جملة التوحيد في الفكر الاعتزالي: المفهوم والأسس الفلسفية

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8278 - 2025 / 3 / 11 - 09:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

د حمدي سيد محمد محمود
يحتل مفهوم التوحيد موقعًا جوهريًا في البناء الفكري للاعتزال، حيث يُعَدّ المبدأ الأول والأساسي الذي تقوم عليه رؤيتهم الفلسفية والكلامية. ولأن المعتزلة انطلقوا في منهجهم من مقولة "التوحيد والعدل"، فقد أولو مفهوم التوحيد عناية فائقة، وأخضعوه لجدل عقلاني عميق يهدف إلى تنزيه الذات الإلهية من كل شائبة قد توحي بالتشبيه أو التجسيم. ولذلك، فإن جملة التوحيد، كما تتجلى في الفكر الاعتزالي، ليست مجرد نطق بالشهادتين أو إقرار بوحدانية الله، بل هي منظومة فكرية متكاملة تعكس رؤية فلسفية للذات الإلهية والعلاقة بين الخالق والمخلوقات.

التوحيد والتنزيه: رفض الصفات الزائدة

في إطار منهجهم العقلي، شدد المعتزلة على ضرورة التمييز بين الذات الإلهية وصفاتها، وذهبوا إلى رفض فكرة أن لله صفات زائدة على ذاته، معتبرين أن إثبات الصفات على نحو مغاير للذات يؤدي إلى تعدد القدماء، وهو ما يتنافى مع مفهوم التوحيد المطلق. فالصفات عندهم ليست أمورًا قائمة بذاتها، بل هي عين الذات، بمعنى أن الله عالم بذاته، وقادر بذاته، وسميع بذاته، دون أن تكون هذه الصفات كيانات مستقلة. وقد استندوا في ذلك إلى منطق فلسفي صارم، حيث رأوا أن إثبات صفات مستقلة يؤدي إلى الوقوع في الشرك من جهة، وإلى التشبيه من جهة أخرى، لأن ذلك سيجعل الذات الإلهية مركبة، والتركيب ينافي الكمال الإلهي المطلق.

التوحيد ونفي التشبيه

أحد أبرز معالم التوحيد في الفكر الاعتزالي هو رفض أي شكل من أشكال التشبيه أو التجسيم. وقد وقف المعتزلة موقفًا صارمًا ضد التصورات التي تجعل لله صفات بشرية، أو تجعله جسمًا ماديًا في مكان معين. ولهذا، أنكروا رؤية الله بالأبصار في الدنيا والآخرة، ورفضوا التأويلات الحرفية للنصوص التي توحي بالمكان أو الحركة أو الأعضاء في حق الله، معتبرين أن مثل هذه التصورات تتناقض مع مفهوم الألوهية المطلقة. فالله، بحسب رؤيتهم، "ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا في مكان، ولا يُحَدّ بحدود"، لأن كل هذه الصفات تتعلق بالمخلوقات، ولا يمكن أن تنطبق على الخالق المتعالي عن الزمان والمكان.

جملة التوحيد والحرية العقلية

اتسم التوحيد في الفكر الاعتزالي بنزعة عقلانية عميقة، جعلت المعتزلة يرون أن التوحيد الحقيقي لا يتحقق بمجرد التقليد الأعمى أو الاتباع غير الواعي، بل لا بد أن يكون التوحيد ثمرة نظر عقلي واستدلال فلسفي. ولهذا، رفضوا التقليد في العقيدة، وأوجبوا على الإنسان أن يصل إلى الإيمان بالله عبر البحث العقلي والتفكر العميق. فالإنسان مسؤول عن إيمانه، وعليه أن يبني قناعته بالتوحيد على أسس عقلية متينة، لأن "الإيمان عن تقليد لا يكون إيمانًا صحيحًا"، بل لا بد أن يكون نتيجة إدراك ذاتي للحق.

التوحيد والحرية الأخلاقية

لم يكن التوحيد الاعتزالي مجرد قضية ميتافيزيقية، بل كان له بُعد أخلاقي وسياسي واضح. فمن منطلق التوحيد، أكد المعتزلة على مبدأ العدل الإلهي، ورفضوا أي تصور يجعل الله يُجبر العباد على أفعالهم ثم يحاسبهم عليها، معتبرين أن ذلك يتنافى مع العدل الإلهي المطلق. ولهذا، قرروا مبدأ "المنزلة بين المنزلتين" في مسألة مرتكب الكبيرة، واعتبروا أن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وله حرية الاختيار بين الخير والشر، لأن تحميل الله مسؤولية أفعال العباد يتناقض مع التوحيد الحقيقي، ويجعل الله ظالمًا – وهو أمر يستحيل في تصورهم.

التوحيد والسلطة السياسية

انعكس الفهم الاعتزالي لجملة التوحيد أيضًا على رؤيتهم للسلطة والمجتمع، حيث رأوا أن التوحيد الحقيقي يقتضي رفض الطغيان والاستبداد. فكما رفضوا التشبيه في العقيدة، رفضوا أيضًا الاستبداد في السياسة، وأكدوا على ضرورة الحكم القائم على العدل والمساواة، ورفضوا فكرة "الجبر السياسي" التي كانت تُستغل لتبرير استبداد الحكام. ولهذا، ارتبط فكرهم في بعض الفترات بحركات المعارضة السياسية، وواجهوا اضطهادًا شديدًا بسبب مواقفهم التي لم ترضَ بالخضوع للسلطة دون نقد أو مراجعة.

جملة التوحيد: تأصيل فكري وروحي

يتضح من كل ما سبق أن جملة التوحيد في الفكر الاعتزالي ليست مجرد شعار ديني، بل هي فلسفة متكاملة تنعكس على نظرة الإنسان إلى الله، والعالم، والمجتمع، والنفس البشرية. فهي ليست مجرد إقرار بوحدانية الله، بل هي رؤية عقلية وروحية عميقة تتطلب تنزيهًا كاملاً للذات الإلهية، وإعمالًا للعقل في فهم العقيدة، والتزامًا بمبادئ العدل والحرية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. وهذا ما جعل المعتزلة يختلفون عن باقي الفرق الإسلامية في تناولهم لهذا المفهوم، حيث تجاوزوه من كونه مسألة عقدية إلى كونه أساسًا لبناء فكري متكامل، يربط بين التوحيد والعدل، وبين العقيدة والأخلاق، وبين الدين والسياسة، في إطار من الحرية العقلية والنزاهة الفكرية.

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات