أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي حسين يوسف - الشعر بين الإدراك الخفي والتعلّم الضمني: كيف استوعب العرب الأوزان الشعرية دون دراسة؟















المزيد.....


الشعر بين الإدراك الخفي والتعلّم الضمني: كيف استوعب العرب الأوزان الشعرية دون دراسة؟


علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)


الحوار المتمدن-العدد: 8272 - 2025 / 3 / 5 - 11:25
المحور: الادب والفن
    


السؤال عن قدرة الشعراء العرب القدماء على ضبط الأوزان الشعرية دون دراسة منهجية مباشرة يقودنا إلى النظر في آليات التعلم الضمني والإدراك الموسيقي واللغوي، وهي موضوعات مشتركة بين علم النفس المعرفي وعلم النفس اللغوي.
التعلم الضمني والإدراك الموسيقي
الدماغ البشري قادر على امتصاص الأنماط الإيقاعية من خلال التعرض المتكرر دون وعي مباشر بالقواعد. هذه الظاهرة تُعرف بـ التعلم الضمني (Implicit Learning)، حيث يكتسب الفرد مهارات معقدة دون أن يكون قادرًا على شرح القواعد التي تحكمها. الشعراء العرب، الذين نشؤوا في بيئة تتخللها الموسيقى الشعرية، كانوا يستمعون منذ الطفولة إلى الأشعار المرتلة والمُلقاة بإيقاع واضح، مما أدى إلى ترسيخ البنى الإيقاعية في أذهانهم بشكل لا شعوري.
تشير دراسات علم النفس المعرفي إلى أن الإيقاع والموسيقى يرتبطان ارتباطًا وثيقًا باللغة، فالدماغ البشري يتعامل مع الأوزان الشعرية كما يتعامل مع النغمات الموسيقية، أي أنه يُكوّن خريطة صوتية داخلية تنبّه الشاعر إلى أي انحراف عن النمط الصحيح. وبذلك، حتى لو لم يدرس الشاعر علم العروض نظريًا، فإنه يشعر بانسجام الأبيات أو اختلالها عبر آلية تلقائية تُسمى الإدراك الإيقاعي (Rhythmic Perception).
دور الذاكرة والإيقاع اللغوي.
اللغة العربية، بخصائصها الاشتقاقية والصرفية، تمتلك ميلًا طبيعيًا للوزن والإيقاع، مما جعلها بيئة خصبة لتطور الشعر الموزون. بالإضافة إلى ذلك، فإن الذاكرة الإجرائية (Procedural Memory)، وهي المسؤولة عن اكتساب المهارات الحركية واللغوية المعقدة، لعبت دورًا حاسمًا في تمكين الشعراء من استدعاء الأوزان دون وعي نظري.
الأطفال الذين يتعرضون منذ الصغر للغة موزونة تتشكل لديهم نماذج عقلية للبحور الشعرية، وهذه النماذج تعمل مثل "خوارزميات" داخلية تتيح لهم تركيب الأبيات دون الحاجة إلى مراجعة نظرية للقواعد. يمكن مقارنة هذا بما يحدث عند متحدثي أي لغة طبيعية: فالشخص يتحدث لغته بطلاقة دون أن يكون قادرًا على شرح قواعدها النحوية، لأنه اكتسبها عبر التعرض والاستخدام المتكرر.
التنشئة البيئية والتفاعل الاجتماعي
العرب القدماء كانوا يعيشون في مجتمعات شفاهية، حيث كان الشعر وسيلة أساسية للتواصل والتوثيق، مما جعل حفظه واستيعابه أمرًا حيويًا. كانت المجالس الأدبية والمساجلات الشعرية بمثابة "مختبرات عقلية" يختبر فيها الشاعر إبداعه أمام جمهور يملك حساسية لغوية عالية، مما خلق ضغطًا اجتماعيًا يجعل ضبط الأوزان ضرورة لا ترفًا. هذا الضغط الاجتماعي يشبه ما يسميه علماء النفس التعزيز الاجتماعي (Social Reinforcement)، حيث يدفع الإعجاب والتقدير الشاعر إلى تحسين مهاراته وتطويرها دون حاجة إلى تعلم نظري.
إذا لم يكن ضبط الأوزان عند الشعراء القدماء سحرا أو قدرة خارقة، بل كان نتاجًا لمزيج من:
١. التعلم الضمني عبر التعرض المستمر للأوزان الشعرية.
٢. الإدراك الموسيقي الذي مكّنهم من تمييز الإيقاع الصحيح دون وعي نظري.
٣. الذاكرة الإجرائية التي خَزَّنت الأنماط الإيقاعية وجعلتها متاحة للاستدعاء التلقائي.
٤. البيئة الثقافية التي شجعت على الحفظ والتجويد والتفاعل الاجتماعي المستمر.
هذه العوامل مجتمعة جعلت الشاعر العربي القديم يتقن الوزن دون دراسة العروض، تمامًا كما يتقن الإنسان العادي نحوه ولغته دون الرجوع إلى كتب القواعد.
لكن لماذا لم يصبح الجميع شعراء على الرغم من تعرضهم للمؤثرات نفسها ؟ كيف نفهم التجربة الإبداعية وهي مجال بين الموهبة الفطرية والتفاعل الاجتماعي؟
هذا السؤال يأخذنا إلى أعماق علم النفس المعرفي ووكذلك علم النفس الاجتماعي، ويكشف عن أن امتلاك الأدوات لا يعني بالضرورة القدرة على الإبداع. التعرض للإيقاع واللغة لا يؤدي إلى إنتاج الشعر تلقائيًا، تمامًا كما أن التعرض للموسيقى لا يجعل كل شخص موسيقيًا، ولا يجعل سماع القصص جميع الأطفال روائيين. إذن، لماذا لم يصبح الجميع شعراء رغم البيئة المحفزة؟
١. الفروق الفردية والموهبة الفطرية
على الرغم من أن جميع أفراد القبيلة تعرضوا لنفس اللغة والأوزان، إلا أن الاستعداد النفسي والعقلي يختلف من شخص لآخر. علم النفس يميز بين نوعين من القدرات:
القدرات العامة (General Abilities): التي يمتلكها الجميع مثل تعلم اللغة الأساسية.
القدرات الخاصة (Specific Abilities): مثل الحس الموسيقي العالي أو القدرة على توليد صور شعرية، وهذه لا تتوفر عند الجميع.
الشعر يتطلب إدراكًا موسيقيًا عاليًا، وقدرة على استشعار الفروق الدقيقة بين الإيقاعات، وهي مهارة تتفاوت بين الأفراد. هناك أشخاص لديهم استعداد فطري أقوى لالتقاط هذه الأنماط، تمامًا كما أن بعض الناس لديهم أذن موسيقية قادرة على تمييز أدق الترددات بينما يسمع الآخرون الأصوات بشكل عادي.
٣. الإبداع والتراكيب الذهنية الفريدة
اللغة ليست قواعد وأوزان فقط، بل هي نظام من الرموز يحتاج إلى قدرة على التلاعب به بطريقة غير مألوفة. الشاعر لا يكرر ما سمعه فقط، بل يعيد تشكيله بأسلوب جديد، مما يتطلب:
ذاكرة قوية لاسترجاع التراكيب والصور.
قدرة عقلية على إعادة دمج الألفاظ والأنماط بطرق غير تقليدية.
تفكيراً مجازيا حادا يسمح برؤية العلاقات غير المباشرة بين الأشياء.
ليس كل شخص قادرًا على التعامل مع اللغة بهذه الطريقة، حتى لو كان يتقنها جيدًا.
٣. العوامل البيئية والتحفيزية
رغم انتشار اللغة، فإن نشوء الشاعر كان يعتمد على تفاعل خاص بين الفرد والبيئة. القبيلة لم تكن تفرح بالشاعر لأنه مجرد ناظم جيد للكلام، بل لأنه كان يمثل رمزا ثقافيا واجتماعيا مهما، يرفع من شأنها في الصراعات والمفاخرات. لذا، لم يكن الشعر مجرد مهارة، بل كان وظيفة اجتماعية تتطلب حضورًا وموهبة خاصة.
هناك أفراد ربما امتلكوا القدرة على النظم، لكنهم لم يجدوا دافعا لممارسة الشعر أو لم تكن لديهم الجرأة على دخول المنافسة. البيئة وحدها لا تكفي؛ لا بد من إرادة فردية تدفع الشخص إلى التعبير وصقل الموهبة بالممارسة المستمرة.
٤. الضغط العصبي والتكيف العصبي
الشاعر في القبيلة لم يكن ناظما جيدا فقط، بل كان قادرًا على الإبداع في لحظات الصراع أو التحدي، حيث كان الشعر سلاحًا نفسيًا يستخدم لرفع معنويات القبيلة أو التقليل من شأن الخصوم. من الناحية العصبية، يتطلب هذا مستوى عالياً من التكيف العصبي (Neuroplasticity)، أي قدرة الدماغ على الاستجابة بسرعة للمواقف العاطفية والتحديات الفكرية.
الفرق بين الشخص العادي والشاعر أن الشاعر كان قادرا على تحويل مشاعره وأفكاره إلى كلام موزون في لحظة الانفعال الفوري، بينما يحتاج غيره إلى وقت أطول أو يعجز عن ذلك تمامًا. هذه القدرة على الإنتاج اللحظي ليست متاحة للجميع، بل تتطلب تدريبات عصبية طويلة، إلى جانب الاستعداد الفطري.
وأخيرا فإن الشعر كان نخبويا ولم يصبح الجميع شعراء رغم البيئة الحاضنة لأن الشعر يحتاج إلى:
١. موهبة فطرية تتعلق بالإيقاع واللغة والتفكير المجازي.
٢. قدرة عقلية على إعادة تركيب الصور والتراكيب بشكل إبداعي.
٣. دافع نفسي قوي يدفع الشاعر للمنافسة والتعبير عن الذات.
٤. قدرة عصبية على التفاعل اللحظي مع الأحداث وإنتاج الكلام الموزون تحت الضغط.
لهذا كان الشعراء نادرين، وكان ظهورهم حدثا استثنائيا تحتفي به القبيلة، لأنهم لم يكونوا مجرد متحدثين جيدين، بل كانوا أدوات وعي وحفظ وإبداع، وصوت القبيلة في زمن لم يكن للكتابة فيه أي دور.



#علي_حسين_يوسف (هاشتاغ)       Ali_Huseein_Yousif#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مطالع المعلقات العشر، تأملات في الزمان والإنسان
- المنطق الروائي: فن بناء العوالم المتماسكة
- فلسفة التجربة الشخصية
- المسكوت عنه في التاريخ العَربيّ، سيرةٌ فجائعيّةٌ
- جماليّاتُ البِنيةِ الزّمانيّةِ بينَ الرّوايةِ والسّيرةِ الذّ ...
- سيمياءُ الأَهواءِ، أَو كيفَ تَكونُ العاطفةُ رمزاً
- سيمياءُ الأَهواءِ، أَو كيفَ تَكونُ العاطفةُ رمزاً؟
- مِن إِشْكَاليَّاتِ الخِطَابِ النَّقْدِيِّ العَرَبِيِّ المُعَ ...
- التَّعارُضُ بَيْنَ المَناهِجِ النَّقْدِيَّةِ المُعاصِرَةِ وَ ...
- فلسفة الخلق في النص القرآني
- الجملة الثقافية، المفهوم والدلالة
- الأخ الكوني بين الواقع والخيال
- الطبيعة الإنسانيّة بين الخير والشّرّ
- الكوميديا الإلهيّة، الخيال الفائق
- الهُويّة النّقديّة واشكاليّات التّأسيس
- الرمز في الشعر العربي، التوظيف والتمثلات
- الرحلة الطلليّة في القصيدة الجاهليّة: قراءة في رمزيّة الوقوف ...
- اللغة والكتابة وسرديات الأصل
- مسيرةُ المفهوم من جزئيّات الّلغة إلى كليّات الوجود
- الفلسفة المثاليّة , شاعريَّة اللغة ووحدة الوجود


المزيد.....




- مازن الناطور نقيباً للفنانين في سوريا
- الفنانة المصرية وفاء عامر تفاجئ أبطال مسلسل خليجي بـ-البط وا ...
- الفنان داود حسين يكشف تفاصيل حالته الصحية (فيديو)
- تعيين الفنان مازن الناطور نقيبا للفنانين السوريين
- أمسيات الثلوثية.. ثقافة تثري ليالي رمضان
- لتقديمه -رواية جديدة-.. تحرك رسمي في إيران ضد مسلسل معاوية
- إيران تحظر دبلجة وبث مسلسل -معاوية-
- شارك في -الحجاج- و-خالد بن الوليد-.. رحيل الممثل الأردني إبر ...
- أبرز المسلسلات الخليجية في رمضان 2025
- فيلم -أحلام عابرة- لرشيد مشهراوي: رحلة طفل من مخيم قلنديا إل ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي حسين يوسف - الشعر بين الإدراك الخفي والتعلّم الضمني: كيف استوعب العرب الأوزان الشعرية دون دراسة؟