أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - الاستبداد وصناعة العقول: كيف يُعيد الطغيان تشكيل الوعي الجمعي














المزيد.....


الاستبداد وصناعة العقول: كيف يُعيد الطغيان تشكيل الوعي الجمعي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8274 - 2025 / 3 / 7 - 09:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حممدي سيد محمد محمود
تُعتبر الأنظمة السياسية المستبدة واحدة من أكثر الظواهر التاريخية والسياسية تعقيدًا وتأثيرًا على تشكيل الوعي الجمعي للمجتمعات. فمنذ فجر التاريخ، كان الاستبداد أداةً رئيسية للتحكم في مصائر الشعوب، حيث يمارس سطوته على العقل الجمعي بطرق متعددة، تبدأ من السيطرة على وسائل الإعلام والتعليم وتنتهي بفرض ثقافة الخوف والتبعية. وعندما يتم إخضاع مجتمعٍ ما لسلطة مستبدة على مدى زمني طويل، فإنه لا يخضع فقط سياسيًا، بل يتعرض لعملية إعادة تشكيل فكرية ونفسية عميقة تحوّل أفراده إلى كائناتٍ تائهة بين الخضوع والاستسلام، وبين الرغبة في المقاومة والخوف من العواقب.

إن الاستبداد لا يقتصر على كونه مجرد ممارسة قمعية تستهدف المعارضين السياسيين، بل يتغلغل في بنية المجتمع، مؤثرًا على طريقة تفكير الأفراد ونظرتهم إلى أنفسهم والعالم من حولهم. فهو يُعيد هندسة الوعي العام بطريقة ممنهجة عبر مجموعة من الآليات، أبرزها التلاعب بالمعلومات واحتكار الحقيقة. فحين يتحكم النظام المستبد في وسائل الإعلام والمناهج التعليمية والخطاب الديني، يصبح قادراً على إعادة صياغة الحقائق بما يخدم مصالحه، مما يخلق جيلًا مسلوب الإرادة، عاجزًا عن رؤية واقعه بوضوح أو التشكيك في مشروعية السلطة الحاكمة. وبهذه الطريقة، يصبح العقل الجمعي للمجتمع أداةً طيعةً بيد السلطة، يُقاد دون وعي إلى تبني الرواية الرسمية بوصفها الحقيقة المطلقة، حتى لو كانت متناقضة مع الواقع المعيش.

ومن أخطر ما يفعله الاستبداد هو نشر ثقافة الخوف، وهي الثقافة التي تتغلغل في النفوس حتى تصبح جزءًا من الهوية الجماعية للمجتمع. فالإنسان الذي يعيش في ظل حكم مستبد يتعلم أن الخوف هو القاعدة الأساسية للحياة: الخوف من التعبير، من التفكير، من مخالفة التيار العام، بل حتى من مجرد التساؤل. ومع مرور الوقت، يتحول هذا الخوف إلى نمط حياة، ينعكس في كل التفاصيل اليومية، حيث يصبح الفرد حريصًا على تجنب المواجهة، وعلى التكيف مع القمع بدلاً من مقاومته، الأمر الذي يؤدي إلى إنتاج أجيال متتالية مشوهة نفسيًا وفكريًا، ترى الطاعة المطلقة فضيلةً، والنقد خطرًا، والتغيير ضربًا من المستحيل.

لكن الأخطر من ذلك كله أن الاستبداد لا يكتفي بتشكيل وعي الأفراد، بل يسعى إلى تدمير ثقتهم بذاتهم وببعضهم البعض. فهو يغرس بذور الشك في النفوس، ويجعل كل فردٍ يشكك في نوايا الآخر، مما يؤدي إلى تمزيق الروابط الاجتماعية وإضعاف روح التضامن الجماعي. فالناس في المجتمعات المستبدة يتعلمون أن الصمت أكثر أمانًا من الكلام، وأن الفردنة أكثر ضمانًا من العمل الجماعي، وأن كل شخصٍ قد يكون مُخبرًا محتملاً للسلطة. وهكذا، يصبح المجتمع كيانًا مفككًا، يعيش أفراده في عزلة نفسية واجتماعية، مما يقتل أي إمكانية لنشوء مقاومة شعبية منظمة قادرة على إحداث تغيير حقيقي.

كما أن الاستبداد يُفرز ثقافةً زائفةً تعيد تعريف المفاهيم والقيم الاجتماعية بما يتناسب مع بقاء السلطة. فالوطنية في ظل الحكم المستبد تُصبح مرادفًا للولاء الأعمى للحاكم، والحرية تتحول إلى ترفٍ غير ضروري، والمعارضة تُصوَّر على أنها خيانة. وبهذه الطريقة، يتم تزييف وعي الأفراد وإعادة برمجته ليتقبل واقعه المزيف دون مقاومة. ومع مرور الأجيال، تتحول هذه المفاهيم المغلوطة إلى جزءٍ من البنية الثقافية للمجتمع، مما يجعل الخلاص من الاستبداد أكثر صعوبة، لأن المشكلة لم تعد في النظام السياسي وحده، بل في العقول التي تم تشكيلها على مدى عقود لتؤمن بأن القمع هو القدر الذي لا يمكن تغييره.

ورغم كل ذلك، فإن التاريخ يُثبت أن الوعي الجمعي، مهما تعرض للقمع والتشويه، لا يموت تمامًا. فقد ينجح الاستبداد في تخدير العقول لفترة، لكنه لا يستطيع القضاء تمامًا على الشرارة التي تبقى كامنة في أعماق الوجدان الجماعي، تنتظر اللحظة المناسبة لتشتعل. فالمجتمعات، حتى الأكثر قمعًا، تحتفظ بقدرتها الفطرية على البحث عن العدالة والحرية، وقد يأتي اليوم الذي ينهار فيه الاستبداد تحت وطأة تراكم الوعي وإرادة التغيير. وهذا ما يجعل المعركة ضد الأنظمة المستبدة ليست مجرد معركة سياسية، بل معركة على مستوى الفكر والثقافة والوعي، معركة لاستعادة الإنسان لإنسانيته، وللمجتمع لحمته، وللحقيقة مكانتها التي أُريد لها أن تُطمس.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صناعة الحقيقة: كيف يشكل الدين والسياسة والإعلام وعينا بالعال ...
- العلمانية الفلسفية: جدلية العقل والدين في تشكيل المجتمعات ال ...
- التفكير النقدي الإسلامي: بين ثوابت الدين وتحولات العصر
- أفلاطون والمجتمع المثالي: المدينة الفاضلة كمشروع فلسفي للعدا ...
- المجتمع العاقل بين الوهم والحقيقة: إريك فروموتشريح الاغتراب ...
- الحرب الأمريكية الإسبانية: صراع الإمبراطوريات وتحول القوى ال ...
- حرب الرفاق: جذور الصراع السوفيتي-الصيني عام 1969 وتداعياته ع ...
- عادة الساتي في الهند: طقس الموت المقدس ونهايته
- فارس الخوري: رجل الدولة الذي انتصر للعقل والوطن
- اليهود في إيران بعد 1979: بين الهوية الوطنية وشبهة الصهيونية
- مستقبل الأمن الأوربي في ظل التحولات الجيوسياسية العاصفة
- استشراف الأزمات: كيف يفكر جون كاستي في انهيار الحضارات؟
- موت الإله عند نيتشه: فلسفة ما بعد المقدّس وتداعياتها على الف ...
- إشكالية الحرية الدينية بين الإسلام والليبرالية: جدلية الهوية ...
- التحول الكبير: كيف فتحت زيارة نيكسون للصين الباب لصعودها كقو ...
- الدولة والدين: تحديات الولاء في عالم متغير
- الخطاب السياسي الاستشراقي: قراءة نقدية لانعكاساته على الثقاف ...
- الفلسفة العربية وإشكالية العقل الجمعي: قراءة في مفاهيم الترا ...
- الذاكرة الجماعية: دور المعرفة التاريخية في فهم الهوية والتغي ...
- الفلسفة المدرسية وقيم الحكم الرشيد: جدلية السلطة والأخلاق


المزيد.....




- ما فائدة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين على روسي ...
- ترمب يخاطب الكونغرس كمسيحي لا كرجل أعمال
- حماس توافق على تشكيل لجنة مستقلة لإدارة قطاع غزة
- 18 مليون دولار حتى الآن.. تكاليف ولع ترامب بالغولف تتجاوز أر ...
- قطر تدعو لإخضاع منشآت إسرائيل النووية لإشراف وكالة الطاقة ال ...
- خبير: -الفأر الصوفي- خطوة ناجحة على طريق إحياء الماموث
- أسباب فقدان السمع
- روسيا تحدّث روبوتاتها المخصصة لإزالة الألغام
- دراسة تكشف عن ارتباط بين أعراض انقطاع الطمث وصحة الدماغ
- كارثة جديدة تلوح في الأفق.. حرائق ضخمة تجتاح أكبر الجزر الأم ...


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - الاستبداد وصناعة العقول: كيف يُعيد الطغيان تشكيل الوعي الجمعي