أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - صناعة الحقيقة: كيف يشكل الدين والسياسة والإعلام وعينا بالعالم؟















المزيد.....


صناعة الحقيقة: كيف يشكل الدين والسياسة والإعلام وعينا بالعالم؟


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8273 - 2025 / 3 / 6 - 19:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حمدي سيد محمد محمود
في عالم تتداخل فيه القوى الفكرية والثقافية، يبرز الدين والسياسة ووسائل الإعلام كأهم الفاعلين في تشكيل إدراك الإنسان للحقيقة. هذه العوامل ليست مجرد أدوات لنقل المعلومات، بل هي آليات معقدة تتفاعل مع بعضها البعض لتحديد ما نعتبره "حقيقة" وما نراه مجرد "رأي". فالحقيقة ليست كيانًا ثابتًا، بل كيان متغير تحكمه الروايات السائدة، والتفسيرات الثقافية، والمصالح السياسية. إن فهم الدور الذي تلعبه هذه القوى الثلاث في تشكيل وعي الأفراد والجماعات يساعدنا على إدراك طبيعة الصراعات الفكرية والسياسية التي تشهدها مجتمعاتنا اليوم.

الدين: الحقيقة المطلقة أم التأويل المتغير؟

يُعد الدين من أقدم مصادر تشكيل الحقيقة، حيث يمنح الأفراد رؤية شاملة للكون، والمعنى، والغاية، والأخلاق. يعتمد الدين على النصوص المقدسة والتقاليد الروحية التي يُنظر إليها باعتبارها المصدر الأساسي للحقيقة المطلقة. ومع ذلك، فإن هذه الحقيقة ليست دائمًا موحدة؛ فالتأويلات الدينية تختلف باختلاف الأزمنة والثقافات، مما يفتح المجال أمام تعدد الرؤى داخل الدين نفسه. على مر التاريخ، تم توظيف الدين لدعم السلطة السياسية أو لمعارضتها، مما جعله ساحة للصراع بين من يسعون للحفاظ على الوضع القائم ومن يريدون تغييره.

إن فهم الدين كأداة لتشكيل الحقيقة يتطلب التمييز بين الجوهر الروحي للدين وبين استخدامه كأداة للسلطة والتأثير. فعلى سبيل المثال، في فترات معينة من التاريخ، تم استخدام الخطاب الديني لتبرير الحروب أو القمع السياسي، بينما استُخدم في أوقات أخرى لإحداث تحولات اجتماعية كبرى، مثل إنهاء العبودية أو تعزيز العدالة الاجتماعية. وهذا يوضح أن الحقيقة الدينية ليست مجرد انعكاس لنصوص مقدسة، بل هي أيضًا نتاج تفسيرات بشرية قد تتأثر بالسياق السياسي والاجتماعي.

السياسة: صناعة الحقيقة وتوجيه الجماهير

لا تقل السياسة تأثيرًا عن الدين في تشكيل الحقيقة، لكنها تعمل بطرق مختلفة. فبينما يرتكز الدين على المعتقدات والقيم، تعتمد السياسة على القوة، والقوانين، والمصالح. السياسة ليست فقط ممارسة للحكم والإدارة، بل هي أيضًا مجال يتم فيه التنافس على تحديد "الرواية الرسمية" لما هو صحيح وما هو خاطئ. فالدول والحكومات، من خلال سياساتها الداخلية والخارجية، تفرض رؤى معينة حول القضايا المختلفة، وغالبًا ما تسعى لتبرير أفعالها من خلال خلق تصورات معينة للحقيقة.

يتمثل أحد أخطر أدوار السياسة في القدرة على إعادة تشكيل ذاكرة الشعوب. فالتاريخ، على سبيل المثال، ليس مجرد سرد للأحداث الماضية، بل هو نتاج عمليات سياسية مستمرة تعيد كتابته وفقًا لمصالح الحاضر. الدول تسعى لتقديم نسخ معينة من التاريخ تدعم أيديولوجياتها، سواء كان ذلك من خلال المناهج الدراسية، أو المتاحف الوطنية، أو حتى الأفلام والمسلسلات. وهنا يظهر كيف أن الحقيقة السياسية ليست بالضرورة انعكاسًا للواقع، بل هي بناء اجتماعي يخدم أجندات معينة.

وعلى المستوى اليومي، تؤثر السياسة في طريقة تفكير الأفراد حول قضايا مثل الحرية، العدالة، والهوية الوطنية. تُستخدم الشعارات السياسية والخطابات الإعلامية لصياغة رؤية محددة للعالم، وغالبًا ما تُستخدم العاطفة والإثارة لخلق انطباعات قوية تؤثر في اللاوعي الجمعي. وفي الأنظمة الاستبدادية، تتحول السياسة إلى أداة لصنع "الحقيقة الوحيدة" التي يجب على الجميع الإيمان بها، وإلا تعرضوا للتهميش أو القمع.

وسائل الإعلام: سلاح مزدوج بين الحقيقة والتضليل

إذا كان الدين يقدم الحقيقة المطلقة والسياسة تصنع الحقيقة الرسمية، فإن وسائل الإعلام تعمل كوسيط بينهما، مما يمنحها قوة هائلة في تشكيل إدراك الجمهور للحقيقة. الإعلام، سواء كان تقليديًا أو رقميًا، يمتلك القدرة على توجيه الرأي العام، والتلاعب بالمعلومات، وصياغة السرديات التي تتحكم في تفكير الشعوب.

تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في اختيار ما يتم تسليط الضوء عليه وما يتم تجاهله، وهو ما يُعرف بـ "أجندة التغطية الإعلامية". فالقضايا التي تحصل على اهتمام إعلامي مكثف تصبح في وعي الناس "حقائق" تستحق النقاش، بينما القضايا الأخرى تُهمَّش وكأنها غير موجودة. هذا لا يعني بالضرورة أن الإعلام يكذب بشكل مباشر، بل إنه ينتقي أجزاءً من الواقع ويضخمها، في حين يقلل من أهمية أجزاء أخرى.

في العصر الرقمي، زاد تأثير الإعلام بشكل غير مسبوق، حيث أصبح للأفراد أنفسهم القدرة على نشر المعلومات والتأثير في الآخرين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. غير أن هذا التطور لم يؤدِ بالضرورة إلى تنوع أكبر في الحقيقة، بل أدى إلى مزيد من الاستقطاب، حيث أصبح كل فرد قادرًا على بناء "فقاعته الإعلامية" التي تعزز قناعاته وتستبعد الآراء المخالفة. وهذا ما جعل الحقيقة أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، حيث بات من الصعب التمييز بين الأخبار الحقيقية والمعلومات المضللة، وبين التقارير الموضوعية والدعاية السياسية.

الصراع على الحقيقة: بين الانقسام والتفاهم

عندما تتفاعل هذه العوامل الثلاثة—الدين، السياسة، والإعلام—في مجتمع معين، فإنها قد تخلق حالة من الانقسام الحاد بين الأفراد والجماعات. كل طرف يصبح متمسكًا بـ"حقيقته" الخاصة، مما يؤدي إلى استقطاب متزايد بدلًا من الحوار والتفاهم. في العديد من المجتمعات، تتحول القضايا الدينية إلى معارك سياسية، أو يتم استغلال الإعلام لتأجيج النزاعات الطائفية والعرقية، مما يجعل التوافق الاجتماعي أكثر صعوبة.

لكن في الوقت نفسه، يمكن لهذه العوامل أن تلعب دورًا إيجابيًا إذا تم استخدامها بشكل مسؤول. يمكن للدين أن يكون مصدرًا للقيم الأخلاقية التي توحد الناس، ويمكن للسياسة أن تخلق مساحات للحوار الديمقراطي، ويمكن للإعلام أن يعمل كأداة للكشف عن الفساد وتعزيز الشفافية. إن المشكلة ليست في هذه العوامل ذاتها، بل في الطريقة التي يتم توظيفها بها لتحقيق أهداف معينة.

نحو وعي نقدي بالحقيقة

في ظل هذا التعقيد، من الضروري تطوير وعي نقدي يسمح لنا بفهم كيف تُصنع الحقيقة من خلال الدين والسياسة والإعلام. هذا الوعي لا يعني بالضرورة رفض كل ما يُقال، بل يعني القدرة على التحليل، والتفكير المستقل، والتساؤل المستمر حول مصادر المعلومات. إن الحقيقة ليست شيئًا يُقدَّم لنا على طبق من ذهب، بل هي بناء معقد يحتاج إلى تفكيك وتحليل دائمين.

في نهاية المطاف، يعتمد إدراكنا للحقيقة على مدى قدرتنا على رؤية الصورة الكاملة، بعيدًا عن التحيزات والانحيازات المسبقة. وبينما تستمر القوى الثلاث في تشكيل عالمنا، يبقى السؤال الأكبر: هل نحن صناع الحقيقة أم مجرد مستهلكين لها؟



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلمانية الفلسفية: جدلية العقل والدين في تشكيل المجتمعات ال ...
- التفكير النقدي الإسلامي: بين ثوابت الدين وتحولات العصر
- أفلاطون والمجتمع المثالي: المدينة الفاضلة كمشروع فلسفي للعدا ...
- المجتمع العاقل بين الوهم والحقيقة: إريك فروموتشريح الاغتراب ...
- الحرب الأمريكية الإسبانية: صراع الإمبراطوريات وتحول القوى ال ...
- حرب الرفاق: جذور الصراع السوفيتي-الصيني عام 1969 وتداعياته ع ...
- عادة الساتي في الهند: طقس الموت المقدس ونهايته
- فارس الخوري: رجل الدولة الذي انتصر للعقل والوطن
- اليهود في إيران بعد 1979: بين الهوية الوطنية وشبهة الصهيونية
- مستقبل الأمن الأوربي في ظل التحولات الجيوسياسية العاصفة
- استشراف الأزمات: كيف يفكر جون كاستي في انهيار الحضارات؟
- موت الإله عند نيتشه: فلسفة ما بعد المقدّس وتداعياتها على الف ...
- إشكالية الحرية الدينية بين الإسلام والليبرالية: جدلية الهوية ...
- التحول الكبير: كيف فتحت زيارة نيكسون للصين الباب لصعودها كقو ...
- الدولة والدين: تحديات الولاء في عالم متغير
- الخطاب السياسي الاستشراقي: قراءة نقدية لانعكاساته على الثقاف ...
- الفلسفة العربية وإشكالية العقل الجمعي: قراءة في مفاهيم الترا ...
- الذاكرة الجماعية: دور المعرفة التاريخية في فهم الهوية والتغي ...
- الفلسفة المدرسية وقيم الحكم الرشيد: جدلية السلطة والأخلاق
- الدين والفلسفة في فكر أنطون فيلهلم: جدلية التكامل والتوازن


المزيد.....




- تناثر في السماء.. متفرجون يوثقون لحظة انفجار صاروخ -سبيس إكس ...
- داخل غرفة زجاجية.. شاهد رحّال كويتي -مُعلّق- بأعالي الجبال ف ...
- -بداية الاستيلاء على الديمقراطية-.. سياسي فرنسي يهاجم ترامب ...
- ماكرون يدعو إلى زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي
- ترامب إلى السعودية بعد أن وافقت على استثمار تريليون دولار
- أسرار صناعة السفن السوفيتية تغادر أوكرانيا بمباركة رسمية
- الرئيس البولندي: على حلف الناتو زيادة الإنفاق العسكري إلى 3 ...
- القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية توقف جميع التدريبات بالذخ ...
- حلوى بـ 35 مليار دولار في ميدان كييف
- الجيش الروسي يستهدف مطارا أوكرانيا ترابض فيه مقاتلات -إف-16- ...


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - صناعة الحقيقة: كيف يشكل الدين والسياسة والإعلام وعينا بالعالم؟