|
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8274 - 2025 / 3 / 7 - 14:58
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ تَعْتَبَرُ أنْ الْمَادَّةِ هِيَ الْأَسَاسُ وَالْوُجُود الْوَحِيدُ فِي هَذَا الْكَوْنِ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ آخَرَ وَرَاءَهَا. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ هَذِهِ الْفَلْسَفَةَ تَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ وَالْقِيَمَ الْأَخْلَاقِيَّة لَيْسَتْ سِوَى نِتَاجِ لِلتِّطور الْبَيُولُوجِيِّ وَالِإجْتِمَاعِيّ لِلْبَشَرِيَّة، وَلَيْسَتْ لَهَا أَيْ أَسَاس مِيتَافِيزِيقِيّ أَوْ إِلَهِي. مِنْ مَنْظُورٍ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِمَا يُقَدِّمُهُ مِنْ حَقَائِقِ مَوْضُوعِيَّة عَنْ الْوَاقِعِ الْمَادِّيّ، يُسْهِمُ فِي تَحْرِيرِ الْأَخْلَاقِ مِنْ قُيُودِ التَّقَالِيد وَالْأَدْيَان وَ تَأْسِيسِها عَلَى أَسَاسِ مَوْضُوعَيْ. فَالْعِلْم يَكْشِفُ عَنْ حَقَائِقِ الطَّبِيعَةِ وَالْكَوْنِ، وَيُسَاعِدُ عَلَى فَهْمِ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَالْمُجْتَمَعِ مِنَ مَنْظُور مَادِّيّ بَحْت. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ فِي هَذَا الْإِطَارِ تُصْبِح نِسْبِيَّة وَتَطْوْرِيَّة، تَخْتَلِفُ مِنْ مُجْتَمَعٍ لِآخَر وَتَتَغَيَّرُ مَعَ تَغَيُّرِ الظُّرُوف الِإجْتِمَاعِيَّة وَالتَّارِيخِيَّة. فَفِي نَظَر الْمَادِّيَّة، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً أَوْ ثَابِتَةً، بَلْ هِيَ مُتَغَيِّرَةٌ وَتَنْسجم مَعَ مُتَطَلِّبَاتِ الْبَقَاء وَالتَّطَوُّر الْبَيُولُوجِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ لِلْبَشَرِيَّة. وَ هُنَا يَأْتِي دَوْرُ الْعِلْمِ فِي تَقْدِيمِ الْحَقَائِق وَالْمَعَارِف اللَّازِمَة لِتَحْدِيد مَا هُوَ أَفْضَلُ لِلْبَشَرِيَّة وَأَكْثَر مُلَاءَمَة لِتَطَورِهَا. فَالفَلَاسِفَةُ الْمَادِّيُّون كَعُثْمَان أَمِين وَلَوْدفيج بوخَنر Ludwig Andreas Buchner يَرَوْنَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَصْدَرُ الْوَحِيد لِلْمَعْرِفَة الحَقِيقِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الِإسْتِنَادُ إلَيْهِ فِي تَحْدِيدِ المَبَادِئِ الأَخْلَاقِيَّةِ. مِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ فِي نَظَرِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ يَلْعَبُ دَوْرًا مُحَوَّريا فِي تَشْكِيلِ الْأَخْلَاقِ وَ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ. فَالْعِلْم بِمَا يَكْشِفُه مِنْ حَقَائِقِ مَوْضُوعِيَّة عَنْ الطَّبِيعَةِ وَالْإِنْسَان وَالْمُجْتَمَع، يُسَاعِدُ عَلَى تَحْرِيرِ الْأَخْلَاقِ مِنْ قُيُودِ التَّقَالِيد وَالْأَدْيَان، وَيَضَع أُسُسًا مَوْضُوعِيَّة لَهَا تَتَمَاشَى مَعَ مُتَطَلِّبَاتِ الْبَقَاء وَالتَّطَوُّر الْبَشَرِيّ. فَفِي هَذَا الْإِطَارِ، تُصْبِح الْأَخْلَاق نِسْبِيَّة وَتَطْوْرِيَّة، تَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ الظُّرُوف وَ الْمُتَطَلَّبَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّة. وَلَكِنْ هُنَاكَ إنْتِقَادَات مُوَجَّهَة لِهَذَا التَّوَجُّه الْمَادِّيِّ فِي تَفْسِيرِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق. فَالنَّقْد الرَّئِيسِيّ هُوَ أَنْ الْمَادِّيَّة تَحِيد عَنْ الْجَوَانِبِ الرُّوحِيَّة وَالْقِيمَيَّة لِلْإِنْسَانِ، وَتُقَلِّلُ مِنْ أَهَمِّيَّةِ الْحُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِإخْتِيَارِ الْأَخْلَاقِيّ. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ قَضَايَا أَخْلَاقِيَّة مُعَقَّدَة لَا يُمْكِنُ حَسْمَهَا فَقَطْ عَلَى أَسَاسِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة الْمَوْضُوعِيَّة، بَلْ تَتَطَلَّب أَيْضًا إعْتِبَارَات قِيَمِيَّة وَأَخْلَاقِيَّة. وَ عَلَيْهِ، فَإِنْ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ تَنْظُرَ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا نِتَاجُ لِلتِّطور الْبَيُولُوجِيِّ وَالِإجْتِمَاعِيّ لِلْبَشَرِيَّة، وَتَرَى أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَصْدَرُ الأَسَاسِيّ لِتَأْسِيس الْأَخْلَاقِ عَلَى أُسُسٍ مَوْضُوعِيَّة. وَ لَكِنْ هُنَاكَ إنْتِقَادَات مُوَجَّهَة لِهَذَا التَّوَجُّه بِسَبَب تَجَاهُلِه لِلْجَوَانِب الرُّوحِيَّة وَالْقِيمَيَّة لِلْإِنْسَانِ، وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى حَسْمِ كُلّ الْقَضَايَا الْأَخْلَاقِيَّة الْمُعَقَّدَة. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي إِطَارِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ لَيْسَتْ بَسِيطَة أَوْ خَالِيَةً مِنْ الْإِشْكَالِيَّات.
_ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق مُحْدِدات مَفَاهِيمِيَّة لِلْإِنْسَاق الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ هِيَ إتِّجَاه فَلْسَفِيّ يَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ مَا يُمْكِنُ إدْرَاكُهُ بِالْحَوَاسِّ وَالتَّجْرِبَة الْمَادِّيَّة، وَيَرْفُض وُجُودِ أَيْ أبْعَادُ مِيتَافِيزِيقِيَّة أَوْ رُوحِيَّة لِلْوُجُود. وَقَدْ طَوْر هَذَا الِإتِّجَاهَ الْفَلْسَفِيّ تَصَوُّرَاتِه الْخَاصَّةِ عَنْ مَفْهُومِ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق. فِي إِطَارِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ، يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْرِفَةُ الْمَوْضُوعِيَّة وَالْبُرْهَانِيَّة الَّتِي يُمْكِنُ التَّحَقُّقُ مِنْهَا تَجْرِيبِيِّا. فَالْعِلْمُ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ الْحَقَائِقِ الْوَاقِعِيَّة وَالْقَوَانِين الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تَحْكُمُ الظَّوَاهِر الْمَادِّيَّة. وَيَنْطَلِق الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ فِي هَذَا الْإِطَارِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَالتَّجْرِبَة، ثُمّ التَّعْمِيم وَالْبَحْثُ عَنْ الْعَلَاقَات السَّبَبِيَّة وَالْقَوَانِين الْكُلِّيَّةُ. وَمِنْ أَبْرَزِ مُمَثَّلي هَذَا الِإتِّجَاهَ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ دِيمَقُريْط الذُّري، وَأبْيُقوّر، وَأَسْمَانُيو خِلَالَ الْعُصُورِ الْوُسْطَى، وَأَرِسْطُو الْفَلْسَفِيّ، وُجُون لَوْك وَ التَّجْرِيبِيِّون الْمَادِّيُّونَ، وَغَاسِنْدِيّ الْمُعَارِضِ لَديكَارَتّ، وَ الْمَادِّيُّونَ الْفَرَنْسِيون وَالْإنْجِلِيز فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ عَشَرَ، وَأَخِيرًا لَوَدِفيج فَيُورباخ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَخْلَاق، فَهُنَاك إتِّجَاهَات مُتَبَايِنَة دَاخِل الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ. فَهُنَاكَ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْمُمَارَسَات الَّتِي تَخْدُمُ مَصَالِح الْأَقْوِيَاء وَالْمُتْرَفِين، وَتُسْتَخْدَم لِإسْتعباد الضُّعَفَاء وَ الْمَعْدُومِين، وَهَذَا هُوَ مَوْقِفٌ كَارْلَ مَارْكِسَ الْمَعْرُوف. وَيَرَى مَارْكِسُ أَنْ الْأَخْلَاق هِيَ أَدَاةُ فِي يَدِ الطَّبَقَة الْحَاكِمَة لِفَرْض سَيْطَرَتِهَا وَإسْتِغْلَال الطَّبَقَات الْأُخْرَى. فِي الْمُقَابِلِ، هُنَاك إتِّجَاهٍ آخَرَ دَاخِلَ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ يُنْظَرُ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا مَجْمُوعَةٌ مِنَ السُّلُوكِيات وَالْفَضَائِلِ الَّتِي تَخْدُمُ الْمَصْلَحَة الِإجْتِمَاعِيَّة وَالْبَشَرِيَّة الْعَامَّة. وَيُمَثِّل هَذَا الِإتِّجَاهَ الْمَادِّيَّانِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ عَشَرَ، وَاَلَّتِي رَكَّزَتْ عَلَى دِرَاسَة الْوَاقِع الِإجْتِمَاعِيّ كَمَا هُوَ، دُونَ الْإِسْرَافِ فِي الْمِثَالِيَّةِ الْوَاعِظَة أَوْ الْمِثَالِيَّة الرَّخِيصَة. وَينْظَرُ هَذَا الِإتِّجَاهَ إِلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ لِتَقَدُّم الْمُجْتَمَعِ وَتَمَاسُكِهِ، وَإِنْ الْأَنَانِيَة مَثَلًا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُفِيدَةً فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْفَلْسَفَةَ الْمَادِّيَّةَ تَنْظُر إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْرِفَةُ الْمَوْضُوعِيَّة وَ التَّجْرِيبِيَّة لِلْحَقَائِق الْمَادِّيَّة، وَتَخْتَلِفُ فِي تَصَوُّرِهَا لِلْأَخْلَاق مَا بَيْنَ إعْتِبَارُهَا أَدَّاة لِلسَّيْطَرَة وَالِإسْتِغْلَالُ، أَوْ ضَرُورَةٍ إجْتِمَاعِيَّة لِتَقَدُّم الْمُجْتَمَعِ وَتَمَاسُكِهِ. وَتَتَمَيَّز الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ بِالتَّرْكِيز عَلَى الْوَاقِعِ الْمَادِّيّ الْمَلْمُوس، وَ بِنَقْدِهَا لِلْمِثَالِيَّة وَالتَّصَوُّرَات الْمَيتَافِيزِيقِيَّة.
_ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
فِي تَحْلِيلِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ، نُلَاحِظُ أَنَّ هُنَاكَ تَبَايَنَا كَبِيرًا فِي وُجْهَاتِ النَّظَرِ حَوْلَ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ وَتَصَوُّرَات الْفَلَاسِفَة الْمَادِّيِّين الْمُخْتَلِفَة لَهَا. مِنْ مَنْظُور الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ التَّقْلِيدِيَّة، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَسِّسَ أَوْ يَبْنِيَ الْأَخْلَاق، فَالْعِلْمُ هُوَ مُجَرَّدُ وَصْفٍ لِمَا هُوَ كَائِنٌ فِي الْوَاقِعِ الْمَادِّيّ الْخَارِجِيّ، أَمَّا الْأَخْلَاق فَتَتَعَلَّقُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَ لَيْسَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ. فَالْعِلْم وَفْقًا لِهَذَا الرَّأْيِ يَنْحَصِرُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ الْمَوْضُوعِيَّة وَالْكَشْفِ عَنْ الْقَوَانِين الطَّبِيعِيَّة، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْتَجَ قَوَاعِد وَأَحْكَامًا أَخْلَاقِيَّة. وَيَنْطَلِق هَذَا الْفَهْمِ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، فَالْعِلْم يَتَعَامَلُ مَعَ الْوَاقِعِ الطَّبِيعِيّ وَالْمَادِّيّ كَمَا هُوَ، بَيْنَمَا الْأَخْلَاق تَتَعَلَّق بِالْقِيَم وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا وَالسَّلْوَكَيَّات الصَّحِيحَةِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمَادِّيِّين يَرْفُضُون إِمْكَانِيَّة إشْتِقَاق الْقَوَاعِد الْأَخْلَاقِيَّة مِنْ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ أَوِ إسْتِنْتَاج مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ مَا هُوَ كَائِنٌ. وَمَعَ ذَلِكَ، هُنَاكَ إتِّجَاه فَلْسَفِيّ مَادِّيّ حَدِيث يَنْظَرُ إلَى الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَهَؤُلَاء الْمُفَكِّرُون يَرَوْنَ أَنَّ الْعِلْمَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْعَبَ دُورًا فِي بِنَاءِ وَتَطْوِير الْأَخْلَاقِ، وَإِنْ هُنَاك إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة. فَالْعِلْم وَفْقًا لِهَذَا الرَّأْيِ لَا يَنْحَصِرُ فِي مُجَرَّدِ وَصْفِ الْوَاقِع الْمَوْضُوعِيّ، بَلْ يُمْكِنُه أَيْضًا أَنَّ يُسْهِمُ فِي تَشْكِيلِ أَنْمَاط السُّلُوكِ الْأَخْلَاقِيِّ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة. فَالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة عَنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَدَوَافِعَه وَسُلُوكِيَّاته يُمْكِنُ أَنْ تُسَاعِدَ فِي فَهْمِ الْأَخْلَاق وَتَطْوِيرِهَا. كَمَا أَنَّ الْعُلُومَ الْإِنْسَانِيَّة وَ الِإجْتِمَاعِيَّة قَدْ تَكْشِفُ عَنْ الْعَوَامِلِ الِإجْتِمَاعِيَّة وَ التَّارِيخِيَّة الْمُؤَثِّرَةِ فِي تَشْكِيلِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ هُنَاكَ تَفَاعُلًا مُتَبَادَلٌا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، فَالْعِلْم يُمْكِنُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَشْكِيلِ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ، وَالْأَخْلَاق بِدَوْرِهَا تُؤَثِّرُ فِي تَوْجِيهِ وَتَطْبِيق الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. فَالْعِلْم قَدْ يَكْشِفُ عَنْ حَقَائِقِ جَدِيدَة تَنْعَكِسُ عَلَى مَفَاهِيمِنا الْأَخْلَاقِيَّة، كَمَا أَنَّ الْقَيِّمَ الْأَخْلَاقِيَّة تُشْكِل إِطَارًا مَرْجِعِيَّا لِتَوْجِيهِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَ تَطْبِيقِاته. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا الِإتِّجَاهَ الْحَدِيثَ فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ، إلَّا أَنْ هُنَاكَ إنْتِقَادَات فَلْسَفِيَّة قَوِيَّة وُجِّهْتُ إِلَى هَذِهِ الرُّؤْيَةُ لِلْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. فَالْمُنْتَقِدُون يَرَوْنَ أَنَّ الْفَلْسَفَةَ الْمَادِّيَّةَ تَقَلَّص الْإِنْسَانُ إلَى مُجَرَّدِ كَائِن مَادِّيّ، وَتُهْمِل الْإِبْعَاد الرُّوحِيَّة وَالْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي تُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عَنْ سَائِرِ الْكَائِنَاتِ. كَمَا يَنْتَقِدْ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ مُحَاوَلَات الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ رَبَط الْأَخْلَاق بِالْعِلْمِ أَوْ إشْتِقَاق الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ مِنْ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّة. فَالْأَخْلَاق وَفقَا لِهَؤُلَاءِ لَا تَسْتَنِدُ إلَى الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة فَحَسْبُ، بَلْ تَنْطَلِق أَيْضًا مِنْ الْوَعْيِ الذَّاتِيّ وَالْحُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالتَّأَمُّل الْفَلْسَفِيّ. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق تَعَدّ أَكْثَر تَعْقِيدًا وَتَدَاخُلاً مِمَّا تُصَوُّرِه الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ فَالْأَخْلَاق لَا يُمْكِنُ إخْتِزَالَهَا فِي الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّةِ أَوِ إشْتِقَاقِهَا مِنْهَا بَلْ إنَّهَا تَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إلَى أبْعَادٍ فَلْسَفِيَّة وَإِنْسَانِيَّة أَعْمَق بِإخْتِصَارٍ يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ مَوْضُوعَ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق ظَلّ مَحَلَّ جَدَلٍ وَ خِلَاف بَيْن الْفَلَاسِفَة الْمَادِّيِّين، وَأَنَّ هُنَاكَ تَبَايَنَا كَبِيرًا فِي وُجْهَاتِ النَّظَرِ حَوْل طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ وَ إِمْكَانِيَّة التَّأْسِيس الْأَخْلَاقِيّ لِلْعِلْمِ أَوْ الْعَكْسُ. وَمَا زَالَ هَذَا الْمَوْضُوعِ يُثِير نَقَاشات فَلْسَفِيَّة مُهِمَّة حَوْل طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْقَيِّم.
_ تَطَوُّرُ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّة
الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقُ هِيَ مَسْأَلَةُ فَلْسَفِيَّة قَدِيمَة قِدَم الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. فَقَدْ نَاقَشَ الْعَدِيدِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَ الْمُفَكِّرِينَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ عَلَى مَرَّ التَّارِيخ، وَحَاوَلُوا الْوُقُوفِ عَلَى طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ وَتَطَوُّرِهَا. وَقَدْ ظَهَرَتْ فِي هَذَا الْإِطَارِ مَوَاقِف عِدَّة، رُبَّمَا أَبْرَزَهَا هِيَ تِلْكَ الَّتِي قَدَّمَتْهَا الْفَلْسَفَةُ الْمَادِّيَّة. يَرَى الْبَرتراند رَاسَل أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْتَمُّ بِالْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فَلْسَفِيَّة مِيتَافِيزِيقِيَّة. لِذَلِكَ، فَإِنْ الْعِلْمِ قَدْ هَدَّد الْأَفْكَار الْمَيتَافِيزِيقِيَّة وَغَيَرَ فَهمْنَا لَهَا، كَمَا جَعَلَ مِنْ الْإِنْسَانِ كَائِنًا بَيُولُوجِيَا بَدَلًا مِنْ الْمَيتَافِيزِيقِيّ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْقَيِّمَ الْبَشَرِيَّة تَتَغَيَّر وَتُسْتَبْدَل بِقِيَم عِلْمِيَّة أَكْثَرَ مِنْهَا مِيتَافِيزِيقِيَّة. وَ فِي الْمُقَابِلِ، يَرَى رَاسَل أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ أَسْهَمَ فِي تَحْسِينِ أَوْضَاع الْبَشَرِيَّةِ، مِنْ خِلَالِ التَّقْلِيلُ مِنْ الْأَشْيَاءِ السَّيِّئَة كَالْجَرِيمَة، وَ الْإِكْثَارُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْجَيِّدَة كَإنْتِشَار الِإهْتِمَام بِالْعِلْم. لِذَلِكَ، فَهُوَ يُؤَكِّدُ عَلَى ضَرُورَةِ مُوَاكَبَة الْعِلْم الْمُعَاصِر لِلْقَيِّم الْبَشَرِيَّةِ، مِنْ خِلَالِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: إلْغَاء الْحُرُوب، وَالتَّوْزِيع الْمُتَسَاوِي لِلسُّلطَة، وَتَحْدِيد النُّمُوّ السُّكَّانِيّ. وَ يَسْتَمِرُّ هَذَا الْجَدَلَ بَيْن أَنْصَار الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ مَفْصُولٍ عَنْ الْقَيِّمِ وَالْأخْلاقِ، وَآخَرِين يَرَوْنَ أَنَّ الْعِلْمَ وَ الْأَخْلَاق مُتَرَابِطَان وَلَا يَنْفَصِلَانِ. فَالمَادِّيَّة الْمَيكانيكية تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ يُؤَدِّي إلَى أَخْلَاقِ ضِدّ لاهْوتِيَّة، بَيْنَمَا يَرَى آخَرُونَ أَنْ الْعِلْم وَالْفِكْر الْفَلْسَفِيّ سَيُؤثِر فِي فَهْمِنَا لِلْأَخْلَاق وَالْخَيْر. وَ هُنَاكَ مَنْ يُؤَكِّدُ عَلَى ضَرُورَةِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ جَوْن دُيُوي وَغَيْرُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمُعَاصِرِين. فَالْعِلْمُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحِلَّ مَحَلَّ الْفَلْسَفَة وَالْأَخْلَاق، بَلْ لَا بُدَ مِنْ تَكَامُل الْعِلْمِ مَعَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ لِتَوْجِيه تَطَوُّر الْعِلْم وَالِإقْتِصَاد نَحْوَ تَحْقِيقِ الْغَايَات الْإِنْسَانِيَّة. وَ بِالتَّالِي يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي إِطَارِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ لَا تَزَالُ مَوْضِع جَدَل وَخِلَاف. فَالْبَعْض يَرَى إنْفِصَال الْعِلْمِ عَنْ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة، بَيْنَمَا يَذْهَبُ آخَرُونَ إلَى ضَرُورَةٍ تَكَامُلِهِمَا وَالْمُوَازَنَة بَيْنَهُمَا. وَهَذَا النَّقَّاش مُسْتَمِرٌّ فِي الْفِكْرِ الْفَلْسَفِيّ الْمُعَاصِر، وَلَمْ يَتِمَّ الْوُصُولُ إلَى حَسْمِ نِهَائِيّ لَهُ حَتَّى الْانَ.
_ بِنْيَّةِ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّة
الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ هِيَ مَنْظُورُ فَلْسَفِيّ يَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ الْمَادِّيّ هُوَ الْأَسَاسُ الْوَحِيد لِلْوُجُود، وَأَنَّ جَمِيعَ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَ الْإِنْسَانِيَّة يُمْكِن تَفْسِيرُهَا فِي ضَوْءِ الْمَادَّةَ وَالطَّبِيعَةَ الْمَادِّيَّة. وَ مِنَ الْجَدِيرِ بِالذِّكْرِ أَنَّ هَذَا المَذْهَبُ الْفَلْسَفِيّ لَهُ تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْإِنْسَانِ لِلْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة. تُرْكَزُ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ عَلَى الْجَانِبِ الْمَادِّيِّ لِلْإِنْسَانِ، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ كَائِن مَادِّيّ خَاضِع لِلطَّبِيعَة وَالْقَوَانِين الطَّبِيعِيَّة، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي هَذَا الْجَانِبِ عَنْ بَاقِي الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ. وَهَذِهِ النَّظْرَةُ تَتَجَاهل الْجَوَانِبِ الْأُخْرَى لِلطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ كَالْوَعِي وَالضَّمِيرُ وَالْإِرَادَة وَالْحُرِّيَّةُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّخْطِيط وَالتَّقَدُّمِ الْحَضَارِيِّ. فَالفَلْسَفَةُ الْمَادِّيَّة تَرَى الْإِنْسَان كَمُجَرَّد كَائِن مَادِّيّ خَاضِع لِلطَّبِيعَة وَالْبَرْنَامَج الطَّبِيعِيِّ، وَلَا تَعْتَرِفْ بِتَمَيُّز الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَائِنَاتِ فِي جَوَانِبِ كَالْوَعِي الْأَخْلَاقِيّ وَالدِّينِيّ وَالْإِبْدَاع الْفَنِّيُّ وَالتَّطَوُّر الْحَضَارِيّ. وَبِذَلِك تَقُوم بِتَفْكِيك الْإِنْسَان وَتَجَرُّدِه مِنْ خَصَائِصِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُتَمَيِّزَة. نَظَرًا لِأَنَّ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ تَرَى الْإِنْسَان كَمُجَرَّد كَائِن مَادِّيّ خَاضِع لِلطَّبِيعَة، فَإِنَّهَا تَنْظُرُ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا مُجَرَّدُ ظَوَاهِر إجْتِمَاعِيَّة أَوْ سَلُوكَيَّات نَاشِئَةٌ عَنْ الْبِيئَة الْمَادِّيَّة وَالتَّفَاعُلًات الِإجْتِمَاعِيَّةِ، لَا تَتَجَاوَزُ إِطَار الضَّوَابِط الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ. وَبِالتَّالِي فَهِي تَرْفُض فِكْرَة الْأَخْلَاق كَمَنْظُومَة قِيَمِيَّةٌ مُطْلَقَة وَمُسْتَقِلٍّة عَنْ الْمَادَّةِ وَ الطَّبِيعَة. فَالفَلْسَفَةُ الْمَادِّيَّة تَرَى أَنَّ الْقَيِّمَ وَالْأَخْلَاقُ هِيَ مُجَرَّدُ تَعْبِيرَات عَنِ الْبِيئَةِ الِإجْتِمَاعِيَّة وَالْمَادِّيَّة لِلْإِنْسَانِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ أُمُورًا مُطْلَقَةً أَوْ ثَابِتَةً، بَلْ هِيَ مُتَغَيِّرَةٌ وَنِسْبِيَّةٌ حَسَبَ الظُّرُوفِ وَالْمُتَطَلَّبَات الْمَادِّيَّةِ لِلْإِنْسَانِ. وَعَلَيْهِ، فَإِنْ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ تَرْفُض فِكْرَة الْأَخْلَاق الْمُطْلَقَة وَالْكُلِّيَّة، وَتَنْظُرُ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا مُجَرَّدُ ظَوَاهِر إجْتِمَاعِيَّة مُتَغَيِّرَة. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْفَلْسَفَةَ الْمَادِّيَّةَ قَدِّمَتْ تَفْسِيرَات لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّةِ، إلَّا أَنَّهَا وَاجَهَتْ إنْتِقَادَات شَدِيدَةُ لِنَظَرَتُهَا الْمَحْدُودَةِ لِلْإِنْسَان وَالْأَخْلَاق. فَالنَّقْد الرَّئِيسِيّ الْمُوَجِّه إلَيْهَا هُوَ أَنَّهَا تَجَرَّد الْإِنْسَانِ مِنْ خَصَائِصِهِ الْمُمَيِّزَة كَالْوَعِي وَالْإِرَادَةِ وَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّفْكِيرِ وَالِإبْتِكَار، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ كَمُجَرَّد كَائِن مَادِّيّ خَاضِع لِلْبِيئَة وَالْغَرَائِز. كَمَا أَنَّهَا تَنْظُرُ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا مُجَرَّدُ ظَوَاهِر إجْتِمَاعِيَّة نِسْبِيَّة، مِمَّا يُؤَدِّي إلَى إنْكَارِ الطَّابَع الْمُطْلَق وَالْعَالَمِيّ لِلْأَخْلَاق، وَتَحْوِيلُهَا إلَى مُجَرَّدِ تَعْبِيرَات عَنْ الْمَصَالِحِ الْمَادِّيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ. وَهَذَا النَّقْد يَرَى أَنَّ هَذَا الْمَنْظُورِ الْمَادِّيّ لِلْأَخْلَاق لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَسَاسًا كَافِيًا لِبِنَاء نِظَام أَخْلَاقِيّ مُتَكَامِل وَقَادِرٌ عَلَى تَوْجِيهِ السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ. إنْ الِإنْتِقَادَات الْمُوَجَّهَة لِلْفُلِسَفَة الْمَادِّيَّةِ تَنْبُعُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى رُؤْيَةِ أَكْثَر شُمُولِيَّة لِلْإِنْسَان وَالْأَخْلَاق، تَأْخُذُ فِي الِإعْتِبَارِ الْأبْعَاد الرُّوحِيَّة وَالْوِجْدَانِيَّة وَالْعَقْلِيَّة لِلْإِنْسَان، بِالْإِضَافَةِ إلَى أَبْعَادِه الْمَادِّيَّة. فَالْإِنْسَان كَائِن مُتَكَامِل لَهُ أَبْعَادٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا يُمْكِنُ إخْتِزَالَه فِي بُعْد مَادِّيّ وَاحِد. كَذَلِكَ تَتَطَلَّب الْأَخْلَاق رُؤْيَة فَلْسَفِيَّة أَكْثَرَ إتِّسَاعًا، تَنْظُرُ إلَيْهَا كَمَنْظُومَة قِيَمِيَّةٌ مُطْلَقَة وَمُسْتَقِلٍّة عَنْ الْمُتَطَلَّبَات الْمَادِّيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ الْمُتَغَيِّرَة، وَقَادِرَةً عَلَى تَحْقِيقِ الْكَمَال الْأَخْلَاقِيّ لِلْإِنْسَانِ. وَهَذَا يَتَطَلَّب تَجَاوَز النَّظْرَةِ المَادِّيَّةِ المَحْدُودَةِ لِلْإِنْسَان وَالْأَخْلَاق، وَ إعْتِمَاد رُؤْيَة شُمُولِيَّة أَكْثَرُ قُدْرَةً عَلَى تَوْجِيهِ السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ نَحْو الْأَفْضَل.
_ مُقَارَنَةً بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي إِطَارِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ هِيَ عَلَاقَةٌ مُعَقَّدَة وَذَات تَوَتُر. الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ تُعْطِي أَوْلَوِيَّة لِلْعِلْم وَتَعْتَبَرُه الْوَسِيلَةَ الْأَسَاسِيَّة لِلتَّعَرُّفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَيْنَمَا تَنْظُرَ إلَى الْأَخْلَاقِ بِإعْتِبَارِهَا مُجَرَّد إتِّفَاقَات إجْتِمَاعِيَّة مُتَغَيِّرَةً وَلَا تَحْمِلُ حَقِيقَة مَوْضُوعِيَّة. مِنْ وَجْهَة نَظَر الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ، الْعِلْمِ هُوَ الْوَسِيلَةُ الْوَحِيدَةُ لِلْوُصُولِ إلَى الْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْ الْوَاقِعِ الْمَادِّيّ. فَالمَادِّيَّة تَرْفُض أَيْ مَصَادِر لِلْمَعْرِفَة غَيْر تَجْرِيبِيَّة كَالْوَحْي أَوْ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ، وَتَعْتَبَر أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ السَّبِيلُ الْوَحِيدُ الْمَوْثُوق لِلْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَشْيَاء. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ تَسْعَى إِلَى إِخْضَاع جَمِيعَ مَنَاحِي الْحَيَاةِ، بِمَا فِيهَا الْأَخْلَاق، لِمَنْطق وَآلِيَات الْعِلْمِ التَّجْرِيبِيِّ. فِي الْمُقَابِلِ، تَرَى الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ أنْ الْأَخْلَاق لَيْسَتْ سِوَى إتِّفَاقَات إجْتِمَاعِيَّة مُتَغَيِّرَة وَلَيْسَتْ حَقَائِق مَوْضُوعِيَّة. فَالْأَخْلَاق فِي هَذَا الْإِطَارِ هِيَ مُجَرَّدُ أَعْرَاف وَتَقَالِيد تَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَ لَا تَسْتَنِدُ إلَى أَسَاسٍ مَوْضُوعَيْ ثَابِتٍ. وَمَنْ هُنَا، تُحَاوِل الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ إِخْضَاع الْأَخْلَاق لِلْعِلْم وَتَفْسِيرُهَا بِمَنْطِق الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالسُّلُوكَيَّات الْحَيَوَانِيَّةِ وَالدَّوَافِع النَّفْسِيَّة، وَ هَذَا يُؤَدِّي إلَى تَوَتُر بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي إِطَارِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ. فَالْعِلْم يَسْعَى إلَى الْكَشْفِ عَنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْضُوعِيَّة وَ الْقَوَانِين الْعَامَّة لِلطَّبِيعَة، فِي حِينِ أَنَّ الْأَخْلَاقَ تَتَعَامَلُ مَعَ الْقِيَمِ وَالْمَعَايِير السُّلُوكِيَّة الَّتِي قَدْ تَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ السِّيَاقَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ. وَبِالتَّالِي، تُحَاوِل الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ إمَّا إِخْضَاع الْأَخْلَاق لِلْعِلْمِ أَوْ الِإسْتِغْنَاءُ عَنْهَا كُلِّيًّا. وَمَعَ ذَلِكَ، هُنَاكَ مُحَاوَلَات مِنْ بَعْضِ الْفَلَاسِفَة الْمَادِّيِّين لِإِيجَاد عَلَاقَةٍ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، مِثْل مُحَاوَلَات تَفْسِير الْأَخْلَاقِ عَلَى أَسَاسِ النُّشُوءِ وَالِإرْتِقَاءِ الْبَيُولُوجِيّ أَوْ كَنَتَّائج لِتَطَوُّر الْوَعْي الِإجْتِمَاعِيّ. لَكِنَّ هَذِهِ المُحَاوَلَات لَا تَزَالُ جَدَلِيَّة وَتُوَاجِه إنْتِقَادَات مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَهَا أَسَاس مُتَعَالٍ عَنْ الْوَاقِعِ الْمَادِّيّ وَبِشَكْلٍ عَامّ، تُؤَكِّد الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ عَلَى الْأَهَمِّيَّةِ الْمَرْكَزِيَّة لِلْعِلْم وَتُحَاوِل تَفْسِيرُ جَمِيعِ ظَوَاهِر الْحَيَاةِ بِمَا فِيهَا الْأَخْلَاق وَفَقَاً لِمَنْطق الْعِلْمُ التَّجْرِيبِيّ. وَلَكِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى تَوَتُر بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق لِأَنّ الْأَخْلَاق تَتَعَامَلُ مَعَ قِيَمٍ وَمَعَايِيرَ سُلُوكِيَّة لَا يُمْكِنُ إخْضَاعِهَا بِسُهُولَةٍ لِلْمَنْهَج الْعِلْمِيّ. وَتَبْقَى هَذِهِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق مَجَالًا لِلْجَدَل وَالنَّقَّاش الْفَلْسَفِيّ الْمُسْتَمِرّ.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
-
نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
-
الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي
...
-
أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
-
حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
-
جَدَلِيَّة الِإنْتِمَاء و الِإنْتِسَاب
-
جَدَلِيَّة التَّنْمِيط وَ التَّسْطِيح
-
السُّؤَالُ عَنْ السُّؤَال
-
إيلَون مَاسِك عَبْقَرِيّ أَمْ شَيْطَانِي
-
سُّلْطَة المُثَقَّف أَمْ مُثَقَّف السُّلْطَة
-
مَقَال فِي الأَسْئِلَةُ الْوُجُودِيَّة الْكُبْرَى
-
ثَمَنِ قَوْلِ الْحَقِيقَةِ فِي مُجْتَمَعَاتٍ النِّفَاق وَالت
...
-
جَدَلِيَّة الْفَلْسَفَة و التَّفَلُّسِف
المزيد.....
-
مصدر مطلع يكشف تفاصيل حول -اجتماع السعودية- المرتقب بين أمري
...
-
كيف خططت شبكة تجسس روسية لقتل صحفي بطرق -تفوق الخيال-؟
-
دراسة: الطهي أخطر على الصحة من شوارع لندن المزدحمة
-
عراقجي يؤكد سلمية البرنامج النووي الإيراني ورفض طهران للتفاو
...
-
مصدر يؤكد مسؤولية اللواء الأوكراني رقم 95 عن قتل المدنيين في
...
-
مبعوث ترامب يكشف عن عروض -سخية- قدمتها -حماس- مقابل هدنة طوي
...
-
موقع إسرائيلي: اجتماع متوتر بين الوزير ديرمر ومسؤول مصري
-
كوريا الشمالية تحذر من خطر اندلاع حرب -بطلقة عرضية واحدة-
-
خليفة ترودو: كندا لن تكون أبدا جزءا من أميركا
-
طوكيو تشهد فعاليات لإحياء ذكرى ضحايا القصف الأمريكي
المزيد.....
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|