الاختزالية الأيديولوجية في رواية -البؤساء- لفيكتور هوغو /إشبيليا الجبوري - ت: من الفرنسية أكد الجبوري

أكد الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8288 - 2025 / 3 / 21 - 00:26
المحور: الادب والفن
    

يجسد جان فالغان، بطل رواية ("البؤساء". 1862)() لفيكتور هوغو (1802-1885)()، أحد أعمق التأملات في الأدب الغربي حول ثنائية الحالة الإنسانية: التوتر بين الإدانة الاجتماعية وإمكانية التكفير. إن مسيرته لا تقتصر على مجرد رحلة سجين سابق يسعى إلى إعادة الاندماج؛ إنها ملحمة وجودية تتساءل عن حدود العدالة، وثقل الأخلاق المفروضة، وتعقيدات التسامح. الاختزالية الأيديولوجية في رواية “البؤساء". أو جان فالغان صوب الفداء الوجودي في تأملية لمأساة الفداء. إن شئتم.

إذا قرأنا فالغان باعتباره رمزًا للظلم الاجتماعي فقط، فإننا نقتصر على الاختزالية الأيديولوجية التي تتجاهل عمقه النفسي والفلسفي الحقيقي. إنه ليس مجرد انعكاس لعدم المساواة، بل هو رجل يعيش وحشية القدر ويحتاج إلى إعادة بناء هويته في مواجهة مجتمع يحرمه من هذه الفرصة. إن جريمته الأولى - سرقة رغيف خبز لإطعام أسرته - لم تكن مجرد فعل ضرورة، بل كانت نقطة الانهيار بين الرجل والنظام الذي كان من المفترض أن يحميه. إن الحكم المفرط الذي صدر بحقه (19 عامًا في السجن بسبب جريمة بسيطة) يوضح انحراف نظام قانوني أعمى عن الظروف الفردية، وهو النقد الذي أدرجه هوغو ببراعة في العمل.

اللحظة الحاسمة في تحوله تحدث في بيت الأسقف ميريل. عندما تم القبض على فالغان، الذي تم إطلاق سراحه مؤخرًا، ثم تم القبض عليه لاحقًا وهو يسرق أدوات المائدة الفضية، بدا أن إعادة القبض عليه كانت بمثابة إغلاق لدورة الإذلال التي فرضتها الدولة. ولكن رد فعل الأسقف غير المتوقع - الذي أعطاه الشمعدانات الفضية وكذب على الشرطة لحمايته - يمثل لحظة تحول فالغان. إن لفتة ميريل هي تطبيق جذري لمبدأ المغفرة المسيحي، ولكنها أيضًا عمل يقوض منطق العقاب والانتقام. وبدلاً من الرد على الجريمة بالإدانة، يستجيب ميريل بالنعمة - وهو مفهوم لاهوتي يبتعد عن مجرد الغفران الأخلاقي ويتجه إلى عالم التحول الميتافيزيقي.

منذ تلك اللحظة، بدأ فالغان يخوض معركة داخلية. يصبح رجلاً صالحًا، لكن صلاحه يظل مسكونًا بالماضي إلى الأبد. يعيد اختراع نفسه كمحسن وصناعي ناجح ورئيس بلدية محترم، لكن ظل السجين 24601 لا يتركه أبدًا. إن الوجود المتواصل لجافيرت، المفتش الذي يلاحقه بهوس ميتافيزيقي تقريبًا، يمثل منطق القانون الإيجابي في مواجهة قانون الرحمة. إذا كان فالجان رمزًا للخلاص من خلال التعاطف، فإن جافير هو تجسيد للعدالة غير المرنة، والواجب الذي لا يعترف بالفروق الدقيقة. بالنسبة لخافير، العالم ثنائي: هناك مجرمون وهناك مواطنون شرفاء، ومحاولة فالغان للتنقل بين هاتين الفئتين هي، بالنسبة له، أنهيار غير مقبول.

إن المفارقة الكبرى في رواية هوغو هي أن خلاص فالغان ليس انتصارا مطلقا. ويصبح رجلاً فاضلاً، ولكن المجتمع لا يسامحه؛ إنه يحمي كوزيت كأب محب، لكنه ينتهي به الأمر بالموت وحيدًا ومهمشًا. وهذه هي مأساة الخلاص: فهو لا يضمن القبول الاجتماعي، لأن المجتمع غير مستعد للاعتراف بتحول يتحدى فئاته الأخلاقية الراسخة مسبقاً.

طوال العمل، يُجبر فالغان على الاختيار بين سلامته والصالح العام. كان بإمكانه أن يتجاهل قضية شامباتيو، الرجل الذي اتُهم ظلماً بأنه هو، لكنه قرر الكشف عن هويته الحقيقية وحكم على نفسه بالنفي. كان بإمكانه أن يتخلى عن ماريوس، حبيب كوزيت، ويهرب من المعاناة، لكنه اختار إنقاذه، مخاطراً بحياته. مع كل قرار يتخذه، يؤكد فالغان إنسانيته، لكنه يحكم على نفسه أيضًا بمصير الإقصاء. إن رحلته الأخيرة، التي مات فيها في صمت وتواضع، كانت بمثابة انتصار روحي وهزيمة اجتماعية في آن واحد.

فيكتور هوغو، من خلال بناء جان فالجان، لا يقدم لنا شخصية غير عادية فحسب، بل نموذجًا أصليًا للصراع بين الماضي والفداء، بين القانون والعدالة، بين الهوية المفروضة والهوية المختارة. إن جان فالغان ليس مجرد بائس بالمعنى الاقتصادي فحسب، بل هو بائس بالمعنى الوجودي: رجل تميز بخطيئة أصلية يرفض المجتمع أن ينساها، حتى عندما يتجاوزها. إنه شهيد اللطف في عالم لم يتعلم بعد كيف يسامح.

أخير. إذا كان هناك درس نهائي في البؤساء/ جان فالغان، فهو أن العظمة الحقيقية لا تكمن في غياب العيوب، بل في القدرة على التغلب عليها. لكن هوغو يحذرنا أيضًا: اللطف وحده لا يكفي لضمان نهاية سعيدة. من الممكن تحقيق التكفير، لكنه يأتي في كثير من الأحيان على حساب سعادة الإنسان. إذن الاختزالية الأيديولوجية في رواية “البؤساء". أو جان فالغان صوب الفداء الوجودي للمأساة في تأملية لمأساة الفداء. إن شئتم.

#أكد_الجبوري (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات