سامر الناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8282 - 2025 / 3 / 15 - 21:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يُعَدُّ الانتصار اللافت للنظر، رغم ما حَفَّ به من مآسٍ جسام، محطةً مفصلية في تاريخ الثورة السورية بعد كفاح دام قرابة عقد ونصف، تخللته مئات الآلاف من الضحايا وملايين النازحين واللاجئين المشردين في أصقاع الأرض. ومع ذلك، فإن تداعيات هذا الحدث لا تشبه أي انقلاب سابق في سوريا. فخلافًا للانقلابات المتعددة التي شهدتها البلاد في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث سارع القادة الجدد إلى ترسيخ شرعيتهم القانونية لضمان الحكم، يبدو أن المشهد اليوم مختلف تمامًا.
بعد هزيمة النظام، ورغم استحواذ السلطة المنتصرة على مرافق الدولة، تعمدت الغياب عن المشهد العام قرابة خمسين يومًا، في إشارة رمزية إلى خمسين عامًا من القمع. وحين ظهرت أخيرًا، لم تقدّم أي إعلان دستوري تأسيسي، ولا حتى إعلان مبادئ دستورية. وفي التاسع من كانون الثاني 2025، عُقد ما عُرِفَ بـ مؤتمر النصر وسط أجواء احتفالية وخطابات طنانة، ليقتصر دوره على تعيين نفس الشخص الذي كان يمارس فعليًا السلطات القيادية، وإضفاء صفة رئيس الدولة عليه، دون أي تصحيح قانوني، ولا حتى بأثر رجعي لسد الفراغ الدستوري الحاصل.
وعلى الرغم من إقرار تجميد العمل بدستور 2012، إلا أن ذلك لم يسد الفراغ الدستوري، بل عمّقه وجعله أمرًا واقعًا. وهكذا، مضت خمسون يومًا من الضبابية الدستورية، تلتها مرحلة تجميد العمل بالدستور دون تقديم أي بدائل دستورية واضحة.
بقيت العلاقة بين استمرارية الدولة السورية أو القطيعة معها غامضة. فلم يصدر أي عدد جديد من الجريدة الرسمية منذ آخر نشر للنظام السابق في 27 تشرين الثاني 2024. وعلى الرغم من تعثر السلطة الجديدة في بسط سيطرتها الكاملة على جميع مفاصل المؤسسات الحكومية، فإنها لم تولِ أي اهتمام للطابع القانوني لسلطاتها، إذ لم يُنشر أي من قراراتها في الجريدة الرسمية السورية، ولا حتى في الجريدة الرسمية لحكومة الإنقاذ في إدلب، التي توقفت عن الصدور هي الأخرى منذ عددها الأخير في 5 تشرين الثاني 2024.
وبدلًا من استخدام قنوات الاتصال الرسمية للدولة، اعتمدت القيادة الجديدة بشكل شبه كامل على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة تويتر، لنشر قراراتها وإعلاناتها. حتى إعلان النصر نفسه لم يُنشر رسميًا، رغم احتوائه على قرارات محورية، مثل حل الجيش والأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، وحظر حزب البعث نهائيًا، ومصادرة أصوله لصالح الحكومة الوطنية الجديدة، بل حتى قرار تجميد العمل بالدستور لم يُنشر أصوليًا في الجريدة الرسمية.
ورغم الغياب المتزايد لأي صبغة رسمية-دستورية، شهدنا في الثالث عشر من آذار الجاري مراسم توقيع ما عُرف بـ الإعلان الدستوري من قِبَل الرئيس الجديد، بناءً على تفويض من مؤتمر النصر. لكن، رغم عدم تصنيفه كدستور متكامل الصفة، واقتصاره على مجرد صيغة إعلان دستوري يُفترض أن ينظم الحكم خلال المرحلة الانتقالية المحددة بخمس سنوات، فإن النص تشوبه مفارقات قد تكون كارثية، تتجاوز مجرد الغُموض الذي قد يلتف على نشوة فرحة النصر الشعبية في سوريا.
ولإدراك هذه المفارقات، لا بد أولًا من التوقف عند ما أُشيد به من ميزات أو إنجازات مُستجدة، ثم الانتقال إلى تحليل المفارقات المنطقية أو الجوانب السلبية في النص.
الإيجابيات الأساسية للميثاق الجديد
1. تأكيد الدولة الموحدة: جاء النموذج الوحدوي للدولة كمطلب أساسي لمؤتمر النصر والمؤتمر التأسيسي، تماشيًا مع الحساسية العربية تجاه مفهوم الفيدرالية. وبناءً على ذلك، أعاد الإعلان الدستوري التأكيد على الطبيعة الموحدة للدولة السورية، متوافقًا مع دستور 2012 وجميع الدساتير السابقة.
2. تكرار الحياد الديني المُبهم: لم يحدد الإعلان الدستوري دينًا رسميًا للدولة، لكنه حافظ على ذات الصياغة السابقة التي تنص على أن "دين رئيس الدولة هو الإسلام" (المادة 3.1)، تمامًا كما ورد في دستوري 2012 و1973. كما كرر النص مجدداً على أن "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع" (المادة 3.2)، وهو تعديل طفيف مقارنةً بدستور 2012، الذي اكتفى باعتبار الفقه الإسلامي "أحد المصادر الرئيسية".
هذا التغيير يعكس توجهًا مشابهًا لتعديل الدستور المصري عام 1981، لكنه يظل ملتبسًا قانونيًا. فالتعبير "المصدر الرئيسي" باستخدام أداة التعريف "أل" يوحي بالحصر، لكنه يتناقض مع التوصيف السابق الذي أشار إلى الفقه الإسلامي كـ "أحد المصادر"، مما يزيد من الغموض القانوني. وبذلك، لن يكون الفقه الإسلامي مصدرًا حصريًا للتشريع، بل مُجرِّد أحد مصادره، وربما حتى الأقل أولوية، ما يُكرِّس الضبابية ذاتها التي طبعت دساتير سوريا منذ 1973. إضافةً إلى ذلك، لم يتم في أي موضع إقرار إدراج الأحكام الدينية في الحكم مباشرةً، ما لم يتم تقنينها من قِبل السلطة التشريعية ومواءمتها مع المصادر القانونية الأخرى، الأمر الذي يُقمص هذا النص لمجرد شعار جماهيري مفرغ من المعنى، بل ويُكرِّس سبغة بروتوكولية فارغة من أي قيمة قانونية عملية.
3. إصلاح ضمني في الخدمة العسكرية: رغم أن الإعلان الدستوري لم يُلغِ التجنيد الإجباري صراحةً، إلا أنه ربط مفهوم "الجيش الوطني" بمبدأ "الاحترافية" (الفقرة الأولى من المادة التاسعة والثامنة من المادة 48)، ما يشير ضمنيًا إلى التخلي عن التجنيد القسري، الذي كان سمةً بارزة للنظام السابق، دون إقرار صريح بإلغائه أو الحد منه.
4. تعزيز الحماية الاجتماعية والمساواة: أكد الميثاق على مبدأ المساواة في المواطنة، حيث حظرت المادة العاشرة التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو الانتماء. كما إسترسلت المادة 21 إلى حماية إضافية لحقوق المرأة، بهدف تعزيز دورها في المجتمع، وضمان حقها في التعليم والعمل. ومع ذلك، لا يعد هذا الإجراء تطورًا جديدًا، إذ يمثل تكرارًا لما نصت عليه المادة 23 من دستور 2012.
5. الإبقاء على النظام الرئاسي: حافظ الهيكل الجديد للدولة إلى حد كبير على النظام الرئاسي ومركزية الشخصنة المعهود في سوريا. فعلى الرغم من إقرار النص بمبدأ الفصل بين السلطات (المادة الثانية)، إلا أنه مدد اختصاص القضاء الإعتيادي على العسكري (الفقرة الثانية من المادة 45) وحافظ على إرتوازية القضاء الإداري (الفقرة الثالثة من المادة 45)، ما يعزز استمرار نموذج الحكم المركزي التقليدي في البلاد دون أي تغيير جوهري.
لكن هذه النقاط الإيجابية لا تخفي الإشكاليات الجوهرية التي تجعل من الإعلان الدستوري نصًا قابلاً للانتقاد من عدة زوايا، بل وقد يبدو أكثر كارثية ومدعى للإحباط.
1. هيمنة الرئيس على السلطة التشريعية: يتمتع الرئيس بسلطة تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، في حين يتم اختيار الثلثين المتبقيين من قبل لجنة عليا يعيّنها الرئيس نفسه، مما يمنحه سيطرة مطلقة على المجلس. كما لم يحدد عدد مقاعد مجلس الشعب، مما يترك غموضًا حول التمثيل الديمقراطي المُرتقب.
2. غياب آليات المساءلة الرئاسية والعزل: لا يوفر الإعلان أي إطار لمحاسبة الرئيس أو إجراءات عزله، حيث يملك سلطة تعيين وإقالة نوابه دون أي رقابة برلمانية. ومن ثم يُقر الإعلان دوامة السلطة التراكمية، حيث أقرّت المادة 24 سلطة الرئيس لتنسيب مجلس الشعب، ومن ثم في المادة 27 أن يؤدي أعضاء مجلس الشعب اليمين أمام ذات الرئيس الذي نسبهم، وليس أمام رئيس مجلس الشعب، ومن ثم عادت المادة 33 لإقرار بأن يؤدي الرئيس اليمين الدستورية أمام ذات مجلس الشعب الذي تم تعيينه من قبله، مما يعزز مفهوم كاريكاتيرية السلطة التراكمية في قبضة الرئيس.
بل وتسترسل المادة 34 بأن يُعين الرئيس نوابه، ومن ثم يتولى نفسه سلطات إعفائهم أو قبول استقالتهم. ومن ثم في حالة شغور منصب الرئيس، لم يتكلف الإعلان بإقرار أدنى آلية لإعادة انتخاب الرئيس، إنما اكتفى بأن يشغل المنصب نائبه بغير أجل ولا أدنى أهلية لمجلس الشعب للمشاركة في ذلك.
3. سلطات غير مقيدة في إعلان الحرب والأحكام العرفية: يمنح الإعلان الرئيس سلطة إعلان الحرب بموافقة "مجلس الأمن القومي"، الذي يضم وزراء الخارجية، الداخلية والدفاع، ومدير المخابرات وعضوين يُنسبهم ذات الرئيس لعضوية المجلس، دون أدنى رجوع إلى مجلس الشعب. كما يمنحه صلاحية فرض الأحكام العرفية لمدة ثلاثة أشهر دون أدني مراجعة برلمانية، مما يتيح مساحة واسعة للسلطة التنفيذية لقمع الحريات المدنية بدستورية تامة ودون أي قيد.
4. هيمنة رئاسية على القضاء: يتم تعيين قضاة المحكمة الدستورية بالكامل من قبل الرئيس، دون أي دور لمجلس الشعب أو أي هيئة مستقلة، مما يقوِّض استقلالية القضاء الدستوري، بل وان النص غامض أصلاً في سلطات وصلاحيات هذه المحكمة المُرتقبة.
5. إطار غامض للعدالة الانتقالية: أقر الإعلان إنشاء لجنة للعدالة الانتقالية (المادة 49)، لكنه لم يحدد صلاحياتها أو آليات عملها، مما يجعلها عرضة للاستغلال السياسي، أو حتى الإبهام. ناهيك عن مضمون إقرار الفقرة الثالثة من ذات المادة 49 حيث أقرّت تجريم تمجيد النظام السابق أو إنكار جرائمه بالرغم من جوفان المفهوم بالتجريم دون إقرار العقوبة ولا إقرار الإحالة لقوانين تنظيم هذا التجريم، مما يترك المفهوم مجوفاً ومرناً في آن واحد.
6. احتكار الرئيس لصلاحية تعديل الدستور: يمنح الميثاق الرئيس السلطة الحصرية لاقتراح التعديلات الدستورية، مما يمنع أي مبادرة تغيير مستقل خارج نطاق إرادته.
7. عدم وضوح أفق المرحلة الانتقالية: حددت المادة 52 مدة الميثاق بخمس سنوات دون ذكر آلية لتمديده أو تقييمه التدريجي، مما يثير مخاوف تكرار الفراغ الدستوري إزاء انقضاء هذا الأجل.
8. غموض في النشر والنفاذ القانوني: رغم نص المادة 53 من الإعلان الدستوري على سريانه بمجرد نشره في الجريدة الرسمية، إلا أنه لم يحدد أي جريدة رسمية معتمدة لنشره، في ظل غياب أي إصدار رسمي منذ سقوط النظام السابق. وهذا الغموض يضعف القوة القانونية للإعلان، حيث لم يُنشر رسميًا في أي جريدة رسمية قط ، بل اكتفت الرئاسة السورية بنشره على منصة "تويتر"، مما يعمق أزمة الفراغ الدستوري ويكشف عن نهج عشوائي في إدارة الدولة. والمفارقة أن هذه الإدارة نفسها، حين كانت تتولى حكومة الإنقاذ في إدلب، كانت تصدر جريدة رسمية معتمدة، تضمن الحد الأدنى من الشرعية القانونية، وهو ما تم تجاهله بالكامل منذ صبيحة النصر وحتى الآن.
ألخلاصة
يمكن تصنيف النظام الجديد بوصفه "منظومة أمر واقع"، لكنه يعاني من هشاشة الشرعية الدستورية الواضحة. وبرغم الاحتضان الدُوَلي للسلطات الجديدة، فإن غياب إطار دستوري واضح يجعله نظامًا قانونيًا مبهمًا يعاني من هشاشة دستورية عميقة. بل ويطرح مفارقة في نظرية هوريو وجيكل، في حيث أن "الدولة التي تقدم نفسها للعالم دون دستور، كمن يحضر حفلة رسمية مرتديًا ملابس السباحة" (1966، ص 73).
ورغم أن الإعلان الدستوري يضع أساسًا للحكم الانتقالي، فإنه لم يحقق بعد مفهوم "الدستور الشعبي" المرتقب، إذ يُرسِّخ مجدداً نمط السلطة المركزية بدلًا من إرساء نظام قائم على المشاركة والمحاسبة كما كان يتأمل الشعب السوري. ويبقى السؤال المطروح: هل يمهِّد الإعلان الدستوري خطوة أولى نحو الديمقراطية المرتقبة، أم أنه مُجرَّد إعادة تدوير لمنظومة الاستبداد والشخصنة العربية بحُلَّة جديدة؟
#سامر_الناصر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟