|
طائر في سماء الحرية وهب نفسه للفكر والحياة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8278 - 2025 / 3 / 11 - 13:20
المحور:
قضايا ثقافية
( شهدت مدينة النجف الأشرف مساء الأربعاء الماضي الخامس من آذار، حفلاً باذخاً في ديوان آل سميسم الثقافي تكريماً لابن المدينة البار المفكر والأديب رجل السلام والتسامح ونبذ العنف عبد الحسين شعبان تقديراً لنضاله واعتزازاً واعترافاً بدوره الريادي ووفاءً لعطاءاته. وقد غص الديوان على سعته بمئات الشخصيات العراقية والعربية الدينية والاجتماعية والأكاديمية والثقافية والأدبية والصحفية، وألقيت الكثير من الكلمات التي تناولت جوانب مختلفة من شخصية المحتفى به وانجازاته ) . " انطباعات شخصية " بقلم طه جزاع يوم تواصلتُ مع الأستاذ عبد الحسين شعبان، ثم تعرفتُ عليه شخصياً في جلسة هي هدية العمر من صديق العمر زيد الحلي لم أكن أحسبُ أن هذا اللقاء يمكن أن يتكرر، ولعله كما كنتُ أظنُ وقتها، مصادفةٌ من المصادفات التي نتعرف فيها على شخصيات طالما قرأنا لها وتابعناها وأُعجبنا بأفكارها ومسيرة حياتها، وبعد اللقاء يمضي كل منا في طريق. غير أن هذا الرجل كما عرفته لاحقاً يحسبُ لكلِ أمرٍ حسابه، ويضعُ الناسَ في مقاماتها، ويعطي الصداقات حقها، فلا شيءَ عابرٌ لديه، وكلُ لحظة في حياته هي لحظة فكر وجدل وعمل وتواصل ومحبة. لقد وهب نفسه للفكر، ولا يوجد شيء أنبلَ من رجل وهب نفسه للفكر كما يقول ماركوس شيشرون خطيب روما الشهير، ولعله قال ذلك تحت تأثير المذهب الرواقي في الفلسفة والأخلاق. وفي شخصية شعبان وخلقه واسلوبه أشياءَ وأشياء من الرواقية التي كانت تدعو للعيش وفق الطبيعة والعقل والفضيلة، وذلك هو طريق السعادة للإنسان الذي لا يمكن أن يكون سعيداً إلّا بالحكمة والعدل والاتزان. لا أقول ذلك تماهياً مع الصيغة الاحتفالية لتكريم عبد الحسين شعبان في مدينته ومسقط رأسه النجف الأشرف، وفي هذا الديوان الثقافي العامر بحضور نخبة طيبة من الوجوه الاجتماعية والمثقفين والأدباء والكتاب والصحفيين، إنما من تجربة حياتية عشتها خلال السنوات الأخيرة تركت في نفسي انطباعات كثيرة حول شخصيته وخصاله الإنسانية التي هي نتاج تجربة صعبة ومريرة مع الحياة وأنواع السلطات، ومع اليمين واليسار، والتيارات الرجعية والتقدمية، والحركات المعتدلة والمتطرفة، ومع الأشخاص من قياديين وكوادر حزبية، فضلاً عن تربيته الأسرية وتأثير مدينته الدينية التي شكلت اللبنة الأولى في بناء شخصيته. ويكاد شعبان يُظلَمُ حين يُحسب مع اليسار والماركسيين تارة، أو يعدُ من الشيوعيين تارة أخرى، ذلك قد يكون صحيحاً حرفياً في شبابه وعند خطاه الفكرية والحزبية المبكرة، قبل أن يكتشف بالعمل النضالي الميداني إن الأفكار حين تطبق على أرض الواقع تفقد الكثير من اندفاعها وحماستها، والأخطر من ذلك قد تغير من بوصلتها، وأن الماركسيين علي سبيل المثال أقسام وأصناف منهم الطقوسيون والمدرسيون والمسلكيون والذرائعيون، وآخرهم العولميون الذين استبدلوا الولاء من موسكو إلى واشنطن . مشغله الفكري مثل مختبر يحتوي كل المواد الكيميائية والعناصر الفلزية الضرورية، يخلطها في دورقه، ويختبرها، وقد يفجرها في بحث أو كتاب أو مناقشة، فما ينطبق على قوانين الكيمياء قد ينطبق على ميادين الدين والسياسة والقانون والأخلاق، مثلما ينطبق على البشر الذين هم ليسوا أكثر من كائنات بأجسام مكونة من عناصر كيميائية، لولا هذا الجوهر الذي يختزن الفكر والمنطق والخيال والجمال ويمنح الانسان القدرة على العيش متوافقاً مع القوانين العقلية والكونية. وقد يتوافق، أو لا يتوافق. بعد اللقاء الأول مع الأستاذ أخذ هو زمام المبادرة، فمع أننا قد تبادلنا أرقام الهواتف غير أنني كنتُ محرجاً من التواصل معه لعدم معرفتي بأوقات فراغه أو تقبله، لكنه كان بلطفه يتواصل معي بين حين وآخر من بيروت ولندن وأربيل بحيويته المعهودة وتدفقه في الحديث، بل ونلتقي كلما جاء إلى بغداد، وقد تلمستُ الكثير من السمات الطيبة في شخصيته الفريدة، فهو تنويري بكل ما تحمله الكلمة من معنى، متسامح في سلوكه، منفتح في حواراته، انساني في نزعته، فلسفي في عقلانيته، صوفي في روحه، كريم في معاملته، أبعد ما يكون عن الإنغلاق والتقوقع والتطرف، متحرراً من أصنام العقل كما تحدث عنها فرنسيس بيكون والتي تعيق الإنسان من الوصول إلى المعرفة الحقيقية والتفكير السليم، مندمجاً في الروح الكونية التي يتساوى فيها جميع البشر مجردين من علائق العرق والدين والنحل والملل، تلك الروح التي ألهمت المهاتما غاندي قبل مائة عام مفهوم المقاومة السلمية ونبذ العنف والعمل من أجل للسلام، ويوماً ما كنا قد تجاوزنا في طريقنا مقام الحسين بن منصور الحلّاج في محلة المنصورية بالكرخ، فوجدتُ فيه رغبة ملحة لزيارته مع أن باب المقام كان مغلقاً، وكان له ما أراد، عدنا إلى ذلك الدرب الضيق ليقف أمام الباب متأملاً بعمق، كأنه يلقي التحية بصمت على ذاك الذي أفنى نفسه في الحب الإلهي، ليدفع حياته ثمناً للمحبة والنور والتسامح. أما ذاكرته الذهبية، فتلك موهبة من أعظم مواهبه، تجعل مجلسه من أرقى المجالس، وحديثه من أجمل الأحاديث، وحكاياته من أمتع الحكايات. إنه حكَّاء بارع، تعينه ذاكرة متوهجة، كأنه تاريخ يمشي على قدمين، وفي عدد من كتبه تظهر مهارته الأدبية الروائية والحوارية فضلاً عن خزينه الفكري ولاسيما تلك المتعلقة بالسير الشخصية والنضالية ومصائر أبطالها. بل أن ذاكرته تعينه وهو على أعتاب الثمانين عاماً في استذكار رفاق دربه الطويل وعلاقاتهم الاجتماعية، عوضاً عما يختزنه من ذكريات ومواقف وحكايات. ولطالما أثار الدهشة والاعجاب وهو يتحدث عن التاريخ العراقي السياسي المعاصر وتياراته ورجاله وأخطائهم وخطاياهم، حديث الأمل لا الندم، والمحبة لا الكراهية. في مثل هذه الأيام من آذار قبل عام رافقت مع عدد من الأصدقاء الدكتور عبد الحسين شعبان إلى جامعة الأنبار بدعوة من قسم الاجتماع، وبعد الانتهاء من تقديم محاضرته، انطلقنا إلى مدينة هيت التي له فيها صداقات قديمة وذكريات مع رفاق من أبنائها، وعلى الرغم من اصابته بأعراض شديدة لنوبة برد مفاجئة لكنه تألق في امسية خاصة بمزرعة على ضفاف الفرات، كان فيها متدفقاً حتى ساعة متأخرة من الليل، مطاولاً اشتداد برودة آذار، حاكياً ومحاوراً ومجيباً الحضور عن تساؤلات واحتمالات وفرضيات عن مسارات الحركات السياسية في العراق ومسيرة الحزب الشيوعي العراقي على وجه الخصوص، قياداته وقواعده، من مقاهي سوق الشيوخ في الناصرية إلى شاقوفة هيت الأنبارية. وقبل ذلك كنا قد تجولنا عصراً على كورنيش المدينة وقد أشار أحد المضيفين إلى باب بيت الشاعر جاسم محمد أمين الذي حل فيه الجواهري ضيفاً على هيت، فأقترب منه وطلب التقاط صورة لذكرى لا يريدها شعبان أن تكون عابرة. وفي صباح اليوم التالي لم يمانع في الصعود إلى قرى أعالي الفرات وعند قرية زخيخة التي تناولنا فيها وجبة غداء سمكية لذيذة. كنتُ الاحظ اشتداد الزكام عليه، لكنه كان يبدو طبيعياً، يتمتع بالطبيعة والشمس والنهر والبستان ورفقة الأصدقاء، لم يشكو، ولم يتعجل العودة، فقط طلب أن يأخذ قسطاً من الراحة ليغط في نوم عميق لم يزد عن الساعة لينهض بعدها وكأن شيئاً لم يكن لنشد الرحال عائدين إلى بغداد. لمستُ في شخصيته الزهد والتواضع والروح المرحة واجادة فن الاصغاء، وحب الاندماج في الحياة اليومية بكل تفاصيلها، وعندما يكون في بغداد أشعر أنه لا يريد أن يضيع لحظة من وقته فيها كأنه يريد أن يعوض سنوات طويلة من البعد والغربة، وحين التقينا في معرض الكتاب قبل أربع سنوات، وبعد حضوره حفل توقيع كتاب " آخر المشوار" للرائد الصحفي محسن حسين، استجاب بلا تردد لدعوة عشاء على أكلة باجة كظماوية أقامها الزميل الكريم علي عبد الأمير الزبيدي في أحد المطاعم الشعبية، وسرعان ما توسعت المائدة بحضور عدد من الصحفيين والكتاب يتوسطهم الشاب عبد الحسين شعبان الذي يتنقل بين محافظات العراق جنوباً وشمالاً وسطاً وغرباً، ويسافر بين البلدان بخفة طائر في سماء الحرية. هذه انطباعات طريفة وسريعة عن هذه الشخصية نجفية المولد، عالمية الإنتماء، إنسانية الفكر، أردت أن أخرج فيها من جمود عشرات، بل مئات البحوث العلمية والمقالات الصحفية والدراسات الأكاديمية التي تناولت إنجازاته ونضالاته واسهاماته في قضايا التحرر والحداثة والتنوير والسلام واللاعنف، وجدتها مناسبة ونحن نحتفي به انساناً ومفكراً يطوي تحت جناحيه ثمانين حولاً ولم يسأمِ، بل ازداد توهجاً وعطاءً في الفكر والبحث والمناقشة والعمل بلا جدل. لعله يستلهم في ذلك مقولة الشيخ الصوفي معروف الكرخي " إذا أراد الله بعبدٍ شراً، أغلق عنه باب العمل، وفتح له باب الجدل، وإذا أراد به خيراً، فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل" . هكذا هو عبد الحسين شعبان. وهب نفسه للفكر والحرية والحياة. للعمل والنضال من أجل حياة أفضل تليق بالإنسان.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رائد التجديد والفكر الحر
-
عرفاناً وتثميناً بذخائر ومأثر منجزاته ونبل مواقفه النجف الأش
...
-
الشرق الأوسط وعواصف الجيوبوليتك
-
من عمّان إلى بيروت حوارات عربية كوردية لتعزيز التعايش وإدار
...
-
عبد الحسين شعبان - العقل المواجه والموازي للغرب
-
الثقافة وثلاثية الظلام
-
عينكاوة تحتفي بعبد الحسين شعبان
-
المفكّر عبد الحسين شعبان... إلّا فلسطين
-
المفكر العراقي عبد الحسين شعبان .. رحلة الإقامة الفكرية بين
...
-
-الماركسية الجديدة- وأزمة اليسار العربي قراءة في مفهوم الدكت
...
-
-الماركسية الجديدة- وأزمة اليسار العربي - قراءة في مفهوم الد
...
-
الكتابة روح وهُويّة وفعل تنوير، كما هي فعل تغيير
-
شريف الربيعي: غياب أم حضور؟
-
اليسار الأخلاقي.. عبد الحسين شعبان نموذجًا
-
يوم الوفاء.. وتجليات الفكر النهضوي
-
رسالة تعزية لرحيل أبو أحمد فؤاد
-
قيس الزبيدي حين تكون الحياة شاشة سينما
-
لماذا مدّدت واشنطن العقوبات على دمشق؟
-
لا تتركوا الأمازيغ...!
-
قصائد الصباح امتطت صهوة المجد وابياتها شامخة انيقة الإحساس:
...
المزيد.....
-
السعودية.. انزعاج من ظاهرة افتراش أرض الحرمين يثير تفاعلا وا
...
-
واشنطن تعلن انتهاء حظر المساعدات العسكرية وتبادل المعلومات ا
...
-
برلمانية أوكرانية: سيرسكي يقيل جنرالا تلاحقه روسيا جنائيا
-
زيلينسكي: أوكرانيا مستعدة لوقف كامل لإطلاق النار لمدة 30 يوم
...
-
مستشار أمريكي سابق: قيادة أوكرانيا ستحاول تعطيل وقف النار با
...
-
ترامب يعاقب ولاية أمريكية رفضت تنفيذ أمر أصدره بخصوص المتحول
...
-
البيت الأبيض: لا تسامح مع المنحازين لمنظمات إرهابية
-
سفن حربية لروسيا وإيران والصين تتدرب على تحرير سفينة مختطفة
...
-
خطأ شائع نرتكبه في المطبخ يمكن أن يسبب الخرف!
-
المكسيك تقرّ تعديلا دستوريا لمكافحة التدخلات الأجنبية
المزيد.....
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|