محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8278 - 2025 / 3 / 11 - 08:22
المحور:
الادب والفن
الحلاج .. شهيد العشق الإلهي
فمن هو الحلاج: شهيد العشق الإلهي؟
عندما يتجلى النور في قلب العارف، تصبح اللغة عاجزة عن حمل الوحي، فينزف اللسان دماً ليكتب ما لا يُقال، وتتمزق الحروف على مذبح الحقيقة. هناك، في أفق العشق الإلهي، وقف الحلاج، جسدٌ فانٍ وروحٌ تحترق في محراب المطلق، ينطق بحقائق لا تسعها عقول المتزمتين، ويفتح كوةً في الجدار العتيق، فترتعد السلطة، وتنتفض المؤسسة، ويشتعل الهلع في صدور الذين يخشون أن يسقط الوهم. لم يكن الحلاج مجرد صوفي هام في محبة الله، بل كان رؤيا نبوية تقف على الحد الفاصل بين الكلمة والدم، بين الحكمة والسيف، بين النور والرماد. في عزلته الشاهقة، كان يستمع إلى نداء الحق، فينطق: "أنا الحق"، ولم يكن يقصد بها تحدي الألوهية، بل إعلان الفناء في الذات الإلهية، حيث لا يبقى إلا الوجود المطلق، يتجلى في كل شيء، ويُبصر ذاته بذاته. لكن العالم لم يحتمل هذا النور، فسلّط عليه ظلامه، وصاغ حوله قفص الاتهام، ثم أعدّ له صليبه، ليكون أول شهيد للحقيقة في تاريخ التصوف الإسلامي.
في قرية الطور، التابعة لمنطقة البيضاء في فارس، وُلد الحسين بن منصور عام 858م. نشأ في بيت والده منصور، الذي كان يعمل في تجارة القطن، مما أكسبه لقب "الحلاج". انتقلت العائلة إلى مدينة واسط في العراق، حيث تلقى الحلاج تعليمه الأولي في النحو والقرآن الكريم على أيدي المحدثين الحنابلة. في سن السادسة عشرة، انطلق إلى تستر، حيث تتلمذ على يد الصوفي سهل التستري لمدة عامين. ثم انتقل إلى البصرة، حيث تزوج من ابنة الصوفي يعقوب الأقطع، وتعرف هناك على عمرو بن عثمان المكي، أحد تلامذة الجنيد البغدادي. في تلك الفترة، كانت البصرة تشهد اضطرابات سياسية بسبب ثورة الزنج، التي أثرت على حياة الحلاج ومعتقداته.
بعد قمع ثورة الزنج عام 883م، توجه الحلاج إلى مكة لأداء فريضة الحج، وبقي هناك عامًا كاملًا يمارس طقوسًا صوفية جديدة. عاد بعدها إلى البصرة، حيث بدأ يجهر بآرائه ويتحدث بلسان الله، مما أثار جدلاً واسعًا بين الصوفيين والفقهاء. قام برحلات تبشيرية إلى خراسان والهند، بل يُقال إنه بلغ الصين، بحثًا عن جوهر النور الأزلي. لكن بغداد كانت له المصيدة والقيامة. كانت عاصمة الخلافة في عهد المقتدر بالله العباسي (908م-932م) قد صارت مزيجًا من الفقهاء الذين يخشون على سلطانهم، والمتصوفة الذين يحترقون بالعشق، والسياسيين الذين يرون في كل صوتٍ خطراً على العرش.
قال الحلاج عبارته الشهيرة: "أنا الحق"، معبرًا عن فناء ذاته في الذات الإلهية. لم يكن يقصد بها تحدي الله، بل كان يرى أن ذاته قد تلاشت في نور الوجود المطلق، فلم يعد هناك "أنا" بل هو الفيض الإلهي. لكن العقول التي لا تعرف إلا الظاهر ارتعدت. اتهموه بالسحر، بالزندقة، بالتآمر، وحكم عليه الوزير حامد بن العباس بالموت بعد محاكمة صورية، كان فيها القضاة شهودًا على نص يجهلون تفسيره. وفي عام 922م، في بغداد، على الجسر، اجتمع الناس. اقتيد الحلاج، مكللاً بالصمت، تتدلى روحه بين الأرض والسماء. جُلد ألف جلدة، وقُطعت أطرافه، لكنه ظل يبتسم. ثم رفعوه على الصليب، وكان صوته يتهادى مع الريح: "إلهي، هؤلاء عبادك، قد اجتمعوا لقتلي تعصبًا لدينك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي، ما فعلوا بي ما فعلوا." وعندما أسلم الروح، أُحرقت جثته، ثم نثروا رماده في دجلة، كي لا يبقى له قبر، لكن صوته ظل يهيم في الأثير، في صدور العارفين، في دفاتر العشاق، في أنين القلوب التي لم تجد إلا الله ملاذًا.
كانت حياة الحلاج من أكثر التجارب الصوفية تعقيدًا وإثارة للجدل، حتى إن المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي درس سيرته في كتابه "آلام الحلاج" (1922م)، اعتبره رمزًا للتجربة الصوفية المطلقة، حيث دمج بين الزهد الروحاني والنشاط الاجتماعي. ماسينيون لم يكتفِ بدراسة حياة الحلاج، بل قارن تجربته بتجارب مماثلة في التصوف المسيحي والهندي، معتبرًا أن استشهاده على الصليب يوازي في رمزيته استشهاد المسيح. أما الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان، فقد رأى أن الحلاج لم يكن مجرد صوفي، بل كان صاحب رؤية كونية حاول من خلالها اختراق الحجب بين الإنسان والإله، بين الظاهر والباطن.
وفي العالم الناطق بالإسبانية، نُشرت ترجمات عديدة لأعمال ماسينيون حول الحلاج، مثل كتاب "Al-Hallaj: Místico y Mártir del Islam"، الذي سلط الضوء على البعد المأساوي في حياة الحلاج بوصفه شهيدًا للحقيقة الإلهية. أما الدراسات الحديثة، فقد ركزت على تأثيره في تطور الفكر الصوفي في الشرق والغرب، حيث يُعد جسراً بين الروحانية الإسلامية والمدارس الروحانية العالمية.
تُعتبر أعمال الحلاج، مثل "الطواسين" و"الديوان"، من أبرز النصوص الصوفية التي تعكس تجربته الروحية العميقة. هكذا، بقي الحلاج رمزًا للعاشق الإلهي الذي لم يحتمله المجتمع، فصُلب جسده، لكن روحه بقيت تلهم العارفين والسالكين دروب المحبة الإلهية.
لكن، هل قتلوا الحلاج حقًا؟ هل استطاعت سيوفهم أن تذبح الكلمة، أو أن تخمد النور في قلب الزمن؟ الإجابة بالطبع لا، فالحلاج لم يُقتل، بل صار نغمةً في لحن الأبدية، يتردد في صدور العارفين، ويشتعل في أحلام الحالمين بالحق. حينما نثروا رماده في دجلة، لم يدركوا أن الكلمة حين تُسحق تتحول إلى بذور، تنبت في كل أرض عطشى، وتنمو كالأشجار التي لا يستطيع الطغيان اقتلاعها. كان اغتيال الحلاج وأدًا لحرية الكلمة، لكن كلماته خرجت من قبره لتحلق في سماء الأزمنة، تهمس في آذان الذين يبحثون عن الحقيقة وسط ركام الأكاذيب.
لقد حاولوا أن يخمدوا النار، لكنها أحرقت أصابعهم. حاولوا أن يطمسوا الأثر، لكنه صار طريقًا للمريدين. حاولوا أن يُخرسوا الصوت، لكنه عاد في الريح، في الماء، في الأنفاس التي تردد حتى اليوم:
اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي
هكذا، لم يكن موت الحلاج نهاية، بل كان ولادة جديدة لحقيقة لا تموت، لحب لا يُهزم، ولصوتٍ لا يعرف الصمت.
نقد أشهر أشعاره
إن الحسين بن منصور الحلاج ليس مجرد شاعر، بل هو تجربة شعرية متجسدة في إنسان، عاش كلماته حتى صُلب عليها. في قصيدته التي بين أيدينا، لا نقرأ أبياتًا بقدر ما نستشف تجليًا شعريًا لصوفيٍ يرى في كل شيء حضورًا للحبيب الأزلي حتى يصبح الحب ذاته هو الهواء الذي يتنفسه. هذه القصيدة ليست فعل كتابة، بل فعل حلول شعري، حيث يصبح النص ذاته صلاة ممتدة في الزمن، تُتلى كما لو أنها نَفَسٌ أبدي لا ينقطع.
وقصيدة "والله ما طلعت شمس ولا غربت" نجد فيها أن النص
يتسم بتركيب نحوي سلس، لكنه مشحون بطاقة دلالية مكثفة. يعتمد الحلاج على جمل شرطية متكررة مثل: "وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت إِلّا وحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي"، هذه الجملة ليست مجرد تأكيد على دوام الحب، بل هي بنية لغوية تكرارية تعكس استمرارية التجربة العرفانية، حيث يُعاد تشكيل الزمن عبر الحب المطلق. الأفعال في النص تتحرك بين الماضي والمضارع، مما يمنح القصيدة طابعًا زمنيًا متداخلاً يتجاوز حدود الخطية الزمنية المألوفة. الإيقاع في النص يقوم على التكرار والتوازي، حيث يخلق التكرار إيقاعًا دائريًا يعكس فكرة الوجد المستمر، كما يمنح التوازي في الجمل ("ولا ذكرتك محزونًا ولا فرحًا...") القصيدة موسيقاها الداخلية، حيث تتوالد العبارات من بعضها البعض وكأنها صدى لصوت داخلي واحد.
يتقاطع النص مع النص القرآني، حيث نجد صدى للآية: "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ" (البقرة: 115)، مما يعكس رؤية الحلاج لوحدة الوجود. كما يتلاقى مع تراث رابعة العدوية التي قالت: "أحبك حبَّين، حب الهوى وحبًا لأنك أهل لذاكا"، لكن الحلاج يذهب أبعد من الثنائية التي وضعتها رابعة، إذ لا يرى فرقًا بين "حب الهوى" و"الحب الإلهي"، بل يصهرهما في تجربة واحدة تتغلغل في كل تفصيلة من حياته. النص يعبر عن "ذوبان الأنا" في المطلق، وهي حالة تتجلى في الفكر الصوفي والفلسفة الوجودية على حد سواء. يمكن قراءة القصيدة في ضوء مفهوم "الفناء" الصوفي، حيث يختفي الشعور بالذات المستقلة لصالح التماهي مع الكلي. هذا الذوبان يمكن مقارنته بفكرة "الوجود-في-ذاته" عند سارتر، حيث لا يكون هناك مسافة بين الكائن وماهيته.
القصيدة مليئة بالرموز الصوفية العميقة؛ فالشمس ليست مجرد جرم سماوي، بل هي رمز للحقيقة الإلهية، وكل شروق وغروب هو تجلٍّ جديد للحقيقة، والماء ليس مجرد عنصر مادي، بل هو وسيط للحقيقة، أما رؤية "خيالك في الكأس" فهي صورة صوفية تشير إلى فكرة الفيض الإلهي الذي ينعكس في كل شيء، بينما المشي على الرأس هو قمة الفناء الصوفي، حيث تنقلب المقاييس، فيصبح المستحيل ممكنًا في حضرة العشق الإلهي. هذه الصور ليست تزيينًا بلاغيًا، بل هي انعكاسات لتجربة وجودية حقيقية، حيث تصبح الاستعارات هي الواقع ذاته. كتب الحلاج في عصر كانت السلطة السياسية والدينية تضيق على التصوف، لذا فإن قصيدته تحمل بُعدًا مقاومًا، حيث يعلن استقلالية الروح أمام محاكم التفتيش الدينية.
في قوله: "مالي وللناس كم يلحونني سفهاً ديني لنفسي ودين الناس للناس"، نجد موقفًا واضحًا من حرية العقيدة، وهو طرح سابق لزمنه، يتحدى التسلط الديني والاجتماعي. يعتمد النص على تكرار بعض المفردات ("أنت"، "حبك"، "ذكرتك") مما يعكس تمركز التجربة حول ذات إلهية مطلقة، كما أن الأسلوب الشرطي المتكرر يجعل القارئ محاصرًا بنفس البنية الدلالية، مما يعزز إحساس الفناء الصوفي. النص لا يتحدث عن تجربة شخصية فقط، بل يقدم تصورًا كونيًا للعشق، حيث يصبح الحب القوة المحركة للوجود. رغم أن النص يبدو منسجمًا في مجمله، إلا أن هناك توترًا داخليًا بين الذات التي تتلاشى والذات التي لا تزال تحاول التعبير عن هذا الفناء، وهذا التوتر هو ما يمنح القصيدة قوتها، حيث تبقى الذات العاشقة متأرجحة بين الحضور والغياب.
النص يبدو وكأنه رؤيا صوفية، حيث تختفي الفواصل بين الحلم والواقع، ويتحول الإدراك إلى حالة متواصلة من الكشف الروحي. القصيدة تعيد تشكيل الزمن، حيث يصبح الماضي والحاضر والمستقبل مجرد أبعاد مختلفة للحب نفسه. بصريًا، تتشكل القصيدة كسلسلة من الجمل المتوازنة، مما يعكس بنية متماسكة تشبه التراتيل الصوفية. يمكن مقارنة القصيدة بشعر سان خوان دي لا كروز، الذي كتب في تجربته الصوفية: "En una noche oscura, con ansias en amores inflamada, ¡oh dichosa ventura! Salí sin ser notada, estando ya mi casa sosegada." الترجمة: "في ليلة مظلمة، ملتهبًا بشوق العشق، آه يا لها من مغامرة سعيدة! خرجت دون أن يلاحظني أحد، إذ كانت داري قد هدأت." لكن بينما ينطلق سان خوان من الظلمة إلى النور، فإن الحلاج يرى النور متجسدًا في كل لحظة، فلا حاجة إلى الرحلة، لأن العشق حاضر دائمًا.
الحلاج لم يكن مجرد شاعر، بل كان تجربة شعرية متجسدة في إنسان. قصيدته ليست مجرد أبيات جميلة، بل هي لحظة من الكشف الروحي، حيث تتجلى الحقيقة المطلقة في تفاصيل الحياة اليومية. ربما كان صلب الحلاج هو محاولتهم لإسكاته، لكنه صار في النهاية أيقونة تتكرر في الزمن، لأن صوته لم يكن مجرد كلمات، بل كان صدًى للحقيقة ذاتها.
كلمات، بل كان صدًى للحقيقة ذاتها.
والقصيدة محل النقد هي:
وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت
إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي
وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم
إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي
وَلا ذَكَرتُكَ مَحزوناً وَلا فَرِحاً
إِلّا وَأَنت بِقَلبي بَينَ وِسواسي
وَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍ
إِلّا رَأَيتُ خَيالاً مِنكَ في الكَأسِ
وَلَو قَدَرتُ عَلى الإِتيانِ جِئتُكُم
سَعياً عَلى الوَجهِ أَو مَشياً عَلى الرَأسِ
وَيا فَتى الحَيِّ إِن غَنّيتَ لي طَرَباً
فَغَنّنّي واسِفاً مِن قَلبِكَ القاسي
مالي وَلَلناسِ كَم يَلحونَني سَفَهاً
ديني لِنَفسي وَدينُ الناسِ لِلناسِ
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟