الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8285 - 2025 / 3 / 18 - 00:34
المحور:
الادب والفن
مع اقتراب موعد الإفطار في كل بيت مغربي، تجتمع العائلات حول موائد رمضان، حيث يُفترض أن يكون هذا الوقت فرصةً للدفء العائلي والتواصل. لكن بدلًا من أن تُثري الشاشة هذه اللحظات ببرامج تلامس عمق الثقافة والوجدان، يجد المشاهد نفسه غارقًا في سيلٍ من المحتويات الترفيهية التي تبدو، في كثير من الأحيان، مستنسخةً ومكررة، تفتقد إلى أي لمسة إبداعية أو فكرية. في الشارع، في المقاهي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تتردد التساؤلات ذاتها كل عام: هل أصبح رمضان موسمًا لتكريس الرداءة بدلًا من تقديم محتوى يليق بالمناسبة؟ ولماذا تصرّ القنوات المغربية على استسهال الذوق العام، بدلًا من العمل على الارتقاء به؟
هذا المشهد اليومي ليس مجرد انطباع عابر، بل يعكس ظاهرة أعمق تتجلى في هيمنة برامج سطحية، لا تهدف سوى لجذب أكبر عدد من المشاهدات، حتى لو كان ذلك على حساب الجودة والمعنى. فهل باتت القنوات المغربية رهينة لمنطق الاستهلاك السريع، على حساب رسالتها الثقافية والتوعوية؟
في ظلّ التنافس المحموم لجذب أكبر عدد من المشاهدين خلال شهر رمضان، تتحوّل الشاشات المغربية إلى ساحة لمعارك استهلاكية تَغلُب عليها الصخبُ والإثارة، تاركةً وراءها قيمتَي الجودة والعمق. تُسقط هذه الظاهرة الضوء على إشكالية مركبة تتعلق بتراجع الذوق العام، حيث يبدو أن التلفزة المغربية قد اختارت أن تكون مرآةً لعقلية الاستهلاك السريع بدلًا من أن تكون أداةً لإثراء الوعي الجمعي أو تعزيز الهوية الثقافية.
تتجلّى مظاهر هذا الانحدار في سيطرة "الكوميديا المبتذلة" على الشبكة البرامجية، حيث تُختزل الفكاهة في إضحاك الجمهور عبر نكاتٍ جاهزةٍ تفتقر إلى الذكاء أو الإبداع، وتعتمد على تكرار المواقف المُفتعلة والمقالب التي تجاوزها الزمن. هذا النمط لا يقتصر على كونه مُجرد إنتاجٍ فنيٍّ رديء، بل هو مؤشر على نظرة دونية للجمهور، تُعامله ككائنٍ يستجيب للغريزة أكثر من العقل، وتُحوّل المشاهدة إلى فعلٍ سلبيٍّ يكرّس السطحية. أما الإنتاجات الدرامية، التي يُفترض أن تكون فرصةً لطرح قضايا اجتماعية أو إنسانية، فتسقط في فخّ التسرّع والارتجال، حيث تُقدّم أعمالًا تفتقر إلى البناء السردي المتين، وتُختزل الحبكة في صراعاتٍ مكرورةٍ تفتقد للتصاعد الدرامي، مع إهمال واضح للجوانب التقنية من إخراجٍ وتصويرٍ يؤثران مباشرةً على مصداقية العمل وقدرته على الإقناع.
وفي الجانب الآخر من المعادلة، يطفو سؤال الإعلانات كعاملٍ خفيٍّ يوجّه دفة الإنتاج التلفزي. فالكثير من البرامج تُبنى حول فكرة "التسويق المدمج"، حيث يصبح المحتوى مجرد غلافٍ لجذب المعلنين، فيُحوَّل المشهد الإعلامي إلى سوقٍ مفتوحةٍ تُقدّم الأغلى، لا الأجود. هذه الآلية لا تُفسد أولويات الإنتاج فحسب، بل تُنتج حلقةً مفرغة: فكلّما زادت الساعية الإعلانية، قلّت الميزانيات المخصصة للجوانب الإبداعية، مما يُعمّق أزمة الجودة ويُبعد صُنّاع المحتوى الحقيقيين عن الساحة.
لكنّ الأخطر في هذا السياق هو الغياب الصارخ للبرامج الثقافية أو الدينية التي تتناول مضامينها بعمقٍ ومسؤولية، خاصةً في شهرٍ يُفترض أن يكون فرصةً للتأمل الروحي والارتقاء الفكري. فبدلًا من استثمار قدسية الشهر في برامجَ تلامس هموم المواطن أو تُعيد طرح الأسئلة الوجودية أو تُحيي التراث المغربي المتنوع، يتمّ تعويض هذا الفراغ بموادٍّ ترفيهيةٍ مُفرغةٍ من أيّ مضمون. هذا الانزياح نحو الترفيه الخالص لا يعكس فقط أزمةً في الذوق، بل يكشف عن رؤيةٍ قاصرةٍ لدور الإعلام كوسيلةٍ لتكريس القيم النقدية وبناء الوعي، لا كمجرّد أداةٍ للتسلية.
وإذا كان البعض يبرّر هذا المنحنى بضرورة مواكبة "ذوق الجمهور"، فإنّ هذه الحجة تتجاهل حقيقةً جوهريةً: فالإعلام ليس تابعًا للذوق العام، بل هو شريكٌ في تشكيله. إنّ الاستسلام لمعادلة الربح السريع على حساب القيمة المضافة يُنتج جمهورًا استهلاكيًا ينعكس سلبًا على الثقافة المجتمعية برمّتها. فكما تُسهم البرامج الهادفة في تنمية الحسّ النقدي، تُسهم البرامج السطحية في تسطيحه، وتُعيد إنتاج شرائح جماهيريةٍ تتعطش للابتذال لأنها لم تُعوّد على غيره.
لم يكن المشهد التلفزي المغربي دائمًا بهذه السطحية. في التسعينيات وبداية الألفية، كانت الدراما المغربية تقدم أعمالًا تركت بصمة لدى الجمهور، مثل وجع التراب و المستضعفون ، التي ناقشت قضايا اجتماعية بطرح عميق وأداء مقنع. حتى الكوميديا الرمضانية كانت أكثر جودة، حيث استطاعت أعمال مثل لالة فاطمة تحقيق التوازن بين الترفيه والرسائل الهادفة. اليوم، يبدو أن الرهان على الإضحاك السريع والمحتوى الاستهلاكي طغى على أي محاولة للإبداع الحقيقي.
قد يكون من السهل إلقاء اللوم بالكامل على القنوات التلفزية ومنتجي المحتوى، لكن لا يمكن إنكار أن المشاهد نفسه يلعب دورًا في تحديد ما يُقدَّم له. فارتفاع نسب المشاهدة للبرامج السطحية يبعث برسالة واضحة إلى صنّاع المحتوى بأن الجمهور يُقبل عليها، مما يدفعهم إلى إعادة إنتاجها عامًا بعد عام. والسؤال المطروح هنا: هل يرفض المشاهد المغربي فعلًا هذه البرامج، أم أنه يتقبلها كخيار وحيد في ظل غياب البديل؟
وفي هذا السياق، تُظهر إحصائيات نسب المشاهدة لعام 2025 واقعًا آخر يعكس اهتمامًا ملحوظًا بالمحتوى التلفزيوني، بالرغم من انتقاداته. وفقًا لبيانات شركة "ماروك متري"، سجلت القناة الأولى نسبة مشاهدة تراكمية بلغت 49.5% بحصة مشاهدة قدرها 21.3%. مسلسل "أنا وياك" تصدر القائمة بنسبة مشاهدة بلغت 35.7% وعدد مشاهدين تراكمي بلغ 9,765,000. من جهة أخرى، سجلت القناة الثانية (2M) نسبة مشاهدة تراكمية بلغت 52.8% بحصة مشاهدة قدرها 28.6%، مع تصدر السيتكوم "مبروك علينا" بنسبة مشاهدة وصلت إلى 34.5%، بينما جاء مسلسل "الدم المشروك" في المرتبة الثانية بنسبة 36.8%. هذه الإحصائيات تشير إلى أن المشاهدين يظلون متفاعلين مع البرامج الرمضانية رغم تراجع جودتها، مما يُعزز الفكرة بأن الذوق العام قد تراجع بشكل واضح لصالح الاستهلاك السريع.
هكذا، يصبح نقد البرامج التلفزية المغربية في رمضان مساءلةً عن نموذجٍ إعلاميٍّ يختزل الوطن في صورة كاريكاتوريةٍ تليق بزمن الاستهلاك، بينما يُغيّب الصورة الحقيقية لمجتمعٍ يمتلك تاريخًا من الإبداع وقدرةً على إنتاج خطابٍ ثقافيٍّ راقٍ، لو أُعطيَت له الفرصة.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟