|
ترنيمة للراحلين
صفوت فوزى
الحوار المتمدن-العدد: 8283 - 2025 / 3 / 16 - 19:41
المحور:
الادب والفن
بدا عليه الارهاق والتعب . ترك ظهره يسقط على مسند الكنبة كشئ تهدم . شبك ذراعيه على صدره فى استسلام وهو يتطلع ، عبر النافذة ، إلى الأفق البعيد . عيال على الجسر تطارد بعضها فتثير الغبار والتراب . لاذ بصمت ، وارتسم على وجهه تعبير من يود أن يعتذر عن الكلام ، ورأيته يعتصر عينيه البنيتين الضيقتين ويرمش بهما . كان مغمض العينين كمن يحلم ، وهو يخاطب أناسا لايراهم أحد غيره . ساعتها ، تهب عليّ رائحة زمن قديم محبوس ، وأدرك أنه يطلب قيلولة العصارى . ترنو عيناه للضوء البعيد فى النهار الآفل . هيأت له رقدته على الكنبة البلدى ذات المساند والوسائد ، تلك التى كان يلذ له الجلوس متربعا فوقها فى الأوقات التى يطيب فيها السمر والحكايا . تحسس طريقه مهدود الحيل . خلع لبدته الصوف واللاسة البيضاء المزهّرة فبانت صلعته بلون الفضة ، واكتست عيناه بغلالة شفيفة من حزن غامض ، وأحس بهدة الحيل تثقل عليه فتنهد . صفوف من الشجر على الترعة ، تهمى عليها الآن عصافير نهمة لاتكف عن الحركة والصفير . تتمايل فروعها مع هبات ريح مواتية ، ومن النافذة التى تطل على الغيطان ، يعبر النسيم المخلوط بروائح المزروعات ، يتمسح فى الحيطان قبل أن يستأذن منصرفا . يضع يده فوق حاجبيه ، يمعن النظر ويستدعى الراحلين القريبين إلى قلبه بصوت واهن مشروخ بعجز العمر . مدد جسده النحيل بجلبابه الفضفاض ، يسوّى ياقة ثوبه بكفه الصغير المعروق المرتعش . أغلقت له شيش الشرفة فانحسر الضوء . اكتست الحوائط بالظلال وسادت عتمة خفيفة . ثوان معدودات ، ينتظم تنفسه ، ويرتفع شخيره ، فيما يأتينى صوت مواء القطط من بير السلم . أتسلل محاذرا على أطراف أصابعى ، فقد كان يتفزّع لأقل حركة مناديا على أشخاص أسمع عنهم ولم أر أيا منهم ، يحمل فى قلبه رمادهم ، كعائد من زيارة الراحلين فى المنام ، فيما تشيع بملامحه محبة الأيام الخوالى . لحكايات جدى رائحة العيش البلدى الطازج الخارج لتوه من الفرن فى ليالى الشتاء . كبرت فى حجره ، وظل حضنه دائما الملاذ . إن فرحت ارتميت فيه ، وإن تألمت اختبأت فيه أيضا . كم كنت أحب رفقته ، وكم كنت شغوفا بحكاياه وحكمته وفترات صمته وشروده ، إذ يجلس مهيبا ودودا ، وتزدحم فى فمه أصوات لا ينطق بها . هذا الرجل لايكف عن الحكى ، وكأنه يخرج الحكايات من أطراف شاربيه . ألاينام أبدا ؟ كنت أسأل نفسى كثيرا . كان آخر صوت أسمعه قبل أن أنام وأول صوت أسمعه حين استيقظ ، والصباح الفضى يصعد من خلف الغيطان المترامية . أشعر أنه شئ ثابت وراسخ وسط عالم دائب التحرك . ينتابنى احساس صاف بالعجب من أن ذلك الكيان العتيق مايزال أصلا موجودا فى حياتنا . رحل رفاق عمره وأقران جيله بل والأجيال التالية ، وبقى وحده دون رفيق أو قرين . التهم الزمن لحمه وشحمه وأسنانه وثلاثة أرباع بصره وسمعه ، لكنه ظل متوقد الذهن ، كشجرة صحراوية جافة وشامخة . كنت أراه آخر طفرة من الوجوه السمر ، الذى مازال يحمل تحت أظافره خضرة الأرض العفية . فى أيامه الأخيرة ، صار يقضى الساعات بين المقابر ، يتجول بين ممراتها المتربة ، يتعرف على الجيران الذين سيستقر بينهم ، يقرأ لهم " أبانا الذى فى السموات " وبعض المزامير ، وأدعية مختلفة ، قبل أن يستريح أمام مقبرة العائلة ساعة الغروب . - عايز أتعود على المطرح . يقولها مبتسما كلما رأوه عائدا يلهث وينفض الغبار العالق بملابسه . شرع فى ترميم مقبرة الأسرة وإعادة طلائها ، وزرع بنفسه شجرة توت وواظب على ريها كل أسبوع . أملأ عيناى بوجهه الطيب قبل أن أنسحب مغادرا . ******** ينشق فضاء البيت عن صرخات مفاجئة مرعبة ومستغيثة . أدرك لحظتها أن شيئا مهولا قد وقع . لااراديا أهرول مسرعا إلى الكنبة حيث يرقد جدى . كان يتمدد هناك جسدا فقط وقد فارقته الروح ، وأمى تخمش وجهها وتضرب صدرها بيديها وتطلق عويلها إلى عنان السماء . أطيل النظر إلى وجهه النبيل ، هذا الوجه الانسانى المتناسق التقاطيع المرتب القسمات الذى استحال مع الكبر إلى هيكل هش ساكن ، يبدو الآن أمام ناظرى ككائن غريب هبط لتوه من كوكب آخر كل مافيه شائخ وعجوز . آه ياجدى العزيز ، السنين جففت عودك وكرمشت جلدك ، لكنها أبقت لك ابتسامتك الوديعة الطيبة . أحتضنه وأقبله بلهفة ، وألمح جلد رقبته وقد امتلأ بالتجاعيد ، وشعر صدره وقد ابيض وأطل من فتحة الفانلة ، ووجهه الأسمر ، وعينيه الحافلتين بالخير والحب . استسلمت لشعور عجيب بأن جدى لم يمت أو أنه لايزال حيا بطريقة ما أو أن روحه لم تغادر البيت بعد . أكتم دموعى وأنا أهمس له : ألا تعرف أنى أحبك ؟ أغمض عينيه ، وشدد من أغلاق جفنيه ، وكأنه يقول نعم نعم . قلت : وحبى لك لايعادله حب ؟ وفتح عينيه ، وبانت فيهما لمعة حزن وامتنان ، ثم عاد يغلقهما فى ألم . فهتفت صارخا : إذا لماذا تتركنى وتموت ؟ فتح عينيه فى دهشة وحدجنى بنظرة قاسية تنضح بالعتاب واللوم . خفضت صوتى حتى استحال إلى همس وقلت بمرارة : لماذا تركتنا ؟ لماذا لم تقل لى أنك ستموت ؟ ولمحت دمعة صغيرة تفر من عينيه . هأنذا أبكى بحرقة ، ينتابنى احساس عارم بالفقد والخديعة ، احساس أكاد أتذوقه بطرف لسانى وأحس بقبضته الخانقة حول عنقى ، احساس بأننى حزين حزين ، وتائه تائه ، لذعة الفراق موجعة . ********** أنهى الكاهن صلواته وطقوسه الجنائزية على الجسد الموضوع فى الصندوق أمام الهيكل . دعى له بالمغفرة وأن يتجاوز الله عن سيئاته وخطاياه التى صنعها بمعرفة والتى صنعها بغير معرفة فليس هناك انسان بلا خطية حتى لو كانت حياته على الأرض يوما واحدا . صلى من أجل أن يفتح له الرب أبواب الملكوت وأن يرقد بسلام وطمأنينة فى احضان آبائه الأولين . تحرك الناس مغادرين فى صمت ووجوم ، وأنا يقتلنى الحنين ، أحصى بفزع الصغار دقات قلبى التى أسمعها . كنت أرتد لأيامى الماضية حين داهمنى الصوت . يأتى كأنه من عمق السنين ، يتداعى كأنه قادم من الحلم . تراتيل تنبعث من المعابد والكنائس العتيقة ، من غناء الفلاحين فى الحقول ، من صوت النهر الطافى يحمل طميه ، وأنا أندس وسط الأجساد الهشة الأسيانة ، أغدو روحا هائما فى فضاء يتسع ، يحملنى عصفور أخضر ، يسافر بى نحو أعلى نقطة فى قباب الكون الذى يبدو متراميا ولا نهائيا . اودع ظلم الحياة وكدر العيش أنساهم لما أر حبيبى فى العرش سأرى سأرى عيانا فادى الورى أمكث جواره بلا نحيب سأنسى أنا أتعابى هنا سأنسى أنا آلامى هنا حين ألقى يسوع الحبيب تحول المعزون ، فى الطريق الصاعد إلى المقابر ، إلى موج متلاطم ، اجساد كأشباح ، تركت كل مواجعها ، وهامت فى الملكوت ، استخفها الطرب ، وأضناها الوجد ، والصوت يعلو ويعلو ، والأجساد تخف وتشف ، يتسع فضاء المكان حتى يصير مفتوحا على المدى يردد رجع أصداء التراتيل المملوءة وجدا . إن اشتياق القلب زاد وكثر الحنين متى ترى يأتى الرحيل ويبطل الأنين سأرى سأرى عيانا فادى الورى أمكث جواره بلا نحيب سأنسى أنا أتعابى هنا سأنسى أنا آلامى هنا حين ألقى يسوع الحبيب
هذا الطريق الذى أشبعته أقدام جدى رائحا غاديا ، فى أيامه الأخيرة ، هاهو يردد صدى اللحن الحزين الذى ينطلق من افواه الجموع التى تشيعه إلى مثواه الأخير ، هذا العزيز الذى استضافه الفناء إلى الأبد . تجيش بنفسى موجة عاتية من الانفعال والتأثر تكاد تعصف بى وتخرجنى عن طورى . أنظر أمامى ساهما واجما ، صارخا بغير صوت ، وفى الريق مرارة وألم . أبحث فى الوجوه من حولى عن مسكّن لما يستعر فى نفسى ، فلا أظفر إلا بالحزن الصامت والوجوم الكئيب . كان الموت زائرا جديدا علىّ لم أشهد محضره من قبل ، وجدى الذى كانت الأيام تحلو فى وجوده لم يعد موجودا ، هو الآن فى قبضة التراب ، وأنا تدور بى الأرض . ها أنا أودع معه أيامى التى أحببتها . الحياة فى غيابه خواء ينضح كآبة ووحشة . مامن شئ أو شخص فيها يعدنى بعزاء أو تسلية أو مسرة . بدت الحياة متلفعة بثوب الحداد ، وأنا أسير كورقة شجر انتزعتها ريح عاتية من غصنها وألقت بها فى عرض الطريق . ياجدى الحبيب ، كيف تكون الحياة بدونك ، وماذا أفعل فى هذا الألم النافذ إلى العظام ؟ لشد ماأنا حزين ، ولشد ما أفتقدك ، ولكن لاشئ يعود أبدا ، سأذوب فى الدموع أو اعتصم بالصبر . --------------------------------------------
#صفوت_فوزى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الذى يأتى ، ولا يأتى
-
عتبات الحياة
-
بصقة فى وجه العالم
-
وكان مساء
-
لما أنت ناوى تغيب على طول
-
انتظار
-
طائر فى الملكوت
-
الذين مروا من هنا
-
للموتى أجنحة بيضاء
-
سفر
-
والصبح إذا تنفس
-
يوم آخر
-
أم الغريب
-
تخطى العتبة
-
الآن أبصر
-
قشر البطاطا
-
الغريب
-
عزف منفرد
-
أول الفقد أول الوجع
-
همس الحيطان
المزيد.....
-
تحويل النفايات إلى لوحات فنية
-
المسرح اللبناني يفقد أسطورته أنطوان كرباج
-
تاه 95 يوما بالبحر.. صياد بيروفي يعيش تجربة فيلم -Cast away-
...
-
الفنان المغربي محمد مفتاح: دور بدر بمسلسل صقر قريش الأقرب لي
...
-
الغاوون:قصيدة عامية مصرية بعنوان(_الأثر) الشاعر مصطفى الطحان
...
-
الروائي الهندي بانكاج ميشرا وعالم ما بعد الإبادة في غزة
-
سينما المقاومة تحط رحالها في بغداد
-
دراسات مسرحية بقلم د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
-
بين الشرق والغرب: كيف ألهمت الرحلة الفنية لشارل غلاير لوحاته
...
-
هل سافر ابن بطوطة إلى الصين؟ باحثون يروون من جديد حكاية الرح
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|