أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية السياسية: قراءة نقدية في المفهوم والممارسة















المزيد.....


العلمانية السياسية: قراءة نقدية في المفهوم والممارسة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8276 - 2025 / 3 / 9 - 09:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تُعدُّ العلمانية السياسية من أكثر المفاهيم إثارة للجدل، فهي تُقدَّم كآلية لضمان الحياد السياسي والتعددية، لكنها في كثير من الأحيان تتحول إلى مشروع قسري يسعى إلى فرض رؤية معينة على المجتمعات، خاصة في البيئات ذات المرجعيات الدينية العميقة. ورغم أن نشأتها في أوروبا جاءت استجابةً لصراعات تاريخية محددة، فإن تصديرها إلى مجتمعات مختلفة أثار تساؤلات حول مدى قابليتها للتطبيق دون أن تؤدي إلى تفكيك الهوية الثقافية والدينية.

وعلى الرغم من ادعائها تحقيق الحرية والتنوع، إلا أن التجربة التاريخية تكشف عن تناقضات جوهرية، حيث تحولت في بعض السياقات إلى أداة إقصائية، تقصي الدين من المجال العام بدلاً من تحييده، مما أثار مقاومة مجتمعية حادة. كما أن السؤال حول قدرة العلمانية على تقديم بديل أخلاقي متماسك لا يزال مطروحًا، خاصة مع تصاعد الفردانية والمادية كنتائج غير مقصودة لعلمنة القيم.

في هذا الطرح، يتم تفكيك العلمانية السياسية من منظور نقدي، مع التركيز على آثارها في الدول العربية والإسلامية، وطرح تساؤلات حول إمكانية تطوير نموذج يحقق التوازن بين الحرية والاستقرار دون الوقوع في ثنائية الاستبداد الديني أو العلمنة القسرية.

1. جذور العلمانية السياسية ومحدداتها الفكرية
تُعدُّ العلمانية السياسية واحدة من أكثر الإيديولوجيات تأثيرًا في تشكيل الأنظمة الحديثة، حيث تقوم على فصل الدين عن الدولة وإقامة نظام سياسي يُدار وفق معايير وضعية مستقلة عن الأطر الدينية. ورغم أن هذا المفهوم نشأ في أوروبا استجابةً لصراعات دينية حادة، فإنه قد تم تصديره إلى سياقات حضارية أخرى دون مراعاة اختلاف المرجعيات الثقافية والتاريخية، مما خلق أزمات في الهوية والانتماء داخل المجتمعات غير الغربية. وهنا يبرز التساؤل النقدي: هل يمكن تطبيق نموذج نشأ في بيئة خاصة على مجتمعات ذات خلفيات فكرية ودينية مختلفة دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية؟

2. تناقضات التطبيق بين المثالية والواقع
رغم أن المنظرين للعلمانية يدافعون عنها بوصفها إطارًا لضمان الحريات السياسية والفكرية، فإن التطبيق الفعلي في العديد من الدول يكشف عن تناقضات جوهرية. فمن جهة، نجد أن بعض الدول التي تتبنى العلمانية تفرض قيودًا صارمة على التعبيرات الدينية في المجال العام، مما يحوّلها إلى أداة إقصائية ضد التدين بدل أن تكون إطارًا حياديًا. ومن جهة أخرى، فإن هناك أنظمة سياسية علمانية استغلت هذا المبدأ لقمع المعارضة الدينية أو الأيديولوجية، ما يجعل العلمانية تتحول من آلية لتحقيق التعددية إلى أداة تسلطية تخدم مصالح النخبة الحاكمة.

3. الإقصاء الديني وتناقض الحرية
تدّعي العلمانية السياسية أنها تحمي حرية المعتقد، ولكن في العديد من الدول التي تطبقها نجد أن هناك تضييقًا واضحًا على التدين في المجال العام، مثل منع الرموز الدينية في المدارس والمؤسسات الحكومية، أو حظر بعض الأحزاب ذات المرجعية الدينية، بينما يتم السماح بالأيديولوجيات العلمانية بالعمل بحرية. وهذا يطرح إشكالية كبرى: هل تتناقض العلمانية مع الديمقراطية عندما تفرض قيودًا انتقائية على فئات معينة من المجتمع؟ وإذا كانت الليبرالية السياسية تدعو إلى حرية التعبير، فلماذا يُسمح لأيديولوجيات معينة بالوجود بينما يُقصى الآخرون؟

4. الأزمة القيمية: هل تستطيع العلمانية خلق منظومة أخلاقية مستقلة؟
أحد أكبر التحديات التي تواجه العلمانية السياسية هو قدرتها على تقديم نظام قيمي متكامل يكون بديلاً عن المرجعيات الدينية التي لطالما شكلت أساسًا للأخلاق العامة. فبينما يدعو بعض الفلاسفة إلى استبدال الدين بأخلاقيات علمانية قائمة على العقلانية والتجربة، إلا أن هذا الطرح لم ينجح في تقديم بديل متماسك يحقق الانسجام الاجتماعي. بل على العكس، أدت العلمنة الجذرية إلى تفكك القيم في بعض المجتمعات، حيث أصبحت المصلحة الذاتية هي المحدد الأساسي للسلوك، وهو ما تسبب في انتشار الفردانية المتطرفة والنزعة المادية التي أضعفت الروابط الاجتماعية التقليدية.

5. التناقض في علاقة العلمانية بالدولة العميقة
رغم أن العلمانية تقدم نفسها كوسيلة لتحييد الدولة عن السيطرة الدينية، إلا أن العديد من النماذج التاريخية تكشف عن أن تطبيقها الفعلي كان مرتبطًا بترسيخ السلطة المركزية، بل واستبدال سلطة الدين بسلطة الدولة العميقة أو الأيديولوجيات الشمولية. ففي بعض الأنظمة التي تبنّت العلمانية، تحولت الدولة إلى فاعل قمعي يفرض توجهاته الفكرية على المجتمع، ويصنع نخبة علمانية مستفيدة من احتكار السلطة. وبالتالي، فإن الادعاء بأن العلمانية تُحرر المجتمع من هيمنة الإيديولوجيات يبدو محل شك، لأنها في كثير من الحالات استُخدمت كأداة لفرض هيمنة جديدة، وإن كان ذلك تحت غطاء الحداثة والتقدم.

6. العلمانية والهوية الثقافية: هل يمكن تحقيق التوازن؟
الهوية الثقافية للأمم ليست مجرد معطى هامشي، بل هي عنصر جوهري في بناء المجتمعات واستقرارها. وهنا يأتي السؤال: هل يمكن للعلمانية أن تتعايش مع الخصوصيات الثقافية دون أن تصبح مشروعًا استئصاليًا؟ في الواقع، شهدنا في العديد من الدول العلمانية محاولات لطمس المظاهر الدينية والتقاليد الثقافية بحجة التحديث، مما تسبب في فجوة بين الدولة والمجتمع، وأنتج ردود فعل معاكسة مثل صعود الحركات الأصولية التي وجدت في هذا القمع فرصة لإعادة طرح الدين كبديل للنموذج العلماني القسري. وهذا يقود إلى نتيجة مفادها أن فرض العلمانية بالقوة قد يأتي بنتائج عكسية، تجعلها عاملاً في تأجيج الصراعات بدلاً من حلها.

7. أي نموذج للعلمانية يمكن القبول به؟

في ضوء هذه الإشكالات، يصبح من الضروري إعادة النظر في مفهوم العلمانية السياسية وعدم التعامل معها كنظرية مقدسة أو كحل وحيد لتنظيم المجتمعات. فالتاريخ يُظهر أن العلمانية ليست نموذجًا واحدًا، بل لها تطبيقات متعددة تتراوح بين المرونة والتطرف. ومن هنا، فإن أي نموذج يُطرح في العالم العربي والإسلامي يجب أن يكون متسقًا مع البنية الثقافية والدينية، بحيث لا يكون مجرد استنساخ أعمى لتجارب غربية قد لا تتناسب مع الواقع المحلي. ولذلك، فإن السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم ليس "هل نقبل العلمانية أم نرفضها؟"، بل كيف نعيد صياغة العلاقة بين الدين والدولة بطريقة تحقق التوازن بين الحرية والاستقرار دون الوقوع في فخ الاستبداد باسم الدين أو باسم الحداثة؟

رغم أن العلمانية السياسية تطرح نفسها كضامن للحياد والتعددية، فإن الواقع يكشف عن تناقضاتها العميقة، حيث تتحول في كثير من الأحيان إلى أداة لفرض رؤية أيديولوجية تُقصي الدين بدلاً من تحييده. فبدل أن تكون إطارًا لضمان حرية الجميع، أصبحت في بعض السياقات نموذجًا جديدًا للهيمنة، تُفرض فيه القيم العلمانية كبديل إلزامي، مما يعيد إنتاج الاستبداد بصيغة حداثية.

وفي ظل هذا المشهد، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: هل العلمانية مشروع تحرري حقًا، أم أنها غطاء لإعادة تشكيل السلطة وفق معايير جديدة؟ إن النقد الجاد لهذا النموذج لا ينبغي أن يقتصر على تأييده أو رفضه، بل يجب أن يتجاوز الثنائية السطحية ليكشف عن عمق الإشكالية، ويفتح الباب لنقاش أكثر إنصافًا حول العلاقة بين الدين والدولة بعيدًا عن الخطابات المطلقة والإقصائية.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آرثر شوبنهاور: الفيلسوف التشاؤمي وتأثيره الفلسفي العميق
- خطة مورغنثاو: محاولة خنق ألمانيا اقتصاديًا بعد سقوط النازية
- الفلك في ميزان الوحي والعلم: كشف أسرار الكون بين القرآن والا ...
- الاستبداد وصناعة العقول: كيف يُعيد الطغيان تشكيل الوعي الجمع ...
- صناعة الحقيقة: كيف يشكل الدين والسياسة والإعلام وعينا بالعال ...
- العلمانية الفلسفية: جدلية العقل والدين في تشكيل المجتمعات ال ...
- التفكير النقدي الإسلامي: بين ثوابت الدين وتحولات العصر
- أفلاطون والمجتمع المثالي: المدينة الفاضلة كمشروع فلسفي للعدا ...
- المجتمع العاقل بين الوهم والحقيقة: إريك فروموتشريح الاغتراب ...
- الحرب الأمريكية الإسبانية: صراع الإمبراطوريات وتحول القوى ال ...
- حرب الرفاق: جذور الصراع السوفيتي-الصيني عام 1969 وتداعياته ع ...
- عادة الساتي في الهند: طقس الموت المقدس ونهايته
- فارس الخوري: رجل الدولة الذي انتصر للعقل والوطن
- اليهود في إيران بعد 1979: بين الهوية الوطنية وشبهة الصهيونية
- مستقبل الأمن الأوربي في ظل التحولات الجيوسياسية العاصفة
- استشراف الأزمات: كيف يفكر جون كاستي في انهيار الحضارات؟
- موت الإله عند نيتشه: فلسفة ما بعد المقدّس وتداعياتها على الف ...
- إشكالية الحرية الدينية بين الإسلام والليبرالية: جدلية الهوية ...
- التحول الكبير: كيف فتحت زيارة نيكسون للصين الباب لصعودها كقو ...
- الدولة والدين: تحديات الولاء في عالم متغير


المزيد.....




- اكتشاف صادم يفتح باب الغموض حول جرائم سرقة مخفية.. شاهد ما ع ...
- انطلاق مناورات -الحزام الأمني البحري 2025- بين روسيا وإيران ...
- بن غفير يطرح مشروع قانون لإلغاء اتفاقيات أوسلو والخليل وواي ...
- الشرع يشكل لجنة للتحقيق بـ -أحداث الساحل السوري-، واجتماع دو ...
- وسط إدانات دولية.. دمشق تعلن تشكيل لجنة تحقيق -مستقلة-
- العاهل الأردني: نقف إلى جانب سوريا في الحفاظ على أمنها ووحدة ...
- القوات الأوكرانية تهاجم سوقا مزدحمة في خيرسون بصاروخي -هيمار ...
- سيارتو: من المستحيل الحديث عن الأمن في أوروبا بمعزل عن روسيا ...
- مباحثات جزائرية أمريكية مرتقبة لتوقيع صفقات عسكرية وتبادل ال ...
- ترامب يدافع عن القرارات الأمريكية الأخيرة بشأن أوكرانيا


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية السياسية: قراءة نقدية في المفهوم والممارسة