معتصم الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 01:07
المحور:
الادب والفن
عندما كنت صغيرًا، أسرتني حكايات البحر—بعظمته، بأسراره، وبالقوانين التي تحكم أعماقه ومن يتجرأ على الإبحار فيه. لكن من بين كل تلك القوانين، كان هناك قانون واحد يتجاوز كل ما عداه: لعبة القدر. ليست هذه اللعبة عشوائية تمامًا، ولا هي محسومة سلفًا، بل هي توازن دقيق بين الاختيار والنتيجة، قوة خفية تشكل مسارنا كما تشكل الأمواج ملامح الشواطئ. وقد تعلمت أن هناك أمورًا لا ينبغي مقاومتها، بل يجب أن تترك لتأخذ مجراها، كما تفعل سفينة بلا قبطان، مستسلمة لإرادة الموج وهمسات الرياح. قد يبتلعها المحيط، وقد تضيع خلف الأفق، أو قد تصل، رغم كل شيء، إلى مرفئها المنشود.
وبذات الطريقة، أؤمن أنني أحتل مكانًا في روحك—ليس بفرض نفسي، ولا بالإصرار، بل بشيء أكثر رهافة: حتمية القدر الهادئة. هذا المكان ليس جامدًا، بل يتنفس، يتمدد، ويحتاج إلى أن يُغذّى حتى لا يتلاشى. إنه ليس مجرد مساحة، بل كيان لا يشبه غيره، لا يُستبدل ولا يُمحى، فراغ لا يمكن أن يظل مهجورًا دون أن يفقد معناه. أن يُترك خاويًا يعني إنكار دوره، ومقاومة التيار الذي أوجده.
ربما أستطيع أن أتكلم بجرأة أكبر، لكن الحكمة تكمن في التريث. فكل خطوة نخطوها هي حركة نحو ذلك المكان—إيماءة إلى القدر، واقتراب غير معلن مما لا يمكن إنكاره. هذه هي شريعة البحر: شريعة التسليم، والثقة بالمجهول، والإيمان بالتيارات التي توجهنا حتى حين نعجز عن رؤية اليابسة. إنها شريعة لا تمنحنا اليقين، بل تعلمنا أن أولئك الذين يحتضنون المجهول سيجدون أنفسهم، في النهاية، حيث يجب أن يكونوا.
في هذه القصة المتكشفة، لا يصبح البحر مجرد استعارة، بل كيانًا نابضًا يعكس تعقيد الروح البشرية. أعماقه تحتضن الجمال والخطر، الفوضى والانسجام، الفناء والبعث. وفي امتداده اللانهائي، ندرك أن جوهر القدر لا يكمن في نقطة الوصول، بل في الرحلة ذاتها—في الخيارات التي نصنعها، وفي الفراغات التي نملؤها، وفي الخطوات الصامتة التي تأخذنا نحو المجهول.
#معتصم_الصالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟