أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - صناعة الشعوب المشوهة














المزيد.....


صناعة الشعوب المشوهة


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8279 - 2025 / 3 / 12 - 07:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تُعَدُّ "البروكرستيَّة" واحدة من أخطر أمراض العقل، وهي ليست مجرد أسطورة إغريقية قديمة، بل نهج سياسي قمعي تتبناه الأنظمة الشمولية، خاصة في شرقنا الأوسطي، وأداة خبيثة لتطويع الشعوب وفق قوالب جاهزة.
ابتُليت شعوبنا بأنظمة تستلهم منطقها ومفاهيمها من وباء ذلك السفاح الذي كان يمدّد ضحاياه أو يبتر أطرافهم حتى تتناسب مع سريره الحديدي، لكن الفرق أن أنظمتنا لا تستخدم الحديد، بل تُعيد تشكيل العقول، وتهندس الإدراك، فتخلق شعوبًا مشوهة نفسيًا وفكريًا، لا ترى إلا ما يُسمح لها برؤيته، ولا تنطق إلا بما يُؤذن لها بقوله.
النظام السوري البائد كان نموذجًا حيًا للبروكرستية السياسية والثقافية، حيث لم يكن المطلوب من الشعب أن يكون متنوعًا أو مفكرًا، بل مجرد قطيع مشذَّب وفق معايير السلطة، كان القمع أداة التشذيب، والسجن والموت عقوبة من يتجاوز حدود القالب المرسوم.
أما النظام الحالي، الذي يزعم أنه جاء ليصحح المسار، فإنه لا يفعل سوى إعادة إنتاج الاستبداد في ثوب مختلف، أو أن هناك قوى تدفعه عمدًا نحو المستنقع ذاته، مستغلةً الشرائح التكفيرية المنضوية تحت هيئة تحرير الشام أو الموالية لها، لنشر الجريمة الممنهجة تحت ذرائع متعددة: مرة باسم الثأر من فلول النظام، ومرة أخرى تحت غطاء الردع الديني.
النظام يتغاضى، إما لعجزه عن الردع، أو لأنه يجد في هذا التطرف أداة لتثبيت هيمنته، فيرتدي قناعًا مختلفًا مع كل مرحلة، ويطلق تصريحات متناقضة، تتنافر مع أفعاله على الأرض. وهكذا، يحل الاستبداد الديني محل الاستبداد القومي، ويبقى جوهر الطغيان واحدًا: فرض نمط حياة أحادي، قولبة العقول، وإلغاء كل ما يتعارض مع مشروع السلطة.
وفي هذا المشهد المعقد، تبقى الآمال معلقة على الاتفاقية التي تمت بين قوات سوريا الديمقراطية وأحد أطراف الحراك الكوردي، لعلها تكون خطوة نحو كبح التطرف، وتصحيح المسار الطائفي، قبل أن يتحول إلى قدر محتوم يكرّس دورة جديدة من الاستبداد، بوجه مختلف، لكن بروح الهيمنة ذاتها.
في ظل الأنظمة الشمولية، سواء النظام السوري البائد أو النظام الحالي إذا انحنى أمام التطرف الإسلامي، لا تُعامل الشعوب ككيانات حية ذات إرادة، بل تُختزل إلى مواد خام تُصاغ قسرًا وفق مقاييس السلطة، يتم تفريغ الهوية من جوهرها، واستبدالها بقوالب جاهزة تخدم منظومة الاستبداد، حيث يصبح الإنسان مجرد وسيلة، لا غاية، في لعبة الهيمنة والتوظيف الأيديولوجي.
يُبتر الفكر الحر إن تجاوز المسموح، تُقطع الألسنة إن نطقت بما لا يجب، تُخاط الأفواه إن حاولت الصراخ، وتُفقَأ العيون إن حاولت رؤية ما هو أبعد من الدعاية الرسمية، حتى الإدراك يُشوَّه؛ فالبصر لا يعود بصرًا، بل يتحول إلى أداة انتقائية، لا يرى إلا ما يُراد له أن يراه، وكل من يخرج عن هذا الإدراك الجمعي المشوه يُوسَم بالخيانة، بالكفر، بالخروج عن "المصلحة الوطنية" أو "التوجه الديني الصحيح".
إن البروكرستية ليست مجرد أداة قمع، بل هي مشروع منهجي لإلغاء التنوع وإنتاج أمة واحدة، بنسخة مكررة، لا تفكر ولا تسأل، بل فقط تطيع، وهذه هي أخطر أشكال الديكتاتوريات، حيث لا يكتفي المستبد بالسيطرة على الأرض، بل يسيطر على الأذهان، فيصبح الشعب نفسه حارسًا لسجنه، يحرس قالبه الحديدي، ويقطع أوصال من يحاول التمرد عليه.
إن أنظمة الشرق الأوسط ليست سوى نماذج محدثة لبروكرست، حيث يتم تشذيب الشعوب وفق مقاييس السلطة، لا وفق معايير العدالة أو الحرية، وسوريا، سواء في ظل النظام البائد أو في ظل المشاريع الدينية الاستبدادية الجديدة، لم تفلت من هذا المصير، بل لا تزال تُبتر أطرافها الفكرية، وتُمَدَّد مكونات سوريا على سرير قمعي، حيث يُعاد تشكيلها قسرًا وفق مقاييس الاستبداد. وما جرى مؤخرًا في منطقة الساحل من جرائم مروعة بحق المدنيين العزل من المكون العلوي، بأبشع الأساليب الإجرامية، ليس إلا مثالًا حيًا على هذا النهج.
ورغم أن فلول النظام المجرم البائد لعبت دورًا في إشعال هذه الفوضى، إلا أن ما يحدث اليوم، كردة فعل، وثأر مبطن، لا يختلف في جوهره عن سرير بروكرست، إلا في الأداة.
فالمبدأ يظل واحدًا، أن تكون كما يريد الحاكم، أو أن تُجتث، أن تنكمش حتى تطابق قالبه، أو أن تُمدد قسرًا حتى تتلاشى هويتك.
وهكذا، لا يُترك للشعوب خيار سوى الخضوع أو الإلغاء، في معادلة يتغير منفذوها، لكن يبقى الاستبداد فيها هو القانون الوحيد الذي لا يتغير.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
9/3/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة سياسية في اتفاقية مظلوم عبدي وأحمد الشرع
- سوريا على طريق التقسيم بين إرهاب الدولة واستبداد الإسلام الس ...
- سوريا بين المركزية القاتلة والفيدرالية المنقذة
- بين ضرورة الإصلاح ومخاوف التفكك في سوريا
- القضية الفلسطينية بين واقع التاريخ وخطاب الأنظمة العروبية
- أردوغان في قبضة ترامب هل يواجه مصير زيلينسكي أم يراوغ بذكاء؟
- تحليل واستنتاج خطاب القائد عبد الله أوجلان (دعوة السلام والم ...
- تحليل واستنتاج خطاب القائد عبد الله أوجلان (دعوة السلام والم ...
- ترامب وبينس إهانة للبيت الأبيض باسم السلام
- تحليل واستنتاج خطاب القائد عبد الله أوجلان (دعوة السلام والم ...
- تحليل واستنتاج خطاب القائد عبد الله أوجلان (دعوة السلام والم ...
- الجميع حضر في قاعة مؤتمر دمشق إلا الوطن!
- مخرجات المؤتمر الوطني السوري سلاح جديد في معركة تركيا ضد الك ...
- تركيا وإعادة إنتاج الاستبداد والدور الفاجر في صياغة مؤتمر ال ...
- تحويل القضية الفلسطينية من صراع قومي إلى أداة للتلاعب الإقلي ...
- كيف ابتلعت العروبة شعوبًا وحضاراتٍ بأكملها؟
- لماذا يتهافت الكورد على دمشق بدل فرض شروطهم من قامشلو؟
- الحرب النفسية والدعاية السوداء كيف تستهدف تركيا استقرار غربي ...
- ما بين التسوّل السياسي الكوردي والقيادة الحقيقية
- ميلاد كوردستان بداية الاستقرار والتعايش في الشرق الأوسط


المزيد.....




- خسائر ضخمة للأسواق الأمريكية فاقت الـ4 تريليونات دولار.. هل ...
- -ضميرنا شفاف لأننا خُدعنا مرارا-.. لافروف يقص -حكاية روسيا و ...
- وسائل إعلام سورية تتداول -وثيقة تفاهم بين القيادة السورية وو ...
- المبادرة المصرية تدين الإصرار على حجب موقع -زاوية ثالثة- عبر ...
- كاتس يحذر الشرع: -الجيش الإسرائيلي يراقبك من جبل الشيخ كل صب ...
- المفوض العام للأونروا: إسرائيل تستخدم قطع المساعدات الإنساني ...
- الحوثيون يهددون باستئناف مهاجمة سفن إسرائيل
- بيسكوف: ننتظر الحصول على تفاصيل مفاوضات جدة خلال محادثاتنا ا ...
- خبير يتحدث عن تطورات في خطة مصر لدعم غزة
- أردوغان: يتم تحضير كمين قذر لتركيا


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - صناعة الشعوب المشوهة