|
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8273 - 2025 / 3 / 6 - 16:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق مِنْ وَجْهِة نَظَر الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة :
فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة، هُنَاك عَلَاقَة وَثِيقَةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة تُؤَكِّدُ عَلَى الْأبْعَادِ الْمَعْنَوِيَّة وَالرُّوحِيَّة لِلْوُجُود الْإِنْسَانِيّ وَتَرْفُض الْمَادِّيَّة الْخَالِصَة. بِالنِّسْبَة لِلْمِثَالِيين، لَيْسَ الْعِلْمُ غَايَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ بَلْ وَسِيلَةٌ لِتَحْقِيقِ الْأَهْدَاف الْأَخْلَاقِيَّة وَالرُّوحِيَّة الأسْمى. الْمِثَالِيون يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ حَقِيقَةِ مُطْلَقَة وَ مِثالَية خَارِج عَنْ الْعَالِمِ الْمَادِّيِّ. هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْمِثَالِيَّة هِي الْمَصْدَر الأسْمى لِلْمَعْرِفَة وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة. وَفَقَأ لِلْمِثَالِيين، الْمَعْرِفَةُ الْحَقِيقِيَّةِ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْمَعْرِفَةِ الْحِسِّيَّة وَ التَّجْرِيبِيَّة، بَلْ تَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إلَى الْمَعْرِفَةِ الْعَقْلِيَّة وَالْمَعْرِفَة الرُّوحِيَّة. الْعَقْل وَالْخِبْرَة الدَّاخِلِيَّة لِلْفَرْد هُمَا مَصَادِرُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ الْمِثَالِيَّة. بَيْنَمَا يَرَى الْوَاقِعِيون أنْ الْمَعْرِفَة تَنْبُعُ مِنْ الْخبْرَةِ الْحِسِّيَّة وَالْمُلَاحَظَة التَّجْرِيبِيَّة لِلْعَالِم الْمَادِّيّ، يُؤَكِّد الْمِثَالِيون عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْمَعْرِفَة الْمِثَالِيَّة وَالرُّوحِيَّة الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنْ الْعَقْلِ وَالْخِبْرَة الدَّاخِلِيَّة. وَبِذَلِك يَتَجَاوَز الْمِثَالِيون حُدُودِ الْمَعْرِفَة التَّجْرِيبِيَّة لِيَصِلُوا إِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَة وَالْمِثَالَيْة. تَلْعَبُ الْأَخْلَاق دُورًا مُحَوَّريا فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة. الْمِثَالِيون يُؤْمِنُونَ بِوُجُود قِيَمٍ أَخْلَاقِيَّةٍ مُطْلَقَة وَ مِثاليْة تُسْتَمَدُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ الأسْمى. هَذِهِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْمِثَالِيَّة هِي الْمَرْجِعِيَّة وَ الْمِعْيَار الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي سُلُوكِهِ وَ أَفْعَالِه. بِالنِّسْبَةِ لِلْمِثَالِيين، الْهَدَفُ الأَسَاسِيّ لِلْإِنْسَان هُوَ تَحْقِيقُ الْكَمَال الْأَخْلَاقِيّ وَالرُّوحِيّ مِنْ خِلَالِ إتِّبَاعِ تِلْك الْقَيِّم الْمِثَالِيَّة. الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَيْسَتْ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهَا بَلْ وَسِيلَةٌ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْكَمَالِ الْأَخْلَاقِيّ. فَالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَالْعَقْلِيَّة تُسَاعِد الْإِنْسَانِ عَلَى فَهْمِ طَبِيعَةِ الْوُجُودِ وَالْوُصُولُ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَة، وَاَلَّتِي بِدَوْرِهَا تَزَوُّدُه بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة الصَّحِيحَة. وَ بِذَلِكَ تَرْتَبِط الْأَخْلَاقِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالْمَعْرِفَة وَالْحَقِيقَة الْمُطْلَقَة. القِيَمِ الأَخْلَاقِيَّةِ لَا تَنْبُعُ مِنْ الْخبْرَةِ وَالْمُلَاحَظَة التَّجْرِيبِيَّة فَحَسْبُ، بَلْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ الْعَقْلِيَّة وَ الرُّوحِيَّة الَّتِي تَصِلُ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمِثَالِيَّة. وَهَذَا مَا يُمَيِّزُ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة عَنْ الْفَلْسَفَات الْأُخْرَى كَالْوَاقِعِيَّة وَ الْبَرَاجماتية. فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة، الْعِلْمَ لَيْسَ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهِ بَلْ وَسِيلَةٌ لِتَحْقِيقِ الْأَهْدَاف الْأَخْلَاقِيَّة وَالرُّوحِيَّة. فَالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة تُسَاعِد الْإِنْسَانِ عَلَى فَهْمِ طَبِيعَةِ الْوُجُودِ وَ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَة، وَاَلَّتِي بِدَوْرِهَا تَزَوُّدُه بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة الصَّحِيحَة. الْمِثَالِيون يَنْظُرُونَ إلَى الْعِلْمِ كَأَدَاة لِتَطْوِير الْإِنْسَان رُوحِيًّا وَأَخْلَاقِيًّا. فَالتَّقَدُّم الْعِلْمِيّ وَ التِّكْنُولُوجِيّ لَيْسَ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهِ، بَلْ وَسِيلَةٌ لِتَحْقِيقِ الْكَمَال الْأَخْلَاقِيّ وَالرُّوحِيّ لِلْإِنْسَان. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْهَدَفَ الِأسْمى لِلْعِلْمِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة هُو خِدْمَة الْأَهْدَاف الْأَخْلَاقِيَّة وَالْإِنْسَانِيَّة. هَذَا التَّوَجُّهِ المِثَالِيّ نَحْوَ الْعِلْمِ يَخْتَلِفُ عَنْ النَّظْرَةِ الْوَضْعِيَّة وَالْبَرَاجماتية الَّتِي تَرَى فِي الْعِلْمِ غَايَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ. بِالنِّسْبَةِ لِلْمِثَالِيين، الْعِلْمُ مُرْتَبِطٌ إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالْأخْلاقِ وَالْقِيَّمِ الرُّوحِيَّة، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ فَنِيَّة وَتِقْنِيَّة مُنْعَزِلَةً عَنْ الْجَانِبِ الْأَخْلَاقِيّ وَالْإِنْسَانِيّ. بِهَذَا الشَّكْلِ، يُؤَكِّد الْمِثَالِيون عَلَى ضَرُورَةِ تَوْجِيه الْعِلْمِ وَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ تَحْقِيقِ الْأَهْدَافِ الْأَخْلَاقِيَّة وَالرُّوحِيَّة الأسْمى. فَالْإِنْسَانُ فِي نَظَرِهِمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدُ كَائِن مَادِّيّ يَسْعَى لِتَحْقِيقِ الْمَنْفَعَة وَ الرَّفَاهِيَة الْمَادِّيَّة، بَلْ كَائِن رُوحِي وَ مِثْالي يَسْعَى لِتَحْقِيقِ الْكَمَال الْأَخْلَاقِيّ. يُمْكِنُنَا الْقَوْلُ أَنَّ الْفَلْسَفَةَ الْمِثَالِيَّة تَنْظُرَ إلَى الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق عَلَى أَنَّهُمَا وَجْهَانِ لِعَمَلة وَاحِدَة. فَالْعِلْمُ لَيْسَ غَايَةً فِي ذَاتِهِ بَلْ وَسِيلَةٌ لِتَحْقِيقِ الْأَهْدَاف الْأَخْلَاقِيَّة وَ الرُّوحِيَّة الأسْمى. وَبِذَلِك تَرْتَبِط الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَالْحَقِيقَة الْمُطْلَقَة بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة الْمِثَالِيَّةِ فِي فَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة.
_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق مُحْدِدات مَفَاهِيمِيَّة للْأَنْسَاق الْمِثَالِيَّة :
الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة هِيَ مَجْمُوعَةٌ مُتَنَوِّعَةً مِنْ الْفَلْسَفَات الْمَيتَافِيزِيقِيَّة الَّتِي تُؤَكِّدُ أَنَّ "الْوَاقِعَ" لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ أَوْ فَصَلَهُ عَنْ الْفَهْمِ الْبَشَرِيّ. فَوِفّقا لِهَذَا الْمَنْظُور، الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ وَ الْكَامِلَة لَا تَكْمُنُ فِي الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ الْخَارِجِيَّ، بَلْ فِي الْأَفْكَارِ وَ الْمَفَاهِيم وَالصُّوَر الذِّهْنِيَّةُ الَّتِي يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ. مِنْ أَبْرَزِ مُمَثَّلي هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ الْفَيْلُسُوفِ الْيُونَانِيِّ أَفْلَاطُون (429-347 ق.م)، الَّذِي يُعْتَبَرُ مُؤَسِّس الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة. وَقَدْ أَسَّسَ أَفْلَاطُون نَظَرِيَّتِه عَلَى فِكْرَةٍ "عَالَمَ المُثُلِ" الَّذِي يُمَثِّلُ الْجَوْهَر الْحَقِيقِيّ لِلْأَشْيَاءِ، فِي مُقَابِلِ عَالِم الظَّوَاهِر الْمَادِّيَّة الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ إنْعِكَاس نَاقِص لِعَالِم الْمِثْل. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَكْمُنُ فِي الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ الْمَلْمُوس، بَلْ فِي إدْرَاكِ هَذِهِ الْمُثُلِ وَالْأَفْكَار الْكُلِّيَّة وَالْأَبَدِيَّة. وَ تَنْطَبِقُ هَذِهِ النَّظْرَةِ الْمِثَالِيَّة عَلَى مَجَال الْأَخْلَاقِ أَيْضًا. فَالفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة تَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْأَخْلَاقِيَّة مُطْلَقَة وَ أَبَدِيَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ إشْتِقَاقُهَا مِنْ التَّجْرِبَةِ الْحِسِّيَّةِ أَوْ الْوَاقِعُ الْمَادِّيّ. فَالْقَيِّم وَ الْفَضَائِل الْأَخْلَاقِيَّة الْكُبْرَى كَالْخَيْر وَالْجَمَال وَالْعَدْل تَتَجَسَّدُ فِي "عَالَمِ المُثُلِ " الْبَلاتوني، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَى لِإِدْرَاكِ هَذِهِ الْمُثُلِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْمُطْلَقَة عَبَّر تَنْمِيَة عَقْلِه وَوَعْيِه. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ عِلْمَ الْأَخْلَاقِ فِي الْمَنْظُورِ المِثَالِيّ لَا يَكْتَفي بِوَصْفِ السُّلُوكِ الْأَخْلَاقِيِّ الْوَاقِعِيّ أَوْ تَفْسِيرِهِ، بَلْ يَسْعَى إلَى الْكَشْفِ عَنْ الْمَبَادِئِ وَالْقَوَاعِد الْأَخْلَاقِيَّة الْكُلِّيَّة وَالْمُطَلَّقَةُ، الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتْبَعَهَا لِلْوُصُولِ إلَى الْكَمَالِ الْأَخْلَاقِيّ. وَ هَذَا مَا جَعَلَ أَفْلَاطُون يُؤَكِّدُ عَلَى دُورِ التَّرْبِيَةِ فِي تَشْكِيلِ الْفَرْد أَخْلَاقِيًّا، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ إدْرَاكِ عَالَمَ المُثُلِ الأَخْلَاقِيَّةِ وَ الْعَيْش وَفَقَأ لَهَا. وَقَدْ تَأَثَّر بِهَذِهِ النَّظْرَةِ الْمِثَالِيَّة لِلْأَخْلَاق الْكَثِيرِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ اللَّاحِقِين، مِثْل الْفَيْلَسُوفُ الْأَلْمَانِيُّ إيمَانْوِيل كَانَط (1724-1804) الَّذِي رَبَطَ الْأَخْلَاق بِالْإِرَادَة الْحُرَّة وَ الْقَانُون الْأَخْلَاقِيّ الْمُطْلَقِ. وَكَذَلِكَ الْفَيْلَسُوفُ الْأَلْمَانِيُّ جَوْرًج فَيَلْهلم فِرِيدْرِيك هَيَجَل (1770-1831) الَّذِي رَأَى أَنَّ التَّارِيخَ هُوَ تَحَقُّقُ مُتَدَرِّج لِرُوح الْحُرِّيَّة وَالْأَخْلَاق الْمُطْلَقَة. وَبِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْفَلْسَفَةَ الْمِثَالِيَّة تَنْظُرَ إلَى الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق بِإعْتِبَارِهِمَا جُزْءًا مِنْ نِظَامِ مَعْرِفِيّ أرْفَعْ وَأَشْمَل، وَهُو نِظَام الْمُثُّل وَالْأَفْكَار الْمُطْلَقَةِ الَّتِي يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ. فَالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَالْحَقِيقَة الْأَخْلَاقِيَّة لَيْسَتَا مُجَرَّد إنْعِكَاسِات لِوَاقِع مَادِّيٍّ خَارِجِيٍّ، بَلْ هُمَا تَجَلِّيَات لِذَلِك النِّظَام المِثَالِيّ الأسْمَى الَّذِي يُمَثِّلُ الْجَوْهَر الْحَقِيقِيّ لِلْكَوْن وَ الْوُجُود.
_ تَطَوُّرُ الْعَلَاقَةُ بَيْن الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة :
الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالأَخْلَاقُ هِيَ عَلَاقَةٌ تَارِيخِيَّة مُتَطَوِّرَة فِي إِطَارِ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة. حَيْثُ شَهِدَتْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ تَحَوُّلَات وَ تَطَوُّرَات جِذْرِيَّة عَبَّر مُخْتَلَف الْمَرَاحِل وَالتَّيَّارَات الْفَلْسَفِيَّة الْمِثَالِيَّة. فِي الفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة الْقَدِيمَةِ، كَانَ هُنَاكَ إرْتِبَاطٌ وَثِيقٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. فَلَدَى أَفْلَاطُون مَثَلًا، كَانَتْ الرِّيَاضِيَّات وَ الْهَنْدَسَةِ وَالْفَلَكِ تُعْتَبَرُ مِنْ الْمَعَارِفِ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْفَيْلَسُوف إتْقَانُها لِكَيْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إدْرَاكِ عَالَمَ المُثُلِ وَ الْوُصُولُ إلَى الْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقِيَّة. وَكَان أَفْلَاطُون يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ تَرْتَبِط إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالْمَعْرِفَة، حَيْثُ إنَّ مَعْرِفَةَ الْخَيْرِ الْمُطْلَقِ هِيَ الَّتِي تَقُود الْإِنْسَانُ إلَى الْفَضِيلَة وَالْحَيَاة الْأَخْلَاقِيَّة وَبِالْمِثْلِ، فَإِنْ أَرِسْطُو قَدْ جَمَعَ فِي فَلْسَفَتُه بَيْنِ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْأَخْلَاق وَالسِّيَاسَة. فَقَدْ قَسَمَ الْمَعَارِفِ إلَى طَبِيعِيَّة وَعَمَلِيَّة، وَأَكَّد عَلَى ضَرُورَةِ إمْتِلَاكِ الْفَيْلَسُوف لَمُخْتَلِف أَنْوَاع الْمَعْرِفَة لِكَيْ يَتَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِ الْوَاقِع وَالْعَمَلُ عَلَى تَحْسِينِ أَوْضَاع الْمُجْتَمَع. وَقَدْ رَبَطَ أَرِسْطُو بَيْن السَّعَادَة الْأَخْلَاقِيَّة وَالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تُمْكِنُ الْإِنْسَانِ مِنْ إدْرَاكِ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ وَالْإِنْسَانِ. إنْقَلَبَتْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي الفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة الْحَدِيثَة. فَقَدْ بَرَزَ مَفْهُومِ الْعِلْمِ التَّجْرِيبِيِّ الْمُسْتَقِلّ عَنْ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة، وَبِالتَّالِي فَصْلِ الْعِلْمِ عَنْ الْأَخْلَاقِ. فَفِي فَلْسَفَة دِيكًارت مَثَلًا، كَانَ هُنَاكَ إنْفِصَال بَيْنَ الْعِلْمِ الَّذِي يَبْحَثُ فِي الطَّبِيعَةِ الْمَادِّيَّة، وَالْأَخْلَاق الَّتِي تَدْرُس السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ. وَقَدْ ذَهَبَ كَانَط إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ رَأَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ تَسْتَنِدُ إلَى الْعَقْلِ وَلَيْسَ إلَى التَّجْرِبَةِ الْحِسِّيَّة. فَالْأَخْلَاق عِنْدَهُ هِيَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْمَبَادِئ الْعَقْلِيَّة الْمُطْلَقَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهَا بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ النَّتَائِجِ الْعَمَلِيَّة وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ لَا تُسْتَمَدّ شَرْعِيَّتِهَا مِنْ الْعِلْمِ التَّجْرِيبِيِّ، بَلْ مِنْ الْعَقْلِ الْمَحْض. فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة الْمُعَاصِرَة، بَرَزَتْ مُحَاوَلَات لِإِعَادَة رَبَط الْعِلْم بِالْأَخْلَاق، وَإِبْرَاز الْأبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة لِلْعِلْم. فَمُفَكِّرُون مِثْلُ هَيَجَل وَشَلَنج حَاوَلُوا إعَادَة تَوْحِيد الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي إِطَارِ نِظَام فَلْسَفِيّ شَامِل يَجْمَعُ بَيْنَ الْجَانِبِ المَعْرِفِيّ وَالْجَانِب الْقِيَمِيّ، وَفِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة النَّقْدِيَّة لَكَانط، بَرَزَتْ مُحَاوَلَات لِإِيجَاد قَوَاعِد أَخْلَاقِيَّة عَقْلِيَّة عَامَّة تُنَظِّم مُمَارَسَة الْعِلْم وَ التِّقْنِيَة. حَيْث اكَد كَانَط عَلَى أَهَمِّيَّةِ إمْتِلَاك الْعُلَمَاء لِمَنْظُومَة أَخْلَاقِيَّة رَاسِخَة تَحَكُّم مُمَارَسَاتهم الْبَحْثَيْة، وَتَمْنَعُهُمْ مِنْ إسْتِغْلَالِ الْعِلْم لِتَحْقِيق أَغْرَاض غَيْر أَخْلَاقِيَّة، وَمَعَ ظُهُورِ الْقَضَايَا الْأَخْلَاقِيَّة الْمُرْتَبِطَة بِالتَّطَوُّرَات الْعِلْمِيَّةِ وَالتِّقْنِيَة الْمُعَاصِرَة، مِثْل قَضَايَا الْهَنْدَسَة الْوِرَاثِيَّة وَتَلَوُّثُ الْبِيئَةِ وَغَيْرِهَا، بَرَزَتْ الْحَاجَةِ إلَى تَأْصِيل أَخْلَاقِيّ لِلْعِلْم. وَهَذَا مَا حَاوَلَتْ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة الْمُعَاصِرَة أَنْ تُسْهِم فِيهِ مِنْ خِلَالِ إبْرَاز الْإِبْعَاد الْقِيَمِيَّة وَ الْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُمَارَسَة الْعِلْمِيَّةِ. فِي الْخُلَاصَةِ، شَهِدَتْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي إِطَارِ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة تَطَوُّرَات جَوْهَرِيَّة. فَبَعْد التَّكَامُل وَالتَّرَابُط فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة الْقَدِيمَة، بَرَز الْفَصْل وَالِإنْفِصَالِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة الْحَدِيثَة. ثُمَّ ظَهَرَتْ مُحَاوَلَات لِإِعَادَة الرَّبْطِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة الْمُعَاصِرَة، مَع إبْرَاز الضَّرُورَة الْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُمَارَسَة الْعِلْمِيَّةِ. وَ هَذَا يَعْكِسُ مَدَى تَعْقِيد وَتَشَابُك هَذِهِ الْعَلَاقَةِ عَبَّر مَرَاحِل تَطَوُّر الْفِكْرُ الْفَلْسَفِيُّ المِثَالِيّ.
_ بِنِيَّةِ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة
الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة هِي إتِّجَاه فَلْسَفِيّ يَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْوُجُود وَالْقَيِّم لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْوَاقِعِ المَادِّيِّ أَوْ التَّجْرِيبِيُّ، بَلْ فِي الْعَقْلِ أَوْ الْفِكْرِ أَوْ الرُّوحِ. وَهِيَ تَضَع الْعَقْلِ أَوْ الْفِكْرِ فِي مُقَدِّمَةِ الْوُجُود وَالْمَعْرِفَة وَالْأَخْلَاق. فِي مَجَالِ الْعِلْمِ، تَنْطَلِق الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة مِنْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَرَاكَم لِلْحَقَائِق وَ الْمَعْلُومَات التَّجْرِيبِيَّة، بَلْ هِيَ بِنَاءٌ عَقْلِيّ مَنْطِقِيّ يُنَظِّمُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَيُؤَسِّس لَهَا. فَالْعِلْمُ لَيْسَ مُجَرَّدَ وَصْفٍ لِلْوَاقِع الْمَادِّيّ، بَلْ هُوَ تَفْسِيرٌ عَقْلِيّ لَه. وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ، يَنْظُّر الْمِثَالِيون إلَى الْعِلْمِ نَظَرَة مُخْتَلِفَةٌ عَنْ الوَاقِعِيِّين أَوْ التَّجْرِيبْيِين. فَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْبِنَاءَ الْمَنْطِقِيّ لِلْعِلْم، وَقَوَاعِدِهِ وَقَوَانِينِهِ، لَيْسَتْ مُسْتَمَدَّةً مِنْ الْوَاقِعِ الْحِسِّيِّ الْمُبَاشِرِ، بَلْ هِيَ إنْتَاج العَقْلَ البَشَرِيَّ. فَالْعَقْل هُوَ الَّذِي يُنَظَّمُ الْحَقَائِق التَّجْرِيبِيَّة وَيُؤَسِّس لَهَا وَيُنْتِج الْبِنَاء الْعِلْمِيّ، وَيَرَى الْمِثَالِيون إنْ هُنَاكَ عَنَاصِر أَسَاسِيَّةً فِي الْبِنَاءِ الْعِلْمِيِّ لَا تُسْتَمَدُّ مِنْ التَّجْرِبَةِ الْحِسِّيَّة الْمُبَاشَرَةُ، بَلْ مِنْ بِنْيَّةِ الْعَقْلُ نَفْسُهُ. فَالْمفَاهِيم وَالْمَبَادِئِ وَ الْقَوَانِين الْعِلْمِيَّة مَصْدَرِهَا لَيْسَ الْوَاقِع الْخَارِجِيّ بِقَدْرِ مَا هِيَ إنْتَاج لِلْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّةِ، فِي نَظَرِ الْمِثَالِيين، لَيْسَتْ إنْعِكَاسًا لِلْوَاقِع الْخَارِجِيّ بِقَدْرِ مَا هِيَ بِنَاءٌ عَقْلِيّ مَتْنِاغم دَاخِلِيًّا. وَمِنْ هُنَا، فَإِنَّ الْمِثَالِيين لَا يُنْكِرُونَ دُور التَّجْرِبَة فِي الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا مُجَرَّدُ مَادَّة خَام يَنْتَظِمُهَا الْعَقْل وَيُؤَسِّس لَهَا الْبِنَاءُ الْعِلْمِيّ. فَالتَّجَرُّبَة وَحْدَهَا لَا تَكْفِي لِتَأْسِيس الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة، بَلْ هُنَاكَ دُور أَسَاسِيّ لِلْعَقْلِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ التَّجْرِبَةِ وَتَنْظِيمِهَا. أَمَّا فِي مَجَالِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنْ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة تَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ سَلُوكَيَّات أَوْ عَادَات إجْتِمَاعِيَّة مُتَغَيِّرَة، بَلْ هِيَ قِيَمُ مُطْلَقَة ثَابِتَة تَجِد مَصْدَرُهَا فِي الْعَقْلِ أَوْ الْفِكْرِ أَوْ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيَّةِ. فَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة فِي نَظَرِ الْمِثَالِيين لَيْسَتْ نَسَبِيَّةً تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، بَلْ هِيَ كُلِّيَّةٌ وَمُطَلَّقَة تسْتَمَدّ وُجُودِهَا مِنْ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ. وَيَرَى الْمِثَالِيون أنْ الْأَخْلَاق لَيْسَتْ مُجَرَّدَ إرْضَاء لِلْحَاجَات وَالرَّغَبَات الْفَرْدِيَّة أَوْ الِإجْتِمَاعِيَّةِ، بَلْ هِيَ إمْتِثَالُ لِقَوَاعِد عَقْلِيَّة وَرُوحِيَّة عَلِيًّا. فَالْإِنْسَان الْأَخْلَاقِيّ هُوَ الَّذِي يَنْطَلِقُ فِي سُلُوكِهِ مِنْ هَذِهِ الْقِيَمِ الْمُطْلَقَة وَيَخْضَع لَهَا، لَا الَّذِي يَتْبَعُ مُيُولِه وَرَغَبَاتُه الْخَاصَّةِ أَوْ مَا يَفْرِضُهُ عَلَيْه الْمُجْتَمَع. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمِثَالِيون يَرَوْنَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ تُسْتَمَدّ شَرْعِيَّتِهَا وَصَلَاحِيَّتُهَا مِنْ قَوَانِينِ عَقْلِيَّة كُلِّيَّة مُطْلَقَةً، لَا مِنْ مُجَرَّدِ الْوَاقِع التَّجْرِيبِيّ أَوْ الِإجْتِمَاعِيّ الْمُتَغَيِّر. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَى الْأَخْلَاقِ نَظَرة إسْتِعْلَائِيَّة بِإعْتِبَارِهَا مُرْتَبِطَة بِعَالِم الْمُثُلِ وَ الْقِيَمِ الْعُلْيَا الَّتِي تَسْمُو فَوْق الْوَاقِع الْمَادِّيّ. وَ مِنْ هُنَا، فَإِنَّ الْمِثَالِيين يُؤَكِّدُونَ عَلَى الطَّابَع الْعَقْلَانِيّ وَالرُّوحِيّ لِلْأَخْلَاق، بِإعْتِبَارِهَا تسْتَمَدّ مُبَرِّرَاتِهَا وَقُوَّتُهَا مِنْ الْعَقْلِ وَالرُّوحِ الْبَشَرِيَّةُ، لَا مِنْ الْوَاقِعِ التَّجْرِيبِيّ الْبَحْت. وَهُمْ يَرْفُضُونَ النَّظَرُ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا مُجَرَّدُ سَلُوكَيَّات إجْتِمَاعِيَّة نِسْبِيَّة، بَلْ يَعْتَبِرُونَهَا قَيِّمًا مُطْلَقَة تَنْبُعُ مِنْ الذَّاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَاقِلَة وَ الرُّوحِيَّة. وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة قَدْ صَاغَتْ رُؤْيَة مُتَمَيِّزَة لِكُلٍّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، بِحَيْث تَرْبُطُهُمْا بِالْعَقْلِ وَ الرُّوح الْإِنْسَانِيَّة، وَتَجْعَل مِنْهُمَا مَجَالَات لِلتَّعْبِيرِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَة وَالْقَيِّم الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تَسْمُو عَلَى الْوَاقِعِ التَّجْرِيبِيّ وَ النَّسَبِيّ.
_ مُقَارَنَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة
مِنْ مَنْظُورٍ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة، هُنَاكَ إخْتِلَافُ جَوْهَرِيّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. الْفَلَاسِفَة الْمِثَالِيون يَنْظُرُونَ إلَى الْعِلْمِ كَنَشْاط فِكْرِي يَنْطَلِقُ مِنْ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ وَيَسْتَهْدِف فَهُمْ الْعَالِم الطَّبِيعِيّ وَالْمَادِّيّ. أَمَّا الْأَخْلَاق فَهِي مَجَال سَام وَعَالي يَرْتَكِزُ عَلَى الْحَدْسِ وَالْإِلْهَام وَالْوِجْدَان، وَيَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِ الْخَيْرِ الْمُطْلَقِ وَالْقَيِّم الْمِثَالِيَّة الْعُلْيَا. فَالْمِثَالِيُّون يَرَوْنَ أَنَّ مَصْدَرَ الْمَعْرِفَة الْعَلَمِيَّةِ هُوَ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ وَالْمُلَاحَظَة الْحِسِّيَّة، بَيْنَمَا مَصْدَر الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ هُوَ الرُّوحُ وَالْعَقْل الْإِلَهِيّ. فَالْأَخْلَاق بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَنْظِيم لِلسُّلُوك الْبَشَرِيّ أَوْ تَرَاكَمَ لِلْعَادَات وَالتَّقَالِيد الِإجْتِمَاعِيَّة، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْرِفَةُ حَقِيقِيَّة بِالْقِيَم الْمُطْلَقَة وَالْخَيْر الْأَعْلَى. أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ مُجَرَّدُ وَسِيلَةٍ لِفَهْم الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ وَالطَّبِيعِيّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ الْحَقَائِق الْأَخْلَاقِيَّة وَالرُّوحِيَّة الَّتِي تَكْمُن وَرَاء الظَّوَاهِر الْمَادِّيَّة. فِي هَذَا السِّيَاقِ، يُؤَكِّد الْفَلَاسِفَة الْمِثَالِيون عَلَى الدُّورِ الْمِحْوَرُي لِلْعَقْلِ وَالْوِجْدَان فِي الْحَيَاةِ الْأَخْلَاقِيَّة لِلْإِنْسَان. فَالْإِنْسَان عِنْدَهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ بِالْقَوَانِين وَالْقَوَاعِد الْأَخْلَاقِيَّة كَمَا لَوْ كَانَتْ حَقَائِق عِلْمِيَّة ثَابِتَةٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَنْبِطَهَا بِنَفْسِهِ مِنْ خِلَالِ عَمَلِيَّة الْحَدْس وَالتَّأَمُّل الذَّاتِيّ. فَالْأَخْلَاق بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ السُّلُوكِيات الِإجْتِمَاعِيَّةِ الْمُنَظَّمَة، بَلْ هِيَ مَعْرِفَةُ حَدْسِيَّة بِالْحَقِيقَة الْأَخْلَاقِيَّة الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ. وَ عَلَى عَكْسِ النَّزْعَة التَّجْرِيبِيَّة فِي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَإِنْ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة تَرْفُض الِإعْتِمَادُ عَلَى التَّجْرِبَةِ الْحِسِّيَّة كَمَصْدَر وَحِيد لِلْمَعْرِفَة. فَالْمِثَالِيُّون يُؤْمِنُونَ بِوُجُود عَالِم مِثَالَيْ أَوْ رُوحِي خَارِجٌ عَنْ عَالِمٍ الطَّبِيعَة الْمَحْسُوسَةِ، وَإِنْ الْحَقِيقَة الْأَخْلَاقِيَّة تَنْبُعُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ المِثَالِيّ وَلَيْسَ مِنْ الْعَالِمِ الْمَادِّيِّ. لِذَا فَإِنَّ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة تَنْظُرَ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ الْحَدْسِيَّة أَوْ الْإِلْهَامِيَّة الَّتِي تَتَجَاوَزُ حُدُود الْعَقْل وَالتَّجْرِبَة الْحِسِّيَّة. بِالتَّالِي، يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنْ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة تَضَعُ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. فَالْعِلْم بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ يَنْطَلِقُ مِنْ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ وَيَسْتَنِدُ إلَى الْمُلَاحَظَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، بَيْنَمَا الْأَخْلَاق تَنْبُعُ مِنْ الْعَالِمِ المِثَالِيّ وَ الرُّوحِيّ وَتَسْتَنِدُ إلَى الْحَدْس وَالْوِجْدَان. وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ وَرَاء إهْتِمَام الْمِثَالِيين بِالْجَوَانِب الْمَيتَافِيزِيقِيَّة وَالرُّوحَانِيَّة لِلْأَخْلَاق دُون الْجَوَانِب الْمَوْضُوعِيَّة وَالْوَاقِعِيَّة. وَيُمْكِنُنَا الْقَوْلُ أَنَّ هَذَا الِإنْفِصَالُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّة قَدْ يُؤَدِّي إلَى نَوْعٍ مِنْ الِإزْدِوَاجِيَّة وَالتَّنَاقُضُ فِي تَفْسِيرِ الْوَاقِعِ الْبَشَرِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ. فَبَيْنَمَا يُؤَكِّد الْمِثَالِيون عَلَى الطَّبِيعَةِ الرُّوحِيَّة وَالْمِثَالَيْة لِلْأَخْلَاق، فَإِنَّهُمْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ يَنْظُرُونَ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ نَشَاط عَقْلِيّ بَحْت يَنْفَصِلُ عَنْ الْقَيِّمِ وَ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة. وَهَذَا مَا جَعَلَ بَعْضُ النَّقَّاد يَتَّهِمُون الْمِثَالِيَّة بِالِإنْفِصَالِ عَنْ الْوَاقِعِ وَالْغَرَقَ فِي الْمِثَالِيَّةِ الْمُجَرَّدَة. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا الِإنْفِصَالُ الْجِذْرِيّ، فَإِنَّ بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ الْمِثَالِيين حَاوَلُوا إيجَاد نَوْعٌ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، نَجِدُ أَنَّ كَانَط قَدْ حَاوَلَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْمَجَالِ الْعِلْمِيِّ وَالْمَجَال الْأَخْلَاقِيّ مِنْ خِلَالِ مَفْهُومِ "الْإِرَادَة الْحُرَّةِ" الَّذِي يَعْتَبِرُهُ أَسَاسًا لِكُلّ نَشَاط أَخْلَاقِيّ. وَقَدْ رَأَى كَانَط إنْ هُنَاكَ نَوْعًا مِنْ التَّنَاغُم بَيْن الْقَوَانِين الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تَحْكُمُ الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ، وَالْقَوَانِين الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَحْكُمُ سُلُوكَ الْإِنْسَانِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ هَذِهِ المُحَاوَلَات، إلَّا أَنْ الْفَلْسَفَة الْمِثَالِيَّة ظَلَّتْ مُتَمَسِّكَة بِالرُّؤْيَة الْمُتَعَالِيَة لِلْأَخْلَاق وَاَلَّتِي تَجْعَلَهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْعَالِمِ الْمَادِّيِّ وَالْعِلْمِيّ. وَيُمْكِنُنَا الْقَوْلُ أَنَّ هَذَا الِإنْفِصَالُ قَدْ سَاهَمَ فِي تَنَامي النَّزْعَة الْمِثَالِيَّةَ فِي الْفِكْرِ الْأَخْلَاقِيّ وَالتَّرْبِوِيّ عَلَى مَرَّ الْعُصُور، وَالَّتِي تُرَكِّزُ عَلَى الْجَوَانِبِ الرُّوحِيَّة وَالنَّظَرِيَّة لِلْأَخْلَاق عَلَى حِسَابِ الْجَوَانِب التَّطْبِيقية وَالْوَاقِعِيَّة.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
-
نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
-
الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي
...
-
أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
-
حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
-
جَدَلِيَّة الِإنْتِمَاء و الِإنْتِسَاب
-
جَدَلِيَّة التَّنْمِيط وَ التَّسْطِيح
-
السُّؤَالُ عَنْ السُّؤَال
-
إيلَون مَاسِك عَبْقَرِيّ أَمْ شَيْطَانِي
-
سُّلْطَة المُثَقَّف أَمْ مُثَقَّف السُّلْطَة
-
مَقَال فِي الأَسْئِلَةُ الْوُجُودِيَّة الْكُبْرَى
-
ثَمَنِ قَوْلِ الْحَقِيقَةِ فِي مُجْتَمَعَاتٍ النِّفَاق وَالت
...
-
جَدَلِيَّة الْفَلْسَفَة و التَّفَلُّسِف
المزيد.....
-
بعد أحداث الساحل السوري.. رامي مخلوف يهاجم الأسد و-الفرقة ال
...
-
محلل سياسي يتحدث لـCNN عن فرص التوافق باجتماع دول جوار سوريا
...
-
بعد تهديدات ترامب.. وزير الطاقة الإسرائيلي يأمر بقطع الكهربا
...
-
باريس تضخ 195 مليون يورو إضافية لدعم أوكرانيا من الأصول الر
...
-
-بلومبرغ-: أوروبا تواجه عقبات غير متوقعة لتعزيز دفاعها
-
نائب رئيس وزراء بيلاروس والوفد المرافق في بنغازي لبحث تعزيز
...
-
وزير خارجية الأردن: أمن سوريا واستقرارها جزء لا يتجزأ من أمن
...
-
سوريا.. العثور على مقبرة جماعية تضم عناصر أمن وشرطة قرب القر
...
-
ترامب: الوقت -ينفد- أمام إيران من أجل التفاوض حول الاتفاق ال
...
-
مصر.. بيان للداخلية حول انتشار فيديو لاستيلاء الشرطة على دار
...
المزيد.....
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|