محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8284 - 2025 / 3 / 17 - 21:39
المحور:
الادب والفن
كتب جاهين هذه الرباعية عام 1968، معبّرا عن حيرته ومعيدا التفكير في المسلّمات ومعبراً عن حزنه من نكسة يونيو 1967م، :
ولو انضنيت وفنيت وعمري انفرط.
مش عاوز ألجأ للحلول الوسط.
وكمان شطط وجنون مانيش عاوز.
يا مين يقول لي الصح فين .. وفين الغلط.
سيميائيا هنا، يعتمد جاهين في هذه الرباعية على رموز وسِمات لغوية تُمثل مواقف وأحاسيس داخلية حادة؛ فالكلمات ليست مجرد وسيلة للتعبير عن حالة وجدانية، بل هي إشارات تحمل معاني عميقة ترتبط بالتجربة الإنسانية والتحديات السياسية.
فمن السطر الأول "ولو انضنيت وفنيت وعمري انفرط."
يشير هنا استخدام الفعل "انضنيت" إلى عملية الانحناء تحت وطأة الظروف، بينما "فنيت" تدل على الفناء والاندثار. أما "عمري انفرط" فترمز إلى ضياع الوقت أو الحياة دون أن تُستثمر في شيء جاد، ونجد أن الدلالة السيميائية تُشير في هذه الألفاظ إلى حالة من الاضطراب الذاتي والوجودي، حيث تصبح الفردية مضطربة تحت ضغوط الحياة والتوقعات الاجتماعية، ما يفتح المجال لتساؤلات حول قيمة الثبات والتمسك بالمبادئ.
السطر الثاني "مش عاوز ألجأ للحلول الوسط."إن رفض الشاعر لهذه الحلول يُظهر تمسكه بالحدود المطلقة، حيث يُعبر عن ضرورة اتخاذ مواقف واضحة لا تساوم على المبادئ أو الهوية، مما يبرز صرامة الخط والوضوح في التوجه.
السطر الثالث "وكمان شطط وجنون مانيش عاوز." ويشير هذا الرفض إلى حرص الشاعر على تجنب الانزلاق إلى كل من الانحراف واللا معقولية، مما يُبرز بحثه عن توازن دقيق بين التمسك بالمبادئ والابتعاد عن التطرف أو الانحراف عن المسار العقلاني.
السطر الرابع "يا مين يقول لي الصح فين .. وفين الغلط "ويُشكّل هذا التساؤل دعوة للنظر في كيفية تحديد المعايير والقيم، وكأنه يستنكر فكرة وجود معايير ثابتة ومطلقة، مما يُبرز حالة من الشك والتأمل العميق في المفاهيم التقليدية.
السطر الخامس:
"عجبي!" وهي نهايته المشهورة أسفل كل رباعية كتبها كخاتمة مفتوحة تُعبّر عن التعجب من تعقيد الأمور وتناقضها، مما يترك للقارئ مجالاً للتأمل في معاني الحياة وعدم وضوح الخطوط الفاصلة بين المتطرفين أو بين الصواب والخطأ.
وكيفياً في هذا النص الرباعي، نجد أن صلاح جاهين يستخدم لغةً مختصرة تحمل في طياتها معانٍ عميقة تعكس حالة من الارتباك الوجودي والنقد الذاتي للمفاهيم الثابتة، حيث يبدأ الشاعر بسرد حالة الاندثار والفناء من خلال تعبيرات مثل "انضنيت" و"فنيت"، ما يرمز إلى شعوره بالتلاشي أمام تحديات الحياة. يُبرز النص الاضطراب الداخلي الذي يعيشه الشاعر، إذ يرى أن العمر يتبدد دون أن يُثمر، مما يعكس حالة من فقدان الثقة في الخطوات التقليدية للحياة، ويتضح من خلال الأبيات الثانية والثالثة رفض جاهين لكل من الحلول الوسط، التي يراها مساومة على المبادئ، وكذلك رفضه للتطرف والجنون الذي يؤدي إلى فقدان التوازن العقلاني. هذا الرفض لا يعد مجرد انتقاد للأساليب السياسية أو الاجتماعية السائدة، بل هو أيضًا تأكيد على ضرورة التحلي بموقفٍ واضح وصريح، أما السطر الرابع عن حالة من التساؤل والبحث؛ حيث يستنكر الفكرة القائلة بأن هناك معايير مطلقة لتحديد "الصح" و"الغلط". هنا، يُطرح السؤال كدعوة للتفكير وإعادة النظر في القيم المتوارثة التي لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيد الواقع الإنساني، ثم تنتهي الرباعية بتعبير موجز "عجبي!" يحمل في طياته دهشةً وارتباكًا من تعقيدات الحياة والتناقضات التي لا ينتهي البحث عنها. هذا التعجب يفتح المجال أمام القارئ للتأمل في عمق الرسالة وعدم الاكتفاء بتفسيرات سطحية.
ويعتمد جاهين في هذه الرباعية على كلمات قليلة لكنها مشحونة بالدلالات، مما يبرز براعة الشاعر في التعبير عن أفكار معقدة في قالب شعري مقتضب. هذه البساطة لا تقلل من عمق المعنى بل تعزز القدرة على إيصال الفكرة بشكل مباشر وصريح.
ويتجلى ذلك في تكرار عدد الكلمات في الأسطر الأولى (كل سطر يحتوي على خمس كلمات) مما يخلق إيقاعاً منتظماً يعكس استقراراً ظاهرياً، رغم الفوضى الداخلية التي يعبر عنها النص. تغير عدد الكلمات في السطر الرابع والسطر الأخير يعمل على خلق تأثير تشكيكي وانقطاع عن النسق المعتاد، مما يرمز إلى الخروج عن المألوف والابتعاد عن الثنائيات التقليدية.
كما أن استخدام أدوات النفي مثل "مش" و"مانيـش" يؤكد موقف الشاعر الرافض لأي تسوية أو انحراف عن موقفه الواضح. هذا التوكيد على الرفض يعكس موقفاً نقدياً يستنكر التهاون في مواجهة التحديات الوجودية والفكرية.
وبمقارنة صلاح جاهين في هذه القصيدة بشعراء من العالم، نجد أن جاهين تربطه علاقة ثورية بينه وبين شعراء كُثر في محاولتهم المشتركة لكسر القيود، وتحدي الأنظمة القمعية، وإعادة صياغة معاني الحرية والعدالة عبر لغة شعرية مبتكرة ومباشرة تُعبّر عن قضايا الشعوب وقضايا الإنسانية، منهم على سبيل المثال لا الحصر:
1. آرثور رامبو – فرنسا
"Comme je descendais des fleuves impassibles,"
عندما نزلت الأنهار السلبية،
Je ne me sentis plus guidé par les haleurs:"
لم أعد أشعر بقيادة سائقي القوارب."
وهنا يمتاز رامبو بأسلوبه الشعري الغني بالصور والسريالية، حيث يستخدم الطبيعة كرمز للتحرر والانفصال عن القيود التقليدية. على النقيض من ذلك، يتبنى صلاح جاهين اقتصاداً لغوياً شديد الإيجاز، يُعبّر بعبارات مختصرة عن رفض الحلول الوسط والتطرف، ويركز على نقد واقع اجتماعي وسياسي محدد. فكلاهما يشترك في التمرد على النظم الثابتة، إلا أن رامبو يعتمد على الصور المتعددة الطبقات بينما يصل جاهين مباشرة إلى جوهر الرفض والتساؤل.
2. برتولت بريخت - ألمانيا
"Erst kommt das Fressen, dann kommt die Moral"
"يأتي الطعام أولا ، ثم تأتي الروح المعنوية."
"أولاً يأتي الأكل، ثم تأتي الأخلاق."
وهنا يعتمد بريخت على لغة نقدية مباشرة تُعبّر عن واقع اجتماعي قاسٍ، حيث يؤكد أن الضرورة المادية تتفوق على المثالية الأخلاقية. وفي نص جاهين يُلاحظ رفضٌ واضح للحلول الوسط والتنازلات، مما يعكس نقداً للمفاهيم الثابتة التي تكبل حرية التعبير. بينما يستخدم بريخت أسلوب التغلُب على القيود من خلال تقنيات مسرحية مثل "التغريب"، يستثمر جاهين في اقتصاد لغوي بسيط يضرب بقوة من خلال كلمات معدودة تحمل معانٍ ثورية.
3. ألين جينسبرج - الولايات المتحدة الأمريكية
"I saw the best minds of my generation destroyed by madness,"
رأيت أفضل "العقول في جيلي مدمرة بالجنون"
"رأيت أذهان أفضل جيلنا دُمرت بسبب الجنون."
ويمثل جينسبرج صوت الثورة الثقافية من خلال قصيدته الشهيرة "Howl"، حيث يُعبّر عن حالة من الاضطراب العاطفي والاجتماعي بأسلوبٍ حر متدفق يتحدى القيود النمطية. بالمقابل، يعتمد جاهين على أسلوب مختصر ومباشر في التعبير عن رفضه للمساومات والحلول الوسط، ما يُضفي على قصائده طابعاً حاداً ومركزاً. يشترك الاثنان في نقد المعايير التقليدية، لكن جينسبرج ينطلق في رحلة انسيابية طويلة بينما يختصر جاهين الفكرة في كلمات قليلة ذات وقع قوي.
4. بابلو نيرودا - شيلي – أمريكا اللاتينية
"Puedo escribir los versos más tristes esta noche."
"يمكنني كتابة أتعس الآيات الليلة."
"أستطيع أن أكتب الأبيات الأكثر حزناً هذه الليلة."
وحيث يتميز نيرودا بأسلوبه العاطفي العميق وصوره الطبيعية الواسعة التي تجسد معاناة الشعوب وأحاسيس الفرد، مما يمنحه بعداً حسيًا وشعريًا يمتد إلى أبعد من الكلمات. من ناحيته، يعتمد جاهين على اختزال الفكر في أبيات قصيرة تركز على نقد الواقع السياسي والاجتماعي؛ فبينما تُفصح أبيات نيرودا عن حزنه الجماعي بتفاصيل واسعة، يُعبّر جاهين عن حالة التمرد والرفض بطريقة مركزة ومباشرة تعكس واقعية معاشة بحدة.
5. لانغستون هيوز - الولايات المتحدة الأمريكية
"I, too, sing America."أنا أيضا أغني أمريكا."
"أنا أيضاً أغني أمريكا."
ويستخدم هيوز هنا لغة بسيطة وقوية للتعبير عن الهوية والعدالة الاجتماعية، مُعلناً عن حق كل فرد في التعبير عن تجربته ومشاركته في بناء الوطن. تتشابه هذه البساطة والقوة مع أسلوب جاهين، الذي يعتمد على كلمات معدودة تحمل رسائل ثورية صريحة. بينما يركز هيوز على إبراز صوت المظلومين وإعادة الاعتبار لهم، يُبرز جاهين رفضه للحلول الوسط والتطرف كصرخة نابعة من الوعي السياسي والاجتماعي، مما يجعل كلماته تتردد بين الصراحة والعمق.
ونجد أنه من خلال المقارنة، أن جميع هؤلاء الشعراء الثوريين، بمن فيهم صلاح جاهين، يتقاسمون روح التمرد والرغبة في كسر القيود الاجتماعية والسياسية المفروضة. فكلٌ منهم، بأسلوبه الخاص، استثمر اللغة كأداة للتعبير عن النقد والبحث عن الحرية والتجديد، ومن ثم، تأتي قيمة صلاح جاهين في المقارنة ليُظهر كيف يمكن للشعر المختصر والمباشر أن يكون حاملاً لرسائل ثورية عميقة، تتحدث عن واقع سياسي واجتماعي متغير. إن استخدامه للألفاظ الدقيقة وتوزيعها الإيقاعي يُبرز التناقضات الداخلية للمجتمع، كما يشترك مع هؤلاء الشعراء العالميين في دعوته لإعادة النظر في القيم التقليدية. بينما قد يختلف الأسلوب والتوسع التصويري بين الشعراء، يظل جوهر الثورة في كسر القيود وإعلان حرية التعبير هو الرابط المشترك الذي يوحدهم، ويجعل من صلاح جاهين رمزاً يحتذى في التجديد والتمرد الشعري.
وإذا نظرنا لجوهر القضية عند صلاح جاهين في هذه الرباعية نجده يؤكد على رفضه الثنائي للتسويات المريحة والتطرف المفرط، وسعيه الدؤوب للتشكيك في المفاهيم الثابتة التي تُقسم الأمور إلى "صح" و"غلط" بطريقة مسبقة. ففي بداية القصيدة، يُعبّر الشاعر عن إحساسه بالذوبان والانهيار (من خلال عبارات "انضنيت" و"فنيت" و"عمري انفرط") مما يرمز إلى فقدان الثبات والهوية في مواجهة واقع متغير. ثم يتضح رفضه لكل من الحلول الوسطية التي قد تُرضي المطلوب دون مواجهة التناقضات، وكذلك رفضه للتطرف الذي يُعبّر عن شطط وجنون؛ إذ لا يجد في أيٍّ منهما إجابة تُرضي بحثه عن الحقيقة.
وفي النهاية، نستطيع القول بأن كلمات صلاح جاهين في هذه الرباعية تظهر كنداء يرتفع فوق هدير الخيبات وآثار النكسة التي خلفتها أحداث يونيو 1967، لتكون بمثابة صرخة تحمل في طياتها رفضًا صارمًا للواقع الذي أسفر عن تلاشي الأحلام الوطنية. يتحدث الشاعر في أبياته عن تجربة مريرة شهدها الزمان بعد تلك اللحظة الحاسمة في 1968، إذ ينطق بعباراته وكأنه يستذكر وقع حادثة لم تُمحَ من الذاكرة، حادثة أسهمت في زعزعة القواعد التي كانت تفرضها السياسات القائمة، تلك السياسات التي أسست أوهامًا ولم تثمر إلا عن خيبات أمل جماعية، كما أن كل بيت من أبيات تلك الرباعية، ينبض الأسلوب بثقة ترتكز على قوة الاحتجاج وإصرار على مواجهة ما خلفه التاريخ من جراح، إذ يستحضر الشاعر بأسلوبه المقتضب صورةً لواقعٍ تباينت فيه مشاعر الانكسار مع روح المقاومة، لتصبح كلماته دعوةً للتفكير في معاني الحرية والكرامة وإعادة النظر في المعايير التي طالما استُخدمت لتبرير النتائج المدمرة.
إنه هنا يفتح نافذة على تجربة إنسانية مريرة، حيث تتداخل الحدة مع الندم والتساؤل عن كيفية استعادة المسار الذي قاد إلى انهيار الأحلام، فتنطلق دعوته لاستنهاض الوعي الوطني، لاسترجاع شغف الحياة والعمل على إعادة بناء مستقبل يعتمد على الحقيقة والنزاهة. وفي ضوء هذا النداء، تُصبح القصيدة شهادةً على قدرة الكلمة على تحطيم جدران الظلام، ومحفزًا على استنهاض القوى الكامنة لدى كل فرد، لتكون بذرةً من التغيير في زمنٍ يزداد فيه التحدي وتضيق فيه الآفاق.
وختاما، يمكننا التأكيد على أن "صلاح جاهين" لم يكن مجرد مبدع شعري فحسب، بل كان أيضًا صوت الشعوب، ومعبرًا عن همومها وأحلامها بطريقة خلّاقة ومبدعة تعكس روح مصر والإنسانية جمعاء.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟