأصوليات القومية واليسارية والدينية، بأنظمتها وأحزابها الشمولية الاستبدادية، الباب أمام الانتقال السياسي نحو الدولة الحديثة التي تتسع للتعدد والتنوع من داخل الوحدة.

عودة العرب إلى التاريخ

هذا العنوان يحاكي ويعارض عنوان كتاب المفكر المصري فوزي منصور "خروج العرب من التاريخ"، الذي حاول فيه أن يفسر استعصاء دخولهم إلى الحضارة الرأسمالية تفسيراً اقتصادياً، مستلهماً فيه المنهج الماركسي ومتأثراً بكتابات المفكر والاقتصادي المصري سمير أمين. يبحر الكتاب في دراسة مستفيضة لتطور الاقتصاد في العالم العربي منذ الثورة الاسلامية وعصر الخلفاء الراشدين حتى بدايات النهضة، محدداً أسباب الاستعصاء بعوامل اقتصادية بالدرجة الأولى، أما العوامل السياسية فهي بدورها تتعلق، من وجهة نظره، بغياب الطبقات الاجتماعية عن لعب دورها في عملية التغيير والانتقال، فلا محمد علي باشا اعتمد على البرجوازية لبناء الدولة الرأسمالية المستلهمة من النموذج الفرنسي، ولا عبد الناصر اعتمد على الطبقة العاملة لبناء الاشتراكية على النموذج السوفياتي معدلاً ومطعّماً بخصوصية عربية، لكنه لم ينتبه إلى أن إحجام الطبقة عن لعب دورها كان نتيجة عامل سياسي هو الاستبداد. محمد علي باشا نصب نفسه سلطاناً أو أميراً أو أمبراطوراً على النموذج النابليوني، فيما ألغيت التعددية في عهد عبد الناصر ولم ينتظر الحزب الشيوعي المصري المرسوم الجمهوري فأقدم على حل نفسه لينضوي مع سائر الأحزاب المصرية في الحزب الواحد، الاتحاد الاشتراكي العربي، فيما ظل تنظيم الإخوان المسلمين خارج المنظومة الحزبية الحكومية.
العالم العربي إذن أمام الطريق المسدود(هذا هو العنوان الفرنسي لكتاب فوزي منصور). لم يكن مسدوداً أمام انتقال اقتصادي أو ثقافي إلى الحضارة الرأسمالية، خصوصاً أن الحضارة الغربية (الرأسمالية) دخلت من أبواب شتى، من المؤسسات والاستثمارات والجامعات والاتصالات والمصانع والمنتجات الصناعية والالكترونية وكل مظاهر الحداثة الاقتصادية، بل هو مسدود بالتحديد أمام النقلة السياسية من دولة الاستبداد التي يكون فيها الحاكم حاكماً بالوراثة، ويكون محاطاً بهالة من القداسة، أخذاً بعين الاعتبار التأثير السلبي لهذا الانسداد على البنيتين الاقتصادية والثقافية. إذن لا بد من فتح كوة في هذه النفق السياسي المظلم، فكان الصاعق بوعزيزي واندلاع الثورة في تونس.

الصاعق التونسي

قبل قرنين من الزمن أطلق شكيب إرسلان سؤاله الشهير: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟ ولم يأته الجواب إلا من تونس بوعزيزي ومن ميدان التحرير في مصر : الشعب يريد تغيير النظام. قبلهما ظلت الأجوبة في منأى عن بنية النظام ، بل هي حامت حوله. محمد علي باشا دخل من باب الاقتصاد وظل هو الباشا ، وعبد الناصر دخل إلى السياسة من بابها الخلفي ، فحافظ على النظام واكتفى بتغيير السلطة. ذلك أن باب الدخول إلى الحضارة الحديثة ، بل إلى التاريخ هو باب الثورة السياسية، لا أية ثورة أخرى ثقافية على طريقة ماوتسي تونغ أو اقتصادية على طريقة لينين. إنها طريقة الثورة الفرنسية بالذات التي ألغت نظام الوراثة وسنت القانون الوضعي الذي أسس للفصل بين السلطات ولتداول السلطة.
قبل الثورة الفرنسية كانت البلدان المنخفضة وإسبانيا وبريطانيا سباقة في ثوراتها الاقتصادية لكن المجد لم يكتب لغير الثورة الفرنسية لأنها هي التي حققت في السياسية ما يحمي تطورا هائلا في الثقافة والاقتصاد كان قد بدأ قبل قرون ، حين استلمت أوروبا راية الحضارة من العرب ، في ما يشبه سباق البدل بين الحضارات ، بعد أن كان العرب قد استلموها قبل ذلك من الفرس والبيزنطيين واليونانيين والرومان.
حضارة العرب كانت تطويراً للحضارة أو الحضارات التي سبقتها مباشرة، وكان أهم ما تميزت به أنها جعلت الحاكم حاكماً باسم الله أو ممثلاً لله على الأرض ، بعد أن كان الحاكم في الحضارات التي سبقتها ، كما في الفرعونية الأولى مثلاً ، هو الله أو ما يشبهه أو يوازيه . أوروبا أحدثت نقلة جديدة حين جعلت الحاكم ممثلاً للشعب ، واستحضرت الديمقراطية بعد أن رفعتها من مساواة بين علية القوم ( اليونان القديمة) إلى مساواة بين جميع المواطنين.
باسم هذه الحضارة انطلقت أوروبا إلى العالم ، وكانت المنطقة العربية أول من نعم بهذا الاحتكاك حين قدم نابليون إلى مصر. غير أنها أتت مع التباساتها الناجمة من كونها ذات وجهين، وجه الحضارة ووجه الاستعمار، ولم نكن وحدنا من أوقعه الالتباس في الحيرة ، غير أننا كنا الأكثر حزما فرفضنا العرض من اللحظة الأولى ، بينما قبله آخرون ، مكرهين ، كما في الصين، أو طوعا كما في اليابان .
إنها الحضارة الرأسمالية التي قدمت نفسها على أنها حضارة العلم والصناعة والديمقراطية ، وتوالى الرفض العربي لها من أول الأصوليات الدينية إلى آخر الأصوليات العلمانية ، ورحنا نطلق عليها كل الأسماء إلا إسمها الحقيقي:حضارة غربية، حضارة مادية، حضارة مسيحية، الخ...وجعلناها عدواً وصوبنا عليها ورميناها بتهمة الاعتداء على الأصالة والتاريخ ، وقاومناها بكل ما أوتينا من تعصب أعمى للجهل والأمية وكل اعراض التخلف، وحاولنا أن نرد عليها بالانغلاق على النفس، بل إننا ابتكرنا في مواجهتها كل ما تفتق عنه العقل من صنوف الاستبداد، قديمه وحديثه، من أقبية التعذيب والسحل والقتل والنفي والسجن والمخابرات وأجهزة الأمن ، الخ، الخ...وظل الثابت في كل هذه الصنوف هو التوريث السياسي. من هنا كان الجواب المصري التونسي الذي يتردد صداه في كل أرجاء الأمة : الشعب يريد تغيير النظام.
من تجربة محمد علي باشا التي لم تكتمل، إلى تجربة الحركة القومية العربية التي انهارت في مواجهة تحديات العصر، حاولنا أن نجيب على ذاك السؤال التاريخي. أتى الجواب الأول من الأصوليات الإسلامية قبيل وصول نابليون، وبعده ومن السلطنة العثمانية التي اعتمدت سياسة الممانعة، حيث لم يكن التخلف العربي العثماني الإسلامي ، في نظر أصحاب الجواب، سوى نتيجة جهل المسلمين بأصول دينهم ، ما يعني أن الحل هو في العودة إلى الأصول. لكن الحل تجاهل كل أسس التقدم الغربي الرأسمالي المتكاملة، في الفكر كما في السياسة كما في الاقتصاد. السنوسية كانت أكثر التجارب الأصولية اكتمالا، فاقتصرت على تغييرات طفيفة في إدارة النظام الاقتصادي السياسي الثقافي القائم، ولم تطمح إلى إحداث نقلة نوعية في أسس هذا النظام ، ولا سيما في أساسه السياسي ، تماما مثلما حصل بعد قرنين في التجربة الاشتراكية التي ركزت اهتمامها على توزيع الثروة لا على إنتاجها.
لم تر الأصوليات القومية في الرأسمالية إلا وجهها البشع ،الاستعمار ، فحاربتها مثلما حاربتها الأصوليات الماركسية لاحقاً وحاولت أن تلغيها من التاريخ وتصنع، على أنقاضها تاريخاً جديداً يبدأ بالاشتراكية. على أن هذا الرفض الأصولي القاطع ،الديني والقومي والماركسي، لم يجمع على شيء إجماعه على رفض الوجه الإيجابي في الحضارة الرأسمالية ، أي على رفض الديمقراطية.
ربما يكون ذلك في أساس هذه الظاهرة الفريدة في عالم القرنين العشرين والحادي والعشرين: استمرار أنظمة الحكم الوراثي، في العالم العربي وحده دون سواه من دول العالم ، في كل السلطات المتعاقبة بعد مرحلة الخلفاء الراشدين، في دولة الخلافة أو في الدويلات المتفرعة عنها أو في أنظمة الأحزاب والجماعات والقبائل المعارضة حتى لو لم تكن حاكمة. ولم تأت الانقلابات العسكرية في دول الاستقلال إلا لتكرس الموقف ذاته المعادي للديمقراطية وتداول السلطة في العالم العربي، ولتشوه معنى الثورة .
قرنان من الزمن إذن ، أي قرنان من معاندة التاريخ ، بل قرنان من خروج العرب من التاريخ ، إلى أن أتت باكورة أحداث كبيرة في تونس ومصر لتعلن نهاية عصر الانقلابات العسكرية والبيان رقم واحد ، ولتعيد الاعتبار لفكرة الثورة بما هي تغيير جذري في بنية المجتمع والدولة ، ولا سيما في بنية النظام السياسي ، تغيير يفسح في المجال أمام الانتقال إلى مرحلة الديمقراطية وحكم الشعب، أي إلى بناء دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والعدالة والحرية والفصل بين السلطات، الخ...
جربت المنطقة العربية كل الأجوبة : الإسلام هو الحل ، فكان تطبيقه في الجزائر حربا أهلية وفي السودان تقسيم البلاد وفي إيران وأفغانستان كل صنوف إلغاء الرأي الآخر؛ الوحدة القومية هي الحل ، فكانت تجربة الوحدة الطوعية بين مصر وسوريا، وتجربة الإلحاق القسري للبنان بسوريا أو للكويت بالعراق، مليئة بالمآسي ؛ الاشتراكية هي الحل، وقد انهارت التجربة في البلد الأم لتنهار بعدها كل التجارب التي استلهمتها. والمشترك الأساسي في كل تلك الحلول هو مجافاة الديمقراطية ووضع بلدان العالم العربي أمام خيارين، الاستبداد أو الحروب الأهلية أو التقسيم. من العراق شرقا حتى الجزائر، ومن لبنان وسوريا شمالا حتى اليمن جنوباً : المصائر ذاتها : إما تأبيد أنظمة الحكم ، حكم الطوائف والقبائل والتوريث وإما الحروب الأهلية، إلى أن جاءنا الجواب الشافي من مصر وتونس : الحل في الديمقراطية .
تاريخ المنطقة يندرج في سياقات أخرى، وقراءات مختلفة ومتباينة، باختلاف مناهج القراءة وتباينها. نصري الصايغ يرى أن الأمة العربية تنتسب إلى الفشل(مقالة في السفير 31-3-2015)، ويتحدث عن "مائة عام من الفشل" من ضياع فلسطين ، إلى حروب اليمين واليسار والانتفاضات الفلسطينية وهزيمة الكفاح المسلح على يد الأنظمة، إلى أوسلو، إلى قتل الوحدة العربية وتكريس القطرية والكيانية إلى الانقلابات المتناسلة. أمة مستعدة أن تذبح نفسها وتوزع البؤس بدل الخيرات، يتحارب فيها الوحدويون وحزبيو الأرومة الواحدة، ولا تنجب غير عباقرة الحروب، حروب بلا قضايا، حروب فاشلة، من الحرب مع إيران إلى حرب اليمن إلى "اغتصاب أحلام الربيع العربي" إلى حروب السنة والشيعة إلى درع الجزيرة وربيع البحرين والقاعدة وداعش، إنها حضارة الركام ، ولا نسمة نجاح.
بداية التاريخ العربي الحديث تبدأ، في رزنامة نصري الصايغ، بضياع فلسطين، وفي رزنامة النهضة بنابليون بونابرت. كل الحروب التي خاضتها الأمة العربية متشابهة، في نظره، لأنها انتهت كلها بالفشل، بما فيها الحرب على أحلام الربيع العربي. ولم ترد في مفراداته أية إشارة إلى الحضارة الرأسمالية والدولة الحديثة، مع أنه ينتمي إلى جيل العلمانيين الحداثيين.
سرديتنا نحن تستند إلى معادلة أخرى وتبدأ من الثورة الفرنسية، أم الثورات الحديثة. صحيح أن هذه الثورة لم تتمكن من أن تصنع سلاماً أهلياً ، لكنها وضعت أسسه. بيد أن الحضارة الرأسمالية احتاجت إلى حربين عالميتين على الأقل لتقتنع بأن الديمقراطية ليست فحسب صناديق اقتراع، بل هي قبل ذلك تكافؤ فرص في تحصيل الثروة وفي تحصيل المعرفة، وهي عدالة لا تقوم إلا على الفصل بين السلطات وعلى تداول السلطة، الخ. كل ما نطمح إليه ألا يحتاج العالم العربي إلى ردح طويل من الزمن ولا إلى مآسي حروب أهلية ليقتنع بأن باب الدخول في التاريخ الحديث هو قيام الدولة الديمقراطية.
لأننا نميل إلى الاعتقاد بأولية العامل السياسي على الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في تفسير خروج العرب من التاريخ، وجدنا أن ثورة الربيع التي أطلقها بوعزيزي وضعت العالم العربي على سكة التطور التاريخي الصحيحة، لأنها طرحت استكمال النهضة الاقتصادية والثقافية بإصلاح سياسي من شأنه حماية المنجزات التي تحققت على الصعد الأخرى، ولأن الانتقال إلى الديمقراطية هو الضمانة الوحيدة لبقائه موجودا داخل التاريخ.
الأصوليات كانت ترى الأولية في مكان آخر، و تمكنت من الاستمرار في ممارسة سيطرتها السياسية منذ منتصف القرن العشرين، على امتداد ستين عاماً كانت خاتمتها حادثة بوعزيزي في تونس، مستندة إلى عوامل شتى لتثبيت شرعية الأنظمة، فهي زعمت قيادة النضال ضد الاستعمار والصهيونية ومن أجل الوحدة العربية، أو هي استندت إلى مشروعية وراثية أوقبلية أودينية أو إلى أحزاب يسارية استقوت بنهوض الاتحاد السوفياتي، أو إلى الجيوش وأجهزة المخابرات المحلية أو العالمية.
ولأن الأصوليات كانت تستبعد أن يكون الاستبداد هو الحافز الأساسي على الثورة، ارتبكت حين انفجار الربيع، فلا اليسار شارك في التحركات الشعبية ولا الاسلام السياسي ، فيما ظنت الاصولية القومية أنها في منأى عن أحداث الربيع لأنها في حماية موقفها السياسي الممانع "المعادي للامبريالية والصهيونية والاستعمار"( خطاب بشار الأسد قبيل اندلاع الثورة في سوريا)
في لبنان اجتمعت الأصوليات على تأييد الربيع التونس والمصري، اعتقاداً منها أنه ثورة على السياسة الممالئة والتابعة للامبريالية والشيطان الأكبر والمستكينة المستسلمة أمام الصهيونية، ومنّت النفس في أن تنتهي الثورتان بسقوط نظام مبارك وبن علي ليقوم على انقاضهما نظام يشبه نظام الممانعة في سوريا، في حين كانت شعارات المتظاهرين قد حددت هدفها اعتراضاً على إعادة انتخاب بن علي لرئاسة تونس وعلى احتمال ترشيح علاء مبارك لرئاسة مصر، واعتراضاً بشكل خاص على تمويه الاستبداد بمزاعم الدفاع عن قضية فلسطين وعن القضايا الكبرى الوطنية والقومية والاجتماعية التي حملتها الأنظمة و شكلت الغطاء الشرعي لاستبدادها على امتداد عقود. تأكيداً لصحة اسشرافنا هذه الحقيقة كتبنا للمتظاهرين الأصوليين المنتمين إلى جبهة الممانعة الراغبين بالتضامن مع الثورة المصرية مقالة عنوانها ، أيها المتضامنون، هذه الثورة قامت ضدكم، وسنوردها بنصها الحرفي لأهمية القيمة الرمزية في توقيتها، إذ هي نشرت في جريدة النهار في أوائل شباط من العام 2011، ولم يكن قد مضى على بداية الثورة أكثر من شهرين.
أيها المتضامنون، هذه الثورة قامت ضدكم

"ما يجري في تونس ومصر كان ينبغي ، حسب منطق التاريخ الحديث ، أن يحصل قبل ذلك ، في مرحلة الاستقلالات أو قبل ذلك ( مع مجيئ نابليون إلى مصر مثلا). فما طرحه التاريخ على الأمة العربية وعلى سواها من دول العالم هو أن الحضارة الرأسمالية الزاحفة للتمدد على كل الكرة الأرضية ، وبعد ذلك نحو أعماق البحار وإلى أعالي السماوات، هذه الحضارة عرضت علينا، نحن العرب كما على سوانا، الدخول إلى رحابها، بالقوة والاحتلال المباشر كما في الهند أو في الصين ، أو بالسلم والحذو حذوها كما في اليابان.
العالم العربي اختار أن يرد سلبا على هذا العرض، رافضا الدخول في التاريخ الحديث، وكانت له مبرراته وذرائعه، وعلى رأسها الاستعمار والصهيونية، الذريعتان اللتان باسمهما مارس الحكام العرب كل صنوف القهر والاستبداد في حق شعوبهم . ثم جاء ما يتناغم مع الذرائع حين قامت الثورة البلشفية الاشتراكية التي دعت إلى محاربة الرأسمالية وإلى بناء النظام الاشتراكي على أنقاضها، ثم حين قامت الخمينية لتعلن الحرب على الشيطان الأكبر.
ما يجري اليوم في مصر وتونس ، وما سيحصل في سواهما بقوة التاريخ ، هو نقد ذاتي قاس لمرحلة عدت ناصعة في تاريخنا، لكنه ليس نقدا انقلابيا على طريقة أصحاب القبعات العسكرية ولا على طريقة العمائم، بل نقد يحفظ لعبد الناصر مجد نهوض عربي عارم، ولليسار مجد تضحيات من أجل القيم الكبرى، وللحركة القومية العربية بناصرييها وبعثييها وشيوعييها وإسلامييها مجد مواجهات كبرى مع " الاستعمار والصهيونية والرجعية" .
النقد التونسي المصري لا ينقلب على هذه الأمجاد، بل على الاستبداد الذي مورس بحق الشعوب العربية باسم هذه الأمجاد. ذلك أن باب الدخول في الحضارة الحديثة، إن جاز اختصاره في كلمة، هو نهاية عصر التوريث السياسي، نهاية عصر الممالك والأمبراطوريات والسلاطين ، وبداية عصر الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن المؤسف أن تكون مرحلة الأمجاد الناصرية القومية اليسارية قد تأسست على حكم التوريث والقضاء على بذور الديمقراطية الفتية في حينها.
العالم العربي ظل وحده على الكرة الأرضية محكوما بالوراثة . حتى في الأنظمة التي كانت تعتمد الانتخابات كان يتم اختيار الحاكم فيها بالوراثة أو بالتمديد أو بالتجديد ، أو بانقلاب الشقيق على الشقيق والضابط على الضابط والمعمم على المعمم ، أسماء مختلفة لمسمى واحد هو التمسك بسلطة "إلى الأبد"، سلطة كتبت أبديتها بأحرف من نار وحبرها من دماء الشعوب وعرقها. انظروا إلى الأمة من المحيط إلى الخليج ، فيها أكبر المعمرين من الحكام ، فيها عميد الحكام في العالم ، وحكامها يخيرون شعوبهم بين اثنين : إما حكمهم الأبدي إما الحروب الأهلية.
ذريعتنا، نحن شعوب الطوق، إسرائيل. لنقل جدلا، نعم. إسرائيل التي تتجسد فيها كل قبائح التاريخ السياسي، العنصرية والتوسعية والعدوانية والشوفينية والإجرام ، الخ . لكن ما علاقة إسرائيل بإمعان حاكم السودان في تفتيت بلده أو بإمعان الصومال في التقهقر نحو القرون الوسطى ، أو في اليمن حيث الرغبة جامحة في التمسك بالبداوة والقبيلة والعشيرة على حساب القانون، أو في الجزائر والصومال والسودان والعراق حيث الحروب الأهلية هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمام الشعوب، إذا لم يبق الحاكم حاكما. حتى الحرب الأهلية في لبنان هي بنت هذا العقل ذاته ، عقل الاستبداد الأبدي الذي يمارسه علينا سياسيون خارجون على كل قانون، عقل الاستبداد العربي الذي لم يرضه أن تقوم ديمقراطية في هذا الشرق وتهدد عروشهم الموروثة.
في مصر، كما في تونس، لم ترتفع راية من تلك التي كانت ترتفع في المظاهرات اليسارية أو القومية أومظاهرات الإسلام السياسي، لا الاشتراكية هي الحل ولا الإسلام هو الحل ولم نسمع تنديدا بأحد أو بدولة خارجية . مسألة واحدة جمعت الثوار : الحرية ودولة القانون والمؤسسات.
في مصر، كما في تونس، لم نلحظ تنافسا على مسرح الأحداث، بل قيادة مستترة تشبه تلك التي وجهت الثورة الفرنسية، قيادة قد تكون مغمورة وقد تكون مخضرمة وقد تكون متعددة المنابت، لكنها طالعة بالتأكيد من شعور عارم بالوحدة الوطنية، أي بالانتماء إلى وطن هو تونس ، وهو مصر ، وفي غمرة هذا الانتماء تذوب الفوارق والاختلافات كلها من أجل هم واحد أوحد : دولة عصرية تعلن نهاية عصر التوريث السياسي.
في مصر، كما في تونس، تجمع وعي سياسي جديد، بالفيسبوك والنضال الإلكتروني وليس بمكبرات الصوت والسبابات والخطابات الحماسية والشحن العاطفي الشوفيني ضد عدو خارجي. بل إن الثورتين عزمتا، لأول مرة في تاريخ الأمة العربية، أن تصوبا على عدو، بل على خصم داخلي، ولأول مرة في تاريخنا تعلن جماهير بمئات الآلاف سأمها من الخطاب الأجوف الذي يقوم عصبه على نظرية المؤامرة، وإصرارها على أن الأزمات ذات أسباب داخلية بالدرجة الأولى وأن حلولها ينبغي أن تبدأ من الداخل.
إنها إذن ثورة من أجل الديمقراطية، غابت عنها الشعارات الكبرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع مع الاستعمار والإمبريالية. إنها ثورة بسيطة تختصر مطالبها بتأسيس دولة عصرية تقوم على تداول السلطة : دولة القانون والمؤسسات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص ، الخ.
الذين يتضامنون مع الثورتين التونسية والمصرية، خارج تونس ومصر، يسقطون عليهما مفاهيم وأهدافاً من خارج سياقهما، وأحياناً يقيسونهما بعكس ما يريده أهل الثورتين، وقد ظهر ذلك التضامن خجولاً أحياناً وسافراً أحياناً، لكنه تضامن لم يعبأ به اهل الثورتين، بل لعل من غير المبالغة القول إن بعض هذا التضامن كان مسيئا للثورة، وعده الثوار مساسا بالسيادة الوطنية وتدخلا في الشؤون الداخلية ( التضامن الإيراني والتصريحات الأميركية وبعض التضامن اللبناني مثلا).
هي ثورة جديدة حقا، بل هي الثورة الوحيدة الحديثة التي قامت في كل أنحاء الأمة العربية .كل ما عداها وما سبقها من "ثورات" لم يكن سوى انقلابات عسكرية أو عمائمية كما حصل في إيران الخيمينية ، ذلك لأن الثورة تعني أول ما تعني، ليس فقط تغيير الطقم الحاكم، بل تغييراً في النظام الاقتصادي الاجتماعي، ومن باب أولى تغييراً في بنية النظام السياسي، وقد تكون تلك الانقلابات قد قامت بتغييرات كثيرة لكنها جددت أنظمة الاستبداد وضرب الديمقراطية .
إنها ثورة جديدة حقا لأنها تفتح الآفاق واسعة أمام انتقال بلدان الأمة كلها من أنظمة الوراثة إلى أنظمة ديمقراطية . ذلك يعني أن هذا المجد لا يستحقه إلا الديمقراطيون ، أفرادا وأحزابا وأنظمة . أما الأحزاب الشمولية المعادية للديمقراطية، وأنظمة الحزب الواحد، وأنظمة قمع الحريات فلا يحق لها حتى التضامن مع الثورتين، لأنهما ثورتان ضد الاستبداد، ضد كل أنواع الاستبداد السياسي والديني والعسكري الخارجي والداخلي، أي ضد من يتضامن معها من هؤلاء المستبدين.
وحده جيل الشباب هو صاحب الثورة ، ولن يسمح بأن ينضم إليه إلا من عمل على تنظيف سجله الاستبدادي بالنقد الذاتي الشجاع للمرحلة القومية الشوفينية البعثية والناصرية والشيوعية والإسلاموية."
ليس المقصود أن يبدو النص المستعاد بمثابة عمل استعراضي يبغي التشفي من يسار لم يحسن الخروج من انهيار التجربة الاشتراكية، ولا الشماتة به، بل هو من قبيل التأكيد على أن النقد الذاتي قد يكون سبيلاً لاستخلاص دروس مفيدة، إن هو لم يعتمد نظرية المؤامرة، ولم يتعصب لتجربته ولم يتقوقع فيها ويغدو أسيراً لها. وهو أمر لا ندعي الفرادة فيه، بل ربما اقتدينا بكثيرين من بينهم صادق جلال العظم في كتاباته النقدية الشجاعة ومنها، النقد الذاتي بعد الهزيمة( هزيمة حزيران). فهو أيضا "لم يتفاجأ بالثورةعلى نظام الاستبداد ...بعد أن انتابه إحساس مبهم بالتوجس والقلق والخوف على سوريا بعد القضاء على "ربيع دمشق" "، وإن كان قد تفاجأ بتوقيت اندلاع الانتفاضة.(مقابلة مع الجمهورية بتاريخ 10-1-2013).
غير أنه لا المفاجأة ولا التوقع يلغيان حقيقة واضحة وضوح الشمس وهي أن الربيع العربي ليس حدثا معزولاً في بلد عربي دون آخر، وأنه ليس انقلاباً ينجزه البيان رقم واحد واحتلال الإذاعة أو السيطرة على لواء المدرعات في الجيش أو على السلاح الجوي، بل هو موجة عارمة من الانتفاضات السلمية شملت كل أنحاء العالم العربي من محيطه إلى خليجه، لم تكن كلها بالوتيرة ذاتها ولا بالزخم ذاته، وتعاملت معها الأنظمة بأشكال متنوعة فخمد بعضها واستمر بعضها الآخر، لكنها بدت كأنها على موعد واحد وتوقيت واحد تنتظر الصاعق الذي يفجرها، إلى أن ظهر بوعزيزي، فبدأت الأحداث في 17 ديسمبر كانون الأول 2010 في تونس ، 18كانون الثاني يناير 2011 في سلطنة عمان، 25 يناير كانون الثاني 2011 في مصر، 30 كانون الثاني يناير 2011 في السودان، كانون الثاني يناير 2011 في الجزائر، كانون الثاني يناير 2011 في الأردن، مطلع 2011 في موريتانيا، مطلع شباط فبراير 2011 في العراق،11فبراير شباط 2011 في اليمن، 14 شباط فبراير 2011 في البحرين، 17 فبراير شباط 2011 في ليبيا، 18 شباط فبراير في جيبوتي، 20 فبراير شباط 2011 في المغرب،3 مارس آذار في السعودية، 15آذار مارس في سوريا، وفي فلسطين. (الأحداث والتواريخ مأخوذة من صفحات التواصل) أما في لبنان فأحداث مستمرة منذ عشرات السنين ولها تصنيفها الخاص.




ربيع أم ثورة أم انقلاب ؟

تراجعت موجة التهليل لثورتي تونس ومصر لتنطلق موجة من التشكيك بالربيع العربي وثوراته منذ أن اندلعت الأحداث في سوريا وأخذت المساجد تلعب دورها في عمليات التعبئة والحشد للمظاهرات، وعلى وجه الدقة، عندما تحصن أهالي درعا في المسجد وظنوا أنهم يحتمون به ضد عنف النظام. مع هذه الحادثة استيقظ الاسلام السياسي من ارتباكه واستدرك ضرورة مشاركته في انتفاضات الشعوب، بعد أن كان قد ارتبك حيالها واكتفى بالمراقبة وبمشاركات فردية لم ترق إلى مستوى الانخراط الكامل بقرار من هيئاته القيادية.
القوى اليسارية، هي الأخرى ارتبكت، فهي في مصر قبل الثورة، كانت تميل إلى اختيار التحالف مع مبارك على التعاون مع الاسلام السياسي، وفي سوريا كانت تشكل جزءاً عضوياً من النظام وجبهته الوطنية، وفي لبنان حليفاً بلا وزن ولا دور لقوى الممانعة بقيادة النظام السوري، ما جعلها خارج أي فعل في أحداث الربيع، ما خلا التهليل في لبنان للثورة المصرية للاعتبارات المغلوطة التي سبقت الإشارة إليها.
ما أن انطلقت الثورة في سوريا حتى بدأ التشكيك بالربيع، لأنه لم يكن، في نظر الماركسيين، مطابقاً للنصوص المتعلقة بالصراع الطبقي وبالنضال من أجل القضية الاجتماعية، ولا كانت أحزاب الطبقة العاملة مشاركة في التخطيط له وفي تنفيذه. الأحزاب الشيوعية أصابها الذهول، فوقفت موقفاً محايداً أفقدها السيطرة على قواعدها التي شارك بعضها دونما حاجة إلى قرار قيادي.
الكتّاب الماركسيون تحمسوا للربيع وشككوا به في آن واحد. تحمسوا لأنهم، من حيث المبدأ، مع كل ما له علاقة بالثورة والتقدم والتغيير، وشككوا لأمرين، الأول انخفاض مستوى العداء للخارج الأمبريالي وغيابه شبه التام عن الشعارات المرفوعة في المظاهرات، والثاني شبه غياب أو تغييب للقضية الاقتصادية الاجتماعية و"للصراع الطبقي".
الماركسي اللبناني أديب نعمة ، وهو من المتحمسين للربيع ومن أقلهم تشكيكاً به، استعرض في كتابه (الدولة الغنائمية والربيع العربي، دار الفارابي 2014)، "التحولات العميقة الممهدة للربيع العربي" (ص ص 35-38 )، " من الحروب مع دولة اسرائيل ، نكبة 1948، هزيمة حزيران 1967، حرب 1973، اجتياح جنوب لبنان 1978ثم اجتياح بيروت 1982، فضلا عن العدوان الدائم على الضفة الغربية واستمرار احتلال فلسطين.... إلى الثورة الإيرانية ونمو المد الاسلامي... وسلسلة الحروب الأهلية اللبنانية والجزائرية وتفكك الصومال ومشكلة الصحراء الغربية، وتشكل تنظيم القاعدة وظاهرة الأفغان العرب... وظاهرة الطفرة النفطية وهجرة اليد العاملة إلى الخليج... والعولمة النيوليبرالية، الخ ."
هذه العوامل مجتمعة أفقدت"الأنظمة معظم مرتكزات مشروعيتها التاريخية والسياسية والاجتماعية، فراحت تستعيض عن هذا التراجع ببناء مشروعية جديدة من خلال تشديد تبعيتها والتحاقها بالخارج والاعتماد على المشروعية الخارجية بديلا من المشروعية الداخلية المتآكلة .. وعوضت عن تحالفاتها الشعبية مع صغار المنتجين والفلاحين والفئات الشعبية بالتحالف والاندماج العضوي بين السلطة ورجال الأعمال وكبار الملاكين في الأرياف، واستبدلت إيديولوجيتها الوطنية أو القومية أو الاجتماعية بأخرى تقوم على الزبائنية...واستخدام الدين كاداة سياسية... وحيث إن كل ذلك غير كاف كان لا بد من استخدام أكثر توسعا للقمع والعنف وانتهاك حقوق الانسان والسلوك الغنائمي والفساد وتغييب مبدأ سيادة القانون وفصل السلطات" ص38( التشديد مني)
يظهر انحياز الكاتب للربيع بوضوح، فهو يرى الانفجار نتيجة حتمية لمبررات وأسباب كثيرة لا يبخل التاريخ القريب بتقديم عينات منها. غير أنه يستل هذه "الممهدات" من التاريخ ومن العوامل الخارجية، ويجعل العامل السياسي الداخلي تكميلياً، لا تحتاج إليه ظاهرة الاستبداد إلا حين لا تعود المبررات التاريخية والطبقية والاقتصادية والاجتماعية كافية لاستعادة مشروعية النظام المفقودة، ولا يرى في " انتهاك حقوق الانسان وتغييب مبدأ سيادة القانون" بعضاً من مقومات دولة الحضارة السابقة على الرأسمالية، بل يصورها وسيلة تستخدمها دولة مستحدثة يطلق عليها إسم "الدولة الغنائمية". إسم الدولة هذه يحيل إلى حقل الاقتصاد لا إلى حقل السياسة، وهو يعتقد أن أول من استخدمه هو عالم الاجتماع ماكس فيبر الذي ميز بين نوعين من أنظمة الحكم، نظام الحكم الرأسمالي الحديث، ونظام تقليدي، يسميه فيبر، باتريمونيالي، ويختار لها الترجمة العربية التي اقترحها أحمد بيضون، الإرثية المحدثة، ثم يعربها بالغنائمية، وهو مصطلح نعتقد أن الفضل في نحته يعود إلى محمد عابد الجابري في ثلاثيته عن العقل العربي، حيث تناول في كتابه، "العقل السياسي العربي" العوامل الثلاثة، العقيدة والقبيلة والغنيمة، التي كانت تحدد آليات عمل النظام السياسي خلال تاريخ الخلافة الاسلامية.
يعدد أديب نعمة خيارات شتى لترجمة المصطلح الأجنبي (باتريمونيال)، ويفضل الغنائمي على سواه من المصطلحات المقابلة باللغة العربية، لكن المصطلح عنده ثابت. وهو يتناول بالتحليل جميع العوامل الاقتصادية السياسية الاجتماعية المتخيلة المؤثرة في تركيبة النظام، ثم يعيد التأكيد على أن الغنائمية هي الأنسب في وصف النظام وفي تسميته.
في إطار تفسيره معنى المصطلح، يقول نعمة "إن الإرثية المحدثة هي صيغة حديثة ومعاصرة، بمعنى أنها نتاج المسار التاريخي لانتقال المجتمعات العربية وغير العربية ودولتها وأنظمتها من النسق التقليدي إلى النسق الحديث، وكذلك هي نتاج التطورات المعاصرة ولا سيما العولمة المتحققة بالفعل والتي هي عولمة نيوليبرالية".(ص113)
الاستنتاج الخاطئ في هذا النص ناجم عن خطأ في منهج التحليل. إن الكاتب يصر على معالجة موضوع الدولة ( الدولة الغنائمية) بمنهج تحليل اقتصادي، ولذلك بدا له أن المجتمعات العربية ودولها وأنظمتها انتقلت من النسق التقليدي إلى النسق الحديث. قد يكون ذلك صحيحاً في مجالات العلم والثقافة والعلاقات الاجتماعية ( نسبياً) وخصوصا في الاقتصاد الذي يهيمن عليه الرأسمال العالمي ويحوله إلى طرف متخلف تابع للمركز المتطور،( سمير أمين) أو الذي تديره وتشرف عليه وتحدد آلياته "العولمة والنيوليبرالية". إلا أن "المسار التاريخي" لم يشهد انتقالاً على المستوى السياسي في أي بلد من بلدان العالم العربي التي يتربع على عروشها ملوك ورؤساء جمهوريات وسلاطين وجنرالات بقوة النسق التقليدي، أي بتولي مقاليد السلطة إما بالوراثة أو بالتعيين أو بالانقلاب العسكري، أي بكل الوسائل المتاحة باستثناء الديمقراطية. ولا شك أن أديب نعمة يعرف ذلك ويشير إليه في أكثر من مكان من كتابه، فيرى أن نظم الحكم في بلداننا العربية تتميز بطابعها التسلطي( ص108).
إذا كان مفتاح التحليل الاقتصادي صالحاً لتحليل البنية الاقتصادية في النظام، فهو ليس سحريا ولا يصلح لفتح جميع الأبواب. وإذا كان ماركس قد صاغ نظرية شديدة التماسك في تحليل الآليات الاقتصادية في الرأسمالية، ممهداً بذلك لاختصار آليات السوق بشعار نضالي "السلعة صنم" فإن سمير أمين وضع أمام الماركسيين مهمة استكمال ماركس الاقتصادي، الذي لم يعر البنية السياسية اهتماماً كافياً، واختصاره بشعار مشابه، على الصعيد السياسي، "السلطة صنم".
لكن سمير أمين نفسه الذي حفر عميقاً في التحليل الاقتصادي على المنهج الماركسي، وكتب عن التطور اللامتكافئ وعن المركز والاطراف وعن الاقتصاد المتمحور على الذات، أحجم عن هذه المهمة، واستمر يركز على الجانب الذي كان إسهامه فيه علامة بارزة في الأدبيات الماركسية. فكان من الطبيعي أن يضع القضية السياسية في المقام الثاني من الأهمية ويركز على دور التحولات الاقتصادية في التمهيد للثورة. ففي بحث له نشر في الحوار المتمدن بتاريخ 5-8-2013، أي بعد مرور أكثر من عامين ونصف على اندلاع الثورة في مصر، رأى أن النظام الاقتصادي الاجتماعي الناصري، رغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت إليه، "راهن على التصنيع للخروج من تقسيم العمل الاستعماري الدولي" ، في حين أن العولمة الامبريالية عملت في عهدي السادات ومبارك على " تفكيك المنظومة الانتاجية المصرية ، وأحلت محلها نظاماً غير مترابط مبني بشكل مطلق على ربحية الشركات التي أصبح معظمها مجرد مقاولين من الباطن للاحتكارات الامبريالية" ... "وكانت النتيجة الحتمية حدوث تدهور سريع في كل الشروط الاجتماعية وفي غضو سنوات قلائل تبدد كل ما أنجز في الدولة الشعبية الوطنية ، وأصبح الفقر والبطالة الواسعة النتيجة المنطقية للسياسات النيوليبرالية، وهو ما أوجد الشروط الموضوعية للتمرد والثورة"
سمير أمين يحيل أسباب الانفجار إلى ما بعد المرحلة الناصرية( ما بعد الدولة الشعبية الوطنية) لكنه حتى حين يستدرك، يرى أن العامل السياسي( نزع السياسة من المجتمع، وإلغاء الممارسة الديمقراطية، وطمس الحق في التنظيم) قد أدى إلى "العودة إلى الآراء القديمة، الدينية وغير الدينية، وهو ما انعكس أيضا في القبول بمشروع المجتمع الاستهلاكي... الذي انتشر وسط الطبقة المتوسطة ووسط الجماهير الشعبية التي تطالب بالحد الأدنى من الرفاه... كما يرى أن "الخطاب الديني تماشى مع "تدهور الظروف المعيشية الناجمة عن إخضاع مصر لمقتضيات العولمة الامبريالية..."، ولذلك فهو يرى أن الحل يتمثل بتوجيه "الانتاج الوطني نحو الداخل، بمعنى إخضاع العلاقات مع المنظومة الرأسمالية العالمية لمنطق واحتياجات التقدم الداخلي". أي الاقتصاد المتمحور على الذات، بحسب تعبيره.
تحفظات سمير أمين على الربيع العربي النابعة من معاييره الاقتصادية جعلته يرى أن ما حدث "هو أكثر من مجرد انتفاضة أو فورة يعود بعدها المجتمع إلى ما كان عليه قبلها، هو أكثر من حركة احتجاج لكنه أيضاً أقل من ثورة، بمعنى أن تلك الحركة لم يكن لها أهداف واضحة تتجاوز الإطاحة بمبارك"
ربما كان دقيقا لو كان يقصد بلدانا أخرى تعيش لحظات انتفاضات وحركات احتجاج (ليبيا واليمن ).غير أن ما حصل في مصر وتونس شأن آخر، لأن حركة الشارع فيهما انتهت إلى تغييرجذري على مستوى رأس الهرم في السلطة السياسية ، إذ سقط مبارك ومعه سقط نظام التوريث السياسي وأنتصر مبدأ تداول السلطة. هل أنجزت الثورة كل أهدافها ؟ طبعا لا .هل هذا التغيير هو ما كانت تريده الثورة أم إنه أقل من طموحات الثوار؟ ومن هم الثوار ، وما هو المعنى الجديد الذي منحه الربيع العربي للثورة؟
فرضيتنا نحن في هذا الشأن من شقين ، الأول هو اعتقادنا بأن تطور تاريخ البشرية وضع العالم العربي ، منذ قرنين ، أمام خيار الدخول في رحاب الحضارة الحديثة ( الرأسمالية ) ، على غرار كل بلدان الكرة الأرضية التي بلغتها آلة الاستعمار المنطلقة من القارة الأوروبية. وما زالت البشرية تعيش سيرورة هذا الخيار الذي لم تنته مفاعيله حتى الآن ، وإن زعمت بدائله احتمال حلولها مكانه في المستقبل.غير أن بلدان العالم العربي أجمعت ، من حينه و حتى ثورة تونس، على رفض الخيار، وتعاقبت على الرفض، كما لو في سباق البدل، الأصوليات الدينية ثم القومية ثم الماركسية. وقد يكون تواطؤ ما نشأ بين الأصوليات والاستعمار، أخذت بموجبه بلداننا عن الرأسمالية أسوأ ما فيها ( وحشية تجويع الآخر بالاستغلال )، وعن الحركات الاشتراكية والقومية والاسلامية أسوأ ما فيها (وحشية إلغاء الرأي الآخر بالقتل أو بالنفي أو بالسجن) ، فكانت محصلة التوليفة بناء أنظمة اجتماعية اقتصادية ثقافية ملقحة بالحضارة الجديدة، نعتت بالتابعة أو بالكولونيالية الخ ، وبدت الأنظمة السياسية فيها متحدرة من حضارة سلفت كانت تعتمد الحكم الوراثي بدل حكم الشعب والاختيار الديمقراطي.
الشق الثاني من الفرضية ينطلق من أن هذه الحضارة الرأسمالية لم تكن لتثبت اقدامها لو اقتصرت ثورتها على إنجازاتها في الاقتصاد والثقافة خلال قرنين من الزمن ، بدآ من اكتشاف أميركا على يد كريستوف كولومبوس وبالنهضة المالية والاقتصادية والعلمية والدينية في أوروبا كلها وفي الشمال منها على وجه الخصوص، ولو لم تقم في نهايتهما ثورة على الصعيد السياسي أحدثت تغييرا جذريا في آليات تشكيل السلطة ، وحمت المنجزات الثقافية والاقتصادية التي سبقتها ، هي الثورة الفرنسية عام 1789
الربيع العربي يستكمل اليوم ما أحجم العالم العربي عن فعله عام1798 عند مجيء بونابارت إلى مصر ، أو ما تردد في فعله أيام محمد علي باشا وسلالته ، واستمر على إحجامه حتى لحظة بوعزيزي. إنه ينجز ثورته السياسية . لم يقل الربيع العربي شيئا عن القضايا الكبرى التي احتلت الصدارة خلال القرنين الماضيين اللذين إزيحت فيهما قضية الديمقراطية من الصدارة ووضعت على رفوف القضايا القومية الكبرى وباسمها ، ليمارس على الشعوب العربية عنف غير مسبوق تولته أنظمة الحزب الواحد أو أنظمة التعيين والوراثة والانقلابات العسكرية.
على أساس هذه الفرضية ذات الشقين يمكن القول، أن ما حصل، في مصر وتونس على الأقل، هو الثورة بعينها، لأنها بدأت بانتفاضة أو احتجاج وانتهت بإسقاط النظام ورموزه ، من غير أن يعني ذلك أنها حققت كل ما يمكن أن تطمح إليه الثورة في بلادنا. إنها ثورة ، لأنها ، ولأول مرة تطرح قضية السياسة على بساط البحث بعد أن كانت هذه القضية مستبعدة ومحرمة فيما مضى.
قراءة سياسية أم اقتصادية
تستند تحفظات سمير أمين إلى خبرته النظرية الغنية بالبحوث والتحليلات في التاريخ والاقتصاد السياسي، وإلى بديهيات " ثورية"، ربما باتت مصطلحاتها تحتاج إلى نقد وإعادة قراءة، ولا سيما منها مصطلحات اليسار والاستعمار والفساد وغيره من المخلفات النظرية للثورات البلشفية أو الصينية أو حتى الفرنسية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اختلط حابل اليسار بنابل اليمين ، لأن الحامل الحزبي والسياسي لليسار كان مجسدا بالنظام السوفياتي وحزبه وتحالفاته الدولية في ظل انقسام المعسكرين. ربما لايزال المعيار الاقتصادي الاجتماعي صالحا لتصنيف اليسار وتمييزه عن اليمين . أما بالمعيار السياسي فلم يعد هذا التصنيف ممكنا ، ولا سيما بعد أن تحالف اليسار العالمي السابق ( شيوعيون واشتراكيون) مع رأس النظام العالمي الأحادي القطبية في حربي الخليج ويوغسلافيا ، وبعد أن وقف جزء من اليسار العربي يستجدي التدخل الغربي لمساعدة أهل العراق ضد الاستبداد الصدامي ولمساعدة أهل ليبيا ضد القذافي.
فضلا عن ذلك ، إن القراءة الاقتصادية الطبقية لمجريات الثورة المصرية وقبلها التونسية لا تدل على دور حاسم لليسار في صنعها ، بل على العكس ، كان موقع اليسار هامشيا والتحقت بعض شرائحه بالثورة غداة قيامها . من هنا يصبح مجافيا للحقيقة نعت شباب الثورة المصرية باليساريين لأنهم "يؤمنون بالديمقراطية الصحيحة ومعادون للاستعمار"، أو بالقول إنهم "حلفاء اليسار الآن"، أو القول إن حركة الشارع المصري تضم "تيارات ديمقراطية ومطالب اشتراكية" ولا سيما بعد فضيحة الديمقراطيات اليسارية عموما والشيوعية على نحو خاص، التي استلهمتها الأحزاب القومية العربية في كل سلوكها الاستبدادي وبالتحديد في طريقة الانتخاب بالتعيين أو بالاستفتاء في مصر وسوريا ( لجنة الترشيحات في الأحزاب والأنظمة الشيوعية). ربما كانت الثورة في حاجة إلى أن يقود سمير أمين حواراً معمقاً من أجل إعادة بناء اليسار في العالم العربي وإعادة تركيب لغته ومصطلحاته.
أما كلامه عن الاستعمار، وهو استاذ الجميع في تحليل علاقات التبعية أو نظرية المركز والأطراف، فهو يدفعنا إلى أن نطرح عليه السؤال مجددا عن دلالة هذا المصطلح بعد حربي الخليج، وخصوصا بعد الثانية ، التي حصل التدخل الأميركي فيها بناء على طلب أجمعت عليه كل قوى المعارضة العراقية ، وأن نطالبه بإعادة صياغة الإشكالية المتعلقة بالاستعمار والاحتلال ، انطلاقا من أن الرأسمالية العالمية لم تغير في أهدافها لكنها غيرت في أساليب سيطرتها، وخصوصا في ظل العولمة التي كان سمير أمين من أوائل من قرأوا إرهاصاتها وحللوا آليات عملها ، وانطلاقاً أيضاً من التنوع الذي شهدته بلدان الكرة الأرضية في علاقاتها بالمراكز الرأسمالية ، وبالتالي فإن على قوى "التحرر" أن تبدل هي الأخرى أساليب نضالها، وأن تعدل في أولويات برامجها، لتصير المهمة الأساس أمام قوى التقدم والتغيير هي مواجهة الاستبداد، ولا يتم ذلك إلا ببناء دولة القانون أو دولة الحق بالتعبير الهيغلي؛ ذلك أننا، برأي برهان غليون " لم نعرف الدولة بمعناها الحديث، لأننا عشنا قروناً طويلة في ظل سلطنة أو خلافة أو امبراطورية... تقوم السلطة فيها على العنف والشوكة والرهبة وادعاء حماية الدين ، ويتم فيها تداول السلطة من خلال الاستيلاء بالقوة العسكرية حتى عندما يتعلق الأمر بنظم ملكية وراثية بسبب تازع الأبناء والأحفاد وغياب التقاليد المؤسسية" (برهان غليون ، حوار مع الجزيرة نت ، نشر على وسائل التواصل الاجتماعي)
وإذا كان سمير أمين يشك في " قدرة الإخوان المسلمين على التحول إلى منظمة ديمقراطية"، وهو محق في شكه، فربما كان عليه، لعدالة الحكم، أن يعمم الشك ليطال أيضاً شرائح اليسار القديم كله. وأخيرا، ربما كان من حقنا الاعتقاد بأن احتمالات عودة اليسار والإسلام السياسي إلى ساحة العمل العام بصورتيهما القديمتين بات من رابع المستحيلات؟ و بأن الحيز الذي احتلته الشعوب في تقرير مصيرها بات أكبر من الحيز الذي كانت القوى الاستعمارية قد حجزته لنفسها في الماضي ؟ وبأن نظرية المؤامرة التي كان هو أول من نصح بعدم الأخذ بها صارت، من باب أولى، نظرية غير صالحة لتفسير" المخططات" الإمبريالية؟ وبأن حصر ظاهرة الفساد بالرأسمالية فيه كثير من المبالغة؟
تفسير الظواهر السياسية تفسيراً اقتصادياً ليس بالأمر الجديد. لقد غدت المصطلحات الماركسية عن البنية التحتية والبنية الفوقية شائعة في كل تحليل يساري، وباتت تستخدم تعزيزاً للنظرية التي تحمّل وحشية رأس المال مسؤولية كل المآسي البشرية الحديثة والمعاصرة، وتهرباً من استكمال المهمة التي لم يتيسّر لماركس أن ينجزها، ولم يسعفه العمر، بحسب تعبير ريجيس دوبريه(نقد العقل السياسي، غاليمار، 1981، بالفرنسية) "ليشيّد نظرية في التنظيم الحزبي ولا في السياسة".
كثيرون حاولوا الكشف عن دوافع الثورات وأسبابها الحقيقية، ورأوا أن العوامل الاقتصادية لعبت دوراً مركزياً وأدانوا الليبرالية الجديدة وسياسة البنك الدولي والتكيف الهيكلي للاقتصاد، فيما ركز آخرون اهتمامهم على الطابع الطبقي للثورة وعلى الانتماء الطبقي للثوار، وراح فريق ثالث يبحث في شعارات الثورة وأهدافها عن العدالة الاجتماعية والخبز والمساواة، محاولين في ذلك ترجمة الكلاسيكيات الماركسية، وبرامج الأحزاب القومية واليسارية، منتقدين "شعارات راجت مثل شعار ، الموضوع هو الحرية وليس الخبز، أو ، إنها ثورة كبرياء وليست ثورة غذاء، أو ، الحرية شرط مسبق للخبز" (فواز طرابلسي، الديمقراطية ثورة، رياض الريس للكتب والنشر، ص34). وقد أكد فواز طرابلسي على أن الديمقراطية ليست حرية فحسب بل حقوق أيضاً، مثل حق العمل الذي يتطلب إعادة هيكلة للأنظمة والسياسات الاقتصادية، ويستنتج أن "عدم اعتماد سياسات اقتصادية جادة لتحقيق زيادات ملموسة في فرص العمل يعني إعادة إنتاج العوامل التي أدت إلى الانتفاضات" (ص35).
تأكيداً على أهمية العوامل الاقتصادية الاجتماعية في انفجار أحداث الربيع العربي، يدعونا جورج قرم إلى أن نتذكر "أن أهم شعار قد رفع من المحيط إلى الخليج هو الخبز والكرامة. ربما يكون الشعار قد اختلط في ذهن قرم مع كتاب يوسف صايغ "الخبز والكرامة". وهو لا يكتفي بتذكيرنا ودعوتنا إلى التذكر، بل هو يقرر " أن ما جمع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج هو مطلب الخبز والكرامة، أي المجتمع الانتاجي الذي وحده يوفر فرص العمل اللائقة ويحقق الكرامة الوطنية...للتخلص من كل الهيمنات الخارجية ولإعادة الحق إلى اصحابه في فلسطين المحتلة ". كما يقرر أن الاعلام العربي والدولي قد حصر تركيزه على قضية الديمقراطية والحريات الشخصية!!! (السفير 5-8-2013). وفي ظننا أن المطلب الأساسي في تظاهرات الانتفاضات العربية هو الحرية وعدم توريث السلطة، وقد تكون شعارات أخرى رفعت لكنها ظلت هامشية وثانوية، ومنها شعارات رفعها قوى الاسلام السياسي ثم سحبتها من التداول عملاً بسياسة التقوى. أما الشعارات القومية المتعلقة بالتحرر وقضية فلسطين فقد كانت غائبة غياباً كلياً.
العامل السياسي لم يكن، في حد ذاته، كافياً، في نظر البعض، بل كانت نتائجه الاقتصادية هي السبب في اندلاع الثورات.ففي نظر أديب نعمة (الدولة الغنائمية والربيع العربي، دار الفارابي، بيروت،2014) لم يكن احتكار السلطة وتغييب المؤسسات سبباً في الانتفاضة ضد نظام القذافي، بمقدار ما كان سبباً "في تدهور كبير في مستوى الخدمات العامة والاجتماعية" (ص43)، فيما "سارت معظم البلدان في مسارات إصلاح|تحرير اقتصادي وفق المذهب النيوليبرالي المعولم، وغالباً بتأثير أو ضغط مباشر من المؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية والدول المانحة"(ص42)."وعوضت عن تحالفاتها الشعبية مع صغار المنتجين والفلاحين والفئات الشعبية، بالتحالف والاندماج العضوي بين السلطة ورجال الاعمال وكبار الملاكين في الارياف"(ص38). ولأن كل تلك العوامل الاقتصادية وسواها من عوامل ايديولوجية لم تشكل ممهدات كافية لتحديد ملامح الخلفية التي ارتسم عليها مشهد الربيع العربي، "كان لا بد من استخدام أكثر توسعا للقمع والعنف وانتهاك حقوق الانسان والسلوك الغنائمي والفساد وتغييب مبدأ سيادة القانون وفصل السلطات" (ص38) .
في محاولة منه لتفسير سوسيولوجي للثورة المصرية، يذهب خالد كاظم أبو دوح، استاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة سوهاج في القاهرة، في تحليله، إلى أرقام وتفاصيل يصل في خلاصتها إلى تحميل الجانب الاقتصادي مسؤولية اندلاع الثورة فيقول إن المجتمع المصري " عايش منذ سنوات مشكلات اقتصادية ومالية من نوع خطير إل حد غير عادي ؛ ففي عام 1991 أصدرت الحكومة قانون قطاع الأعمال الرقم (53) الخاص بالشركات القابضة، ثم أصدرت في عام 1993 القانون رقم (93) الخاص بالقطاع نفسه، ثم أقدمت الحكومة بموجبه على بيع شركات القطاع العم المملوكة من الشعب، وكفت يدها عن التدخل في العملية الانتاجية وفتحت الباب على مصراعيه أمام رأس المال الأجنبي للاستثمار في مصر، إضافة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية التي تفضي إلى تحرير الاقتصاد المصري" (الربيع العربي إلى أين، مجموعة باحثين، مركز دراسات الوحدة العربية، ص201)
جاك قبانجي، استاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، يرى أن الثورة مضت نحو "خيارات محافظة سياسياً وقيمياً" لأن قيادتها تنتمي إلى الطبقة الوسطى ، ومتشكلة من القسم الأكبر من المحامين والاطباء والمهندسين والصيادلة... الأكثر ارتباطاً بآليات إعادة انتاج النظام القائم " ( الربيع العربي إلى أين؟ م.ن.،ص121)
يمكن أن نناقش منهج التحليل الطبقي هذا من زاويتين، عملية ونظرية. على الصعيد الأول، كان من الطبيعي ألا تشارك أحزاب الطبقة العاملة( الاحزاب الشيوعية) في الانتفاضة وأن تتفاجأ بها، لأن الثورة لم تأت مطابقة للترسيمة الكلاسيكية، ولا كانت شعارات الثورة متوافقة مع المطالب المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، حتى أنها لم تكن تحاكي المشاعر القومية السريعة التأثر بقضية فلسطين والصراع مع الصهيونية أو بقضايا التحرر الوطني عامة. كل تلك المهام لم تكن مطروحة على جدول عمل الثورة.
على الصعيد العملي أيضاً، لم يكن الوضع الاقتصادي الذي اندلعت الثورات في ظله وليد ساعته. فالأنظمة الاقتصادية في العالم العربي عمرها من عمر الاستقلال، وهي أنظمة متنوعة تنتمي إلى المنظومة الرأسمالية، وجرى تطعيم بعضها بإجراءات لم تعرف من الاشتراكية غير القبضة الحديدية على الاقتصاد والصحافة وعلى الضمائر، بتنويعات على نظام الحزب الواحد. من ناحية أخرى، إذا كان قد بدا للبعض أن التحالف مع المعسكر الاشتراكي كان يعطي شرعية ثورية لبعض تلك الانظمة، فإن الثورة بدأت في تونس المنتمي باقتصاده إلى المعسكر الرأسمالي لا إلى منظومة الدول المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي. فضلا عن ذلك، لم تطرح الثورات جميعها مطالب تتعلق بالتحرر الوطني و الصراع مع اسرائيل، بل هي انفجرت ضد المتاجرين بالقضايا الوطنية والقومية ولا سيما القضية الفلسطينية، وكان الجامع المشترك بينها هو مواجهة الاستبداد المتمثل بأنظمة الحكم الوراثي، ولا سيما في الجمهوريات التي كان يتم اختيار الحاكم فيها، عملياً بالتعيين أو بالوراثة، قبل الاستفتاء على انتخابه شكلياً في صناديق الاقتراع.
على الصعيد العملي أيضاً، دفع التحليل الطبقي بالأحزاب الشيوعية "الرسمية" المتحالفة مع الأنظمة، في مصر، وخصوصا في سوريا، إلى المحافظة على تضامنها مع تلك الأنظمة ضد الثورة، ولا سيما بعد أن تسللت الأصوليات الاسلامية إلى جسد الانتفاضة وتيسر لها، بدفع ومساعدة من سلطات الاستبداد، أن تقود ثورة مضادة وتوظفها في خدمة الاستبداد وأنظمته السياسية.
هذا الاستنتاج ليس مصادرة على المطلوب، بل يمكن التوصل إليه بسهولة من خلال الاطلاع على تفاصيل الحوار الذي أجراه موقع الحوار المتمدن الالكتروني، بين 5-12-2011 و31-1-2012 مع أكثر من 182 شخصية يسارية من العالم العربي، طرح فيه على كل منهم خمسة أسئلة عن دور القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية في انتفاضات الربيع العربي، وعما إذا كانت قد استفادت من دروسه لكي تجدد نفسها وتعزز نشاطها، وعما إذا كان الاستبداد الرسمي العربي قد لعب دوراً سلبياً في شرذمة اليسار.
قد يكون أمرا مفيداً الاطلاع على أجابات "اليساريين" الذين ينتمون بمعظمهم إلى الماركسية منهجاً ودليل عمل، لأن أهم ما فيها أنها تشكل الخيط الجامع بين الصعيدين العملي والنظري، وتبين أن أزمة البراكسيس هي قرين الأزمة النظرية، لأن كل خطأ عملي يعود سببه، في نظرنا، إلى خطأ نظري، في النصوص الماركسية كما في النصوص الدينية. فقد تفاوتت الإجابات على السؤال الأول المتعلق بدور اليسار، وهي تراوحت، على تنوعها، بين ثلاثة أنواع من الأجوبة، الأول أكد على مشاركة يسارية فاعلة ، والثاني نفى ذلك نفياً قاطعاً، والثالث أعلن عن ارتباكه وفضل الدوران حول السؤال وحول الجواب، وهذه عينات عشوائية من الأجابات :
جاسم الصقار قال "لا ريب عندي في أن مشاركة القوى اليسارية، سواء منها الشيوعية أو الاشتراكية في التظاهرات الشعبية العارمة في تونس ومصر أو الانتفاضة المسلحة في ليبيا، كانت شبه معدومة، وأحيانآ مترددة". شاركه في هذا الرأي عدد كبير من الكتاب والباحثين (يمكن مراجعة الملف في الحوار المتمدن)
محمد الرديني قال " ولا ننكر كان لها دور فاعل في اول اشتعال الشرارة ولكن الامر خرج من يدها حين انتبهت قوى الظلام الى ذلك واخذت تستميت من اجل تحجيم هذه القوى واعتقد انها نجحت الى حد ما". وقد أكد فلاح علوان هذا الاستنتاج في قوله : " منطلق هذه الثورات هو اجتماعي، تمحور حول مطالب توفير الخبز والحرية وهذه خصائص يسارية بل اشتراكية. ان هذا يكفي لاضفاء صبغة يسارية على هذه الثورات".
محمد عبدالله دالي قدم نموذجاً للارتباك اليساري أمام السؤال الصعب، ويعود سبب ذلك إلى خجل ضمني لدى "اليساري" من تلكؤ اليسار عن القيام بالدور الذي ينتظره منذ لينين ، أي من عشرينات القرن الماضي. ولذلك كان لا بد من التهرب من قول الحقيقة بأسلوب اللف والدوران حول الموضوع، بما كان يسمى في كتابة الجاحظ، اسلوب الاستدارة، فعاد إلى التاريخ وقام بجولة حول العالم وأعفى نفسه من الإجابة الصريحة على السؤال، قائلاً: " منذ ظهور الجمعيات الأجتماعيه والسياسية السرية والعلنية في بداية القرن العشرين ،ومجيء ثورة أكتوبر الأشتراكيه في الاتحاد السوفياتي السابق ،وظهور اديولوجيات تقدميه ،والتغير الحاصل في أوربا نتيجة للثورة الصناعية الهائلة ،ونشؤ طبقة عاملة فتيه في كافة البلدان تقريباً ومنها الوطن العربي ،والعراق خاصة ،ونشوء حزب يساري ماركسي فتي وبعض المنظمات التقدمية ،مما أثار حفيظة القوى المعادية .للتيارات اللبرياليه ، المتمثلة بالحكومة الملكية الاقطاعيه في ذلك الوقت بمساندة الاستعمار البريطاني آنذاك ،والاستعانة بالشخصيات الدينية ،لتشويه المنظمات والأحزاب اليسارية ،ومنها الحزب الشيوعي العراقي وأصدرت بيانات وفتوى تكفر هذه الحزب أو ذاك ،حتى القوى الدكتاتورية التي صعدت على أكتاف القوى الوطنية التقدمية وتسلقت القمة وأعدمت كل القيادات .وهذا ما قامت به الدكتاتوريات في المنطقة ،كمصر وتونس وليبيا والمغرب والسودان وسوريا ".
من ناحية أخرى، كشف ملف الحوار المتمدن مدى جهل معظم اليساريين بواقع أمرهم وعدم اطلاعهم على الأوضاع الملموسة في البلدان العربية، فقرر أحدهم أن الشعور بأهمية وحدة اليسار دفع الحزب الشيوعي اللبناني إلى "عقد مؤتمر ناجح لقوى اليسار الديمقراطي اللبنانية في العام الماضي"، وأعلنت وحدة " جبهة القوى الإشتراكية في مصر"، و "تشكل التيار الديمقراطي العراقي، بمشاركة الحزب الشيوعي العراقي ،التيار الذي عقد مؤتمرا تاسيسيا علنيا ناجحاً". لسنا نعلم من أين أتى بهذه المعلومات المناقضة لواقع الحال. فالحزب الشيوعي اللبناني، على سبيل المثال، ما زال ينقل أزمته منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، وهي تتفاقم من مؤتمر إلى مؤتمر، وأعتقد أن الأحزاب الشيوعية الأخرى ليست أفضل حالاً.
ياسين الحاج صالح كان أكثر دقة في وصف حالة اليسار حين قال :"في اليسار التقليدي، الشيوعي، منزعان: منزع مساواتي وعدالي وإنساني، ومنزع تسلطي، ميال إل احتكار الصواب والسلطة. ..ولقد كانت الشيوعية الرسمية، وبعض الشيوعية المعارضة تاريخيا، أقرب إلى التحفظ على الثورة، أو العداء الصريح لها. شاركتهما الموقف الشيوعية اللبنانية. هناك بالمقابل يساريون مستقلون، ديمقراطيون وليبراليون، ينحدر بعضهم من المنزع الآخر لليسار الشيوعي القديم، المنزع العدالي والإنساني، كانوا أكثر إيجابية وانخراطا في الثورة. ومساهماتهم أغنت الثورة ونمت بعدها الثقافي، وأسهمت في إنقاذ كرامة اليسار في البلد.
لكن بين المشاركين في الثورة منحازون(منحازين) [كذا] لقيم المساواة والحرية والعدالة، دون أن يعرفوا أنفسهم كيساريين أو ينحدروا من أصول يسارية تقليدية. أكثرهم شباب على كل حال، وربما من بينهم سيتشكل يسار جديد ما بعد شيوعي".
شاركه في هذا الموقف عدد من اليساريين الذين جعلهم الاستبداد الحزبي اليساري يعتقدون اعتقاداً راسخاً أن الثورات العربية الراهنة هي "ضد اليسار التاريخي الذي كان له باع طويل في تأسيس هذه الانظمة الاستبدادية الشمولية"(نقولا الزهر، الحوار المتمدن)، وأن " تحالف عدد من الأحزاب الشيوعية في المنطقة مع أنظمة الاستبداد العربي ساهمت بتقليص أو بتراجع التأييد الجماهيري للحركة العلمانية واليسارية "( سيمون خوري ، الحوار المتمدن)
صادق جلال العظم يصادق على وجهات النظر هذه، ولمصادقته قيمة رمزية يكتسبها كلامه من تجربته الغنية في النضال الايديولوجي في صفوف اليسارالسوري والفلسطيني والعربي، وفي مواجهاته الكبرى مع الفكر الديني ( هو مؤلف كتاب نقد الفكر الديني). فهو يرى أن كتلة كبيرة من يسار ما بعد الاتحاد السوفياتي تبنت ما يمكن تسميته"برنامج المجتمع المدني" الذي تتمحور عناوينه حول شرعة حقوق الانسان والحريات العامة والمساواة أمام القانون والعلمانية والقضاء المستقل وتداول السلطة، الخ. وقد "كان لهذه الكتلة دور كبير في صناعة الربيع العربي. أما الكتلة الأصغر فقد تعصبت لمواقفها السابقة، وهي الأكثر عدائية للثورة السورية"( حوار أجرته مجموعة الجمهورية مع صادق جلال العظم بتاريخ 10-1-2013). ومن الواضح أن "الكتلة الأصغر" هي تلك التي ظلت منضوية تحت لواء الأحزاب الشيوعية وقياداتها الرسمية. أما الكتلة الأكبر فهي تتألف من يساريين خرجوا من صفوف الحزب وحافظوا على هويتهم اليسارية وحاولوا إعادة صياغتها وتحديدها ومحورتها حول قضية الديمقراطية لا حول الاشتراكية.
الارتباك في الموقف العملي لليسار حيال الربيع العربي نابع من ارتباك نظري وتشوش في قراءة المصطلحات الماركسية ولا سيما العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية، أي العلاقة بين الفكر والواقع، وتشوش في استخدام المنهج الماركسي المعروف باسم المادية التاريخية. وهو ليس ارتباكاً يسارياً فحسب، بل يصاب به كل فكر إيديولوجي، ولا سيما الفكر الديني الذي يبرئ النص من أخطاء الممارسة، وهذا ما كان يؤدي إلى انشقاقات في المذاهب أو في الأحزاب السياسية.
نبدأ بالقول إن الخطأ النظري ناجم عن قراءة أحادية "سوفياتية" للمفاهيم الماركسية، قراءة لم تقم وزناً لأية قراءة مختلفة( وهذا هو المنشأ النظري للاستبداد أو لعدم الاعتراف بالآخر). نرى من المفيد أن نورد نصاً لجورج بليخانوف، أحد قادة الثورة البلشفية، لم يكن متداولاً أبداً طيلة على امتداد الحكم السوفياتي، مع أن تاريخه يعود إلى عام 1918، وهو مقطع من وصيته التي نشرها قبل وفاته. يقول بليخانوف:
"... أعتقد بأن ديكتاتورية الطبقة العاملة وفق مفهوم ماركس لن تتحق أبداً، لا الآن ولا في المستقبل. وإليكم السبب. فبعد تغلغل آلات الانتاج الجديدة المعقدة المصممة على العمل بالكهرباء، وترسّخها، وعلى ضوء إنجازات العلم التالية، سوف تتغير التركيبة الطبقية للمجتمع، ليس في صالح البروليتاريا، بل ستصبح البروليتاريا نفسها طبقة أخرى. وسيبدأ تعداد البروليتاريا، تلك التي ليس لديها ما تفقده، في التقلص، ومن ثم ستحتل الأنتليجنسيا المركز الأول من حيث التعداد ومن حيث الدور في عملية الانتاج...فالأنتليجنسيا، باعتبارها أكثر طبقات المجتمع تعليماً وثقافة، مكلفة حمل مشعل التنوير والأفكار الإنسانية والتقدمية إلى الجماهير. إنها شرف الأمة وضميرها وعقلها."
هناك نصوص ماركسية "مخالفة" فرض عليها نوع من الحظر ولم يكشف الستار عنها إلا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن نصوصاً أخرى تمكنت من خرق الحصار، لكن تأثيرها على الفكر اليساري ظل محدوداً. لقد ميز بعض قراء ماركس وشارحيه بين ما في الماركسية من علم وما فيها من إيديولوجيا (جورج لوكاتش المجري ولويس ألتوسير الفرنسي على سبيل المثال)، وأكدوا على أن من طبيعة المجال السياسي توظيف الأفكار، بما في ذلك العلمي منها، توظيفاً إيديولوجياً. غير أن مثل هذه القراءات عجزت عن اختراق الجدار السميك للماركسية الرسمية الستالينية، التي ركزت على أولية البنية التحتية (الاقتصاد) وأهملت وهمشت المجال السياسي المصنف جزءا من البنية الفوقية، وجعلت العلاقة بين البنيتين كأنها ذات اتجاه واحد من تحت إلى فوق( علاقة غير جدلية)، وأهملت تأثير الأفكار على تطور التاريخ.
ميز لوكاتش بين المادية التاريخية كأداة للثورة، كسلاح أيديولوجي ، وبينها كمنهج للبحث العلمي الملموس، منهج علم التاريخ( التاريخ والصراع الطبقي، باريس، مينوي، 1960، ص 257 من النص الفرنسي).ورأى أن المناضل يمكن أن يستخدم السلاح في أي وقت، في أيام ماركس، وفي كومونة باريس وفي الثورة البلشفية والثورات المشتقة، غير أن المفكر والباحث لا يستطيع أن يستخدم منهج المادية التاريخية إلا ضمن شروط علمية، من بينها أن القوانين التي اكتشفها ماركس في آليات عمل الرأسمالية وفي العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، ليست قوانين مطلقة، بل هي متعلقة بظروف الزمان والمكان. وقد أكد لوكاتش على أن تلك القوانين صالحة لدراسة المجتمعات الرأسمالية في اوروبا في زمن ماركس وأنغلز، أما خارج أوروبا وخارج العصر الذي عاشا فيه، فالمفاهيم الماركسية تحتاج إلى "تأقلم" أو "تبيئة" ، وإلى إعادة صياغة على ضوء المعارف الجديدة. ومن بين تلك المفاهيم وأهمها، العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية.
يتلخص المضمون الماركسي لتلك العلاقة بين البنيتين بالقول إن البنية الاقتصادية للمجتمع، أي قاعدته المادية أو بنيته التحتية، هي التي تقوم عليها بنية عليا (فوقية) قانونية وسياسية تتعلق بها أشكال معينة من الوعي المجتمعي. إن نمط انتاج الحياة المادية هو الذي يحدد مسار الحياة المجتمعية السياسية والثقافية بصفة عامة. وليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل على العكس، إن وجودهم المجتمعي هو الذي يحدد وعيهم.
الماركسية المبتذلة، بحسب تعبير سمير أمين، فسرت هذا القانون تفسيراً ميكانيكياً، فجعلت العلاقة بينهما علاقة علة بمعلول، علاقة غير جدلية تعمل في اتجاه واحد من تحت إلى فوق، واستناداً إليها تصبح البنية الفوقية مجرد انعكاس للبنية التحيتة. ثم تحصن أصحاب هذا التفسير بمفاهيم أخرى كالبنية المهيمنة والبنية المؤثرة والبنية المسيطرة، حاصرين الهيمنة والسيطرة والتأثير بالبنية التحتية، أي بالاقتصاد وعلاقات الانتاج، ما جعلهم يغفلون حقيقة هامة وهي أن الأفكار، المنتمية إلى عالم البنية الفوقية، لا تبقى خالدة كجزء من البنية الفوقية بل تتحول إلى قوة "مادية" من قوى الانتاج المادي، ويستخفون بدور المجال السياسي، المنتمي هو الآخر إلى البنية الفوقية، في التأثير الحاسم على عملية الانتاج المادي، لا للسلع والبضائع فحسب بل حتى للأفكار وسائر تجليات الوعي الاجتماعي، بما في ذلك الوعي الفني والأدبي والفلسفي.(نهضة المدارس الفنية في الرسم والموسيقى ارتبطت بأسماء فنانين وبأسماء ملوك)
ألتوسير، الفيلسوف الفرنسي، توصل إلى استنتاج من نوع آخر حين اكتشف أن أشكال الوعي السياسي والاجتماعي يمكن أن تبقى قائمة لزمن طويل حتى بعد زوال القاعدة الاجتماعية التي تدين لها بوجودها.أي أنها، كطبقة عليا من البناء، قد تبقى قائمة بذاتها حتى لو تقوضت الأعمدة (الاقتصادية) التي قامت عليها. الأمر الذي يفسر احتفاظ الأعمال الفنية الكبرى بقيمتها الجمالية والفكرية حتى بعد مرور قرون على ظهورها أول مرة. ذلك يعني أن البنية الفوقية ليست مجرد انعكاس للبنية التحتية، بل إن العلاقة بين البنيتين أكثر تعقيداً مما تظن الماركسية المبتذلة على الصعيد النظري، ومما تظنه الأصولية اليسارية على صعيد التطبيق.
استناداً إلى أخطاء كهذه في الممارسة النظرية وفي الممارسة السياسية، اعتقدت الأصوليات اليسارية أن كل أنواع الصراعات في المجتمع تعود إلى أصل واحد هو الصراع على "القيمة الزائدة"، فكانت الترسيمة الصراعية "الدهرية"، الصراع الطبقي بين طبقتين رئيسيتين، تحتل الطبقة العاملة قطبه الأول ويتمحور حولها المتضررون من النهب الرأسمالي، وتحتل البرجوازية القطب المواجه ويتحالف معها كل من يشارك في استثمار الإنسان للإنسان. وهكذا فإن الثورة إما أن تكون، من وجهة نظرهم، ثورة بقيادة الطبقة العاملة أو لا تكون ثورة، بل مجرد انتفاضات وأشكال من التمرد لن تنتهي بغير تسويات مؤقتة بعيداً عن أي احتمال للحلول الجذرية.
التفسير بالصراع الطبقي، أو تفسير الصراع الطبقي تفسيرا اقتصادياً صرفاً كان يظهر في كل النصوص التي ينتمي كتابها إلى أحزاب وتنظيمات شيوعية. تكتب اليسارية السورية هيفا الجندي مثلاً على صفحتها في التواصل الاجتماعي، بتاريخ 3-9-2014 النص التالي :
" جوهر الصراع الحقيقي وهو سياسي بين أغلبية شعبية مفقرة ضد حكم أقلية مالية ريعية عائلية، استفادت من بيروقراطية السلطة المغلقة وراكمت ثروات طائلة، ليتمَّ المضاربة بها في البنوك الخارجية ابتغاء الربح السريع، هذه الطغمة التي ازدادت ثراء و فجورا في الوقت الذي تراجعت فيه الظروف المعاشية للاغلبية الشعبية، من جراء السياسات الليبرالية الاقتصادية، تحديدا في الارياف والمناطق النائية ...أن بورجوازياتنا العربية هي اكبر عقبة في وجه اي تحول ديمقراطي بحكم جوهرها الريعي وارتباطها البنيوي مع منظومة الرأسمالية المالية، و لا توظف اموالها الا في حقل المضاربات المالية والعقارية. أما المعني الحقيقي بعملية التحول هي الكتلة المنبثقة من الحراك الثوري."
"جوهر الصراع الحقيقي، وهو سياسي"، لكن المصطلحات كلها اقتصادية، ( مالية ، ريعية، تراكم الثروة، المضاربة، البنوك ، الربح السريع، الطغمة المالية ، الثراء والفجور، الظروف المعاشية، الليبرالية الاقتصادية، الرأسمالية العالمية، توظيف الأموال، المضاربات المالية والعقارية). المصطلح السياسي الوحيد ، الديمقراطية، جرى استخدامه في سياق مغلوط أيضاً، فالسلطات في بلداننا العربية تعيق بناء الديمقراطية بحكم انتمائها الطبقي إلى البرجوازية، وبحكم "جوهرها الريعي"، مع أن بناء الديمقراطية لا يمكن أن يناط، من حيث المبدأ، بغير الطبقة البرجوازية (رأي فوزي منصور المشار إليه أعلاه القائل إن الديمقراطية هي من مسؤولية البرجوازية كما أن الاشتراكية من اختصاص الطبقة العاملة، بحسب الترسيمة الماركسية)
بعبارة أخرى، إن هناك ثورة واحدة في نظر الأصولية اليسارية هي تلك التي تفضي في نهاية المطاف إلى بناء الاشتراكية، وتكون الطبقة العاملة في طليعة قيادتها، وحين لا تكون مطابقة لمثل هذه الترسيمة فهي ليست ثورة، بل مجرد تعبير عن نقمة شعبية على سياسة الحاكم الدولية والاقتصادية. أما سياسته السياسية (الداخلية)، أي طريقة إدارته للحكم فهي خارج حسابات اليساريين، لأنه يكفي الحاكم أن يعلن عداءه للصهيونية والاستعمار والرأسمال العالمي فيصنف أنه حاكم وطني تنبغي مساندته، وفي ظل حكمه لا حاجة لوجود اليسار أصلا، (هذا ما فعله اليسار المصري حين حل الحزب الشيوعي نفسه، وما فعله الحزب الشيوعي في كل من سوريا والعراق حين كان شاهد زور على شراكة شكلية في السلطة) طالما أن الحاكم ، "بعظمة لسانه" يعلن تحالفه مع الاتحاد السوفياتي، أو حربه على الأمبريالية العالمية وعلى النظام العالمي الجديد وعلى المنظمات الاقتصادية والمالية العالمية الخاضعة لسلطانه.
هذه الأسباب وسواها تفسر تريث اليسار في إعلان موقفه من الربيع العربي. فقد كان متيقناً من أن غياب الطبقة العاملة عن القيادة سيحرم الربيع العربي صفة الثورة، كما أن احتلال الاسلام السياسي واجهة المشهد ولو في لحظة استدراك زاد في طين يقينه بلة، من جهة ، وزاده بلبلة من جهة أخرى. ذلك أن الاسلاميين قد يكونون جزءاً من الحركة الرجعية والثورة المضادة كما حصل في مصر أو في سوريا مثلاً، كما قد يكونون جزءاً من منظومة الممانعة المعادية للاستعمار والامبريالية، كما هي الحال مع حزب الله. فماذا تراه يفعل اليسار الرسمي في مثل هذه الحالة؟ يقف على الحياد في بلد، وينخرط في الثورة في أخرى، وفي الثورة المضادة في بلد ثالث؟. تلك هي أخطاء البراكسيس الناجمة عن أخطاء في فهم النظرية.
الخطأ النظري والعملي الذي وقع فيه المفكرون( لا المحازبون المناضلون) اليساريون يتمثل في تغليبهم العامل الاقتصادي وتهميشهم الأسباب السياسية، ولذلك وقعوا في تردد قاتل. هم مع الثورة إيماناً منهم بالحتميات، لكن ترسيمة الثورة، كما وردت في الكتب وفي المخيلة اليسارية، اللينينية أو التروتسكية أو الماوية، لا تنطبق على الربيع العربي، فتعددت أشكال التعبير عن الشك والريبة حيال ظاهرة خرجت عن المرسوم في "لوح اليسار"، وتمحورت الشكوك حول أمرين يتعلقان بموقف الغرب "الامبريالي" والنفط الخليجي.
في مؤتمر عقد في بيروت شارك فيه كل من الجامعة الأميركية في بيروت( قسم علم الاجتماع)، الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع، الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، جامعة قطر، مؤسسة فريدريش إيبرت(لبنان)، حمل عنوان: مؤتمر الانتفاضات العربية "مقاربات سوسيولوجية ومقارنات جغرافية" عرض شبيب دياب، رئيس الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع، في كلمته الترحيبية الافتتاحية، عينة صريحة من هذا التردد والتشكيك. فهو لم يُخفِ وقوع "المشتغلين بعلم الاجتماع بنوع من الذهول" وذهاب بعضهم إلى "الاعتذار عن عدم تنبؤه بها وإلى ضرورة إعادة النظر بأدواته المفهومية..." (ص 17-18)(صدرت أعمال المؤتمر في كتاب من منشورات دار الفارابي 2014).
استنتج شبيب دياب أن الشباب لم يكونوا وحدهم "الفاعلين الاجتماعيين الوحيدين في الساحات والميادين... فهناك الأحزاب السياسية العريقة..." نعتقد أن الاستنتاج هو مصادرة على المطلوب، لأنه يبحث عن دور للأحزاب، فيما الأحزاب، الأحزاب اليسارية والقومية على وجه التحديد، متهمة بالمسؤولية عن أزمات العالم العربي الممتدة منذ استيلائها على السلطة. بل إن الثورة قامت ضد استبدادها الشيوعي والبعثي والناصري والقومي، ولهذا لم يدم التضامن طويلاً وسرعان ما تحول في النسخة السورية من الربيع إلى ثورة مضادة تضامنت مع النظام(مقالتي المشار إليها أعلاه، هذه الثورة قامت ضدكم، نشرت في شباط 2011 أي بعد شهر واحد على اندلاع أحداث الربيع العربي في مصر).
التشكيك بالربيع العربي كانت له حججه وذرائعه. الأولى أنه لم يكن شاملاً الأمة كلها من محيطها إلى خليجها، وهو " توقف على أبواب الأنظمة الملكية والإمارات، وهذه ليست "أكثر ديمقراطية" من الجمهوريات ... كما أن الحكم فيها مؤبد ووراثي ضمن العائلة الحاكمة"(ص19). الثانية أن الربيع العربي ما كان ليحصل لولا تدخل قامت به دول "الديمقراطيات الغربية" التي سبق لها أن " دمرت كلاً من أفغانستان والعراق وليبيا، تدميراً طال النظام السياسي والبنى التحتية والقوة العسكرية... واستهدف أيضاً النسيج الاجتماعي لهذه البلدان وتركها في حالة تنافر عرقي أو قبلي أو طائفي"(ص19-20). بالإضافة إلى الذريعة الأصلية المتعلقة بغياب القيادة الطبقية والبرنامج الثوري الهادف إلى قيام الاشتراكية، باعتبار أن الثورة إما أن تكون ثورة اشتراكية أو لا تكون.
هذه الذرائع لا تكفي لتبرير غياب الأحزاب اليسارية وتقصيرها عن المشاركة في الربيع العربي منذ بدايته، ولاسيما بعد أن دحضتها مشاركة اليساريين الأفراد بأعداد كبيرة في كل البلدان المعنية، والمشاركة الفاعلة لتنظيمات اليسار التونسي منذ بداية الثورة وما أعقبها من تطورات، وصولا إلى الانتخابات التشريعية وسن دستور جديد أدرج في أحد بنوده مادة لم تلحظها أهم الدساتير الديمقراطية في العالم ، عنينا بذلك المادة المتعلقة بحرية الضمير.
فواز طرابلسي يعترض على من يرى الربيع العربي صناعة غربية، ويؤكد على أن الانتفاضات قامت " دون مساعدة من الخارج، بل قامت ضد هذا الخارج"، نافياً أي ادعاء "بأن قوة غربية ما كان لها أي دور في إطلاق الانتفاضات أو تشجيعها أو تسييرها" (الديمقراطية ثورة، ص21). لكنه هو نفسه، يشارك شبيب دياب تحميل مسؤولية الاستبداد المحلي والتخلف المتجذر للاحتلال الأميركي للعراق الذي فكك الدولة العراقية ودمرها، و"أخرج شياطين المجتمع الأهلي من جحورها متمثلة بالمناطقية والإثنية والمذهبية"(ص24). ومن وجهة نظره، تتحمل الرأسمالية العالمية، فضلاً عن ذلك، أمر تصدير نظريات جديدة لتشويه الترسيمة اليسارية والوجه الطبقي للثورة، ذلك أن "نظرية الدولة|المجتمع المدني هي الوجه السياسي للنيوليبرالية الاقتصادية التي تقيم التعارض بين كتلتين متجانستين، الدولة، وهي مستبدة تعريفاً، والمجتمع المدني (التشديد مني)الذي قوامه القطاع الاقتصادي الخاص والنقابات المهنية والمنظمات غير الحكومية... وهو المجتمع الذي يتنافس مع المجتمع الأهلي على إضعاف دور الدولة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة"(ص23).
الكتلتان اللتان ينبغي أن تتواجها لتكون الثورة ثورة حقيقية متطابقة مع الترسيمة اليسارية هما البرجوازية والطبقة العاملة. لهذا يبدو "المجتمع المدني" بدعة أنتجتها النيوليبرالية الاقتصادية، وهي بمثابة اعتداء على النظرية الثورية التي تجمع كل القضايا وتمحورها حول مسألة الانتقال إلى الاشتراكية، ذلك أن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام، هو نقد من نوع آخر لنظرية المجتمع المدني|الدولة، ولسلوك المنظمات غير الحكومية والأهلية القائم على فصل قطاعات المجتمع بعضها عن بعض في تذرير "بعد حداثي" يحيلها إلى جندرة، بيئة ، تنمية بشرية، مكافة الفساد، مساءلة، حوكمة، حقوق إنسان، تمكين المرأة، تسليف جزيئي، ريادة..." (ص 25).
التشكيك بالمجتمع المدني يتبعه تشكيك بالديمقراطية، ولا سيما المدعومة من الغرب الرأسمالي والأميركي ومن المال الخليجي، لأنها، في نسختها هذه، ستشكل السبيل "إلى السلام العربي الاسرائيلي" (ص44)؛ وتشكيك بمرجعية الثورة الفرنسية، ودور الطبقة البرجوازية، إذ "لا ريب في أن الالتباس ناشئ عن الافتراض القائل إن الثورة الفرنسية، هي ذاتها، كانت ثورة "برجوازية""(ص83)؛ إلى التشكيك بقيم الثورة الفرنسية، ولاسيما المساواة التي تم التوصل إليها "بتسوية قسرية اقتصرت فيها فكرة المساواة على المجالين السياسي والقانوني، فيما ظلت اللامساواة هي العرف القائم في المجال الاقتصادي – الاجتماعي"(ص84). كأني به يستصغر المساواة أمام القانون، مع أن هذه القيمة، وهي شعار أساسي من شعارات الثورة الفرنسية الثلاثة، هي التعبير الأمثل عن تحول الفرد إلى مواطن، وذلك بالضبط انطلاقاً من المساواة في الحقوق السياسية أمام القانون.
هل يعني الارتياب بكل هذه التفاصيل غير الارتياب بالثورة من حيث المبدأ؟ ألأنها ليست مطابقة لمواصفات الثورة اللينينية؟ ربما كان على فواز طرابلسي الذي أختار عنوان كتابه "الديمقراطية ثورة"، أن يتابع، بحسب المنطق ذاته، القول إن الثورة لا تعني فحسب الانتقال إلى الاشتراكية، بل إن الانتقال إلى الديمقراطية يعني أول ما يعنيه أن ما قبل الديمقراطية في بلادنا هو الاستبداد، وأن عملية الانتقال هذه ليست شأناً اقتصادياً، من غير أن يكون قد خالف نظرية ماركس القائلة إن الاقتصاد، أي البنية التحتية، هو المحدِّد في نهاية التحليل. لكن التحليل لم يصل إلى نهايته، ولهذا مازال أمامنا متسع من الوقت ليلعب المجال السياسي، أي البنية الفوقية، الدور المحدِّد.
وإذا كانت الديمقراطية ثورة حقاً، فهي تنتمي إلى شجرة عائلة ولها أب وأم وإخوة وأخوات. الديمقراطية بنت الثورة الرأسمالية، نعم ، بنت الثورة الفرنسية، وهي ليست ديمقراطية اليونان القديم المعروفة بديمقراطية النخبة، ولا هي الشورى لدى المسلمين. بل هي الترجمة السياسية للكوجيتو الديكارتي، لحرية العقل، عقل الانسان الفرد، المواطن، لحقوق الانسان الفرد، لتلك المساومة، التي ربما تكون جائرة بحسب منطق التفكير الاشتراكي، بين رأس المال والعمل، والتي بموجبها أعطي رأس المال كل الحرية( دعه يعمل دعه يمر)، مقابل حق الاقتراع الحر للمواطن، وقامت دولة الحق والمواطنية، الدولة المدنية التي تحكمها الدساتير، وتتميز بتعدد السلطات وتداول السلطة، ويسود فيها منطق الكفاءة وتكافؤ الفرص( على الضد من دولة الوراثة التي لا تتعدد فيها السلطات ولا يتم تداولها). هذه الدولة ليست شيئاً آخر غير الذي أنجزته الثورة السياسية في الرأسمالية، والذي لم تعره الماركسية اهتمامها الكافي، بسبب انشغالها بتحليل الآليات في النظام الاقتصادي الرأسمالي.
على هذه المعايير، لا يمكن اعتبار الانتفاضة التونسية بمثابة " نقد بالممارسة لأجندة النيوليبرالية في بلادنا "(ص162)، بل هي نقد بالممارسة لنظام التوريث بالاقتراع الذي ابتدعته أنظمتنا العربية وكان الرئيس بن علي مرشحا بموجب هذا النظام لولاية خامسة، مع جاره القذافي ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام في العالم، وجاره الكبير حسني مبارك في مصر الراغب بتوريث ابنه في صناديق الاقتراع، وشريكه المنتخب بالوراثة بشار الأسد الحاكم إلى الأبد.
القراءة الثقافية
القراءة الاقتصادية للأحداث ليست الوحيدة التي استبعدت العامل السياسي أو استخفت بتأثيره. فهنالك من أعطى الأولية للقراءة الثقافية للأحداث. الشاعر السوري اللبناني أدونيس هو ممثل هذه المدرسة بلا منازع، وهو فدائي هذا المنهج في التحليل، لأنه عرض نفسه لسيل من سهام النقد القاسي، فاتهمه البعض بممالأة النظام والتغطية على مجازره، ولم يسلم من أقلام الصحافة، ولاسيما اللبنانية.
هل كان النقد محقاً ؟ وما كان موقف أدونيس، وهل تفرد بمثل هذا التحليل؟ بعد مرور وقت قصير على الربيع السوري أجرت الصحف ووسائل إعلام مرئية مقابلات عدة مع أدونيس، كرر فيها ما كان سبق له أن قاله في كل كتبه وعبر عنه في كل شعره. العطل في نظره عطل ثقافي، ومشكلة الثقافة تكمن في الدين. وأن التغيير إن لم يكن تغييراً في الثقافة والأفكار فهو تغيير مبتور، وأن الثورة لا تكون ثورة إن بقيت المفاهيم ثابتة ولم يحدث تحول في الرؤيا والرؤية.
يقول أدونيس، "لو قرأنا التاريخ جيداً لما كنا بحاجة إلى داعش". هذه العبارة تفسر كل ارتباك منهج التحليل الثقافي. بداية لم تكن داعش، ولايمكن أن تكون، حاجة لنا أو للتاريخ. لكنها من إفرازات هذا التاريخ الذي أخطأنا في قراءته فأخطأنا في تشخيص أمراضنا، فأخطأنا في وصف العلاج وأقفلنا أبواب النهضة، ما أفسح في المجال لظهور داعش تعبيراً عن فشل القوى صاحبة المصلحة في التغيير والتقدم.
كيف توصلت القراءة الأدونيسية للتاريخ إلى هذا الاستنتاج؟ الجواب على السؤال يمكن العثور عليه في أي نص كتبه الشاعر منذ صدور كتابه الأول، وهو رسالته لنيل شهادة الدكتوراه، الثابت والمتحول. إنه تحدث عن ثابت في الثقافة العربية وعن طغيان هذا الثابت على كل متحول واقعي أو محتمل. لم يكن الخلل المنهجي في حاجة إلى الربيع العربي لكي يظهر في صورته الشاعرية المفتقرة إلى التماسك والمنطق. وقد سبق لمهدي عامل أن تناول المنهج الأدونيسي بتفصيل في كتابه، نقد الفكر اليومي، الذي أصدره دار الفارابي بعد اغتياله، في خريف 1988، حيث رأى أن أدونيس كان ينطلق في نقده الدين من فكر ديني، لأن منهجه قائم على ثنائية قاتلة موجودة في كل فكر ديني، حتى لو كان الدين هو الالحاد، الثنائية التي تعتبر أحد مصادر الاستبداد في التاريخ، ملاك وشيطان، أسود وأبيض، حنة ونار، ولا يلتقيان. من هنا يبدأ رفض الآخر وعدم الاعتراف به. فهل يعني ذلك غير استبداد ذي أصول علمانية؟ يقول مهدي عامل: "التاريخ في نظر أدونيس جوهر لا يتغير، ما يتغير هو " المعاني" أي التأويل ، التغير هو تغير الوعي وحده" (ص 151). وقد استند مهدي عامل في حكمه هذا على قول أدونيس" ليس التاريخ بمعناه العميق إلا تغير المعاني"، ثم فسر منهجه في قراءة الثابت والمتحول، فاكتشف أن أدونيس يجرد التحول من شروطه التاريخية ويربطه بالجوهر، الجوهر الثابت في حالتي الثبات والتحول، "ثباته بغير ذاته هو الثبات، وثباته بذاته هو التحول، إذا مارس الفرد جوهره، وممارسة الجوهر هي أن يتفجر الجوهر... كلمة "التفجر" ومشتقاتها ومرادفاتها هي الكلمة الفصل في هذا التفسير السحري للتاريخ... الذي يتأول الجديد كأثر من فعل خلق- أبدع"(ص 152). ويخلص مهدي عامل في قراءته النقديه إلى تصنيف فكر أدونيس في خانة الفكر الغيبي.
قبل الربيع العربي أيضاً، سبق أن تعرض فكر أدونيس "الديني" إلى نقد أشد قسوة من قبل صادق جلال العظم، الذي استوقفته نصوص طويلة لأدونيس، فراح يحفر فيها ليكتشف "عدم تماسك منطقها الداخلي"، ولا سيما حين يجمع أدونيس أشتاتاً من المناهج محاولاً التوليف بينها، فيتبنى مقولة ماركس " نقد الدين شرط لكل نقد"، ثم ليستنتج "أن النقد الثوري للموروثات العربية شرط لكل عمل ثوري عربي" ( ذهنية التحريم، رياض الريس للنشر، ط1، 1992. الاقتباسات من أدونيس وردت في مجلة مواقف العدد 6 سنة 1969)، ثم يعود ثانية إلى فكره " الغيبي" ، فيصير الإبداع عنده " خارج الزمان والمكان والتاريخ والصيرورة المادية والبشرية عموماً"... لأن الحداثة في نظره "ليست إلا فعل الإبداع الذي يصنعها (خلق أبدع) أو يتجلى من خلالها" ( العظم، ص 105-106)، ثم يعود مرة ثالثة إلى مناقضة الماركسيين في مسألة العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية، قائلاً "إن الصراع في المجتمع العربي كان، في طابعه الغالب، إيديولوجياً-دينياً"( مواقف، العدد 34، ص.155)
ما قاله أدونيس، إذن، عن الدين والثقافة والثورة ليس رأياً مستجداً أو موقفاً طارئاُ يتعلق بالربيع العربي، بل هو موقفه الثابت منذ بداية تكوينه الفكري في خمسينات القرن الماضي، أي قبل أكثر من نصف قرن على " التفجر" العربي. بهذا المعنى، أي بمعيار القراءة الثقافية للأحداث، يمكن القول إن أدونيس قد تعرض لبعض الظلم، لأن أفكاره لم تكن مستجدة على ساحة النشاط الفكري، بل هي تعبير عن "الثابت" في نظرته إلى الثقافة وإلى الصراع الايديولوجي وإلى موقفه من الدين، كما يمكن القول، في الوقت ذاته، أن منهجه في التحليل يستحق مثل ذاك النقد وتلك الإدانة، لأنه لم يطور منهجه في التحليل بما يتناسب مع المتغيرات التي طرأت على العالم العربي والعالم وعلى الأفكار والإيديولوجيات والأديان، بل استمر يكرر الأفكار ذاتها والأحكام ذاتها على الواقع العربي منذ الدعوة الاسلامية حتى ظهور الدواعش ، أي لأكثر من ألفية ونصف من الزمن، شهدت فيها الأوطان والأمم والعلوم والفنون والإيديولوجيات وقوى الانتاج المادي والفكري ثورات غيرت المعايير والمقاييس وبدلتها وطورتها و"حولتها" مئات المرات، فيما ظلت أفكار أدونيس ثابتة في "جوهرها" وأشكالها الأولى كما " أبدعها" أول مرة.
ماذا قال أدونيس في قراءته الثقافية لأحداث الربيع العربي؟ هذا الذي كان يقوله منذ خمسين عاماً كرره في مقابلات صحافية وتلفزيونية ومقالات متعددة. يكفي أن تقرأ أياً منها لتعرف رأيه وموقفه وقراءته الثقافية للأحداث . من آخر المقابلات التي أجراها واحدة مع جريدة السفير اللبنانية قال فيها:
"...لكن المأخذ الأولي عليها( أحداث الربيع العربي) هو خلوّها من أي مشروع يشكّل خطوة نحو التغيير. ليس تغيير السلطة، بل تغيير المجتمع، وتغيير الأفكار، وتغيير الثقافة. ولاحظنا أن وراء هذا الانفجار لم يكن هناك خطاب ثقافي تغييري، وأنّ الطابع العام لهذا الانفجار كان دينيا."
"طوال أربعة عشر قرناً لم يستطع العرب تحقيق المواطنة. بينما حقق الرومان ذلك في جميع أنحاء الامبراطورية، ومنحوا الجنسيّة الرومانيّة لجميع الرعايا. العرب لم يستطيعوا أن يفكّكوا بنية القبيلة ولا بنية العشيرة، ولا البنية المذهبية. لم نقم بأي شيء جذري.... "
"علينا أن نفتح الباب(باب التغيير) أي فصل الدين عن الدولة، أي أنّ مدنية المجتمع هي الخطوة الأولى. ولكنها ليست كافية طبعاً. .. من دون علمنة المجتمع ومدنيته لا نستطيع أن نقوم بأيّ شيء."
في هذه المقتطفات ثلاث أفكار- قضايا : التغيير والثورة، الدولة الحديثة ، العلمنة والدين. وهي قضايا متداخلة وشائكة حافظ أدونيس، خلال النقاش فيها، على أدوات البحث والمصطلحات والمفاهيم ذاتها من دون أن يخضعها لأي تعديل أو تطوير، ما جعله يقع في مغالطات نظرية أوقعته بدورها في أخطاء سياسية فادحة، فبدا معادياً للثورة ومناصراً لسلطة البراميل والحكم الوراثي الأبدي.
الفكرة الأولى تتعلق بالثورة. والثورة في نظرة أدونيس الشاعرية، هي " العصف الجميل وخلخلة العقول"، وهي الانفجار الذي يحيلنا إلى الانفجار الكوني الأول، أو إلى فكرة الخلق أو فكرة الابداع، أو إلى كل فكرة مقطوعة من سياقها التاريخي، معزولة عن البنية التحتية التي هي، في نهاية التحليل الماركسي، المحدد الأساسي لولادتها.
هو يأخذ على أحداث الربيع العربي "خلوّها من أي مشروع للتغيير، تغيير المجتمع والأفكار والثقافة". من هنا يبدأ الخطأ السياسي الكبير الذي ارتكبه أدونيس بحق الثورة السورية خصوصاً. الخطأ في اختياره قراءة ثقافية للثورة السياسية، الخطأ الناجم عن المفاهيم النظرية المغلوطة عن الثورة. إذ ما من ثورة ثقافية في التاريخ حصلت في صورة مطابقة لتلك التي رسمتها مخيلة الشاعر. كل واحدة من المدارس الكبرى في تاريخ الأفكار تعيش عقوداً أو قروناً قبل أن تحمل الراية عنها، في ما يشبه سباق البدل، مدرسة أخرى.والثورات لا تحصل بانفجار، بل بتراكم معرفي في كل جوانب عملية الانتاج الفكري، بأدوات الانتاج والقوى المنتجة إلى أن يحتاج الأمر إلى قطيعة معرفية مع الجيل السابق، قطيعة لا تجبّ ما قبلها بل تنمو في داخله وتنفيه نفياً جدلياً، مثلما تنفي الثمرة الزهرة( المثل الماركسي عن التراكم الكمي والتحول النوعي)
وهو لاحظ أن "الطابع العام لهذا الانفجار كان دينياً"، مستنداً في ذلك إلى التجربة السورية حيث اختار المحتجون أن يتحصنوا في المساجد، عند بداية الانتفاضة، وأن ينطلقوا منها إلى مظاهراتهم السلمية. لكنه لم يلاحظ أن التنظيمات الاسلامية، كما أحزاب اليسار، تفاجأت بالانتفاضة، ثم استلحقت نفسها، مع يساريين أفراد، من غير أن تتمكن من فرض شعاراتها أو من تبديل أولويات المطالب الشعبية التي تركزت على منع التوريث السياسي وعلى إجراء تعديلات ديمقراطية في هيكل السلطة وآليات عملها. كما أنه لم يلاحظ أن الشعب المصري لم يحتمل رئيساً إسلامياً فخرج إلى الشوارع بعد مضي أقل من عامين على رئاسته، وبلغت أعداد المحتجين أكثر من ثلاثين مليوناً، ولم يلاحظ أن التونسيين سحبوا الوكالة من الاسلاميين في أول انتخابات تلت الانتخابات التمهيدية، وأن الدستور التونسي تضمن مادة تنص على "حرية الضمير" بموافقة الاسلاميين المتنورين. تلك كانت الحال أو أقل منها في كل من ليبيا واليمن، من غير أن يلغي كل ذلك حقيقة كون التنظيمات الاسلامية هي الأكثر تنظيماً وتسليحاً بين الأحزاب السياسية، ما مكن بعضها من لعب دور حيوي في الثورة المضادة وفي العمل ما في وسعها لتخريب الربيع العربي.
بيد أن أكثر ما يثير الاستغراب في موقف أدونيس هو أنه ذاته انتصر ذات يوم لثورة الشعب الإيراني بقيادة آيات الله، وللاهوت التحريروكنائسه ولحركات التحرر الوطني ثم رفض الانتصار لثورة الشعب السوري بذريعة خروجها من الجوامع.
أدونيس يختار القراءة الثقافية ويستبعد السياسية لأنه يجهلها ولا يحسن استخدام مصطلحاتها، وهو يجهل بالتحديد تلك المفاهيم السياسية المتعلقة بالثورة الحديثة وبالدولة والوطن والأمة. فهو يقول: "طوال أربعة عشر قرناً لم يستطع العرب تحقيق المواطنة. بينما حقق الرومان ذلك في جميع أنحاء الامبراطورية، ومنحوا الجنسيّة الرومانيّة لجميع الرعايا" خالطاً العصور بالحضارات بالأزمنة . إذ كيف يمكن للعرب( طوال أربعة عشر قرناً) أن يحققوا المواطنة، والمواطنة ليست بنت تلك القرون التي أعقبت الثورة الزراعية الدينية، بل بنت الثورة الفرنسية، الثورة البرجوازية، الثورة التي أرست أسس النظام السياسي الخاص بالحضارة الرأسمالية، ومن بينها الدولة والوطن والسيادة والجنسية والمواطن والعلمنة والمجتمع المدني وغيرها من المصطلحات التي ما كان يمكن "للعرب" أن يحققوا منها شيئاً لأنها لم تكن مطروحة على جدول عمل التاريخ في أيامهم، ولم يطرحها التاريخ عليهم إلا مع الحضارة الرأسمالية التي افتتح دخولها نابليون بونابرت، في صورة مباشرة، حين غزا مصر في سنة 1798، أو الدولة العثمانية بطريقة غير مباشرة، منذ بدأ احتكاكها بالغرب مما قبل نابليون.
من الواضح أن أدونيس ركّب العبارة وضمّنها عدداً من المصطلحات والمفاهيم وشحنها بدلالات غير مطابقة، وبمعلومات تاريخية مغلوطة. ولئن كان باستطاعته، كشاعر، تفجير اللغة ليصنع ثورته الشعرية، وهو كان رائداً في هذا المضمار، فإن لغة الشعر الجميلة لا تقصّر فحسب عن قول الحقائق السياسية بلغة المصطلحات العلمية، بل هي تشوه الحقائق والوقائع وتشوش المعاني وتفرغ المفاهيم من دلالاتها.
من بين تلك المفاهيم المشوهة والمشوشة( بكسر الواو وفتحها) العلمنة والمجتمع المدني. يقول أدونيس:"من دون علمنة المجتمع ومدنيته لا نستطيع أن نقوم بأيّ شيء." مصطلحان جديدان على العالم العربي، وصلا إليه منذ حوالي قرنين، من غير أن يتأصّلا أو يتكيّفا أو ينصهرا في ثقافته وقاموس مفراداته. حصل ذلك بسبب موقف من الاكليروس الاسلامي الذي بلغت به سلبيته من الحضارة الرأسمالية أنه أعلن عداءه السافر لكل منجزاتها، للعلوم ومكتشفاتها، متمثلا في ذلك بمحاكم التفتيش وبموقف الكنيسة من غاليليه، وبصورة خاصة لأهم ما أنجزته في الميدان السياسي، أي الديمقراطية ومشتقاتها وشجرة عائلتها.
رأت الأصولية الاسلامية في مصطلحي العلمنة والدولة المدنية خطراً يهدد الدولة الدينية، فجعلتهما مرادفاً للالحاد. ولم يخفف من هجوم "الكنسية" الإسلامية عليهما تمييز مفتعل أحياناً وانتهازي أحياناً أخرى بين علمانية مؤمنة وعلمانية ملحدة، ولا هدأ من غلوائه ظهور عشرات العناوين الفكرية والدراسات الجامعية والأبحاث العلمية التي تناولت قضايا متعلقة بالدين الاسلامي من موقع علماني وحداثي موقعة من مستشرقين أو من كتّاب ومفكرين ينتمون إلى العالم الاسلامي. ربما يعود ذلك إلى أن العلمانية وصلت إلى بلادنا بنسختها السياسية الفرنسية معزولة عن مضمونها الثقافي والحضاري، مترافقة مع وصول الفكر الاشتراكي الماركسي، ومع العبارة الشهيرة لماركس، الدين أفيون الشعوب، التي عممتها الأجهزة الدينية، بتأويل مغلوط بل معاكس لمعناها الأصلي، واستخدمتها دليلاً على مخاطر هذا "الفكر المستورد" وسلاحاً في مواجهته، وقد صادف أن أدونيس كان جندياً متحمساً في المعسكر العلماني الذي ضم إلى جانب الماركسيين أحزاباً أخرى من بينها الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي انخرط في صفوفه خلال الفترة الأولى من شبابه، وظل أميناً على مبادئه العلمانية حتى بعد أن خرج من صفوفه.
تأكيداً على ما قلناه عن دور المؤسسة الدينية الاسلامية في نشر المفاهيم المغلوطة عن العلمانية، نورد مقاطع من حوار على صفحات التواصل الاجتماعي بين رجل دين متنور وآخرين، من بينهم محاور يخفي اسمه الحقيقي وهويته الحقيقية( فهو قد يكون رجل دين أيضاً أو متأثراً بتعاليم المؤسسة الدينية) ويشارك في الحوار تحت اسم مستعار(مملكتي شريعتي). يضع الشيخ حسن مشيمش على صفحته صورة لغلاف الكتاب الذي وضعه الشيخ الأزهري علي عبد الرازق، عن الاسلام وأصول الحكم، عنوانه الفرعي، بحث في الخلافة والحكومة في الاسلام، ويعلق عليه بالعبارة التالية:
"لأنه قال في هذا الكتاب بأن الدولة مدنية ولا يوجد دولة دينية في نصوص الإسلام وقع تحت التكفير والتخوين والعزل وتمت محاربته بأقسى الوسائل وما زال الإسلاميون حتى اليوم يعتبرونه كافرا وعميلا وزنديقا ?!?!?!?!?!
تعلق عليه سيدة متنورة بقولها:"هذا الشيخ الجليل من رواد عصر النهضة العربية في القرن ال 19، وكتابه أحدث ضجة دينية وفكرية خطيرة. أنصح الجميع بقراءته. شكرا شيخنا لتذكيرنا به". من الواضح أن صاحبة التعليق لم تدقق بالتواريخ، ذلك أن علي عبد الرازق نشر كتابه في عشرينات القرن العشرين وليس التاسع عشر، وطرد من الأزهر وحرم من لقبه الديني، استجابة لطلب الخديوي الطامح يومئذ بوراثة الخلافة التي انهارت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتأسست على أنقاضها دولة علمانية في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك.
ثم جاء دور صاحب الاسم المستعار(مملكتي شريعتي) ليدلي بدلوه، ويعبر بأفكار أشاعتها وعممتها المؤسسة الدينية ولم يطرأ عليها أي تغيير، رغم مرور قرن من الزمن انقلبت فيه المقاييس والمعايير، ولم يبق فيه شيء على حاله، في الاقتصاد والسياسة والثقافة، ولا سيما في العلوم الانسانية والعلوم الدينية. فكر المؤسسة الدينية هو وحده الذي بقي محصناً ضد أي نوع من أنواع التطور، أي ثابتاً بحسب تعبير أدونيس، واستمر يخضع للبنية السياسية من ضمن مساومة حصلت المؤسسة الدينية بموجبها على حصة في السلطة وصارت شريكة في نظام الاستبداد المجافي للديمقراطية ولكل منجزات الحضارة الرأسمالية.
سأقتبس كلام صاحب هذا الاسم المستعار كاملاً لنستخرج منه الدلالات الكافية ، ولنثبت أن "الثابت" في الفكر الديني لا يتعلق بالفقه وعلم الكلام بل بأليات السلطة السياسية التي كانت المؤسسة الدينية شريكاً فيها على امتداد عصر النهضة، وأن القطيعة التي يتطلبها "التحول" في هذا الفكر، هي قطيعة في السياسة أولاً قبل الثقافة، وأن القطيعة الثقافية ما كان يمكن أن تحصل في أوروبا، بين الفكر الديني والفكر العلمي، بين غاليليه والكنيسة لولا قرار حاسم بإعادة الدين إلى بيت الدين، إلى الكنيسة، قرار كان الفضل فيه للثورة الرأسمالية وللسلطة السياسية بقيادة نابليون بونابرت. ، ذلك أن الثابت يظل ثابتاً بفعل السياسة أولاً، وإن تحول فبفضل السياسة أولاً. هذا هو منبع الخطأ في اختيار أدونيس ساحة الثقافة لمواجهة الفكر الديني، في حين أثبتت التجربة الأوروبية أن الجهة التي حسمت الصراع مع الكنيسة في أوروبا هي السلطة السياسية التي أنهت تواطؤاً بين السلطتين الدينية والسياسية عمره من عمر الحضارات السابقة على الرأسمالية، على الأقل منذ بداية الثورة" الزراعية وحضارة العصور الاقطاعية.

يقول المحاور صاحب الاسم المستعار في تعليقاته المتفرقة على كلام الشيخ مشيمش وعلى بعض المحاورين الآخرين :
"خطأ تكفيره لا يعني صحة كلامه ".
"تخبيصاته كثيرة جدا ، وآراؤه ما أنزل الله بها من سلطان ، واستدلالاته تافهة وعقيمة ... وأي طفل صغير يستطيع الرد عليه" .
"طبعا كتاب علي عبد الرزاق هو الملهم الروحي للعلمانيين ... فالحذر من أن نكون الساعد الأيمن لهم" .
"وهل فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين عن الدولة ؟"
"لكن فكرة فصل الدين عن الدولة لا يُفهم منها إلا العلمنة الداعية إلى إقصاء الشريعة تماما" عن الحياة ... وهذا هو الكفر بعينه."
"كون العلمانية مشتقة من العلم .. هذه خديعة يجاول الغرب الكافر ترويجها لإقناع المسلمين أنها لا تخالف الإسلام...
"وأسألك ... هل كانت الدولة الإسلامية طيلة عصورها متخلفة علميا" ؟
"ألم تكن منارة العلم لقرون عدة وذلك باعتراف الكفار أنفسهم ؟!
"العلم يا أخي شيء (وهو عام) ... ومجموعة القوانين والأنظمة شيء آخر (وهو خاص بكل قوم لأنه متعلق بالعقيدة مباشرة ) .
"وعدم التفريق بين الأمرين أوقع المسلمين بين خيارين :
"إما أن يتحولوا للعلمانية بالكامل ويطالبوا بفصل الدين عن الدولة. وهذا كفر إن كان اعتقادا بعدم صلاحية الإسلام ...وإما أن يرفضوا كل العلوم التجريبية والتكنولوجيا ..."
يقر التعليق بأن تكفير الشيخ علي عبد الرازق كان خطأ، ولذلك اختار له عقوبة أخرى، هي العقوبة المتيسرة لديه، الشتيمة. فهو "يخبص وآراؤه ما أنزل الله بها من سلطان واستدلالاته عقيمة وأي طفل يستطيع الرد عليه". هو من باب الشتيمة لا لأنه يستخدم ألفاظاً نابية وكلمات سوقية، بل لأنه يطلق أحكاما مسبقة ولا يواجه الفكرة بفكرة مقابلة، ولا يقابل الحجة بالحجة بل يكتفي بألفاظ مسيئة( يخبص، عقيمة، صبيانية). لا شك في أن هذا النوع من الردود هو شكل من أشكال التكفير، لأنه ينفي عن خصمه كل الصفات العاقلة التي يتحلى بها المؤمن في سلوكه وكلامه. فالمؤمن لا يخبص ويخلو كلامه من التفاهة ولا يقول إلا الحق. ومن لا يلتزم بقواعد الإيمان ومبادئه يكون قد خرج عن الصراط المستقيم، وبالتالي يمكن اعتباره في حكم المرتد فيستحق القتل. هذا السيناريو المتخيل في النقاش مع هذا الاسم المستعار، لا ينطوي على أي تحامل، لأن التكفيريين على أنواعهم استخدموا هذا الاسلوب للنيل من خصومهم في الفكر والسياسة، فكانوا يختارون أسهل الحلول على من لا يملك غير سلاح الجهل. فمن تعوزه الحجة للنقاش، لا يبقى أمامه غير السحل والقتل والذبح والاغتيال المعنوي أو الجسدي، وفي أحسن الحالات السجن أو النفي. تلك هي لغة الأصوليات، كل الأصوليات، الدينية واليسارية والقومية، وتلك هي البنية الفكرية التي تأسس عليها الفكر الداعشي.
يستوقفنا في هذا النص أنه محاججة يتيمة، لم تنتج المؤسسة الدينية الاسلامية نسخة سواها، خلال قرنين من الزمن، وعممتها سلاحاً وحيداً بيد أتباعها، وضمّنتها هجاء للعلمانية والعلمانيين ودفاعاً شوفينياً عن الشريعة غير مبني على أية فكرة ذات قيمة، وتباهياً بتاريخ لم يطلع أحد عليه إلا عن طريق الرواية والأحاديث المعنعنة، فضلا عن استخدام للمصطلحات خارج دلالاتها الأصلية.
أول مصطلح مغلوط هو "فصل الدين عن الدولة" يتشارك مسؤولية الغلط فيه العلمانيون والدينيون على حد سواء، لأن العبارة شاعت في الحوار بين الفريقين من غير أن ينتبه العلمانيون إلى أن العبارة استخدمت بصياغتها هذه سلاحاً فتاكاً ضدهم. ذلك أن الفصل المقصود لا يمكن أن يكون بين إيديولوجيتين، إلا في العقل الديني المتزمت الذي لا يرضى بأن تجتمع فيه وتتفاعل وتتكامل وتتعايش وتتساكن ديانتان متنافستان، أو في العقل الماركسي المتزمت أيضا الذي زرع فاصلاً اسمنتياً بين الفكر المادي والفكر المثالي. بل هو فصل ممكن بين سلطتين، سلطة الدولة وسلطة الكنيسة،والفارق كبير بين العبارتين، وهو لا ينطبق إلا على الدولة الحديثة التكوين، دولة البرجوازية والحضارة الرأسمالية.
يحلو للاسلاميين أن يجروا مقارنة بين الدولة الحديثة ودولة الخلافة، مثلما يحلو لهم أن يقارنوا بين العلم الغيبي والعلم الوضعي، وهي مقارنات لا تصح بأي حال من الأحوال، لأنها بين حضارتين مختلفتين تفصل بينهما ثورة قلبت كل المقاييس والمعايير وغيرت أنماط العيش والانتاج المادي والفني والثقافي، وأنماط التفكير ومناهجه والعلاقات والقيم الاجتماعية والاخلاقية. مع هذه الثورة ولدت مفاهيم جديدة من بينها مفهوم القطيعة. غير أن التطرف تصرف مع هذا المفهوم ، كما مع سواه، بكثير من التعسف، فقطع أدونيس وأنصار العلمانية الماركسية مع "الثابت" الديني ، ورد التطرف الديني بتكفير "المتحول" باعتباره عدواناً على الشريعة.
التأويل الصحيح والسليم لمصطلح "الفصل" هو أن يكون بين شيئين متشابهين ومتنافسين، قابلين للفصل، أي بين سلطتين مثلا، لا بين السلطة ( السياسة) والفكرة ( الدين)، وهو ما تحول إلى مبدأ من المبادئ التي قام عليها النظام الديمقراطي هو مبدأ الفصل بين السلطات، أي التمييز بين الحقوق والواجبات التي تعود إلى كل منها مستقلا عن الآخر، بحسب القانون الوضعي، ابتداء بأول فصل بين سلطتي الدولة والكنيسة، فصل قبلت به الكنيسة مرغمة، وتخلت بموجبه عن الاهتمام بالشؤون المتعلقة بحياة الناس في الدنيا، وحصرت اهتمامها بشؤون الكنيسة و"التربية الروحية" للبشر. ذلك أن التنافس بينهما نشأ بفعل التناقض بين منهجين في التعامل مع المشاكل الحياتية، وبفعل حاجة المجتمعات الجديدة، في ظل الحضارة الجديدة، إلى طريقة جديدة في إدارة شؤون البشر بالاستناد إلى منجزات الفكر البشري الذي تحرر من سطوة الكنيسة، بعد أن عاش مستقيلاً لفترة طويلة في ظل سيطرتها الثقافية، إلى أن أوكل أمر الإجابة على أسئلة الوجود والعدم والحياة والموت، وعلى أسئلة الطبيعة الغامضة، إلى عقل الانسان الفرد الذي تحرر مع الكوجيتو الديكارتي، ولم ترض الكنيسة بتحريره، خوفاً من "إقصائها إقصاء تاما" ومن أن تنتزع منها امتيازاتها في التوسط مع الخالق وفي امتلاكها الحق الحصري في الاجابة على الاسئلة المستعصية.
المصطلح الثاني في النص هو العلمانية، وهي مشتقة، بحسب تعليق صاحب الاسم المستعار، من العلم، ولهذا فهي بمثابة "... خديعة يحاول الغرب الكافر ترويجها لإقناع المسلمين أنها لا تخالف الإسلام". فلا هو يعرف معنى العلمانية ولا هو يعرف معنى الدين. بل هو يخلط خلطاً عجيباً، في العلمانية، بين العلم والعالم، ذلك أنها مفردة منقولة بالترجمة إلى العربية، وهي من أصل فرنسي انكليزي، ومرادفها الأجنبي secularisme وهي مشتقة من siècle أي العصر وتتضمن معنى الزمن، ولهذا فإن أقرب ترجمة أمينة إلى العربية هو التزمين، وتزمين الدين أي جعله زمنياً، أي في هذا الزمن (الحياة الدنيا) لا في الزمن الآخر( الحياة الآخرة). وبذلك يصبح المعنى الحقيقي لكلمة العلمانية هو أقرب إلى الحياة الدنيا، مقابل المعنى الديني المتداول الوارد في النص القرآني "والآخرة خير من الأولى".
استناداً إلى هذا التفسير يغدو المعنى السياسي للعلمانية واضحاً شديد الوضوح، ويصير الفصل بين السلطتين السياسية( الزمنية) والدينية( الروحية) أكثر وضوحاً. أما النعت لاييك laique المشتق من الاسم laicite بالفرنسية، فهو لتمييز رجل الدين عن سواه، ولذلك يقال في المؤتمرات المسيحية( السينودس) أنها تضم رجال دين وعلمانيين، بمعنى أن العلماني هو من ليس رجل دين، أو من ليس من الاكليروس.
لم نجد في أي من القواميس السياسية أو اللغوية تفسيراً لكلمة علمانية يحيل إلى الكفر أو معاداة الدين، إلا في لغة رجال الدين الذين كانوا، ما قبل الدولة الحديثة، دولة البرجوازية والحضارة الرأسمالية، يهيمنون على المجال الثقافي، وبالتالي المالي والمادي، ولا سيما في مرحلة الانحطاط وسيادة الجهل والأمية، حيث كان رجل الدين يحمل نعوتاً وأوصافاً وألقاباً شتى، من بينها الحكيم (من الحكمة، ومن الكلمة العامية التي تعني الطبيب). ولهذا كان من الطبيعي أن يروا في العلمانية خطراً يهدد مكتسباتهم كلها، فلا بد إذن من استخدام الأسلحة الثقيلة في مواجهتها ولن يجدوا ما هو أكثر فتكاً، بمعايير السلطة "الكنسية" الإسلامية أو المسيحية، من سلاح التكفير.
أدونيس لم يكن الوحيد ضحية الاستدراج إلى الصراع الايديولجي مع التكفيريين. الماركسيون، هم أيضاً، وقعوا ضحية النزعة الثقافوية مرتين، في الأولى حين نقلوا نقلاً ميكانيكياً التجربة والقراءة السوفياتية للنصوص الماركسية، وفي الثانية حين قصروا عن إدراك أهمية النقد الماركسي للدين. بل إنهم في نقدهم لم يكونوا ماركسيين بتاتاً، وفهموا النقد بمعنى النفي، ومارسوه بعيداً عن المنهج المادي الديالكتيكي، وتحول النفي عندهم إلى نفي ميكانيكي، فشطبوا ما انتقدوه وعملوا على إلغائه والقضاء عليه، أو جعلوه خارج التاريخ، وتعاملوا معه كأنه عدو. هذا ما فعلوه حيال الدين مثلما فعلوا حيال الدولة، ولذلك بدت علمانيتهم، الصافية والصادقة، غريبة عن المجتمع وثقافته وعاداته وتقاليده، وحكموا على أنفسهم بالفشل من اللحظة التي بدوا فيها أنهم يستخفون بالإيمان بدل أن ينكبوا على نقد الخرافة، ويصوبون على جمهور المؤمنين لا على رجال الدين الذين يشوهون الدين ويختصرونه بطقوسه.
الماركسيون، هم أيضاً، كالإسلاميين، قرأوا ماركس عن طريق الرواية المعنعنة، وهم أيضاً اختصروه بطقوس المفاهيم الجامدة " الثابتة" التي لا تقبل "التحول" والتطور. قال ماركس إن نقد الماضي يبدأ بنقد الدين. لكنه اختار النقد سبيلاً للتجاوز لا "للقضاء على"، والتجاوز هو هو النفي الجدلي، الذي به تتحدد آليات ولادة الجديد من القديم، بحيث يحمل المولود خصائص جينية من والديه وأجداده. ومن المؤكد أن الالحاد لم يكن موضوعا على جدول عمل تفكير ماركس ولا في لائحة نتاجه المكتوب، لأنشغاله بآليات النظام الرأسمالي الاقتصادية. يكفي أن نورد ما قاله ماركس بحرفيته عن الدين لنتأكد أن ورثته كانوا الأكثر إساءة لفكره عموما ولموقفه النقدي من الدين على وجه الخصوص. فهو يقول في مقدمة كتبها في نقد فلسفة الحق عند هيغل:
"...الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته الشعبية، مناط شرفه الروحي، حماسته، جزاؤه الاخلاقي، تكملته المهيبة، أساس عزائه وتبريره الشامل. إنه التحقق الخيالي لكينونة الانسان...إذن فالنضال ضد الدين هو بصورة غير مباشرة نضال ضد ذاك العالم الذي يشكل الدين عبيره الروحي. إن الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة أخرى احتجاج عليه. ألدين زفير الانسان المقموع، قلب عالم لا قلب له، وهو روح ظروف اجتماعية لا روح فيها. إنه أفيون الشعوب"
في تسعينات القرن الماضي، قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين عن الطقوس الكربلائيه الدموية إنها تلعب في العقول دور المخدر. لو قرأ التكفيريون تأويل المرجعية الدينية لما كانوا اقتطعوا العبارة الأخيرة من كلام ماركس وعزلوها من سياقها. ولو قرأ الماركسيون ماركس من مصادره لما ارتكبوا مواجهة مع جمهور المؤمنين. ولو نجا العلمانيون، ومنهم أدونيس، من الاستدراج إلى نقاش ثقافي لقضية سياسية، واليساريون من القراءة السوفياتية لأحداث تلت موت التجربة السوفياتية، لكان النقاش استوى على حلبة الوجه الحقيقي للربيع العربي، وجه الثورة من أجل الديمقراطية.




داعش: جمع بصيغة المفرد


اخترنا التسمية بصيغة الجمع، مع أن داعش لفظ يجمع الأحرف الأولى لأربع كلمات يتشكل منها اسم التنظيم: دولة، إسلامية، عراق، شام، )الدولة الاسلامية في العراق والشام(، اعتقاداً منا بأن التنظيم الذي نبت فجأة ما بين العراق والشام ليس سوى نسخة جديدة من الأصولية ذاتها الممتدة في كل العالم الاسلامي، على اختلاف مذاهبه، وفي كل ما كان يسمى العالم الثالث، أي العالم الذي لم يدخل إلى الرأسمالية من بابها السياسي، وفي كل الأحزاب اليسارية، ولاسيما الماركسية منها، المتحدرة من التنظيم اللينيني بل الستاليني، الذي تجسدت فيه كل خصائص الاستبداد والعنف وممارسة رفض الآخر، أي النقيض للديمقراطية.
الجيل الأول من الأصولية بدأ بالحركة الوهابية وسائر الحركات التي عاصرتها كالمهدية في السودان والسنوسية في المغرب العربي والكاشانية، وهي تشاركت في النظرة إلى الغرب الحديث بكثير من الارتياب، وصنفته في خانة المعادي للاسلام والمسلمين، واستندت في ذلك إلى مدرستي أبن حنبل وإبن تيمية، وإلى نظرية سياسية تؤمن بمبدأ الحاكمية الإلهية، وبالجهاد في سبيل الله، من خلال حرب دينية تتخذ نموذجاً لها الحروب التي خاضها المسلمون الأوائل عند خروجهم من الجزيرة ونشرهم الدعوة الاسلامية بقوة السيف.
الجيل الثاني من هذا التنظيم الأصولي نشأ في مصر باسم جماعة الاخوان المسلمين، ثم راح يختار أسماء شتى على امتداد العالم العربي، التكفير والهجرة، الجهاد، الحركة الاسلامية لتطبيق الشريعة، أنصار الشريعة، جند الله، أنصار بيت المقدس، أنصار الاسلام، التوحيد والجهاد، التكفير والهجرة، حزب التحرير الاسلامي، حركة الأحباش ، حركة الجهاد الاسلامي في فلسطين، جبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر، جماعة العدل والاحسان في المغرب، وغيرها من الأسماء الكثيرة المتفرعة أو المنشقة.
الجيل الثالث هو جيل "القاعدة" ومشتقاتها والتنظيمات التي استظلت بهذا الاسم في العالمين العربي والاسلامي، وكان تنظيم داعش خاتمة العقد. قبل أن ينشأ الجيل الثالث في صفوف الطائفة السنية كان قد تشكل في صفوف الشيعة في العراق حزب الدعوة وتفرع منه في وقت لاحق حزب الله اللبناني. وفي موازاة ذلك كانت قد نشأت أحزاب شيوعية وقومية تشبه التنظيمات الاسلامية في وجوه وتتمايز عنها في أخرى.
يجمع بين كل هذه التنظيمات الدينية قواسم مشتركة كثيرة، منها الموقف السلبي من الحضارة المعاصرة وتجسيداتها الفكرية والفنية والسياسية ومنبتها "الغربي المسيحي العلماني"، وهو موقف حاول أن يتمثل الدعوة الاسلامية أيام النبي، فوصف العالم المعاصر بجاهلية القرن العشرين، وكفر كل القراءات الجديدة للنص الديني، وتشدد حيال الظاهرات السياسية اليسارية والقومية ودعا إلى استعادة الدولة الدينية، دولة الخلافة، مباشرة بعد انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وقيام الدولة العلمانية التركية بقيادة أتاتورك **، ورفع شعار الاسلام هو الحل، والحاكمية لله وحده، واعتمد "الجهاد في سبيل الله" وسيلته العنفية لتحقيق مشروعه السياسي، تمثلاً ب "السلف الصالح" وفتح العالم ونشر الدعوة بالسيف.
من جهة أخرى تحولت الماركسية اللينينية إلى دين حزبي جديد، إلى عقيدة سلفية يعتمدها كل تنظيم شيوعي ليتماثل مع الأصل. على غرار ما كانت الحركات الدينية تمارسه لتحاكي النسخة الأصلية من الدين متمثلة بالينابيع الأولى للدين، النصوص الخام وسيرة السلف الصالح. اليسار الماركسي انتهج سياسة الثورة والاستيلاء على السلطة بالقوة و"آمن" بدور خلاصي لحزب الطبقة العاملة يشبه دور النبي في شفاعته للمؤمنين، أو دور المهدي المنتظرعند الشيعة وما يوازيه في







___________________
** في العام الذي سقطت فيه الخلافة الاسلامية على يد أتاتورك وفي العام التالي، صدر في مصر كتاب الأدب الجاهلي لطه حسين وكتاب الاسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق. اكتفت السلطة بمنع الكتاب الأول فيما أحيل الشيخ الأزهري، مؤلف الكتاب الثاني على المحاكمة الدينية، وعوقب بحرمانه من المشيخة ولم يُعد الاعتبار إليه إلا بعد أكثر من عقد ونصف من السنين. وبعد عامين على المحاكمة ولد تنظيم حسن البنا، حزب الاخوان المسلمين، الذي أعدم مرشده سيد قطب في عهد عبد الناصر، بعد أن مارس حزبه العنف والاغتيال سبيلا لتحقيق أغراضه السياسية.
الديانات الأخرى، أو دور المسيح الفادي المخلص.أما الأحزاب القومية فتشكلت على صورة مشوهة من النسختين الدينية والماركسية، فلا هي نجحت في استحضار الماضي( البعث) ولا هي أنجزت مشروعها في بناء الاشتراكية العربية، بعد أن صار الشعار جزءا من برنامج ثلاثي، يضم إلى الاشتراكية الوحدة والحرية.
المدارس الأصولية الثلاث وقفت من الحضارة الرأسمالية مواقف متفاوتة( سبق الحديث عنها) لكنها اعتمدت موقفاً واحداً من أحد إنجازاتها، وهو الديمقراطية، إذ هي رفضت الآخر المختلف في الرأي الديني أو السياسي، أو المختلف بالانتماء الإتني أو الثقافي، وكفّرته وأخرجته من صفوف الجماعة.
وجه الشبه الثاني هو توسل العنف وسيلة للاستيلاء على السلطة، ثم القهر والعسف والاستبداد للاستئثار بها. هذا ما فعلته القوى اليسارية مستلهمة التجربة اللينينية، والقوى القومية مستلهمة عنف الثورة البلشفية ودكتاتورية نابليون بونابرت( معظم الحركات القومية استولت على السلطة بانقلاب عسكري، ثم تولى السلطة ضباط من الجيش) وحركات الاسلام السياسي التي جاهرت بإيمانها بالعنف واعتمدته في شعاراتها وفي أسمائها. فضلاً عن أوجه شبه أخرى جعلتنا نتحدث عن الدواعش في صيغة الجمع لا في صيغة المفرد.
السبب الذي جعل تنظيم داعش يتمايز عن سواه من التنظيمات الاسلامية هو نجاحه، بسرعة قياسية، في اقتطاع مساحة واسعة من الأرض أقام عليها دولة، مطلقاٌ عليها إسم الدولة الاسلامية في العراق والشام، ملغياً الحدود المرسومة خلال الحرب العالمية الأولى والمتضمنة في اتفاق سايكس بيكو، بحيث شملت جغرافية الدولة المستحدثة أجزاء واسعة من العراق وأخرى من سوريا. كما تمكنت داعش( سأستخدم ضمير المؤنت للإشارة إلى داعش، ربما جرياً على عادتنا بمخاطبتنا المنظمات الفلسطينية أو لأننا نتعامل معها بصفتها ميليشيا وليست حزباً ) من بسط سيطرتها العسكرية وتأمين مواردها المالية وإدارة شؤون "دولتها" بالحديد والنار والتهجير والإبادة الجماعية والسبي والاسترقاق والاتجار بالنساء، واستخدام كل وسائل العنف التي لا تتسع لها المخيلة.
في اللحظة الاولى لقيامها انشغل المحللون بتفسير الأسباب والعوامل التي سهلت لها اقتطاع أجزاء واسعة من الدولتين العراقية والسورية، كما انشغلوا بالبحث عن هوية القوى التي ساعدتها وعن مصادر تمويلها. أصابع الاتهام طالت الجميع، وبالدرجة الأولى النظام السوري الذي استمر، منذ ما قبل اندلاع الثورة في سوريا، يقدم مساعداته من غير انقطاع للأصولية السنية في العراق العاملة باسم مقاومة الاحتلال الأميركي، ويليه النظام العراقي الذي نخره الفساد ما انعكس على بناء جيش من كرتون سرعان ما تهاوى أمام هجوم داعش. بعضهم رأى أن للقوى الاقليمية مصلحة في قيامها، المملكة السعودية ودول الخليج للمساعدة على إسقاط النظام العراقي الموالي لإيران، وإيران لتبرير تدخلها المباشر في الشأن العراقي وتثبيت سيطرتها الميدانية على الجيش والدولة وتأمين الحشد الشيعي تأييداً لتدخلها، وأميركا لتبرير عودتها إلى العراق لمساعدة الدولة ضد التدخل الإيراني.
بصرف النظر عن دقة هذه التحليلات ومستوى صوابيتها، فقد حددت داعش هدفها من اللحظة الأولى، وهو يقضي بإقامة دولة الخلافة الاسلامية، وأعلنت عن اسم أحد قادتها خليفة، محققة في ذلك حلماً راود الأصولية الاسلامية على الأقل من منتصف عشرينات القرن العشرين، أي من لحظة سقوط دولة الخلافة في اسطنبول أو القسطنطينية أو الآستانة، وبات الأساسي أمام أي مراقب أن يقرأ ملامح مشروع الدولة تلك وبرنامجها.
أول ما يمكن أن يوصف به مشروعها هو أنه إقصائي، أي أنه لا يقبل داخل حدود دولتها إلا من يدين بدينها ويؤمن إيمان قادتها، ومن لا ينطبق عليه ذلك يستحق عقوبة الالغاء بالنفي، ومنهم كثيرون تمكنوا من الهرب قبل أن تدركهم الميليشيات، أو بالقتل، وقد نفذت داعش عقوبات وإبادات جماعية بحق مخالفيها، لتثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنها لا تستعمل الاسلام كعقيدة بل كإيديولوجية، أي كأية حركة سياسية أخرى تبغي الوصول إلى السلطة وتحقيق أهداف دنيوية وليس أهدافاً دينية. ذلك أن أعداء داعش في أغلبيتهم الساحقة مسلمون أيضاً، على تنوع مذاهبهم وانتماءاتهم الاتنية.
قبل ظهور داعش، ساعد النظام السوري على تنظيم ميليشيات مسلحة من عناصر أسلامية جندها خلال وجودها في السجن، ثم أطلقها في وجه المعارضة السلمية، مستخدماً فزاعة الارهاب المنفلت من عقاله المتجسد بنزعة داعش الاقصائية لتخويف الرأي العام الدولي، ولتصويرها أنها هي التي تشكل الخطر الرئيسي على نظامه وعلى المنطقة، محاولاً إقناع الغرب بالوقوف إلى جانبه ضد الثورة. وقد نجح النظام في ذلك حين أقنع كلا من روسيا وإيران وبعض الدول الدائرة في فلكهما وبعض الدول التي اختارت المواجهة مع الامبريالية، وكان حزب الله من بين تلك القوى الميليشيوية التي جندت عدداً كبيراً من المقاتلين لمساندة النظام السوري.
إذا استعرضنا القوى التي تواجه داعش ذات النزعة الاقصائية "التكفيرية"، نجد أنها قوى تنضوي في تحالف عرف بجبهة الممانعة العربية والدولية، قوى معروفة بنزعتها الاقصائية التكفيرية هي الأخرى. إيران خارجة لتوها من ربيع اعتقل قادته أو فرض عليهم نوع من الإقامة الجبرية، النظام السوري وحزب البعث الحاكم الذي أرسى تقاليد التكفير السياسي من ستينات القرن الماضي بقتل المعارضين أو نفيهم أو سجنهم، النظام العراقي "الشيعي" المؤتمر بأمر إيران، الذي حشد في مواجهة عدوان داعش على الدولة قوى من خارج الدولة أطلق عليها اسم الحشد الشعبي( وهو حشد شيعي) ليحول المعركة من معركة وطنية إلى معركة مذهبية، فضلاً عن حزب الله اللبناني(الشيعي) وبقايا قيادات في الأحزاب الشيوعية. النزعة التكفيرية لدى جميع هؤلاء المناصرين للنظام السوري تضاهي تكفيرية داعش.
مصطلح التكفير يصلح مدخلاً لتبرير التسمية بالجمع (دواعش) وليس بالمفرد، وسبيلاً لرسم معالم المعالجة. " التكفيري" مصطلح استحضره النظام السوري من التراث السياسي والديني و روّج له في إطار معركته ضد المعارضة، وتلقفه حزب الله لتبرير تدخله في سوريا لصالح النظام، وهو بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، من يكفّر الآخرين ،أي يحكم عليهم بأنهم غير مؤمنين ، لأنهم لا يؤمنون بما يؤمن ويتعامل معهم على هذا الأساس ،وبمعناها الاستعمالي هو من يستخدم العنف ضدهم ويحل دمهم ويرى أن " الجهاد ضدهم باب من أبواب الجنة". بعد استخدامه في الحقل السياسي اكتسب معنى الخصومة والعداء للرأي الآخر حتى لو لم يكن الأمر يتعلق بالشأن الديني.
التكفير الديني هو، في حد ذاته وبالمعنى الفقهي، كفر، لأن الله ترك الحرية لعباده " .... فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"( الكهف 29). ولم يترك لأحد ،حتى لأنبيائه، الحق في المحاسبة في الحياة الدنيا "...إنما أنت مبلّغ ولست عليهم بمسيطر" (الغاشية 22)،.
التكفير ، بالمعنى المستخدم عمليا الذي يروج له المتقاتلون ، هو إذن تكفير سياسي يشهره كل فريق سياسي سلاحا إيديولوجيا في وجه خصومه، بل هو لم يستخدم في التاريخ ، حتى من جانب الفرق الدينية ، إلا في إطار التنافس والصراع على السلطة ، أو في إطار حمايتها من " خطر " الرأي الآخر.
السلطة السياسية كفرت سقراط ، والسلطة الكنسية كفرت كوبرنيكوس وحكمت عليه بالحرق حياً، وحكمت على غاليليه بالإعدام لولا تراجعه عن تبني أفكار كوبرنيكوس أمام الجمهور، فخفضت العقوبة إلى الإقامة الجبرية حتى مماته. السلطة السياسية احرقت كتب إبن رشد ورمت ابن حنبل في محنة. الأئمة الشيعة ماتوا قتلا وقبلهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين لأن خصومهم السياسيين كانوا يكفرونهم. جمال الدين الأفغاني مات مسموما في الآستانة بسبب أفكاره ، يعني أنهم كفًروه ، كذلك الكواكبي في منفاه الاختياري في مصر. صلاح الدين الأيوبي كان من قلة من عشرات الولاة والقادة الذين لم يموتوا قتلا، لأن من أرسل لاغتياله لم تطعه كفه بحمل الخنجر المسموم.
كل الانقلابات العسكرية وأشكال العنف، في العالم وفي العالم العربي، حصلت بفعل ذريعة التكفير، لأن السلطات لاتؤمن بأفكار الانقلابيين. كل المنفيين والمسجونين والمغتالين في العالم العربي كفّرهم خصومهم قبل أن يعاقبوهم. كفّروهم لا لأنهم جدّفوا على المقدس الديني بل على المقدس السلطوي. ستالين تعقب تروتسكي حتى أميركا اللاتينية ليغتاله، وقتل أستاذه الذي علمه الفلسفة، مكفراً إياه، متهماً إياه بالانتماء إلى المانشيفيك قبل الثورة. كمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري من ديانات ومذاهب مختلفة في لبنان، ماتوا اغتيالا، والقاتل واحد ( ليس اتهاما أمنيا وقضائيا بل سياسي). لا لأنهم كفروا بالدين أو لأنهم كانوا غير مؤمنين، بل لأنهم كفروا بسياسة صاحب السلطان، أي عارضوها، ولأنهم لم "يؤمنوا" بسياسة الحاكم ولا ببرنامجه ولا بأسلوب قيادته ، أي لأنهم لم يكونوا مطيعين .
التكفير إذن هو نهج كل المتطرفين والمتعصبين والأصوليين في كل الديانات كما في الأحزاب والتيارات السياسية. التكفيري إذن هو الأصولي الذي لا يقبل الرأي الآخر ولا يعترف به، وشعاره " أنا أو لا أحد". وهو الذي يعتقد أن رأيه هو وحده الصواب، وكل مخالف يستحق المسح، بلغة الكمبيوتر، والنفي بلغة ماركس وهيغل، والسحل بلغة الثورة العراقية، واللحو والقطاف بلغة الحجاج بن يوسف الثقفي والي البصرة، والتدمير بلغة السيارات المفخخة، والتذويب بالأسيد بلغة الوحدة العربية، وتدمير الأوطان بلغة حزب البعث الأسدي.
كيف يمكن، والحالة هذه، أن يكون أحد التكفيريين على حق والآخر على صواب؟ البغدادي (الخليفة) طلب من "أسود الدولة الاسلامية في العراق والشام، أن اشفوا غليل المؤمنين، ثبوا على الرافضة الحاقدين والنصيرية المجرمين وعلى حزب الشيطان والوافدين من النجف وقم وطهران" فيما كرر حسن نصرالله في أكثر من خطاب نعت التكفيريين "بأنهم نابشو قبور وقاطعو رؤوس، معلناً أنه سيواجه عدوانهم في أي زمان وأي مكان وكيفما كان..." الاقتباسان من موقع مازن العزي الإلكتروني، بتاريخ 2-2-2015). فإذا لم تكن الأسباب دينية أو فقهية فماذا عساها تكون؟
من غير المفيد لهذا البحث الانجرار وراء نقاش فقهي لنحكم لصاحب الحق في قضية التكفير، اعتقاداً منا بأن المسألة لا علاقة لها بالفقه، ويكفينا تأكيداً على ذلك أن نعود إلى البيان التاريخي الذي أصدره الأزهر الشريف بتاريخ الثامن من يناير كانون الثاني 2012، أي بعد مرور عام على الربيع المصري، وسنقتبس منه مقطعاً يتناول قضية التكفير ونضعه بنصه الحرفي. يقول البيان الأزهري:
" كما يترتب أيضًا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقرَّ من نظم دستورية بل بناء على ما استقر – قبل ذلك - بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قرّرتها الشريعة السمحاء في الأثر النبوي الشريف : ( هلا شققتَ عن قلبه) والتي قررها إمام أهل المدينة المنورة الإمام مالك والأئمة الأخرون بقوله : " إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حَمْلُه على الكفر " وقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل فى الإسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه : " إذا تعارض العقل والنقل قُدَّم العقل وأُوِّل النقل " تغليباً للمصلحة، المعتبرة وإعمالاً لمقاصد الشريعة ."
بعد أقل من عامين على صدور هذا البيان، أصدر الأزهر الشريف، بتاريخ 11ديسمبر 2014 توضيحاً لخطاب مفتي نيجيريا الشيخ ابراهيم صالح الحسيني، وقد أثار التوضيح في حينه ردود فعل صاخبة بسبب امتناع الأزهر عن تكفير داعش. ورد في التوضيح ما يؤكد الموقف المبدئي من هذه المسألة: "أن كل من في المؤتمر من علماء الأمة يعلمون يقيناً أنهم لا يستطيعون أن يحكموا على مؤمن بالكفر مهما بلغت سيئاته... وأن المؤتمر عقد في الأساس لمواجهة فكرة تكفير الآخر وإخراجه من الملة ، مشيراً إلى أنه لو حكمنا بكفرهم (داعش) لصرنا مثلهم ووقعنا في فتنة التكفير"
ليست المرة الأولى التي يتم فيها تناول قضية التكفير في الأزهر الشريف، فقد سبق لشيخ الأزهر أحمد الطيب أن أبدى رفضه أن تحكم بعض الفضائيات بتكفير الشيعة، وأكد أنه "لا فرق بين السني والشيعي، إنما هي عملية استغلال سياسي"، كما سبق للباحث الاسلامي محمد عمارة أن وضع كتاباً عن "فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية"، وطالب بإصدار فتوى جماعية يشترك فيها كل علماء الأمة، من المذاهب المختلفة ، بتحريم تكفير أي مسلم ووضع خطة طويلة المدى لتهذيب كتب
التراث في المذاهب الاسلامية المختلفة وحذف الأحكام التكفيرية الواردة فيها.غير أن هذا الكتاب أثار ضجة حين نشره عام 2006، لأنه أورد نصاً لأبي حامد الغزالي يكفر فيه النصارى واليهود. كأن الشيخ حسن مشيمش أراد أن يحسم تلك الضجة حين أورد على صفحته الالكترونية الفيسبوك، بتاريخ 29 أيلول سبتمبر 2015 آية قرآنية تتناول هذه القضية بالذات وهذا نصها: { وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لايَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }. ما يعني أن قضية التكفير قضية قديمة تتجدد وتستعاد حين تستدعي الظروف السياسية ذلك، وبالتحديد، حين يوظف رجل الدين النصوص في خدمة السياسة، أو بالأحرى حين يقرر رجل الدين أن يتحول إلى رجل سياسي أو أن يتدخل، على الأقل في الشأن السياسي، على غرار ما يفعله البغدادي زعيم داعش أو حسن نصرالله زعيم حزب الله.






تسييس الدين

تدخل رجال الدين في الشأن السياسي قضية طرحت منذ طرحت قضية العلمنة، وفصل سلطة رجال الدين عن سلطة الدولة( وليس فصل الدين عن الدولة) لكن طرحها في ذلك السياق أساء إلى الدين وإلى العلمانية على حد سواء. ذلك أن لرجل الدين، كما لسائر البشر ولسائر المواطنين، أن يتمتع بسائر الحقوق الممنوحة لسواه، ومن بينها حرية العمل السياسي. السياق القديم قدم صورة مقلوبة، يبدو فيها كأن الدولة الحديثة تعادي رجل الدين وتنبذه، فيما يشير واقع الحال إلى أن رجل الدين هو الذي بدأ يعادي الحداثة من أساسها، ويعادي اكتشافاتها العلمية منذ غاليليه، ولا يقيم وزناً لكل مناهج البحث التي وفرت للبشرية شروطاً أفضل لا لفهم العالم( بالميكروسكوب والتلسكوب) فهماً أعمق فحسب، بل حتى لفهم الدين فهماً صحيحاً،( أفتى رجال الدين في بلاد الشام بتحريم المطبعة مع أن أول كتاب صدر بالعربية هو القرآن)، وهو الذي أصر على المضي ضد عجلة التاريخ، زاعماً احتكار الحقيقة، ومساوياً بين إيمانه والإرادة الإلهية، مبرراً لنفسه ممارسة أسوأ أنواع الاستبداد في الرأي.
شعر رجل الدين أن الحداثة العلمية والسياسية تعتدي على موقعه ودوره وسلطته، فلذلك اتخد منها موقفاً سلبياً من اللحظة الأولى، فراح يرشقها بسهامه جاعلاً النص الديني متراساً يختبئ وراءه ويتحصن به، ويحصنه، في الوقت ذاته، من تعدد القراءات التي ما كان لها أن تتعدد لولا أساس سياسي ظهر مع الحضارة الرأسمالية، عنوانه الاعتراف بحق الاختلاف وبالرأي الآخر وبالتعدد والتنوع، ولولا أساس فلسفي عنوانه الحرية وبدايته حرية الفكر، ممثلة بالكوجيتو الديكارتي. تعدد القراءات جعل " النص في ذاته مجرد احتمال"( فيصل دراج)، ما دفع رجل الدين إلى الاصرار على قراءة أحادية تكفّر ما عداها، فرسم لنفسه خطة هجوم مضاد قوامها قراءة تلوي عنق النص الديني الموجود وتعتمد نصوصاً أخرى غير موثوقة، ومفتاح القراءة فيهما هو الخلط المقصود بين الدين والفكر الديني.
سبق لمفكرين عربيين أن اكتشفا "لعبة" رجال الدين، فكتبا عن الفكر الديني، أي عن التفسير البشري للدين، وتعرضا لهجوم شرس ووجهت إليهما تهمة الإساءة للدين وأحيلا على المحاكمة. صادق جلال العظم خرج من القضاء اللبناني بحكم براءة، فيما أدين نصر حامد أبو زيد وأرغم على مغادرة البلاد ومات في منفاه. الفكر الديني، بما هو وعي عامي للدين، يستند إلى القراءات الشائعة التي يعممها رجال الدين، ناقلين القداسة من النص الى تفسيره الوحيد، بواسطة محتكر القراءة، أي إلى رجل الدين، في عملية تزوير مفضوحة للنصوص وتأويلاتها.
النقاش الفقهي متاهة يهواها رجال الدين حين يغوصون في بحر التأويلات والأحاديث المعنعنة ويستندون إلى تفسيرات مغلوطة، بل مزورة، لبعض الآيات القرآنية، وإلى نصوص مهجورة، يفتعلون لتناقضاتها وتعارضاتها تبريرات خالية من أي منطق. مثل هذا النقاش معهم عقيم لأنهم يحفظون سردية وحيدة معممة عليهم، تقوم على نقل القداسة، عن طريق الإزاحة، من الوحي إلى النبي إلى الأئمة المعصومين والمرجعيات الدينية والفقهاء والقضاة ثم إلى رجل الدين، ومن بعده رواة الحديث وقراء العزاء والمؤذنين والعاملين في تنظيف المساجد وغسل الموتى وحراس المحاكم الشرعية وسائقي سيارات القضاة.
تبدأ السردية بقراءة مغلوطة للأية 59 من سورة الحشر "وما آتاكم به النبي فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "، فيفسرون لفظتي "آتاكم و نهاكم" على أنهما دعوة للتقيد بكل ما قاله النبي، بما في ذلك من خارج الوحي، متجاهلين أسباب نزول الآية( فيها دعوة للمقاتلين بالالتزام بما يسمح لهم النبي بأخذه من الغنائم في الحرب)، متسلحين بآية أخرى، يأخذون بنصفها الأول (وما ينطق عن الهوى) ويهملون الثاني(.... إن هو إلا وحي يوحى)، ثم يجعلون أنفسهم "ورثة الأنبياء" استنادا إلى حديث غير مسند(العلماء ورثة الأنبياء)، ليدّعوا ، استنادا إليه، أنهم يرثون من النبي علاقة مباشرة بالسماء.
الجزء الثاني من السردية يقوم على تزوير القراءة لآية من القرآن الكريم (الآية رقم 7 من سورة آل عمران) " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيع فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب" يكتفون بقراءة شطر منها( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، ويعتبرون أنفسهم هم المقصودون برسوخ العلم، ويتجاهلون تتمتها(والراسخون في العلم يقولون آمنّا)، فيقعون في الخطأ مرتين، حين يساوون أنفسهم مع الله في العلم، بتوقفهم عند النصف الأول من الآية، ثم في القراءة الخادعة حين لا يتابعون قراءة النصف الثاني من الآية.
جانب الخطورة في سلوك المعممين وفي تصريحاتهم هو نتيجة منطقية لأقتطاعهم مسحة من القداسة هي ليست من حقهم، إذ إن القداسة هي لله وحده وللكتب المقدسة. حتى الأنبياء لم يجيزوا لأنفسهم ما أجازه رجال الدين. ففي القرآن آيات عديدة تؤكد على أن النبي يتساوى مع سائر المؤمنين في كونه بشرا ولا يمتاز عنهم إلا في الشأن المتعلق بالوحي .
لا نقول جديدا حين نميز بين الدين والفكر الديني، فالكلمة الشهيرة التي توجه بها الإمام علي إلى من رفع المصاحف في معركة صفّين، "إن القرآن لا ينطق بذاته، بل يحتاج إلى رجال"، قصد بها أن القرآن "حمّال أوجه" أي حمال قراءات. ذلك يعني أن الفكر الديني يتأثر بالمستوى الثقافي في المجتمع أو لدى الأفراد، وبالتالي فإن إصرار رجال الدين على التمسك بأكثر القراءات قدماً لا يعني سوى إعادة النص الديني إلى "ما قبل العقل في الإسلام"، بحسب تعبير محمد عابد الجابري، أي إلى المرحلة التي سبقت عصر التدوين وعلم الكلام والفلسفة والنهضة العلمية في العصر العباسي، كما يعني ميلاً لدى رجال الدين إلى مجاراة الفهم العامي للدين بدل الارتقاء به نحو التفسيرات والتأويلات والاجتهادات التي يضعها الفقهاء.
ليس سرا أن عدد المعممين يتناسب طردا مع نمو الجهل والأمية في العالم الإسلامي، وأن العدد الأكبر منهم هم من الراسبين في صفوفهم الدراسية الابتدائية أو المتوسطة (وضاح شرارة، دولة حزب الله)، وأن معظمهم لا يتقنون اللغة العربية، ما يجعل من الصعب عليهم، إن لم يكن من المستحيل أن يفهموا النص القرآني فهما صحيحا، ولذلك يعملون، تغطية لجهلم، على اختزال الدين بمجموعة من الطقوس الجامدة، من بينها طقوس الموت والزواج، أو بمجموعة من التعاليم يفرغونها من محتواها الفلسفي ويخالفون فيها جوهر النص الديني.
وليس سرا أن عدداً من المعممين والناشطين في الحقل الديني لا يكتفون بمنح أنفسهم المراتب والألقاب، كالعلامة والأمير والداعية وغير ذلك من صفات، من غير رقيب ولا حسيب ولا لجنة فاحصة ولا امتحان أهلية، بل يجعلونها وسيلة لتحقيق مآرب ومصالح ومكاسب دنيوية، أو غطاء لارتكابات أخلاقية واجتماعية وسياسية يندى لها الجبين، من بينها التحريض الطائفي والمذهبي الرخيص، فيما لا يتورع بعضهم عن قبول أدوار وضيعة، تغطية على ارتكابات أهل السلطة السياسية، أو تنفيذا لأوامر أجهزتها الأمنية والمخابراتية.
إذا كان تشريع العنف لغايات سياسية في العصر الحديث قد بدأ مع الستالينية، واعتمدته أنظمة سياسية توتاليتارية، إلا أن من قام بتعميمه وتشريعه في بلادنا هي تيارات مارست السياسة باسم الدين وأغلقت باب الاجتهاد وفتحت باب القتل على شبهة الاختلاف ومنعا للتنوع، أسوة بتاريخ القتل الذي كان سائدا في كل المجتمعات القديمة شرقا وغربا .
لم يحصل ذلك بسبب تزوير مقصود لأحداث التاريخ ، بل لأن بعض من تنطحوا للتفسير والتأويل قرأوا الأحداث والنصوص بعيدا عن ثقافة العصر الحديث، ولم يحصلوا، لا من العلوم الدينية ولا من الوضعية، على ما يمكنهم من عصرنة الدين، فلم يعثروا في تراثنا الغني على غير مفردات التكفير والتخوين والردة والقتل يرمون بها كل مخالف لهم بالرأي أو الدين أو العقيدة أو مغاير لهم بالتأويل والتفسير، ولم تكن التجربة الأفغانية أيام حكم طالبان حدثا عابرا في تاريخ الاسلام السياسي، بل هي ساعدت، مع غيرها من التيارات والشخصيات في العالم الاسلامي، على تعميم الموقف العدائي من الفن والتراث ومن انجازات الحضارة الحديثة وحقوق الانسان، ولا سيما الموقف من الحرية والديمقراطية والموقف من حق المرأة في العلم والعمل أسوة بالرجل، وعلى تعميم ظاهرة العنف والاغتيال السياسي والعداء للآخر وخصوصا للغرب ، وصبغ العالم الاسلامي بصبغة الارهاب .
فيما تسعى السلطات المعاصرة إلى إلغاء عقوبة الاعدام أو الحؤول دون تنفيذها أو إلى تضييق حالات تنفيذها ، رغم أن الحكم بالإعدام يصدر باسم الشعب والقانون والعدالة ، نرى بعض من يمنحون أنفسهم ألقابا دينية يسيرون عكس تيار الحضارة الحديثة ، فيقرر شخص منهم بمفرده ، مجيزا لنفسه باسم الدين، إصدار أحكام بالقتل الجماعي والاغتيال. أي دين يرضى بذلك أو يجيزه؟ أية جاهلية هذه ؟
الأدهى من كل ذلك، وبصرف النظر عن النقاش المتعلق بعلاقة الدين بالدولة، أن الأصوليات الدينية أثبتت، خلال توليها السلطة السياسية، أنها فاقت الأصوليات الأخرى القومية واليسارية عسفا وظلما، وهذا ما بينته تجارب أفغانستان والصومال والسودان وغيرها، أو تجارب طالبان والقاعدة وسائر الأحزاب التي صنفت إرهابية، وذلك لأنها بعثت من تحت ركام الماضي نموذجا للحاكم بصفته ممثلا الله على الأرض، بالحاكمية أو بولاية الفقيه، وأنها راحت تدير شؤون البشر، في عصر الإلكترونيات، بعقلية البدو الرحل، بعيدا عن الأنجازات التي حققتها البشرية في علم السياسة، ولا سيما الديمقراطية التي تنطوي، في أحد معانيها، على تأمين أوسع مشاركة للناس في إدارة شؤونهم. كما أنها بعثت من رماد الماضي لغة السحر والخرافة وعقلية الأباطيل التي لا علاقة لها بالعقل الحديث.
هل آن الأوان ليقول الفقهاء الكلمة الفصل ويستأنفوا حركة الاصلاح الديني ، تأويلا واجتهادا، دفاعا عن الدين ، ثم دفاعا عن وحدة أوطان مهددة بجهل الجهلاء واستبداد المستبدين وتسلط المتسلطين على شؤون الناس في دينهم ودنياهم؟





إصلاح ديني أم إصلاح سياسي


نخلص مما سبق إلى أن داعش ظاهرة بالجمع لا بالمفرد، وأن إقامة الدولة الاسلامية في العراق والشام هو تعبير جديد عن مشروع قديم رفعت لواءه كل حركات الاصلاح الديني، الوهابية في الحجاز والمهدية في السودان والسنوسية في المغرب العربي، ولا سيما في ليبيا، وغيرها في اليمن وفي العراق. وقد انقطع سياق هذا المشروع في مرحلة الاستقلال، ونهض بديلاً عنه مشروع قومي كانت الأوطان القطرية منطلقاً له.
لا شك أن بين المشروعين الديني والقومي تباينات كثيرة. قد تكون داعش وكل المشاريع ذات الايديولوجية الدينية أكثر تجسيداً للتخلف الفكري والاجتماعي، وأكثر وحشية في ممارسة العنف ضد الآخر المختلف في الدين أو في العرق أو في اللغة، وضد المرأة، وضد الحضارة الحديثة والعلم وكل أنواع الفنون، غير أن بينهما قاسماً مشتركاً أساسياً على الصعيد السياسي هو الموقف من الدولة الحديثة والديمقراطية.
التجربتان القومية والدينية صالحتان لاستخلاص دروس مفيدة تساعدنا على إعادة تشخيص أمراضنا وعلى وصف العلاج. الدرس الأول هو أن حركات الاصلاح الديني الأولى حصرت برنامجها في إطار الدين، باستثناءات قليلة تعود إلى أفراد كالأفغاني ومحمد عبده، اعتقاداً من رواده بأن أسباب التخلف في عالمنا العربي تعود إلى فهم مغلوط للدين، ولذلك اقتصرت معالجاتهم على برامج تتمحور حول العودة إلى أصول الدين وتخليصه مما علق به من بدع وضلالات وخرافات وأساطير، ولا يتحقق ذلك إلا باستحضار السلف بسيرته وثقافته وقيمه. فكان من الطبيعي أن تؤسس حركة الاصلاح الديني لأصوليات(العودة إلى الأصول) وسلفيات( العودة إلى السلف)، وكان من الطبيعي أيضاً، أمام تعدد الأصول والأسلاف والمدارس والمذاهب الفقهية، أن تتعدد حركات الاصلاح الديني.
أما البرامج التي تجاوزت الشأن الديني إلى سواه فقد كانت محدودة جداً. السنوسية، وإلى حد ما المهدية، أضافت إلى برنامجها الديني صيغة جديدة لإنتاج الثروة وتوزيعها، يمكن تشبييه بالتعاونيات في الاقتصاد الحديث، من غير أن يكون لمنجزات الحضارة الحديثة في العلم والصناعة أي دور في عملية الاصلاح تلك. فلم تشمل تلك البرامج أي إصلاح زراعي أو تربوي أو ثقافي، ربما لأن مصدره "غربي مسيحي مادي"، على ما كانت تنعت به الحضارة الوافدة من أوروبا، والتي لم يعتمدها سوى محمد علي باش في مصر في القرن التاسع عشر.
الدرس الثاني هو أن الجيل النهضوي الثاني الذي بدأ نشاطه مبعثراً، منذ أواخر القرن التاسع عشر ومناهضة الاستعمار الانكليزي في مصر، ثم تعمم في كل العالم العربي خلال مرحلة الاستقلال، واستمر حتى بوعزيزي، أخفق هو الآخر في معالجة أمراض التخلف، مع أنه تجاوز برامج الجيل الأول نحو إصلاح اقتصادي وثقافي، وحقق قفزات في مجالات التنمية والتربية وتعميم التعليم والجامعات.
إلا أن إخفاق الجيلين يعود إلى سبب مشترك، وهو أياً منهما لم يلج الاصلاح من بابه السياسي، ووقف موقفاً عدائياً من الديمقراطية والدولة الحديثة، وحافظ على الصيغة القديمة لدولة الوراثة. ذلك أن الفارق الأساسي بين نوعي الدولة هو وجود عنصر جديد في الدولة الحديثة لم يكن موجوداً في القديمة. هذا العنصر هو الشعب. في الأنظمة الحديثة الشعب هو مصدر السلطات، ولا تقوم الدولة ولا الأوطان إلا بأركان ثلاثة أولها الشعب، ثانيها الأرض، ثالثها السيادة الوطنية، أي سيادة الشعب على أرضه. الجيلان، بأصولهما الدينية والقومية واليسارية، تعاملا مع الشعوب على أنها رعايا، مع تمايز القيادة اليسارية التي حكمت نوعين من الرعايا، رعية حزبية وأخرى شعبية، وعملا على تعزيز انتماءاتها الدينية والقبلية والعشائرية، على حساب الروابط المدنية التي تصنع الأوطان، وفي هذه الحالة يكون صاحب السلطة والسلطان هو الراعي. راع ورعية، فبماذا إذن تبنى الأوطان؟
من ناحية أخرى، تناول كل من الفكر القومي والفكر الديني قضية الماضي والتراث بمنهج الثنائيات المغلوطة (التعبير لمحمد عابد الجابري)، مثل التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، الماضي والحاضر، فبدا للكثيرين منهم أن تكريم الماضي هو السبيل لبناء المستقبل، وتكريمه يقضي بالعودة إليه وإحيائه، أو على الأقل إحياء ما أسماه بعضهم "الجانب المضيء"، فالتقى الطرفان على الاهتمام به، كل على طريقته، فتسمى حزب البعث بهذه التسمية انطلاقاً من منهج الرؤيا ذاك، وكانا على موعد مع اليسار الماركسي الذي يعتقد أن الجديد لا يمكن أن يولد إلا بموت القديم، وأن نقد الماضي يبدأ بنقد الدين، فتضافرت الجهود الفكرية من أجل إعادة قراءة التراث، ولاسيما الديني، وتولى هذه المهمة مفكرون كبار من المشرق والمغرب، من بينهم حسين مروة والطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وسواهم، وكان الجزء المضمر من همهم هو الاصلاح الديني.
لا محاولات العودة إلى الأصول، ولا تلك قراءة الأصول قراءة نقدية، تمكنت من تحقيق إصلاح ديني كالذي حصل في مجتمعات أخرى ومع أديان أخرى. قد تفيدنا التجربة الأوروبية في تفسير النجاح الذي تحقق على يد البروتستانتية في الشمال الأوروبي وتعممت نتائجه على سائر أنحاء العالم المسيحي.
الملاحظة الأساسية التي تحكم نظرتنا إلى الاصلاح هي أن الصراع داخل الكنيسة لم ينته بغالب ومغلوب بالمعنى الفقهي واللاهوتي للكلمة. فقد ظلت ساحة الصراع محصورة داخل أوروبا، بين شمالها الإصلاحي وجنوبها المحافظ، بين الكنيسة اللوثرية وتلك المتفرعة منها من جهة، وكنيسة روما من جهة أخرى، ولم تكتب نهاية المعركة الدموية الطويلة بين الطرفين إلا بالحبر السياسي، وكان النصر المعنوي فيها من نصيب حركة الاصلاح البروتستانتي، لكن الذي حقق النصر هو نابليون بونابرت الذي عقد مساومة مع بابا روما تقضي بأن تتخلى الكنيسة عن اهتماماتها الدنيوية لسلطات الدولة الحديثة الناشئة على أن تتولى الأخيرة حماية الكنيسة وحرية الإيمان والمعتقد وممارسة الطقوس.
الملاحظة الثانية هي أن حركة التجديد الديني نجحت في توسيع رقعة انشارها في المقاطعات والبلدان التي وقف حكامها من الأمراء إلى جانب اللوثرية، وفشلت في الجنوب حيث كان نفوذ البابوية ممتداً بين إيطاليا ومدريد. والثالثة هي أن الثورة الفرنسية لم تحسم الصراع لصالح تيار فقهي ضد تيار آخر، فقد ظلت فرنسا على ما كانت عليه، يدين معظم سكانها للكاثوليكية لا للبروتستانتية، ما يؤكد أن مضمون الاصلاح الديني ليس دينياً.
الملاحظة الرابعة هي أن بلدان العالم الأخرى التي تدين بالمسيحية لم تشهد حروباً مماثلة لتلك التي حصلت في قلب القارة الأوربية، ولا هي احتاجت إلى نقل الصراع إلى أراضيها وإلى انقسام المؤمنين بين كنيستين. فقد حصل الاصلاح الديني في كل مكان، من غير صراع وانقسام ومذاهب وتيارات، وانحصر مضمونه في أمر واحد هو الفصل التام والكامل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، والتزام الكنيسة حقها في الاشراف على التربية الروحية للبشر، بحماية مباشرة من سلطات الدولة الحديثة، من غير أن يؤثر ذلك سلباً أو إيجاباً على أعداد المؤمنين ولا على انتشار الكنائس ولا على حجم الاستقبالات الجماهيرية للحبر الأعظم في العالم.
لا الاصلاح الديني ولا أشكال الصراع ولا طيبعة الحل انتقلت إلى بلادنا في صورها السليمة والصحيحة. فقد اختفى من الصورة الشكل الأساسي للصراع بين طرفين دينيين، لتحل محله نتائج الصراع. من ناحية أخرى، لم تكن البروتستانتية طرفا في حل النزاع الديني بين الكاثوليكية والبروتستانتية، أو النزاع التاريخي بين الجنوب والشمال في أوروبا، لترسو المحصلة على ما بدا أنه هزيمة الكنيسة أمام الحاكم المدني( وهو بالمناسبة لم يكن مدنياً بل عسكري، نابليون )، وقد صورها المحافظون في بلادنا على أنها هزيمة للدين، فكراً وقيماً وطقوساً وعبادات ولاهوتاً وناسوتاً، أمام العلم الحديث.
تصوير الأمور على غير حقيقتها يتحمل مسؤوليتها رجال الدين والجهل، إذ صارت العلمانية في قاموسهم مرادفاً للالحاد، وصارت الدولة الحديثة، دولة القانون الوضعي، تشكل عدواناً على الشريعة، وأنظمة الحكم الديمقراطية عدواناً على الحاكمية الإلهية. وهكذا تكون الأمور قد تعقدت وصار من المحتم أن تؤول الاشكالية المغلوطة إلى معالجات مغلوطة، وأن تتورط بلداننا في حروب ونزاعات لا تفضي إلا إلى المزيد من الحروب والنزاعات، خصوصاً إذا كان أطراف النزاع من طبيعة واحدة، تماماً كما هي الحال في الحرب الدائرة بين داعش وخصومها، الحرب التي تفرض على شعوب المنطقة أن تختار بين استبدادين، لا بين النهضة والتخلف ولا بين التراث والحداثة، ولا بين القديم والجديد، ولا بين الاشتراكية والرأسمالية.
تحقق الاصلاح الديني إذن لا بغلبة فريق على آخر بل بموافقة الكنيسة على قبول الآخر، بقبولها التعدد والتنوع؛ لا بغلبة تأويل على تأويل واجتهاد على اجتهاد، بل بتعايش المختلفين على التأويل والاجتهاد. إنه حل من طبيعة سياسية فرضته التحولات التي حصلت بفعل الثورة الفرنسية، ولا سيما بعد أن كبدت الحروب الدينية أوروبا كثيرا من الخسائر البشرية ومن عدم الاستقرار، من غير طائل. الاصلاح الديني أتى إذن من السياسة: توسيع الأطار الكنسي ليتسع لأكثر من كنيسة ومذهب وتيار، وحصر دور الكنيسة وصلاحياتها في التربية الروحية للمؤمنين، وإخراجها من بطن السياسة.
أزمة الاصلاح الديني الاسلامي في العالم العربي، كما الأزمات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تنبع من التشخيص المغلوط، المبني على نظرية المؤامرة. فقد أجمعت الأصوليات على تحميل المسؤولية للرأسمالية والاستعمار والصهيونية، حتى باتت هذه الكلمات الثلاث بمثابة "اللازمة" في مطلع كل خطاب تخويني، وخارطة طريق لاعتقال أهل الرأي المختلف من المعارضة السياسية والفكرية والدينية . صار العدو الخارجي شماعة تعلق عليها كل مفاسد الحاكم، من نهب المال العام إلى انتهاك الدستور، في حال وجوده، إلى سوء استخدام السلطة والنفوذ، وأرسيت تقاليد ثقافية وفكرية وسياسية شوهت المعاني وحرفت القيم.
برامج الأصوليات الدينية تكاد أن تكون واحدة في كل البلدان وواحدة على اختلاف المراحل . من الوهابية والسنوسية والمهدية وسواها حتى الحركات الإسلامية المعاصرة : الإسلام هو الحل . وحورب برنامج الشيخ محمد عبده القائل إن باب النهضة هو المدرسة، وأفتى علماء الشام بتحريم المطبعة، على ما ورد في "كاتب السلطان" لخالد زيادة . المدرسة والمطبعة من نتاج غرب قيل فيه إنه المادي المسيحي الملحد الاستعماري، إذن من نتاج العدو الخارجي.
وبرامج الماركسيين واحدة: الاشتراكية هي الحل، وترجمتها إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وفك التبعية عن الاستعمار أو الاستقلال الاقتصادي، أي بمحاربة الرأسمالية بصفتها عدواً خارجياً يتطلب ابتكار أحدث الصيغ للانكماش على الذات .
وبرامج القوميين واحدة : وحدة حرية اشتراكية، ثالوث مبرراته للبناء واهية أمام مبرراته لمحاربة الخارج. وباسمه انتهكت الحريات وقامت الانقلابات وتم القضاء على بذور الديمقراطية الفتية في مصر وسوريا والعراق . كل ذلك باسم محاربة الاستعمار وأعوانه من الرجعية المحلية . فوق ذلك، لم تقف "المآثر" عند حد الاستخدام المسيئ لتلك الشعارات، بل تعدته إلى الإمعان في تفتيت الوحدة القومية ووحدة الأوطان كل على حدة، فانتقلت بلداننا من العالم الثالث إلى الرابع أو الخامس، ولم يبق على الكرة الأرضية أنظمة وراثية غير الأنظمة العربية.
مع هذه الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج تتأكد فكرة المؤامرة ورسوخها في عقل الحاكم، إذ ما من حركة اعتراضية قامت إلا وكانت، في نظره، من فعل فاعل خارجي، وفي رسوخ نهج الحروب والمواجهات، إذ إن أحب أساليب المعالجة على قلبه هو العنف، حتى لو أدى ذلك إلى حروب أهلية أو إلى تفتيت الوحدة الوطنية أو إلى مجازر جماعية .
هنالك ظاهرة أخرى بينتها تلك الانتفاضات هي انهيار البنى الحزبية القديمة، إما بغيابها الكامل عن الساحة، أو بوقوفها في الصفوف الخلفية والتحاقها المتأخر بركب الحركات الاعتراضية أما الأحزاب المستعصية على النقد فما زالت موجودة من حيث الشكل لكنها في طريقها إلى الانهيار بعد انتقال المبادرة إلى قوى جديدة من الفيسبوك واليسار الإلكتروني، وارتباكها حين تطرح قضية العلاقة بالخارج، ولا سيما حين يكون هذا الخارج "استعماريا ورأسماليا أو من صفوف الشيطان الأكبر"، كما هي الحال في الأزمة الليبية، حيث لم يكن سهلا على الأحزاب " الثورية والتقدمية " بنسختها القديمة، الوقوف في الوقت ذاته مع الثورة الليبية ومع المساعدات الدولية للثورة .
ظاهرة ثالثة بالغة الأهمية في تلك الانتفاضات تمثلت في كونها قدمت الدليل القاطع على أن أسباب تخلفنا كامنة في الداخل، وأن الخارج قد يكون محفزا على التقدم أوقد يكون معيقا، وذلك بحسب طبيعة القوى الداخلية وطبيعة برامجها، وعلى أن أحد أهم أسباب هذا التخلف هو الاستبداد الذي كان يمارس على شعوبنا العربية بألف شكل وشكل؛ بالالتفاف على الدساتير في حال وجودها، أو بإلغائها وفرض قوانين الطوارئ، باسم مواجهة العدو الخارجي، (قانون الطوارئ عمره عشرات السنين في مصر وسوريا)؛ وبإلغاء حق الانتخاب، حيثما تنص الدساتير على هذا الحق، ذلك أنه حتى في البلدان التي تحصل فيها الانتخابات في العالم العربي كان يتم اختيار الحاكم بالوارثة أو بالتعيين أو بضمان الفوز المسبق؛ وبحكم الحزب الواحد وإلغاء كل صيغ الاختلاف والتنوع والتعدد أو بتحويل هذين التنوع والتعدد إلى عوامل تفتيت وطني وأدوات حروب أهلية؛ وبكم الأفواه وتقييد حرية الإعلام والرأي والمعتقد، الخ، الخ. ولذلك كله اقتصرت برامج الثورات كلها على شعار واحد : الشعب يريد تغيير النظام، وكان المقصود في ذلك القضاء على الاستبداد.
على أن أهم انجازات هذه الانتفاضات العربية هو تحرير مصطلح الثورة واسترداده ممن احتكروه وصادروه واستولوا عليه وشوهوا مضمونه. لقد عممت الحركة القومية العربية والحركات القومية المشابهة ( في إيران مثلا) معنى الثورة على أي انقلاب يقوم به عسكريون أو معممون ، ويكتفون من خلاله بتغيير السلطة الحاكمة من دون تغيير النظام، غير أن ما يحصل اليوم في بعض أجزاء العالم العربي هو الثورة ، بل هو الثورة الوحيدة وما تبقى ليس سوى انقلابات.
شكوك كثيرة قلصت من احتمالات تسميته ثورة. وما أكثر المبررات والحجج التي تؤكد تلك الشكوك. مع ذلك نحن نميل إلى تسمة الربيع العربي ثورة لما بينه وبين أحداث القرن الثامن عشر في أوروبا من شبه. فهو يشبه الثورة الفرنسية لأنه يحاول نقل العالم العربي، لأول مرة في تاريخه الحديث ، من أنظمة الحكم الوراثي إلى الديمقراطية. على أن المقارنة تثبت وجه الشبه من غير أن تلغي الخصوصيات.
تحول التشكيك إلى إحباط عند البعض، لأن الهدف الافتراضي من الثورة هو التخلص من نظام الاستبداد الوراثي والانتقال إلى نظام يتم فيه تداول السلطة عبر الانتخابات الحرة. غير أن الاستبداد أطل برأسه وجدد نفسه في صناديق الاقتراع، ما جعل الشكوك بالديمقراطية وآلياتها وطرق تطبيقها ونتائجها تتضاعف، وطال ذلك الربيع كله ومبرراته من حيث المبدأ والأساس، ووصلت المقارنة حدودا غير منطقية لدى من دفعته شكوكه إلى مناصرة الأنظمة القديمة ضد الثورة ، بذريعة أن هذه الثورات لا يمكن أن تكون ذات أهداف نبيلة إن هي كانت مدعومة من أنظمة الامبريالية العالمية وأعوانها المحليين.
الاحباط شعور طبيعي عند من احتفظ لنفسه بصورة عن الثورة نقية غير ملطخة بدم أو جريمة أو شكل من العنف، ومتطابقة فحسب مع تلك الموجودة في مخيلة ملائكة التغيير والإصلاح والتجديد. وهو طبيعي أيضا عند من يعتقدون أن الثورة عملية بسيطة تنقل نقلا ميكانيكيا المجتمع من حال إلى حال، ولا يرون فيها مخاضا يشبه كل الولادات مليئا بالآلام، أو من ترسخت في أذهانهم صور عن الثورة تشبه صور الانقلابات الفوقية التي تشبهت بالثورات، ونماذجها كثيرة في عالمنا العربي. وهو طبيعي أيضا عند من يفهم الديمقراطية فهما مغلوطا أو على الأقل ملتبسا.
تأكيداً على تشكيك بالربيع العربي مصدره القوى اليسارية وسواها، كانت قد ترسخت في الأذهان في أعقاب الثورة البولشفية أفكار ربطت بين الثورة والتغيير الاجتماعي الاقتصادي الذي يفضي إلى الاشتراكية. هذا هو المعيار للثورة. لكن ما غاب عن ذهن المشككين أن مثل هذا التحول البطيء كان قد حصل في الغرب قبل قيام الثورة الفرنسية بمئتي عام على الأقل ، ويؤرخ له علماء التاريخ باكتشاف أميركا وسقوط غرناطة وسقوط القسطنطينية، أي النصف الثاني من القرن الخامس عشر(1453-1492). تأكيداً على ذلك، يقول جاك مرسيليا أن الثورة هي " الاختتام المفاجئ والعنيف لعملية شارك في صناعتها عشرة أجيال". الثورة الفرنسية هي تتويج للتغييرات الاقتصادية والثقافية التي سبقتها في الظهور خارج فرنسا، وعلى وجه التحديد، في البلدان المنخفضة وبريطانيا. وقد عد ذلك ثورة في هذين المجالين، أحدثت انقلابا جذريا في حياة البشر، لم يكن أمام الثورة الفرنسية إلا أن تتوجه في الحقل السياسي، وتشكل له الضمانة للاستمرار في أطر ومؤسسات وقوانين.
بين أيار وتشرين الأول من العام 1789 " دمر الفرنسيون كل ما كان قد بناه ملوكهم بأناة وصبر منذ عصور"(المصدر نفسه)، غير أن البلاد دخلت في نفق الفوضى، النفق ذاته الذي لم تبلغ فرنسا، ومعها أوروبا الرأسمالية، الصيغة الحديثة من الديمقراطية، إلا عند نهايته، غداة الحرب العالمية الثانية. بين 1789 و1944، حربان عالميتان مدمرتان، وحروب استعمارية متنقلة جسدت العنف الدموي للحضارة الرأسمالية .
تأكيداً على هذه الفكرة يستعرض إريك هابزباوم في كتابه عن عصر الثورة في أوروبا، (مترجم إلى العربية في المنظمة العربية للترجمة وصادر عنها، التوزيع لمركز دراسات الوحدة العربية)، يقول:
" ... أواخر القرن الثامن عشر هو عصر الأزمات لأنظمة الحكم القديمة ونظامها الاقتصادي في أوروبا. كانت العقود الأخيرة من ذلك القرن حافلة بحركات التململ والاضطراب السياسية التي قاربت أحياناً حدود التمرد، وبالتحركات المطالبة بالاستقلال في المستعمرات، وقد بلغت أحياناً حد المطالبة بالانفصال، ولم يقتصر ذلك على الولايات المتحدة(1776-1783)، بل شمل أيضاً إيرلندا(1782-1784) وبلجيكا ولياج(1787-1790) وهولندا (1783-1787) وجنيف وحتى، كما تقول بعض التحليلات، أنكلترا (1779). وكان في التمايز المدهش بين هذه الكوكبة من حركات التململ السياسي ما دفع بعض المؤرخين المحدثين إلى الحديث عن"الثورة الديمقراطية" التي كانت الثورة الفرنسية إحداها، وإن كانت الأعمق وقعاً وأبعد أثراً"
1789 عام الثورة، لكن الجمهورية الأولى تأسست في سنة 1792، وتوالى على الحكم حتى سنة 1848 أمبراطوران وثلاثة ملوك، وحصلت ثورتان وقامت ثلاث جمهوريات. وفي 1880، "رست باخرة الثورة في الميناء ، بعد قرن كامل من المحاولات الناجحة والفاشلة وحالات التقدم والتراجع " ( المصدر نفسه)، التي اعتبرها بعض المؤرخين ، رغم امتدادها على مسافة مئة عام ، مرحلة انتقالية .
بين 1791 و1875 أكثر من عشرة نصوص دستورية . بعد الدستور الأول ، كانت فرنسا ملكية من غير ملك وجمهورية من غير رئيس ولا حكومة. في آذار 1793 ثورة على الثورة، وفي حزيران من العام ذاته كانت كل محافظة تصنع ثورتها على طريقتها، ولا من يوحد ولا من يجمع أشتات الفوضى الثورية .
في ربيع 1793 تحالفت ضد الثورة الفرنسية كل الكيانات الأوروبية، أنكلترا، الدول الألمانية ، النمسا، إسبانيا، بروسيا، البرتغال، روسيا، دوق بارما، دوق مودينا، ملك نابولي، والكرسي البابوي. في حزيران من العام ذاته أقر الدستور الذي لم يطبق أبدا (على غرار الدستور العثماني 1886 الذي ما أن بدأ تطبيقه في انتخابات مجلس المبعوثان حتى علقه السلطان). وفي العام ذاته أعلنت شرعة حقوق الأنسان .
لم تهدأ الأمور إلا بعد تدخل الجيش بقيادة نابليون في أكتوبر، تشرين الأول 1795. بعدها خاض الجيش الفرنسي معركته الأولى في أيطاليا فأخضع بيامون ولومبارديا، وفي 1797 هزم الجيش النمساوي، وفي 1798 دخل إلى مصر.1804 أول نص للقانون المدني المؤلف من 2281 مادة.
1814 عاد شقيق لويس الرابع عشر عودة مظفرة، ووقع الميثاق الذي كان على لويس الرابع عشر أن يوقعه، ويقضي بقيام ملكية دستورية. 1830، فر شارل العاشر، وحل البرلمان وعلقت حرية الصحافة، وانتخب لويس فيليب الأول ملكا لفرنسا. 1848 أنتفاضة في باريس، ودستور جديد وانتخاب رئيس للجمهورية، هو حفيد نابليون بونابرت، ونافسه الشاعر لامرتين. 1852 عاد نابليون الثالث أمبراطورا ... الخ
في تلك الفترة كانت قد توحدت ألمانيا وأيطاليا وتشكلت كيانات جديدة في الحضارة الرأسمالية وارتسمت حدود بين الدول المستحدثة المتحدرة من سلالة الرجل الأوروبي المريض (مملكة إسبانيا ومملكة هابسبورغ والدول - المدن في إيطاليا ) وقامت بلدان على طريقة سايكس بيكو، ونشبت نزاعات وحروب صغيرة انتهت بالحربين العالميتين. بعد الثانية اقتنعت دول الحضارة الرأسمالية بأهمية الديمقراطية لتنظيم العلاقات بين الدولة والمواطنين، وبأهميتها في تنظيم العلاقات فيما بينها، فيما بينها فحسب.
هل سيأخذ الربيع العربي بالمواقيت والمهل التي احتاجت إليها الثورة الرأسمالية في أوروبا؟ طبعا لا، لأن وسائل الاتصال قصرت المسافات واختصرت الزمن، لكن قد يكون من الضروري أن يتنبه المشككون بالربيع العربي إلى أن التاريخ إن أمهل فهو لا يهمل . مع الربيع العربي دخلنا في النفق المؤدي إلى قلب صفحة الأنظمة الوراثية وأنظمة الاستبداد. ولا يمكن لأحد أن يقدر كم سيكون النفق طويلا.



ربيع مرجأ إزهاره


سبق القول إن الربيع العربي هو الثورة، وكل ما كان قبله ليس سوى انقلابات، وأنه هو الثورة الأولى بعد النبي محمد، ومقياسنا في ذلك هو الانتقال من مرحلة حضارية إلى مرحلة أخرى. الثورة الاسلامية نقلت المجتمع في الجزيرة العربية ومحيطها من حضارة البداوة وتدجين الحيوانات والرعي والاقتصاد الريعي (الاعتماد على ما تنتجه الطبيعة) إلى حضارة الزراعة وتدجين الأرض، أما الربيع العربي فقد أطلق شارة العبور إلى حضارة العمل المأجور والصناعة الرقمية، من الباب السياسي الذي استمر موصداً منذ قرنين من الزمن، أمام احتمال الدخول إلى أنظمة سياسية غير وراثية، أي أمام الانتقال من أنظمة الاستبداد الاقطاعية إلى الديمقراطية.
من ناحية أخرى، أثبتت أحداث الربيع وجود رابط وثيق بين بلدان العالم العربي، لأن شرارة بوعزيزي لم تشعل ما حولها في ليبيا ومصر فحسب، بل انتقلت كالنار في الهشيم إلى كل أرجاء الأمة من محيطها إلى خليجها. لكن هذا الرباط القومي بات ينطوي على مضمون مختلف عن ذاك الذي جمع أطراف الأمة على امتداد القرن الماضي. فبعد أن كان هذا الرباط مشحوناً بالتوق إلى الوحدة وإلغاء الحدود بين بلدان العالم العربي، اتخذ، مع ثورة تونس، منحى آخر يغلب عليه الحرص على صون الحدود القطرية، إما لمنع تسرب الثورات بين الأقطار، إما لأن منسوب التطور متفاوت بين بلد وآخر، وكذلك منسوب الاستبداد، مثلما هي متفاوتة أيضاً طبيعة العلاقات والمصالح المشتركة بين كل بلد عربي على حدة والعالم الخارجي، ما يعني أن عملية العبور إلى الديمقراطية ليست واحدة في كل مكان، بل هي ستأخذ أشكالها الخاصة ارتباطاً بالتقاليد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتعلقة بكل قطر من الأقطار.
من جهة، نجح هذا التفاوت في تكريس الحدود بين الدول العربية، وفي تكريس الكيانات القطرية القائمة من مرحلة الاستقلال، ومن جهة أخرى نجحت داعش، في المقابل، في إلغاء الحدود القديمة، داخل باديتي الشام والعراق، بين الدولتين الشقيقتين المحكومتين لفترات طويلة من تاريخهما الحديث باستبداد حزبي واحد، وأعلنت قيام دولة اقتطعتها من جغرافية الدولتين، وجذبت إليها مناصرين من كل أنحاء العالمين العربي والاسلامي. كما أثبتت أحداث الربيع أن وحدة المصير التي شكلت ركناً رئيساً من أركان المشاعر القومية استمرت تشكل ركناً رئيساً في تحديد مستقبل الربيع العربي، فبدت حادثة بو عزيزي بمثابة شارة انطلاق للثورة في كل أنحاء الوطن العربي وليس في تونس وحدها.
انتشار وهج الحادثة على امتداد الأمة من المغرب حتى الخليج العربي ومن سوريا حتى اليمن شكل رداً على ادعاءات اليسار التقدمي القومي الذي هلل للثورة، معتقداً أنها ضد سياسات التبعية للاستعمار والتخاذل أمام الصهيونية، من غير أن يشارك فيها لأنه شكك ببرامجها وبقياداتها. كما شكل نفياً قاطعاً لنظرية المؤامرة، وتأكيداً على وجود سبب جامع مشترك حرك الأحداث في بلدان متنوعة ، بل متفاوتة في أنظمتها بين الريعي و الرأسمالي (الطرفي ) الذي يستلهم الأنماط الغربية للانتاج، والاقتصاد الموجه الذي يستلهم النمط السائد في المنظومة الاشتراكية، فكان من المنطقي ألا يكون المشترك اقتصادياً، بفعل هذا التفاوات والتنوع، وأن يكون سياسياً، وهو بالتحديد الاستبداد الرابض على صدر الأمة مجسداً بأنظمة الوراثة الجمهورية والملكية.
إذا صح أن الربيع هو ثورة تبغي نقل بلدان العالم العربي إلى الديمقراطية، فذلك يعني أنها ثورة للدخول إلى الحضارة الرأسمالية وهي، في الوقت ذاته، ثورة سياسية داخل الرأسمالية. ولذلك، من الطبيعي أن تصح مقارنتها بعمليات انتقال أخرى حصلت في العالم، بدءا بالتجربة الأم في أوروبا، ثم في سواها من البلدان والقارات.
الملاحظة الأولى هي أن موجة التغيير الأولى انطلقت من فرنسا الثورة ووصلت أول ما وصلت إلى العالم العربي من طريقين، الاحتكاك المباشر مع مجيء نابليون إلى مصر والتدخل الأوروبي في أحداث جبل لبنان، وغير المباشر بانتقال العدوى عبر السلطنة العثمانية، إذ من المعروف أن تركيا شهدت محاولتين دستوريتين في ثلاثينات القرن التاسع عشر وخمسيناته قبل سن الدستور في عام 1886 وانتخاب مجلس المبعوثان، ثم تعليقه وتعليق أعمال المجلس المنتخب حتى نهاية عهد السلطان عبد الحميد في العقد الأول من القرن العشرين. غير أن العالم العربي تعامل مع الوافد الجديد تعاملاً سلبياً محفوفاً بكثير من الريبة، خلافاً لما حصل في مناطق أخرى من العالم
الملاحظة الثانية هي أن الثورة السياسية في أوروبا هي التي لعبت دور الحكم وحسمت الصراع بين الكنيسة والحضارة الرأسمالية، وأزالت العقبة الإيديولوجية من طريق تطور العلوم والاقتصاد الحر، الأمر الذي حصل نقيضه في العالم العربي، فيما بدا أن محاولة الانتقال السياسي نحو الديمقراطية شكلت هدفاً شاركت في رميه بالسهام بنية ثقافية محكومة بالفكر الغيبي، وبنية اقتصادية معاقة بفعل التطور الرأسمالي اللامتكافئ بين المركز والأطراف( سمير أمين)، وبنية سياسية متحدرة من سلالة الأنظمة القديمة أو من الانقلابات العسكرية، وهي أنظمة تتقاسم النزعة الاستبدادية بحلتيها السلطانية والنابليونية.
الملاحظة الثالثة هي أنه بات على العالم العربي أن يخوض غمار ثوراته الثلاث الدينية والسياسية والاقتصادية في آن واحد، ما يجعل مهمات الربيع أكثر تعقيداً وصعوبة من مثيله في بلدان أخرى من العالم، لعبت فيها البرجوازية الكبرى دوراً أكثر جرأة، فتولت بنفسها قيادة الثورات وخوض غمار التغيير، في حين أوكلت هذه الطبقة الأمر لسواها من مخلفات القوى السياسية القديمة أو لأصحاب البيان رقم واحد، من الجنرالات العسكرية أو الدينية.
الملاحظة الرابعة هي أن الربيع العربي انفجر في لحظة حرجة من العولمة والصراعات الدولية والاقليمية، ما جعل نجاح عملية التغيير المحلي رهناً بنجاحها على المستوى العربي العام، نظراً للترابط القومي الذي سبق الحديث عنه، ولتشابك المصالح الدولية في هذه المنطقة الحساسة من العالم، الأمر الذي يفاقم من صعوبات الربيع ويضغط على البلدان التي تتميز بنضج ظروف الثورة فيها لكي تتمهل وتكبح جموحها الثوري وتنتظر بلداناً أخرى لتنضج ظروفها. هذا يعني أن التغيير الموضعي مؤجل إلى أن تتأمن شروط نجاحه شاملاً الأمة من محيطها إلى خليجها، وسيستعاض عن التغيير السياسي الفعلي نحو الديمقراطية بتسويات مؤقتة متلاحقة إلى أن تشق حركة الاصلاح الديني طريقها وتبلغ نهايتها السعيدة. بتعبير آخر، لن يصل الربيع إلى شاطئ الأمان إلا حين يختفي العنف الديني الذي تمثله ظاهرة الدواعش المختلفة، وعلى رأسها الدولة الاسلامية في العراق والشام.


آفاق الاصلاح الديني


في الفقرات التي حاولنا فيها أن نعالج قضية الاصلاح الديني، استندنا إلى مقارنته بالاصلاح الكنسي في أوروبا، واستخلصنا من التجربة الأم أن الاصلاح الفقهي، على أهمية قراءة النصوص المقدسة قراءة جديدة على ضوء المناهج العلمية وإعادة تأويلها وتفسيرها، لم يكن هو العنصر الحاسم في إيصال الاصلاح إلى خواتيمه، وأن نتائجه الدينية اقتصرت على انشقاق الكنائس البروتستانتية عن كنيسة روما. غير أن نتائجه السياسية كانت هي الأهم، إذ أدى الانشقاق إلى إضعاف الكنيسة وساعد سلطة نابليون على الاستفادة من الانشقاق لتكريس مبدأ الفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة.
عند تطبيق هذا الاستنتاج على حركة الاصلاح الديني في العالم الاسلامي، نجد مجموعة من الفوارق والاختلافات، من بينها أن "الكنيسة الاسلامية" أجهضت الاصلاح الفقهي والسياسي من لحظته الأولى، فاتهمت جمال الدين الأفغاني بإيمانه وبدينه، وكفّرته وتطابق موقفها منه مع موقف الباب العالي فمات الأفغاني مسموماً في الآستانة، ثم اتهمت تلميذه الشيخ محمد عبده بالعمالة للانكليز وأفرغت مشروعه الاصلاحي من مضمونه التربوي التعليمي، ملتقية في ذلك مع مصلحة الخديوي ورغبته في وراثة عرش الخلافة، وتعاونت معه على تكفير الشيخ علي عبد الرازق، الذي أفتى بالفصل بين السلطتين الزمنية والدينية، فأزاحته عن دوره الديني وطردته من الأزهر، مفسحة في المجال أمام تمكين الشيخ رشيد رضا من وراثة حركة الاصلاح وإعادة ربطها بالمبادئ الوهابية، تمهيداً لنشوء أول حزب سياسي ديني هو جماعة الاخوان المسلمين بقيادة حسن البنا في مصر.
كان من الطبيعي، مع موت حركة التجديد الديني في مهدها، أن تنبعث الانشقاقات القديمة وتنبعث معها كل الانتماءات الاتنية والعشائرية في ظروف مؤاتية مكنتها من التعايش كمؤسسات أهلية في كنف الدولة المدنية الناشئة وعلى حسابها، وهكذا تكون الكنيسة الاسلامية قد كسبت المعركة بتجميدها حركة التطور عند الصراع السني الشيعي وعند الاصطفافات القبلية الأكثر رسوخاً من مؤسسات المجتمع المدني، وبحظرها التعامل مع الحضارة الجديدة إلا بما يضمن الحفاظ على مصالح رجال الدين وسلطاتهم الطقوسية بل وهيمنتهم الثقافية على الوعي الشعبي، ولا سيما على وعيهم السياسي.
من هذا الموقع كانت المؤسسة الدينية تعارض أي سلطة سياسية تقلص من صلاحياتها وتدعم أي سلطة تمنحها موقعاً مقرراً أو مؤثراً في مؤسسات الدولة الناشئة، وذلك من خلال وزارات الأوقاف والتعليم الديني وقوانين الأحوال الشخصية وإدارة شؤون المساجد والمحاكم الشرعية والجبايات المالية، حتى صار لتلك المؤسسة كيان داخل الدولة يتمتع بشيء من الاستقلال الذاتي وهامش كبير من حرية الحركة منح رجال الدين فرصة العمل بين المؤمنين لتنظيمهم وتأطيرهم في الأنشطة السياسية بل الحزبية. وهذا هو معنى أن تكون داعش وسائر الأحزاب الدينية قد تأسست بتواطؤ كامل بين السلطات السياسية والمؤسسة الدينية.
إذن ما العمل؟ وما هي الآفاق؟
لن يأتي الحل من الباب الفقهي إذن. تجديد القراءة والتأويل وفتح باب الاجتهاد قد تشكل عوامل مساعدة على الأصلاح، لكن الاصلاح لن يأتي إلا من الباب السياسي، أي من قرارات واضحة وحاسمة بحصر صلاحيات المؤسسة الدينية ضمن حدود التربية الروحية وممارسة طقوس الإيمان، على ألا يناط بها أي شأن يكون من اختصاص الدولة في إدارة الشؤون العامة للمواطنين.
لا شك أن باب التجديد الفقهي يحتاج بدوره إلى قرار سياسي ليكون مجدياً. فما أكثر الدراسات المعمقة في الدين على ضوء العلوم الحديثة( الجابري، أركون، شحرور، حسين مروة، الطيب تيزيني، محمد باقر الصدر وغيرهم)، وما أكثر الفتاوى والاجتهادات الصادرة عن مرجعيات دينية كالأزهر والنجف، غير أنها لم تجد طريقاً إلى بنية الفكر الديني، أي أن المؤسسة الدينية لم تعمل على استثمارها وتوظيفها في إعلاء شأن الوعي الديني الشعبي، ولا حتى في رفع المستوى الثقافي لدى العاملين في الحقل الديني. ومن أسف أن المؤسسة الدينية لم تتعامل فحسب مع الباحثين والاساتذة الجامعيين والمستشرقين فحسب بهذه الطريقة، بل شملت بسياسة الاستخفاف والتجاهل والمجافاة هذه ما أنتجه كبار المفكرين الاسلاميين والفقهاء والمجتهدين، مفسحة بذلك الطريق أمام ظاهرات غريبة نبتت على جسد المؤسسة وتشكلت على صورة أحزاب أو حركات دينية يتزعمها دعاة وأمراء ومشايخ يدعون نسباً بالأئمة والسلف الصالح، وتمسكت بالوعي الديني القروسطي المبني على الخرافات، واختزلت الدين بالطقوس، وضربت عرض الحائط بكل المنجزات الفكرية الدينية والفلسفية التي توصل إليها الفقهاء والمفكرون والفلاسفة والباحثون، وكفرت الحداثة ونعتتها بجاهلية القرن العشرين. كان من الطبيعي أن تفضي تلك الظاهرات إلى بروز الدواعش في كل مكان تتيح لها السلطتان الدينية والسياسية البروز.
هل تنتهي هذه الظاهرات بالقضاء على الدواعش؟ لا نظن أن الأمر بهذه البساطة. قبل داعش ظهرت القاعدة وهما من سلالة أجيال من التطرف بدأت من الاعتقاد بأن الحداثة بكل وجوهها تشكل عدواناً على الحضارات الدينية، وهي لن تنتهي إلا حين يقتنع العاملون في الحقل الديني بضرورة إجراء مصالحة، بل مصالحات مع حضارة العصر، بكل وجوهها الفكرية والاقتصادية، والسياسية منها على وجه الخصوص.
المصالحة الأولى مع التيار العلماني. فقد نشأ التباس من اللحظة الأولى في العلاقة بين الطرفين، فظهر التشدد العلماني حيال الدين في الشعار المغلوط، فصل الدين عن السياسة، وهو مغلوط لأن النزاع لم يكن مع الدين بل مع المؤسسة الدينية، أي مع السلطة الكنسية المسيحية والاسلامية، وأن الفصل المطلوب لا يمس الدين بل سلطة رجال الدين الذين ينظرون بعين الريبة إلى العلمانية واتهموها بالالحاد.
المصالحة الثانية مع الدولة الحديثة وقوانينها الوضعية، وهو أمر يتطلب حزماً من جانب السطلة السياسية، واقتناعاً من جانب المؤسسة الدينية، بضرورة الفصل بين سلطة الدولة وسلطة المؤسسة الدينية، وحصر نشاط هذه الأخيرة في التربية الروحية للبشر، وخضوعها للقوانين التي ترعى الجمعيات والأحزاب، وخصوصاً لجهة مراقبة ميزانياتها، وإلغاء كل ما يمكن اعتباره من صلاحيات الدولة، وضم المحاكم الروحية إلى القضاء المدني واحترام قوانين الاحوال الشخصية المرعية في الطوائف والمذاهب إلى جانب قانون للأحوال الشخصية اختياري خاص بالدولة، على أن تتولى الدولة حماية حرية المعتقد وممارسة الطقوس كجزء من مسؤولياتها في حماية الحريات وحقوق الانسان.
المصالحة الثالثة مع التاريخ. فقد ثبت أن كل الأصوليات، بما هي نزوع حاد للتعلق بالأصول، وكل الحركات السلفية، بما هي تعلق مرضي بما سلف ومضى، تنظر إلى الماضي بعين القداسة، وتتعامل بعدائية مع كل حركات التجديد، وهي المسؤولة عن بروز الثنائيات الضدية المغلوطة، كالحداثة والأصالة، القديم والجديد، التراث والحداثة، على أن يكون السبيل إلى احترام الماضي، وليس إلى تقديسه، هو استلهامه لبناء الجديد، على أساس القطيعة المعرفية ومضمونها الايجابي الذي يعني أن الجديد لا ينفي الماضي ولا يلغيه بل يولد منه.
خارطة الطريق إلى هذه الحلول النظرية محفوفة بالحروب والصراعات الدموية وباحتمالات شتى جرّب الربيع العربي معظم أشكالها. الشكل التونسي للحل، وهو الأقل كلفة، الذي لعب فيه الجيش دوراً محورياً في البداية، ثم القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في وقت لاحق، وخصوصاً الموقف المميز باعتداله لحركة النهضة الاسلامية، ما جنب البلاد شرور الحرب الأهلية، فنالت تونس جائزتها المستحقة، نوبل للسلام؛ الشكل المصري، وكان للجيش دور أكبر في منع البلاد من الانزلاق نحو حروب داخلية؛ أما البلدان الأخرى، ليبيا وسوريا واليمن، فقد فرضت عليها سلطاتها الحرب الأهلية خياراً وحيداً مانعة على الجيوش لعب دور مستقل عن مصالح الحكام.
الربيع الأكثر دموية حصل في كل من العراق وسوريا. في الأولى احتاج التغيير إلى اجتياح عسكري شاركت فيه كل القوى الأطلسية والعربية بيسارها ويمينها، أطاح بنظام الاستبداد في غياب البديل المحلي الديمقراطي، ما فتح الباب أمام صراعات مذهبية غذتها وفاقمتها تدخلات خارجية، ولا سيما من جانب إيران ونظام الملالي، الذي توسل الحروب الدينية لتحقيق أغراضه السياسية، فوسع دائرة نشاطه وساعد في إنشاء حزب الله اللبناني، وتحالف مع النظام السوري ضد المعارضة، وساعد على تأجيج الصراع المذهبي في العراق، وعرض التعاون مع الأصولية الاسلامية في فلسطين، ومع الحوثيين في اليمن، ما جعل بعض الربيع العربي يتخذ منحى الحرب الاقليمية بين إيران والخليج العربي، ويدخل بلدان الربيع في تعقيدات دولية عسكرية وسياسية قلصت من دول القوى المحلية في تقرير مصيرها ومصير الربيع العربي.
أما في سوريا فكان الوضع أكثر عنفاً ودموية، وهذا عائد إلى طبيعة النظام الشمولي، نظام الحزب الواحد الذي يقوم على عبادة الفرد وتوريث السلطة وتعليق الدستور وإعلان الأحكام العرفية وإلغاء الآخر في الداخل ( سجن أو نفي أو اغتيال) وعلى الصعيد القومي، حيث كان حزب البعث يتعامل مع كل القوى القومية الأخرى التي لا تدين بعقيدة البعث، كعبد الناصر وياسر عرفات، بمثابتها عدواً، ومن هذا المنطلق استأثر بالسلطة في سوريا، وحاول أن يستأثر بالقرار الوطني الفلسطيني وصادر القرار الوطني اللبناني، وشارك في الهجوم الغربي على العراق لإسقاط صدام حسين، فكان من الطبيعي أن يسلك النظام السوري أكثر دروب العنف دموية للحفاظ على مواقعه، في مواجهة المعارضة وثورة الربيع. وقد استخدم في سبيل ذلك كل أوراقه المتوفرة والمحتملة ومن بينها إطلاق العنان للحركات الأصولية واستخدامها، في المرة الأولى في مواجهة "الاحتلال" الأميركي للعراق، وفي الثانية لمواجهة المعارضة المحلية في سوريا، ومن تلك الحركات في سوريا والعراق نشأت داعش، الدولة الاسلامية في العراق والشام.
في دول الحروب الأهلية، كما هي العادة والقاعدة، تكون الأزمات ممراً إلزامياً لتدخل خارجي. هذه كانت حال كل من ليبيا واليمن وسوريا والعراق. في هذا السياق شكل لبنان حالة نموذجية، لأن رغبة المعارضة بإحداث تعديلات ديمقراطية على النظام السياسي تقاطعت مع تعقيدات القضية الفلسطينية والقضايا القومية الأخرى وامتداداتها وانعكاساتها على لبنان، فلم تكن الحرب الأهلية في عام 1975 لتستحق نعتها بالربيع اللبناني. غير أن أحداث الربيع العربي اللاحقة، أعادت إليها الحق بهذه التسمية، بعد حرمانها منها بسبب تعقيدات قومية عربية وفلسطينية صورت لبنان وكأنه فحسب ضحية الصراع العربي الصهيوني، وصورت الحرب في لبنان بأنها "حرب الآخرين على أرضه". والحقيقة أن القوى السياسية اللبنانية لم تكن على مستوى انتمائها الوطني، فسعى كل منها إلى استدراج قوة خارجية يستقوي بها على خصمه الداخلي، ما جعل لبنان ساحة لحرب أهلية عربية ولحرب عربية اسرائيلية أيضا. رغم انسحاب الجيشين الاسرائيلي والسوري من لبنان، ظلت الأزمة في ذروة تعقيدها لأن آلية التغيير "الربيعي" المختصرة بشعار الشعب يريد إسقاط النظام، تتطلب في لبنان، ليس فقط سقوط رأس النظام، بل عددا من الرؤؤس يساوي عدد متزعمي الطوائف والمتحصنين بها.
خصوصية الربيع اللبناني أنه لا يحتاج إلى أسقاط النظام، كما في سائر بلدان العالم العربي التي تحتاج إلى سقوط نظام الوراثة أو التوريث، لإحلال نظام دستوري محله، لأن النظام اللبناني هو نظام دستوري في الأساس لكن القيمين عليه جعلوه نظام محاصصة بين ممثلي الطوائف، وابتكروا، بتوجيه من النظام السوري ورعايته، صيغاً شتى لتعليق الدستور وانتهاك القوانين، ما جعل السبيل إلى التغيير يختار شعاراً آخر هو، الشعب يريد تطبيق النظام، وفيه دعوة موجهة إلى المحاصصين من أهل النظام إلى الالتزام بأحكام الدستور والقوانين، وتعديل ما يلزم منها ضمن الأطر الدستورية والقانونية.
في جميع هذه البلدان بدأت الأحداث الربيعية من باب التغيير السياسي والانتقال من التوريث إلى تداول السلطة. لكن، بعد أن يوصد هذا الباب في وجه الاصلاح، سرعان ما كانت تثار قضية الاسلام السياسي وينتقل الكلام من توريث السلطة إلى الحاكمية والدولة الاسلامية، لتنهض"الخلايا النائمة" لدى التنظيمات الأصولية وتحرف الثورة عن مسارها الطبيعي، طارحة قضية الدين من خارج جدول أعمال الثورة، ومن خارج كل اقتراحات الاصلاح الديني الفقهي والسياسي، رافعة شعارها الوحيد، الاسلام هو الحل، مضمّنة إياه سعياً مستحيلاً لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، قرناً من الزمن على الأقل، أي إلى عشرينات القرن الماضي التي شهدت نهاية الخلافة الاسلامية، مثبتة أنها تقوم حقاً بثورة مضادة، لأنها تستحضر صيغة للاستبداد القديم، مرفقاً بخصم مذهبي تمثله أحزاب شيعية كحزب الدعوة وحزب الله وكلاهما مرتبط بحبل الصرة إلى نظام الملالي الإيراني الذي يدعي، هو الآخر، العودة إلى أصول الاسلام الأولى، فيكفر كل منهما الآخر، ويطلق على المعارك السياسية التي يخوضها بين الأحزاب وبين الدول اسم الحرب ضد التكفيريين، وهي حروب موضوعها المصالح الدنيوية والسعي إلى الاستيلاء على السلطة والاستئثار بها، مستخدمين أبشع أساليب العنف الدموي.



#محمد_علي_مقلد (هاشتاغ)       Mokaled_Mohamad_Ali#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متاهة الضائعين لأمين معلوف(3) الاتحاد السوفياتي
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
- متاهة الضائعين لأمين معلوف(2) منهج البحث الروائي عن -الهويات ...
- المنهج الروائي في البحث عن الهوية عن -متاهة الضائعين- لأمين ...
- لماذا نحن في أزمة ممتدة؟
- رفيق الحريري ومشهد 2025
- نحو بناء دولة القانون والمؤسسات
- الكورد، مشكلة أم قضية
- الهزيمة ليست عيباً العيب ألا نتعلم من الهزيمة
- رئيسان من نتاج الثورة
- الاستقلال الخامس والنهائي للبنان
- الممانعة والمحور
- لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ماهية الدولة
- سقوط الطغيان والتحرر الوطني
- المتضررون من النصر
- نعم انتصرنا
- هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
- جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
- نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
- الإذعان بعد فوات الأوان


المزيد.....




- غزة والحوثيون وترامب.. كاتب إسرائيلي كبير يشرح ماذا حدث؟
- مكالمة بوتين وترامب تشعل الجدل: هل تلوح فرصة للسلام أم استمر ...
- الكرملين: كييف تحاول تقويض جهود السلام
- ترامب يعرض تملّك منشآت طاقة أوكرانيا
- ملتقى الإمارات الرمضاني.. تسامح وتعايش
- الجيش اللبناني ينتشر في حوش السيد علي
- لامي يتراجع عن تصريحاته بشأن إسرائيل
- شويغو: هناك عقبات تعقد التسوية السلمية في أوكرانيا
- -أ ب- عن مصدر: كندا بصدد إجراء محادثات مع الاتحاد الأوروبي ل ...
- السلطات الأمريكية الاتحادية تبحث عن زعيم عصابة في لوس أنجلوس ...


المزيد.....

- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد علي مقلد - كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟