خطة مورغنثاو: محاولة خنق ألمانيا اقتصاديًا بعد سقوط النازية

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8275 - 2025 / 3 / 8 - 09:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

د.حمدي سيد محمد محمود
في خضم أهوال الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يقتربون من النصر على ألمانيا النازية، بدأ التخطيط لمستقبل ألمانيا ما بعد الحرب. من بين أبرز المقترحات التي ظهرت آنذاك كانت "خطة مورغنثاو"، التي طرحها وزير الخزانة الأمريكي هنري مورغنثاو. هدفت هذه الخطة إلى تحويل ألمانيا إلى بلد زراعي متخلف، وإلغاء قدرتها على إعادة بناء أي قاعدة صناعية قوية يمكن أن تشكل تهديدًا مستقبليًا للعالم.

مثلت هذه الخطة توجهًا عقابيًا صارمًا، إذ سعت إلى تفكيك ألمانيا كقوة اقتصادية وصناعية وإعادتها إلى مستوى ما قبل الثورة الصناعية. كان المنطق وراء هذا المقترح يتمثل في إزالة أي إمكانية لنشوء قوة ألمانية عدوانية مستقبلية، ومنعها من تهديد السلم العالمي مرة أخرى، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. اعتقد مورغنثاو أن القضاء على الصناعة الألمانية هو السبيل الوحيد لضمان عدم تكرار العدوان الألماني في المستقبل، حتى لو كان ذلك يعني فرض عقوبات قاسية على الشعب الألماني نفسه.

أهداف الخطة ومضمونها

اقترحت الخطة سلسلة من التدابير التي كانت ستغير شكل ألمانيا بالكامل، ومن بين أبرز عناصرها:

1. تفكيك البنية الصناعية الألمانية بالكامل، بما يشمل المصانع الكبرى ومراكز الإنتاج الحربي والمدني، لضمان عدم قدرة ألمانيا على بناء أي قوة اقتصادية قوية مجددًا.

2. تقسيم ألمانيا إلى مناطق صغيرة، مع تجريدها من أي شكل من أشكال المركزية الاقتصادية والسياسية، مما يجعلها غير قادرة على إعادة توحيد نفسها كدولة قوية.

3. تحويل الاقتصاد الألماني إلى اقتصاد زراعي بالأساس، بحيث يعتمد السكان على الزراعة وتربية الماشية بدلًا من الصناعة والتكنولوجيا.

4. السيطرة الكاملة على مناجم الفحم ومصادر الطاقة الألمانية من قبل الحلفاء، لمنع أي محاولة لإعادة تشغيل الصناعة الألمانية.

5. فرض عقوبات اقتصادية صارمة على ألمانيا، وإلغاء أي استثمارات أو تطويرات صناعية مستقبلية لضمان بقاءها في حالة ضعف دائم.

الجدل حول الخطة وردود الفعل

كان لاقتراح مورغنثاو تداعيات واسعة النطاق، وأثار انقسامًا حتى داخل الإدارة الأمريكية نفسها. فقد رآه البعض وسيلة لضمان سلام دائم، بينما اعتبره آخرون خطوة قاسية وغير عملية ستؤدي إلى كارثة إنسانية كبرى في ألمانيا، وربما تدفع الألمان إلى التمرد والعودة إلى التطرف.

الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في البداية وافق على الخطة، وناقشها مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل خلال مؤتمر كيبيك عام 1944، حيث تم التوصل إلى اتفاق مبدئي حول بعض جوانبها. لكن سرعان ما ظهرت معارضة شديدة لها، سواء من داخل الولايات المتحدة أو من قبل مستشارين بريطانيين اعتبروا أن تطبيق الخطة سيفتح الباب أمام أزمة إنسانية هائلة في ألمانيا، قد تؤدي إلى مجاعة واضطرابات واسعة النطاق.

وزير الحرب الأمريكي هنري ستيمسون كان أحد أبرز معارضي الخطة، حيث حذر من أن تدمير ألمانيا اقتصاديًا بهذا الشكل سيجعلها أرضًا خصبة لانتشار الشيوعية، خصوصًا مع النفوذ السوفييتي المتزايد في شرق أوروبا. كما أن بعض الاقتصاديين رأوا أن تحويل ألمانيا إلى بلد زراعي بالكامل ليس فقط غير عملي، بل مستحيل بالنظر إلى التعداد السكاني الهائل والمساحة المحدودة الصالحة للزراعة.

التخلي عن الخطة والتحول إلى "خطة مارشال"

مع تزايد الضغط، تراجعت الولايات المتحدة عن تنفيذ خطة مورغنثاو، وبدلًا من ذلك، تحول التركيز إلى خطة أكثر اعتدالًا تقوم على إعادة بناء ألمانيا كقوة اقتصادية سلمية تحت إشراف الحلفاء، وهو ما تجسد لاحقًا في "خطة مارشال" عام 1947، التي قدمت دعمًا ماليًا ضخمًا لأوروبا الغربية، بما في ذلك ألمانيا الغربية، لإعادة إعمار اقتصادها ومنع وقوعها تحت النفوذ السوفييتي.

لكن رغم عدم تنفيذ الخطة بالكامل، إلا أن بعض جوانبها تم تطبيقها بشكل جزئي في السنوات الأولى بعد الحرب. تم فرض قيود صارمة على الإنتاج الألماني، وأغلقت مصانع كثيرة، كما تم نقل بعض التقنيات والصناعات الألمانية إلى دول الحلفاء. إلا أنه مع تصاعد الحرب الباردة، أصبحت الولايات المتحدة ترى في ألمانيا الغربية حليفًا مهمًا ضد الاتحاد السوفييتي، مما أدى إلى تغيير استراتيجيتها من العقاب إلى الاحتواء والدعم.

مثلت خطة مورغنثاو إحدى أكثر الخطط القاسية المقترحة ضد دولة مهزومة في التاريخ الحديث، وعكست الرغبة في ضمان عدم تكرار التجربة النازية بأي شكل من الأشكال. لكن التخلي عنها لصالح نهج أكثر اعتدالًا كان قرارًا حاسمًا ساهم في تحويل ألمانيا إلى قوة اقتصادية مزدهرة بدلًا من أن تصبح دولة فاشلة منهكة. لو تم تنفيذ الخطة بالكامل، لربما تغير مسار التاريخ بشكل جذري، ولواجهت أوروبا أزمة اقتصادية وإنسانية ضخمة، وربما كانت ألمانيا ستصبح بؤرة جديدة للتطرف السياسي بدلًا من أن تتحول إلى نموذج للاستقرار والديمقراطية في أوروبا.

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات