شادي أبو كرم
كاتب سوري
(Shadi Abou Karam)
الحوار المتمدن-العدد: 8275 - 2025 / 3 / 8 - 15:26
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
القهر الذي يُمارَس على المرأة في مجتمعاتنا لا يعتبر فقط منظومة قمع صلبة تُفرض من الخارج، هو شبكة معقدة تتسلل إلى الوعي الفردي، تُعيد إنتاج نفسها داخل الضحية ذاتها، حتى تُصبح المرأة شريكة غير واعية في إحكام القيود على نفسها وعلى غيرها.
لا يُولد أحدٌ خاضعاً. لكن في المجتمعات الذكورية، يُصنع الخضوع عبر عمليات طويلة ومدروسة من الترويض والتطبيع. تُزرع في ذهن الفتاة منذ طفولتها فكرة أنها ليست كائناً مستقلاً، بل انعكاساً لمجتمعها، لأسرتها، لجسدها الذي يُنظر إليه كمساحة مُعلّقة بين الفضيلة والرذيلة. تُعلَّم الفتاة كيف تُراقب نفسها قبل أن يُراقبها الآخرون. تُربّى على الشعور بأن العالم ليس فضاءً يُمكن اكتشافه، بل ساحة أخطار يجب تجنبها.
القمع هنا لا يُفرض بقوة القانون وحده، بل يتسلل عبر اللغة، عبر الإيماءات، عبر «النصائح» التي تُقدَّم كحبٍ وحرص. تُقنَع الفتاة بأن سجنها هو ملاذها، وأن الأسوار التي تُحيط بها ليست قيوداً، بل ضمانة لحمايتها. تُصبح الطاعة هي القاعدة، والخروج عنها ليس عصياناً، هو خطر على حياتها نفسها. وهذا ما يجعل هذه المنظومة أكثر تعقيداً: لأنها لا تُصوِّر القهر كعدوان، بل كنوعٍ من «الحب القاسي»، كعملية وقائية تمنعها من الانزلاق في «الخطيئة» أو «العار».
لكن أخطر ما تُنتجه هذه العملية هو خلق «وعي زائف» يُقنع المرأة بأنها ليست ضحية، بل طرفٌ مسؤول عن تأكيد هذه القواعد. هكذا، تُصبح المرأة شرطياً على نفسها، تُعيد تدوير خطاب القهر بحماسة، وتُراقب غيرها وكأنها تؤدي واجباً أخلاقياً أو دينياً. إنها لا تُمارس هذا الدور حباً في السلطة، بل خوفاً من فقدان المعادلة الوحيدة التي عاشت داخلها: معادلة الطاعة مقابل الحماية.
هنا يتحقق النجاح الأكبر للمنظومة الذكورية: حين تتحول الضحية إلى وكيل مدافع عن النظام الذي سحقها. تُصبح المرأة مع الوقت أكثر صرامةً من مُضطهديها أنفسهم، تُراقب النساء الأخريات وتُعاقبهن بلسان الفضيلة والأخلاق. تُصبح شريكاً كاملاً في إعادة إنتاج القهر، لا فقط لأنها تعرضت له، بل لأنها تعتقد أن الخروج عن هذا النظام يعني السقوط في الفوضى، والعودة إلى اللايقين الذي يخيف كل من تربى داخل أنظمة مغلقة.
هذا النظام لا ينجح لأن المجتمع ذكوري فقط، بل لأنه يُنتج باستمرار خطاباً يخلط الدين بالسلطة، والفضيلة بالخوف. تُوظَّف النصوص الدينية بطريقة انتقائية تمنح هذا النظام واجهة مقدسة. لا يُقال للمرأة صراحة إنها ناقصة، بل يُقال لها إنها جوهرة تحتاج الحماية. لا يُقال لها إنها «ملكٌ» للآخرين، بل يُقنِعها المجتمع أنها مسؤولة عن صون نفسها وكأنها ممتلكات عامة يتشارك الجميع في ضبطها.
لكن الدين في جوهره ليس المشكلة، بل العقول التي حوّلته إلى وسيلة لضبط النساء. يتم انتقاء النصوص التي تخدم هذه الغاية، وتُهمّش كل القراءات الأخرى التي ترى المرأة كإنسانٍ حر، لا ككيانٍ معلق بين «العفة» و«العهر». هذه السلطة لا تُمارسها فقط المؤسسات الدينية، بل تُنفّذها العائلة والمدرسة والإعلام، لتغدو المرأة أخيراً خائفة من نفسها أكثر من خوفها من الآخرين.
وهذا هو جوهر القمع: أن يتحول الخوف إلى وعي، وأن تتحول الضحية إلى سجّانة لنفسها، تراقب جسدها، أفكارها، رغباتها، وتُعيد إنتاج الخطاب نفسه الذي سحقها.
لكن لماذا تفعل ذلك؟ لماذا تُصبح المرأة أكثر تشدداً من مضطهديها؟
لأن الخروج من هذا القمع هو مواجهة مع جدار نفسي هائل بُني خلال أجيال. المرأة التي تمضي حياتها داخل هذه المنظومة لا ترى في قيدها مجرد قهر، بل تراه نوعاً من النظام، من الأمان المألوف. إنها لا تتشبث بالسجن حباً فيه، بل خوفاً مما ينتظرها خارجه. النظام الذكوري لا يمنح المرأة كرامة، لكنه يمنحها على الأقل معادلة مفهومة، وهذا ما يجعل الخروج عليه مرعباً.
المرأة التي تُقنع نفسها أن هذا السجن هو الملاذ الوحيد الذي يمنحها "الأمان" تصبح بمرور الوقت أشرس المدافعين عنه. لأنها إن اعترفت أن هذا النظام ليس إلا قيداً، ستواجه سؤالاً أكثر رعباً: "وماذا بعد؟". إنها لا تخشى فقط القمع، بل تخشى الفراغ الذي قد يبتلعها حين تتحطم كل القواعد التي صُنعت لها منذ كانت طفلة.
لهذا، فإن التحرر لا يبدأ بمنح المرأة حقوقاً شكلية، بل يبدأ بتفكيك الأسطورة التي تجعلها تُقدّس قيدها. يبدأ بتفكيك خطاب الفضيلة الذي يُلبِس القمع ثوب الحماية. يبدأ بفضح تلك العلاقة الوثيقة بين السلطة والدين، التي استُخدمت لإدامة الطاعة وتجميل الاستسلام. فالقهر لا يُفرض دائماً بالقوة وحدها، بل يُعاد إنتاجه عبر لغة تُقنع الضحية بأن سجنها هو خلاصها.
لكن رغم هذا الجدار النفسي الهائل، هناك نساء يواجهنه كل يوم، يكسرن قسوته حجراً بعد حجر، ويخضن معركة شاقة ضد منظومة تُعيد إنتاج نفسها بلا هوادة. هنّ النساء اللواتي رفضن أن يُسجن داخل أدوار صُنعت لهن، وقررن أن يواجهن مجتمعات لم تترك لهن سوى خيارين: الخضوع أو العزلة.
هؤلاء النساء لم يحملن أعباء أنفسهن فقط، بل حملن عبء تحدي نظام يرى في كل صوت نسائي مرتفع تهديداً لوجوده. بعضهن واجهن السجن، بعضهن فقدن حياتهن، وبعضهن دفعن أثماناً لا تُحصى مقابل حق بسيط في التفكير بصوت عالٍ، في أن يُنظر إليهن كأفراد لا كتوابع.
إنه نضال لا يُرى غالباً، لأنه لا يجري في الشوارع والساحات وحدها، بل يحدث في غرف مغلقة، داخل عائلات تخشى الفضيحة أكثر مما تخشى الظلم، داخل مدارس تُعلّم الطاعة قبل الفكر، داخل مؤسسات دينية جعلت الخضوع مرادفاً للإيمان.
لن يتحقق أي تغيير حقيقي دون أن تدرك المرأة أن الطاعة التي وُصفت لها كفضيلة، ليست سوى طريقة لضمان استمرار النظام القائم. لن يتحقق التحرر إلا حين تكفّ المرأة عن رؤية نفسها بعيون الآخرين، حين تُدرك أن وجودها لا يحتاج شهادة قبول من أحد، وأن القواعد التي سُجنت داخلها ليست سوى صناعة بشرية زائفة، لا قدسية فيها ولا صفة أبدية.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل المرأة قادرة على مواجهة هذا الإرث الطويل من الخوف والبرمجة؟ هل تستطيع هدم المعادلة التي جعلتها تخلط بين الحماية والاستعباد؟
الإجابة ليست سهلة. لكنها ليست مستحيلة. ما يُثبت ذلك هو أولئك النساء اللواتي كسرن هذه القيود وخرجن، وحدهن أحياناً، في مواجهة مجتمع بأكمله. هؤلاء النساء هن الصوت الذي يُذكّر الجميع بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعاً، وأن الخروج من سجون المجتمع يبدأ حين ترفض الضحية أن تُصبح حارسة لقيدها.
في اليوم العالمي للمرأة، لا تُوجَّه التحية للنساء بوصفهن "أمهات" أو "شقيقات" أو "زوجات"، بل بوصفهن مناضلات حقيقيات، واجهن القمع بكل أشكاله، ورفضن أن يتحولن إلى أدوات تُعيد إنتاج الذلّ باسم الفضيلة. تحية لكل امرأة أدركت أن حريتها ليست منحة تنتظرها، بل معركة تخوضها بلا ضمانات، وبلا انتظار مكافأة.
#شادي_أبو_كرم (هاشتاغ)
Shadi_Abou_Karam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟