عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8273 - 2025 / 3 / 6 - 19:45
المحور:
الادب والفن
في مقال سابق عن ؛ كيركجور ، سبق وقلت أن لحياة الفيلسوف أثر كبير على فلسفته ، وفكره ، ومن هذه النقطة تذكرت المتصوف العراقي محمد بن عبد الجبار بن الحسن النِفَّريّ ، ذلك المتصوف الذي لم نعرف عنه تفاصيل كثيرة ، لكن من هذه التفاصيل ، التي ليست بالكثير ؛ عرفنا أنه كان صوفيًّا زاهدًا عاش حياة الترحال ، والتأمل ، والعبادة الخالصة للحق.
وقد كان النِفَّريّ متجوَّلًا طيلة حياته ، ولم يستقر في مكان معين ؛ مما يشير إلى تأثره بـ تقاليد التصوف ، والحياة الزهدية ؛ التي تعتمد على الهجرة الروحية ، والتخلي عن أمور وأحوال الدنيا ، من أجل التعرف على الحق سبحانه وتعالى ؛ وقد انعكست فكرة الترحال على كتاباته ، حيث نجد مفهوم "الوقوف" ، هو السائد في كتاب المواقف ؛ حيث يشير هذا المفهوم ، إلى حالة الانتظار الدائم للحقيقة دون استقرار ؛ لأن العارف بالنسبة إلى النِفَّريّ ؛ هو من ترك اليابسة مُتجهًا إلى البحر.
و ارتحال النِفَّريّ ليس ارتحالاً عاديًا ، أو جسديًا فقد ؛ بل روحيًا أيضاً ، حيث لم يكن النِفَّريّ يرى أيّ مكان كـ وجهةٍ نهائية ؛ لأنه كان عارفًا بأن من قصد الدنيا ذهبت عنه الآخرة ، ومن فعل هذا لم ينل من نور الله ، ولا من إشاراته ؛ التي لا يفهمها إلا عباده الصالحين المؤمنين.
وفي تجوال النِفَّريّ و ارتحاله في أرض الله ، كانت العزلةٌ هي رفيقتهُ في أيامه ومواقفه ؛ حيث أصبح النِفَّريّ مُركزًا ، على التجربة الروحيّة الداخلية ، بدلاً من الجدل الفكري التقليدي ، الذي كان سائدًا في زمانه ، ومن تجربته الروحية وجد النِفَّريّ أن الحقيقة لا يمكن نقلها عبر الكلمات ، إنما تُدرك مباشرةً عبر التجربة ، والوقفة ، وهذه النقطة تتشابه مع الفكر الوجودي ، عند كيركجور ؛ حيث يؤكد كيركجور ، على أن الحقيقة ليست نظرية ، بل هي تجربة ذاتية.
وقد جعل الترحال النِفَّريّ متأملاً في الطبيعة ، وأرى انا كاتب المقال أن هذه المرحلة كانت ، في بداية طريقه الذوقي ومسلكه الصوفي ؛ حيث جعل الترحال النِفَّريّ ، يقضي كل وقته وهو متأملاً في الطبيعة ، مما أثر في رؤيته ، وفهمه للوجود ؛ حيث رأى عن طريق تأملاته في الطبيعة ، أن الإنسان يجب أن يذوب في الحقيقة ، كما تذوب الأشياء في الطبيعة وتنال الفناء فيها ، و أصبح يرى أيضاً أن فكرة الازدواجية ، بين الذات والله ؛ هي فكرة خاطئة لأن الحقيقة ليست ثابتة ، بل تُنال بـ الانتظار والصمت ، أما المعرفة ؛ فقد رأى أنها لا تأتي عن طريق الكلام ، بل تُنال عن طريق "التجربة المباشرة" أو "الوقفة" ، ويبدو هنا أن النِفَّريّ ليس مجرد متصوف عادي ، بل هو متصوف راديكالي في فكره مقارنة بغيره من المتصوفة الزاهدين.
حيث نجد فكرة الوعي عند النِفَّريّ ؛ ليست فكرة اعتيادية ، لأنه يرى أن الوعي ليس مجرد إدراك عقلي ، بل هو "حالة شهودية" ، أي يجب على الإنسان أن يدرك الحقيقة بـ الكشف المباشر ، وليس بـ التحليل أو الاستدلال ؛ ومن هذه النقطة نعرف أن النِفَّريّ رافض لفكرة المنطق التقليدي ، ويرى أن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير ؛ حيث نجد أصداء هذا الأمر ، في المواقف "وقال لي: لا تعرفني ، حتى تفقد معرفتك" ، أي أن المعرفة ، ليست تحصيلاً عقليًا ، بل هي حالة من فقدان الإدراك التقليدي ؛ من أجل فهم الموقف (الحالة الوجودية)* ، لكي تتكشف للإنسان الحقيقة ، عندما يخرج من سيطرة الفكر المنطقي ، ومن هنا نرى أن للنِفَّريّ فكرًا مُتقاربًا مع فكر مارتن هايدجر ؛ مما يجعله متصوفًا هايدجريًا ، مع العلم بعدم رضا البعض من كونه متصوفًا فيلسوفًا.
والنِفَّريّ يرى أن الإنسان ، لا يمكنه الوصول إلى الحقيقة طالما بقي محصورًا في مفاهيمه ، ولغته ، وفكر عصره ، وقياسًا على هذا نجد ، من الفلاسفة الألمان ؛ هايدجر ونيتشه ، من قاموا بـ انتقاد فكرة أن العقل واللغة يمكن أن يكشفا الحقيقة بالكامل ، لكن عند النِفَّريّ نجد أن حل هذا الأمر هو التخلص تمامًا ، من الفكر القديم عبر الفناء في الحق ، على عكس الفلاسفة الذين رأوا أن الحل في إعادة بناء وهيكلة الفكر ، وهنا نؤكد على أن النِفَّريّ متصوف ، قبل أن يكون فيلسوف ، وفلسفته هي فلسفة ذات مرجعية دينية ، نابعة من مواقفه ؛ ومن هنا نجدها تتقارب مع الوجودية ، في أفكارها الدينية واللادينية ، وتتشابه أفكار النِفَّريّ مع أفكار فيتجنشتاين ، في رفض التفسير العقلي للحقيقة المطلقة ، والإيمان بأن الصمت أعمق من الكلام ، عندما يتعلق الأمر بالمعرفة الحقيقية ، لكن تظل رؤية النِفَّريّ روحية أكثر من ، فيتجنشتاين ؛ بسبب خلفية النِفَّريّ الدينية ، بينما نجد رؤية فيتجنشتاين أكثر تحليلاً ومنطقية ؛ بسبب دراساته وتأملاته.
وتمثل الكتابة عند النِفَّريّ ، حالة خاصة جداً ؛ حيث إنها ليست مجرد وسيلة لنقل المعرفة ، بل هي أداة للإشارة إلى ما لا يُقال ، ولا يقبل التفسير ، و وسيلة لتجاوز اللغة ذاتها ، وأسلوب النِفَّريّ ، هو أسلوب "المخاطبة المباشرة" ؛ حيث نجده في المواقف يستخدم أسلوب "الحديث المباشر" مع الله ، حيث نجد قوله "وقال لي: ..." ، يتكرر في كل المواقف مما يجعل القارئ يشعر أنه في حالة كشف وشهود مباشرة ، وليس أمام نص نظري ، جامد ، وخالي من الحياة ، والنِفَّريّ لا يكتب بطريقة تحليلية لأنه يعتمد على الصمت والإشارة ، والتجريد ، والصور الرمزية التي تعزز المعنى في النص ، وتمنحه بُعدًا مثمرًا ومحركًا للعقل والفكر.
مما يفتح المجال للتأمل الشخصي ، ويجعل كل قراءة تجربة ذاتية لكل قارئ ؛ ويلاحظ قارئ المواقف والمخاطبات أن النِفَّريّ يستخدم التكرار ، بصيغ مختلفة مما يخلق إيقاعًا صوفيًا يشبه الذكر ، لكن ليس معنى أن الجملة مكررة أن النِفَّريّ يقدم نفس المعنى مرتين ، بل نجد أن لكل مرة دلالة جديدة ، ومعنى مفتوح النهاية ؛ مما يعطي النصوص عمقًا زمنيًا وروحيًا.
ووجب أن أؤكد مرة اخرى على أن النِفَّريّ ، لا يكتب من منطلق عقلي محكم بـ ميثاق الفلسفة ، بل من منطلق تجربته الوجودية ذات الرؤية الشهودية المباشرة ، لذلك يمكن اعتبار كتابات النِفَّريّ أقرب إلى النصوص الصوفية الإشراقية منها إلى الفلسفة التقليدية ، ولا يمكننا التقليل من شأن فكر النِفَّريّ ؛ لأن فكره أصيل ، و ذو معنى جميل ، ولا نستطيع أن ننكر تأثير النِفَّريّ على المتصوف الفيلسوف ابن عربي ، حتى انه اشار إليه في فتوحاته.
وفي النهاية ، وجب الإشارة إلى ان نصوص النِفَّريّ يمكن قراءتها ، على انها محاولة تمرد على اللغة وقواعدها ، و هروب من أسر المفاهيم العقلية ؛ فـ النِفَّريّ يرى كما سبق وقلنا أن الحقيقة أكبر من ان تُقال ، وان اللغة سجن يمنع الإنسان من رؤية الحقيقة المطلقة ، لذلك ؛ يمكن اعتبار كتابات النِفَّريّ محاولة لكسر ابواب سجن اللغة ، لاستخدام اللغة ضد ذاتها ، ومن ثم الهروب نحو الصمت والشهود ، والفناء في الحق.
والأخلاق ، عند النِفَّريّ ؛ ليست عملية بالمفهوم التقليدي ، بل هي مثل تفكيره "راديكالية" هدفها هو أن تغير نظرة الإنسان إلى الحياة ، والأخلاق عنده هي رحلة شخصية ، نابعة من ذاته ، وليست التزامًا خارجيًا ، وهذا يعني ان السلوك الأخلاقي لا يكون نابعًا من الخوف من العقاب ، بل من رؤية داخلية (وجدانية) للحقائق ، والنِفَّريّ في تفكيره ليس أبيقوريًا ؛ لأنه رجل شهودي الموقف ، وجودي التفكير ، مُحب للفناء في الحق والحقيقة.
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟