رمزي حلمي لوقا
الحوار المتمدن-العدد: 8285 - 2025 / 3 / 18 - 21:24
المحور:
الادب والفن
"تسع لوحات تصنع النصر"
قراءة في المسرحية الشعرية
"الطاعون وحروب الاستقلال"
للشاعر رمزي حلمي لوقا
بقلم الكاتب القدير والإعلامي الأستاذ "محمد جراح"
في مسرحيته الشعرية التي تحمل عنوان "الطاعون" يحلق بنا الشاعر المتفرد "رمزي حلمي لوقا" في آفاق براح إبداعي يستند على إرث تاريخي ومعرفي يمتدان لآلاف السنين، فقد كان التاريخ المصري معيناً، وكانت المعرفة الأصيلة والمتجددة زاداً خصيباً لكاتبنا ابتداء من الاسم الذي اختاره لمسرحيته، وهو واحد من الأسماء التي أطلقها المصري القديم على ذلك الوباء الذي أصاب البلاد والعباد، عندما تعرض جزء كبير منها لمحنة الاحتلال، وامتد كما يذكر التاريخ لمدة أربعة قرون متتالية.
والشاعر هنا استدعى من تراث أجداده الزاخر ليصيغ من حروفه كلمات تصنع سطوراً في ملحمة من ملاحم نضال المصريين في الزود عن أرضهم التي أحبوها؛ فبادلتهم محبتهم بعشق وهي تمنحهم الخير والأمان، وعلى هذا نستطيع بداية أن نقول إن الكاتب لم يجد ما هو أفضل من تسمية لمسرحيته من ذلك الاسم (الصفة) الذي أطلقه المصري القديم على وباء ومحنة الاحتلال من جانب عصابات البدو، أولئك الذين تربصوا بالوطن، ثم تسللوا حتى تكاثروا وصاروا شوكة في ظهور من أغاثوهم من أهل البلاد الذين أخذتهم بهم الشفقة في جوعهم؛ ففتحوا لهم بيوتهم بدافع الإخوة والإنسانية، ولم يكن جزاء الإحسان الذي قدمه المصريون إلا الطمع والتسلط ثم الاحتلال من جانب تلك الجماعات البدوية التي بالغ القدماء في تحقيرها قولاً وعملاً، فأطلقوا عليهم من التسميات والصفات الذميمة الكثير لعل منها "حقا خاسوت" أي الحكام الأغراب، و"حر يوشع" أي سكان الرمال، وغيرها من أسماء وصفات تقلل من شأنهم وتزدريهم وتحتقرهم متى حضرت سيرتهم ونطق بهم لسان.
فقد نظر القدماء إلى هؤلاء القوم على أنهم همج، ومعروف أن الهمجي في أي عصر، وفي أي مكان هو الهادم؛ وهو المخرب؛ فما يبُنى في سنين؛ ويتكاثر في قرون ربما تكفيه سويعات قليلة من يدٍ جهولة لهدمه؛ فتمحو بوحشيتها آيات كثيرة من فن وابداع ....وحضارة؛ دون وعي بما يمثله ذلك الزاد من معين في إعادة تشكيل وتجميل لوحة الحياة.
تحتوى المسرحية على تسع لوحات أوفصول وشخوصها هم ملوك وملكات وحكام تلك الفترة المتأخرة من احتلال الهكسوس لمصر؛ وبداية حروب التحرير التي بدأها البيت الجنوبي الذي كان يحكم ما تبقى من مصر ناحية الجنوب، إذ كان الشمال كله محتلاً حتى أوسطه. ولا أدري هل قصد الكاتب أن يضع ملحمة التحرير في تسعِ لوحات كما جاءت في كتابه، أم أن ذلك قد جاء حسب ترتيب الأحداث وتسلسلها التاريخي، ولم يكن اختيار الرقم مقصوداً؟!، لكن الرقم تسعة جعلني أنظر إلى آية من آي الذكر الحكيم في سورة الإسراء ذلك أن المولى جل وعلا أشار في تلك الآية إلى أن صراع النبي "موسى" عليه السلام مع فرعون وقومه جاءت في تسع آيات(١)، وكانت هذه الآيات بمثابة معجزات حتى يؤمن فرعون ويعود عن غيه ويتنازل عن تكبره وطغيانه لكنه لم يفعل بل عاند وجمح في عناده، فهل استفاد الكاتب من الرقم تسعة ووظفه، أم أن الأمر لم يكن في حسبانه من الأساس، وأن تدفق أحادث المسرحية هي ما جعلت كاتبنا يضعها في ذلك السياق التنظيمي؟!.
بدأت الملحمة في عصر الملك "سقنن رع تا عا الثاني"، واستمرت في عهد ابنه الملك "كامس"؛ ثم تمت في عصر شقيق "كامس" الملك "أحمس الأول" حتى وإن كان الكاتب قد ذكر في هامش بختام مسرحيته أن أحمس هو من طرد الهكسوس، أما فناءهم فقد كان على يد الملك "تحتمس الثالث"(٢).
اللوحة الأولى
…
في اللوحة الأولى يمهد الشاعر لتاريخ هذا الشعب وتلك الأرض؛ فأشار بلغته الرشيقة أن المصري مثلما استطاع توحيد المقاطعات وتكوين مملكتي الشمال والجنوب، استطاع أن يوحد المملكتين الشمالية والجنوبية في مملكة واحدة هي ذلك الكيان القائم منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم وحتى الآن، ووضع ملك مصر التاج المزدوج على رأسه، وكان من ألقاب الملك في مصر القديمة لقب ملك مصر العليا والسفلى دليلاً على أن البلاد كانت عبارة عن مملكتين صارتا مملكة واحدة.
على أن اللوحة لم تخل من الإشارة إلى ظلم كان يقع على الناس أو على عامة الشعب لأن معظم ما كان يأتي كان يذهب للأمراء وعلية القوم، بينما الناس يضربهم الفقر ويسكنون الأكواخ.
ووسط هذا الفقر يتسلل الأغراب فرادى وجماعات إلى الداخل المصري في شظف وجوع وتشريد، ولأن المصري طيب بطبعه فقد أغاث هؤلاء الجوعى وأفسح لهم منزلاً من داره البسيطة، وقد قوبل ذلك الكرم بجحود وطمع، فسرعان ما تكاثر الأغراب، وسرعان ما اجتمعوا فأنكروا جميل المصريين عليهم، بل ولم يتورعوا فطردوا صاحب الأرض من أرضه وسكنوا داره حتى صارت لهم الكلمة وصاروا هم الحكام !.
اللوحة الثانية
…
يتحدث الشاعر في لوحته الثانية عن مدينة "أواريس"؛ العاصمة التي أنشاها أولئك الأغراب ناحية "تل بسطة" بمحافظة الشرقية وجعلوها مقراً لحكمهم، كما تشير إلى حاكم المدينة التي تقع في مصر الوسطى وتحمل اسم "نفرو سي" ويحكمها شخص مصري يدعى "تيتي" وتعرض لخيانته وتعاونه مع الأغراب ففصل بفعلته ما بين شمال مصر وجنوبها، ولما كان ملك الهكسوس واسمه "أبيبي" لم تعد ترضيه الجزية التي ترد إليه من الجنوب فقد أراد أن تكون كل البلاد مملكته، ومن ثم بدأ التفكير في اصطناع طرق وأساليب التحرش بالجنوب، ولما رأى مَن استشارهم صعوبة أن يفرض عبادة "سوتخ" مرة واحدة في مدينة لم يدخلها بعد؛ أشاروا عليه أن يطلب بناء معبد لذلك الإله الشرير بجوار معبد "آمون" الكبير بطيبة، ولما كان مطلبه مرفوضاً من الأساس جملة وتفصيلاً؛ فقد زاد في التحرش فأرسل رسوله يشكو من صوت أفراس النهر التي تزعجه في منامه في قصره بعاصمته الشمالية، ولم يجد أمراء البيت الجنوبي رداً يناسب ذلك الاستفزاز إلا إعلان الحرب وبدأ ملحمة التحرير على يد الملك "سقننرع تاعا الثاني"(٣).
اللوحة الثالثة
…
يتعرض الشاعر في تلك اللوحة لطيبة العاصمة المصرية التليدة؛ وللملك "سقنن رع تا عا الثاني" وزوجته الملكة "إياح حُتب" ووصول رسول الهكسوس، واستفزازه لــ "سقنن رع"، ثم قرار التعبئة والحرب مهما كانت النتائج، كما عبر عن ذلك الشاعر بقوله:" عجل بالحرب ولن تندم، فالموت الأسرع أكرم لأميرٍ سيذُوق الذلَ إذا ما طالت أيامُه، لن تُرحَم أبدًا أو يُرحم شعبُك"
على أن ينبغي ملاحظة أن الشاعر جعل الرسول يجلس أمام ملك أو أمير طيبة، وهو مشهد وسلوك غير مألوف في مجالس الحكام في أي زمان ومكان، وربما أراد الشاعر أن يوضح لنا من وراء تلك الإشارة أن ملك الهكسوس لم يكن ينظر إلى "سقننرع" على أنه ملك بل كحاكم لجزء أو مقاطعة ويدفع جزية مقابل بقائه، وبالتالي يتعامل معه الرسول معاملة الأنداد، لأنه ما أرسل إلا لكي يستفزه، وهو في نظره مجرد شخص عادي، ولا يمتاز عليه بشيء وليس نداً متساوياً مع من أرسله، ومن ثم تعامل بغشم وعنجهية مع الملك المصري الذي لم يستفزه ذلك السلوك الأعوج فيقوم بطرده أو قتله، بل بدا رابط الجأش وهو يحشد لمعركة التحرير والتخلص من ربقة المحتل الآثم.
اللوحة الرابعة
…
وهي تشير إلى ما ألم َّ بالبلاد من نكبة أو نكسة كما اختار الكاتب العنوان ، وكيف مات "سقننرع" في الميدان
مثل الأبطال وكما يقول الشاعر: "فما أتعس أن تبني سوراً وقلاعاً والحارس طماع خائن"، وقد كان "تيتي" حاكم "نفروسي" الواقعة في وسط مصر خائناً لوطنه وأهله بتعاونه مع الأعداء ومساعدتهم وغير ذلك من أنواع الدعم والمؤازرة للعدو ضد أبناء وطنه.
اللوحة الخامسة
…
تستعرض فترة ما بعد النكسة وصعود "كامس" مكان أبيه محاطاً بثلاث من السيدات العظيمات اللائي لم تغفلهن صحف الأقدين ولا نقوشهم، كان من حوله الجدة "تتي شري" والأم "إعح حوتب" والزوجة "أحمس نفرتاري"، وكان مع الجميع شقيقه الأمير "أحمس" الذي كان ما يزال صبياً وكان ولياً للعهد، وتشير اللوحة إلى علاقة القصر بالمؤسسة الدينية، وكيف استطاعت الملكة ضبط تلك العلاقة القائمة بين المعبد بهيئته، وبين كل من القصر والشعب، فقد تم توزيع جانب من ثروات آمون على الناس الذين كانوا يشتكون من الفقر وهم يتضورون جوعاً فاعتدل بذلك ميزان العدل في تلك الشدة العصيبة.
اللوحة السادسة
…
هي تتناول الفترة التي سماها الشاعر بحرب الاستنزاف، وكأنه يستعير تلك التسمية التي التصقت بالمعارك الفدائية الجبارة التي جرت بعد نكسة أو هزيمة يونية من عام سبعة وستين وتسعمائة وألف، وكيف كانت مثل تلك الحرب التي استنزفت العدو هي التمهيد لنصر أكتوبر المجيد
كما تتعرض اللوحة لخيانة "تيتي" حاكم "نفروسي"، كما تتعرض لأولئك المعوقين الذين ظلوا يطالبون "كامس" بالتريث بعد النصر، مما دعا الملكة "إعح حوتب" إلى توبيخهم، والتوصية بمخاطبة حاكم "كوش" في النوبة العليا جنوباً ليكون إلى جانب مصر، وأن تكون البداية بكسر "تيتي" حاكم "نفروسي" الذي بسقوطه سيفتح الطريق الى الشمال.
اللوحة السابعة
…
وتعرض فيها الشاعر إلى الاستعداد للعبور،كما أشارت إلى الجواسيس والعسس الذين كان يرسل بهم العدو، وإلى هؤلاء الذين يقللون من الآخرين ولا يملأ عيونهم أي إنجاز فنجدهم يقللون ويحقدون على زميل لهم قابض على رقبة واحد من جماعة "العابيرو" الذين كانوا يساعدون الهكسوس باعتبارهم جميعاً من الأغراب الذين دخلوا مصر من بواباتها الشمالية الشرقية، كما تعرض لموت "كامس" مثل من سبقوه من الأبطال.
اللوحة الثامنة
…
تتناول شأن مدينة أواريس، وتستعرض ما طرأ على الأوضاع، وعن "خامودي" رئيس التسخير الذي يصف الشعب المصري بأنه شعب أرعن، كما تتناول تحرير السيدة "استارام"، وقيادة ولي العهد للبلاد بعد أن صعد مكان أخيه محاطاً بالسيدات الثلاث الجدة "تتي شري" والأم "إعح حوتب"(٤) والزوجة "أحمس نفرتاري"، ولم يكم الملك "أحمس" ليتأخر عن مواصلة الجهاد والضرب على الحديد وهو ساخن حتى لا يعطي للعدو أي مجال للراحة، أو إعادة تنظيم صفوفهم التي كان يمرح فيها الإهمال.
اللوحة التاسعة
…
وهي لوحة الحسم، وتستعرض ما قام به الملك "أحمس الأول" الذي خلف أخاه "كامس"، وما اضطلع به واحد من الجنود الذين بذلوا أنفسهم من أجل الوطن وهو "أحمس بن ابانا" وعلى شاكلته كان هناك آخرون لم يتأخروا في خدمة وطنهم!، ولأن النصر لا يأتي إلا بنصر فقد كانت النهاية هي النصر الكامل ومطاردة الهكسوس الفارين باتجاه الشرق فاختفوا بنجسهم إلى الأبد، وكأنما كانوا قد تبخروا.
هوامش
-----------
(١) ((ولقد آتينا موسَى تِسعَ آياتٍ بيناتٍ فَاسأل بني إسرائيلَ إذ جاءَهُم فَقَالَ له فرعونُ إني لأَظنُك يَا موُسى مَسْحُوراً)) " الأسراء 101"
(٢) المعروف أن تحتمس الثالث خاض حروباً وملاحم خارج الحدود الجغرافية المعروفة لمصر وهو الذي خرج بالجيش إلى الشام فيما يشبه الغزو واستطاع اخضاع أمم ودويلات وممالك كثيرة كانت قائمة في تلك البقاع، وهو من انتصر على الحيثيين في موقعة مجدو الشهيرة، وهو أيضاً من مد حدود ونفوذ الإمبراطورية المصرية القيمة من دجلة وبلادالنهرين شرقاً ومن آسيا الصغرى والأناضول شمالاً، ومن برقة غرباً، ومن الجندل أو الشلال الرابع في النوبة العليا جنوباً.
(٣) أشار الشاعر في نصه إلى أن ملك الهكسوس يحمل صفة فرعون، ولا أدري كيف اتخذ الهكسوس هذا اللقب وخلعوه على أنفسهم ؟، بل إن هناك من أشار في تاريخ لاحق إلى أن فرعون الذي عاصره وجاهده موسى عليه السلام كان اسمه فرعون أي أن الصفة السابقة قد صارت اسماً، وهذه كلها اجتهادات ربما تجافي الحقيقة فلقب فرعون لقب مصري أصيل وقد أتى من لفظ "بر عا" أي البيت العظيم أو الكبير وقد تحرف مع مرور الأيام فصار "فر عا"؛ ثم انتهى إلى ما عرفناه وهو فرعون، ولا توجد حتى الآن من القرائن ما يشير إلى أن بعض الملوك ومنهم ملك العبور كان اسمه فرعون، ولا يتشبث بهذا الزعم إلا المتحدثين في الشأن الديني ومن اقتنعوا وجهة نظرهم، ومن يريدون إظهار المصري في صورة مثالية في كل الأوقات.
(٤) هناك من يقول إن المصريين القدماء نظروا إلى الملكة إعح حوتب نظرة إجلال وتقدير فتغنوا باسمها؛ وهناك من يقول إن الأغنية الرمضانية الشهيرة "وحوي يا وحوي إياحا" إنما كانت جانباً من تلك الأغنية التي تغنى بها القدماء تقديراً لملكتهم أم الملك ومن قبل كانت زوج الملك.
بقلم
الأديب الكبير والإعلامي الأستاذ محمد جراح
#رمزي_حلمي_لوقا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟