إضاءة: -علم نفس الجماهير- لغوستاف لوبون / إشبيليا الجبوري - ت: من الفرنسية أكد الجبوري

أكد الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 08:40
المحور: الادب والفن
    

مقدمة عامة مبسطة؛
يُعدّ كتاب "علم نفس الجماهير"() ، الذي نشره غوستاف لوبون (1841-1931)() عام 1895، أحد النصوص المؤسسة لعلم النفس الاجتماعي وتحليل الظواهر الجماعية. في وقتٍ كان فيه تقدم الديمقراطية والحركات الشعبية يُعيد تشكيل هياكل السلطة في أوروبا، اقترح لوبون دراسةً حول العقل الجماعي، مُجادلاً بأن للجماهير نفسيةً مختلفةً عن نفسية الأفراد الذين يُكوّنونها. أثّر عمله على مثقفين مثل فرويد (1856-1939)()، وخوسيه أورتيغا إي غاسيت (1883-1955)()، وإلياس كانيتي (1905-1994)()، وحتى على القادة السياسيين في القرن العشرين، حيث أُعجب به وانتقد لتحيزه المحافظ والمُصرّ. بل جادل لوبون فيه. بأن الشخصية الواعية للفرد وسط الجماهير المغمورة، وأن عقل الجماهير الجمعي هو المسيطر؛ فسلوك الجماهير جماعي، وعاطفي، وضعيف فكريًا. إن شئتم.


1. مفهوم الجماهير عند لوبون؛
يرى لوبون أن الجماهير ليست مجرد مجموعة من الناس، بل هي تنظيم نفسي، يتمتع بخصائص مُحددة تظهر عندما يتوقف الأفراد عن التفكير بأنفسهم ويبدأون في العمل الجماعي. يدّعي أن الجماهير تعمل وفق ثلاثة مبادئ أساسية:
أ. الإخفاء - يشعر الفرد، داخل الجماهير، بأنه بلا مسؤولية، لأنه يذوب في الجماعة. وهذا يسمح له بسلوكيات لا يمكن أن يمارسها في عزلة.
ب. العدوى العقلية - تنتشر الأفكار والعواطف داخل الجماهير بسرعة، تقريبًا كعدوى نفسية، مما يقضي على التفكير النقدي ويؤدي إلى سلوكيات متجانسة.
ج. التشكيك - تتمتع الجماهير بتأثير كبير وتميل إلى الاستجابة عاطفيًا للمحفزات الرمزية البسيطة والمتكررة، مما يجعله عرضة للتلاعب.

هذه العناصر الثلاثة تدفع الجماهير إلى سلوك غير عقلاني، يحكمه اللاوعي أكثر من العقل. هذا يعني أنه لا يتدبر أو يفكر، بل يتصرف بناءً على دوافع بدائية، مسترشدًا بقوة العاطفة وتبسيط الأفكار.

2. الجماهير والانحدار النفسي؛
يجادل لوبون بأنه بدمج كتلة، يعود الفرد عقليًا إلى حالة أكثر بدائية، شبيهة بأسلافنا. ويقارن هذه العقلية بشكل من أشكال التنويم المغناطيسي الجماعي، حيث يتخلى الفرد عن هويته العقلانية والنقدية ليتبنى سلوكًا غريزيًا وغير مستقر. تُنبئ هذه الفكرة بمناقشات مستقبلية حول التحليل النفسي للجماهير، مثل عمل فرويد "علم نفس الجماهير وتحليل الذات"()، الذي يستخدم مقترحات لوبون لشرح ديناميكيات اللاوعي الجماعي.

من هذا المنظور، لا تسترشد الجماهير بالحجج العقلانية، بل بالصور والرموز والسرديات العاطفية. وهذا ما يُفسر، وفقًا للوبون، نجاح القادة الكاريزماتيين الذين يعرفون كيفية التعامل مع الخطاب العاطفي والجاذبية الرمزية لتعبئة مجموعات اجتماعية كبيرة.

3. قوة القادة والتلاعب بالجماهير؛
من النقاط المحورية الأخرى في هذا العمل العلاقة بين الجماهير والقيادة. يلاحظ لوبون أنه إذا كانت الجماهير عاجزة عن التفكير النقدي، فإنها بحاجة إلى قيادة من قادة يعرفون كيفية التحكم في عواطفهم. لم يكن قادة التاريخ العظماء بالضرورة فلاسفة أو مثقفين، بل كانوا خطباءً ومتلاعبين ماهرين. عرفوا كيف يختصرون الأفكار المعقدة إلى جمل قصيرة وصور مؤثرة ووعود مبسطة، لأن الجماهير لا تفهم تعقيد المفاهيم.

يستخدم قائد الجماهير، وفقًا للوبون، استراتيجيات مثل:
• التكرار - يجب تكرار العبارات والأفكار حتى تصبح حقائق لا تقبل الجدل.
• التأكيد القاطع - يجب ألا يُجادل المرء أو يُبرر بإفراط، بل يؤكد بقناعة مطلقة، لأن الجماهير تسعى إلى اليقينيات، لا الشكوك.
• العدوى العاطفية - يجب أن يكون القائد محفزًا عاطفيًا، يُولّد الحماس أو الخوف أو الأمل، لأن هذه المشاعر تُحرك العمل الجماعي.

ويفسر هذا المنظور، إلى حد كبير، نجاح الحركات الشعبوية والثورات والأيديولوجيات وحتى الدعاية السياسية الحديثة.


4. الجماهير والأخلاق والعنف؛
من أكثر أطروحات لوبون إثارةً للجدل أن الجماهير غير أخلاقية بطبيعتها. هذا لا يعني بالضرورة أنها سيئة، بل إنها لا تتبع المبادئ الأخلاقية نفسها التي يتبعها الأفراد المنعزلون. المسؤولية الفردية تتلاشى، مما يسمح للجماهير بارتكاب أفعال لا يمكن لأعضائها، في الظروف العادية، تصورها.

وهذا ما يفسر، وفقًا للوبون، عمليات الإعدام خارج نطاق القانون، والاضطهاد، والتعصب، واندلاع العنف الجماعي. ومع ذلك، فهو يُقر أيضًا بأن الجماهير قد تكون في بعض الأحيان مصدرًا للبطولة والثورة، تُسقط الأنظمة الظالمة وتُنشئ أنظمة اجتماعية جديدة.

5. حدود نظرية لوبون ومنتقدوها؛
على الرغم من تأثيرها الدائم، فإن علم نفس الجماهير لا يخلو من النقد. من أهمها:
أ. التصميم المفرط - يتعامل لوبون مع الجماهير على أنها غير عقلانية بطبيعتها وغير قادرة على إنتاج أفكار معقدة، متجاهلاً الحركات الجماعية التي أدت إلى تغيير بنّاء.
ب. وجهة نظر محافظة ونخبوية - يرى العمل صعود الجماهير بانعدام الثقة، مما يوحي بأن النظام الاجتماعي يجب أن يحافظ عليه قادة يعرفون كيفية التلاعب بها، وهو ما يحمل أصداءً استبدادية.
ج. غياب حوض تجريبي - على الرغم من تأثيره، إلا أن استنتاجاته تستند إلى ملاحظات ذاتية، دون تجارب علمية دقيقة.

على الرغم من هذه القيود، فقد تم تأكيد العديد من أفكاره من خلال دراسات أخرى، وخاصة في علم النفس الاجتماعي وتحليل الدعاية السياسية.

الخلاصة:
في نهاية المطاف. يظهر أثر إرث لوبون حتى بعد مرور أكثر من مئة عام، لا يزال علم نفس الجماهير ذا أهمية بالغة. في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر المعلومات بسرعة مذهلة وتُستغل المشاعر الجماعية على نطاق واسع، تجلّت ملاحظات لوبون حول تأثير القادة، ولاعقلانية الحشود، وقوة التكرار.

إذا كانت المنابر والساحات في السابق هي التي تُحرّك الجماهير، فإن الخوارزميات والشاشات اليوم هي التي تُحدّد تدفق المشاعر الجماعية. الإنسان الرقمي، كالجمهور الذي وصفه لوبون، لا يزال يُوجّهه الرموز وكلمات الأوامر والسرديات المُبسّطة. ويبقى التفكير النقدي، الذي يصعب تنميته، السلاح الوحيد ضدّ القوة المُنوّمة للجماعة.

ينبهنا لوبون أن الجماهير يُمكن أن تكون عاملًا للتغيير وأداةً للتلاعب في آنٍ واحد. علينا أن نُميّز متى نُفكّر بأنفسنا ومتى نكون مجرد أصداء لقوة جماعية تتجاوزنا. وأن الشخصية الواعية للفرد وسط الجماهير المغمورة، وأن عقل الجماهير الجمعي هو المسيطر؛ فسلوك الجماهير جماعي، وعاطفي، وضعيف فكريًا. إن شئتم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Copyright © akka2025
المكان والتاريخ: طوكيـو ـ 03/19/25
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة)

#أكد_الجبوري (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات