أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - محمد عبد القادر الفار - كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت















المزيد.....


كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت


محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)


الحوار المتمدن-العدد: 8278 - 2025 / 3 / 11 - 09:18
المحور: كتابات ساخرة
    


في مقابلة له، قال فيديريكو فيليني: "لا تنتهي أفلامي أبدًا. ليس لها حل بسيط... من غير الأخلاقي أن تروي قصة لها خاتمة."

بمعنى آخر: لا أحد ينجو من نفسه. لا في السينما، ولا في الحياة، ولا في أرشيف الإنترنت. كنت أظن أن هذه مجرد فلسفة شاعرية تصلح لمهرجان كان، حتى وجدتُ نفسي أقلب في مقالاتي القديمة وأدركتُ أنني، بلا وعي، كنت أعيش هذا الجحيم المستمر، حيث لا شيء يُمحى، ولا فكرة تموت، وكل ما كتبته يومًا قد يصبح شبحًا يلوح لي من أحد Zombie Websites المهجورة، حيث لا تزال حروفي تتسكع هناك مثل شخصٍ طُرد من الزمن لكنه نسي الرحيل.

الكلمات نفسها تنفجر سخرية من عذابات كاتبٍ يكاد يغرق على شواطئ الكلمات وعلى الضجيج الخافت لهذه الملحمة السريالية التي تدور حول رجل يطارد ظله


*جريمة قتل مع سبق الإصرار.. لكن الضحية تعود كل مرة

في عام 1967، أعلن رولان بارت موت المؤلف، لكنني أؤكد لك أن المؤلف لا يموت، بل يتحول إلى مخلوق رقمي غريب يعيش في ذاكرة التخزين المؤقت لجوجل. كل مقالة كتبتها قبل عشر سنوات لا تزال هناك، تتنفس، تتكاثر، ترفض أن تُدفن، مثل مخلوقات Westworld التي تظن أنها أحرار، بينما هي مجرد نسخ متكررة تسير في حلقة عبثية.

إذا كنتَ من رواد المنصات الفكرية، فقد تكون مررت بمقالاتي القديمة، التي كتبتُها كما يكتب إميل سيوران عن الانتحار وهو يحتسي الإسبريسو، ثم هجرتها كما هجر غوستاف فلوبير أوهامه عن الحب المثالي، ثم عدتُ لأجدها هناك، تحدّق فيّ كما يحدّق ميشيل فوكو في فكرة "الجنون"، متسائلًا: "هل أنت متأكد أنك كنت طبيعيًا عندما كتبت هذا؟"

*أنا.. لكن بنسخة أقدم

حين أعود لقراءة مقالاتي القديمة، أشعر كأنني أعيش في الموسم الثاني من Westworld، حيث لم تعد النسخ الاصطناعية مجرد مضيفين، بل أصبحت تُخلق للزوار أنفسهم، بناءً على بياناتهم وسلوكهم.

تمامًا كما كان جيمس ديلوس، رجل الأعمال الذي حاول تكرار نفسه في جسدٍ اصطناعي لكنه فشل مرارًا، أجد أنني أعود إلى نفسي القديمة وأحاول أن أفهمها، أراقب كيف كانت تتحرك، كيف تفكر، كيف تبرر نفسها، لكن دون أن أشعر أنها أنا تمامًا. نسخة مني، لكنها نسخة غير مستقرة، تعيد نفس الأخطاء، تكرر نفس العبارات، تكتب بحماسة مخيفة ثم تنهار تحت ثقل الزمن.

في كل مرة أقرأ فيها مقالًا قديمًا لي، أكتشف أنني كنت أحاول إعادة خلق نفسي في كل مرحلة، لكن، وكما اكتشف ديلوس في محاولاته المتكررة، لا يمكن لأي نسخة أن تتطابق تمامًا مع النسخة الأصلية. نحن محكومون بالتغير، محكومون بأن نصبح شيئًا آخر باستمرار.

*الكاتب كدمية في يد غرائزه (وهو مقتنع أنه يكتب بوعي شديد)

لطالما تغنيتُ بحرية الفكر، وبأن الكتابة "مشروعٌ عقلاني"، لكنني كنتُ أكتب بدافع غرائزي خالص، كما يكتب كلبٌ عن فلسفة أكل العظام، أو كما كان يكتب ماركيز دي ساد عن حرية الجسد في زنزانته الباريسية، مقتنعًا أن العالم يحتاج إلى المزيد من نظرياته عن الانحراف.

كنتُ أكتب بانفعال، بدمٍ ساخن، كأنني محاربٌ قديم يرسل رسائل أخيرة إلى حبيبته قبل أن يلقى حتفه في معركة خاسرة، ثم بعد عام، أعود لقراءة ما كتبته، فأجد أنني كنت أقاتل في الجانب الخطأ، وأن "الحبيبة" لم تكن سوى فكرةٍ رومانسية سخيفة زرعتها في رأسي سينما إنغمار بيرغمان بتجهمها الوجودي، أو قصائد بودلير المتعفنة برائحة العدم.

لكن، لا بأس، من منا لم يمر بهذه المرحلة الساذجة من الحماس المفرط؟ لا تحكموا عليّ بقسوة، فكما يقول المثل: "كان ذنبًا ثم أصبح تجربة ثم صار حكمةً ثم تحول إلى محاضرة أخلاقية ألقيها على الآخرين!"

*"إن لم تستحِ فناقش نفسك"

تخيلوا رجلاً يكتب مقالًا ناريًا عن الاشتراكية العلمية، ثم بعد شهور يكتب مقالًا آخر عن فضائل السوق الحرة، ثم بعد سنة ينشر مقالًا صوفيًا عن الزهد والروحانية، ثم بعد عامين، يهاجم كل ذلك بوصفه "أوهامًا برجوازية زائفة"!

ما الفرق في النهاية بين عازف شارد في عرض موسيقي، وبين نزار في فيلم أمريكي طويل، الذي بدأ رحلته كأيقونة الحزبية المتحمسة، لكنه ينتهي متشرذمًا، تائهًا، فاقدًا لليقين الذي كان يظنه صلبًا كالرخام.

نزار ليس مجرد شخصية حزبية، بل هو الكليشيه الحي للمناضل الفتيّ، الذي يحفظ كتيبات ماركس ولينين عن ظهر قلب، يردد الشعارات كما لو أنها تعاويذ تحميه من الشك، لكنه مع كل مشهد جديد، يتضح أنه مجرد خيط في نسيج عبثي أكبر منه. إنه مثال لمنحنى الشخصية المكسور (broken character arc)، الشخصية التي تبدأ متوهجة بانفعالاتها، متماسكة بأفكارها، ثم ينكشف الوهم شيئًا فشيئًا، حتى يتحول بريقها إلى رماد، تمامًا كما يحدث عندما تعود إلى كتاباتك القديمة وتدرك أن صراعاتك الفكرية لم تكن أكثر من حلبة سيرك، حيث كنت تؤدي عروضًا فكرية أمام جمهور من الأشباح الرقمية التي لا تصفق ولا تعترض، لكنها لا تنسى أيضًا.

أما رشيد، فهو كابوس عبثي آخر، لكنه أكثر انفتاحًا على فوضويته. رشيد هو ذلك النوع من الشخصيات التي لا تبحث عن الحقيقة، بل عن الضجيج، عن المعركة بحد ذاتها، بغض النظر عن فحواها. لو وُجد رشيد اليوم، لكان أحد هؤلاء الذين يقضون يومهم في تغريدات مشحونة، ثم في الليل يرفعون منشورًا طويلًا عن "الهروب من صخب العالم"، قبل أن يعودوا في اليوم التالي إلى حلبة الصراع الرقمي، وكأنهم نسوا لحظة التأمل الوجودية تلك.

رشيد لا يمر بمنحنى شخصية، رشيد هو المنحنى ذاته. إنه كائن يتحرك على الدوام بين الانفجار والانطفاء، بين الوعي واللامعنى، بين التنظير الفلسفي والسقوط في شِباك ذاته المتاهية. لو أن مسرحيات زياد كانت سلسلة تلفزيونية، لرأينا رشيد يظهر في كل موسم بنفس الشخصية لكن بأزياء مختلفة، تارةً كمناضل، تارةً كواعظ، وتارةً كمهرج يرتدي بدلة رسمية ليثبت أنه "جاد هذه المرة".

لكن المفارقة العجيبة أن هذه الشخصيات، رغم عنفوانها وصخبها، تظل أكثر قابلية للتلاشي مقارنةً بشخصيات جامدة وثابتة ظاهريًا، لكنها أكثر اتزانًا من الناحية السردية. خذ أبو ليلى في فيلم أمريكي طويل مثلًا، إنه كتلة من السكون الظاهري، لا يحاول إثبات شيء، لا يدخل في معارك أيديولوجية، لكنه على الأقل لا يضيع في متاهة أفكاره كما فعل نزار. أو انظر إلى رامز في بالنسبة لبكرا شو، الذي بدا طوال المسرحية كشخص هادئ أو ممل حتى، لكنه في النهاية الشخص الذي يملك مفتاحا ما من مفاتيح اللعبة حتى ان الخواجا ينتبه إلى موهبته، بينما رضا ونجيب ينتهيان وكأنهما مقطوعتان موسيقيتان لم تكتمل، أو بالأحرى، لم تكن لديهما النية للاكتمال من الأساس.

رامز قد يكون مجرد موظف في مكاتب هذا العالم، لكنه ليس نسخة تالفة من نفسه. إنه مثل Bach s Goldberg Variations، تكرار مع اختلاف، لا تحوّلًا جنونيًا مثل نزار أو رشيد. إنه أقرب إلى موسيقى موزارت التي وصفها البعض بأنها "بسيطة لمن يسمعها، معقدة لمن يحاول عزفها"، فهو يبدو نمطيًا، لكنه أكثر تركيبة من كل الفوضى التي تدور حوله.

أما رضا ونجيب، فهما مثل شخصين عالقين في كابوس فيلم من افلام لوي بونويل، يتحدثان، يخططان، يتحركان، لكن لا أحد يعرف إلى أين ولماذا. إنهما مثل الكتابات القديمة التي لا تزال عالقة على الإنترنت، لا تختفي، لكنها أيضًا لا تعني شيئًا بعد الآن. يمكنك أن تراها، لكنك لا تشعر أنها حقيقية.

وهنا المفارقة الكبرى: كل شخصيات الفوضى في مسرح زياد الرحباني: نزار، رشيد، حتى زكريا،،، كانوا يعتقدون أنهم في قلب الحكاية، بينما الحقيقة أنهم مجرد فصول عابرة في قصة أكبر لم يدركوها. بالضبط كما يحدث عندما نكتب مقالاتنا القديمة، مقتنعين أننا نمسك بالحقيقة المطلقة، ثم بعد سنوات نكتشف أننا لم نكن أكثر من ممثلين في مشهد جانبي في مسرحية كتبها شخص آخر تمامًا.

*الكتابة بوصفها مقبرة مفتوحة

لا يهم كم مرة نحاول قتل أفكارنا القديمة، فهي تبقى هناك، محفوظة في أرشيف الإنترنت مثل الموتى الذين رفضت المقابر ابتلاعهم تمامًا. ربما لاحظتَ تلك Zombie Websites، المواقع التي توقفت عن التحديث منذ سنوات، لكن مقالاتها لا تزال هناك، تلوح لك مثل أشباح تائهة في العصر الرقمي.

وهكذا، بينما ننشغل نحن بتوسيع مقابرنا الفعلية لاستيعاب مزيد من الأجساد، يقوم الإنترنت بتوسيع مقابر رقمية للكلمات. الفرق الوحيد؟ أن المقابر العادية تحمل أسماء الراحلين، أما المقابر الرقمية، فهي تُبقيك حيًا حتى وأنت تحاول أن تتبرأ من نفسك.

وربما لهذا السبب، عندما وقف فريدي ميركوري في آخر ظهور شبه رسمي له في كليب The Show Must Go On، محاطًا بمشاهد مجد قديم ووهج مسرحي آخذ في الانطفاء، كان يعلم أنه على وشك أن يصبح جزءًا من الأرشيف، لكنه لم يتوقف عن الأداء. عيناه كانتا تقولان ما لم تقله الكلمات: "لا شيء يموت هنا حقًا، لا الإنسان، ولا الكلمات، ولا حتى المسرحيات القديمة التي كنّا نريد نسيانها."

لذلك، لو صادف ان كنت في ورطة تشبه ورطتي فلا تفعل مثلي. لا تكترث. لا تقلق كثيرًا بشأن مقالاتك القديمة، فهي ستبقى هناك، حتى لو أنكرتها، حتى لو حاولت دفنها، حتى لو قررت أنك أصبحت شخصًا آخر. لأن العرض يجب أن يستمر، حتى لو لم نعد نحن نفس المؤدين على خشبته.

.



#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)       Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 8
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 7
- مذكرات تائب -٦
- مذكرات تائب - 5
- مذكرات تائب - ٤
- مذكرات تائب - ٣
- مذكرات تائب - ٢
- مذكرات تائب - 1
- لا أستحق الحياة
- صابر Sober - جزء ثان
- رحلة إلى شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (7)
- رحلة إلى شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (6)
- لا تخالف كي تُعرف (قصيدة)
- يا قوم قصوا لي لساني (قصيدة كاملة)
- يا قوم قصوا لي لساني ٤
- يا قوم قصوا لي لساني ٣
- يا قوم قصوا لي لساني ٢
- يا قوم قصوا لي لساني
- كنتُ أضرب الطين
- صابر Sober


المزيد.....




- مخرج -تيتانيك- جيمس كاميرون يستعد لعرض -أفاتار: النار والرما ...
- غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطن
- بوتين يكلف الحكومة بإحياء الذكرى الـ200 لميلاد الكاتب الروسي ...
- بعد الجدل حول -إش إش-.. مي عمر توضح موقفها وترد على الاتهاما ...
- -نسمات أيلول- السوري.. كوميديا عبثية بعيدا عن رائحة الحرب
- الأدب المسرحي ضد العنصرية.. وفاة كاسر محرمات جنوب أفريقيا أت ...
- -نسمات أيلول- السوري.. كوميديا تغتصب الضحكة بعيدا عن رائحة ...
- فن اليوميات العربية.. نبش أسرار الكتابة الذاتية في دراسة نقد ...
- ابنة النجم المصري محمد صلاح: -هددوني بالحبس- (فيديو)
- منصات الإنترنت: نسبة المخرجات السينمائيات تزداد باطراد


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - محمد عبد القادر الفار - كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت