|
فاس، وأسرار لا تنتهي..!!
ادريس الواغيش
الحوار المتمدن-العدد: 8272 - 2025 / 3 / 5 - 04:47
المحور:
الادب والفن
قلم: إدريس الواغيش ......... إنها فاس، أسرارها تزيد ولا تنتهي. في سوق الرصيف الشهير، لا شيء يعلو فوق "البريوات" والشهيوات الرمضانية بأنواعها: الحلوى الفيلالية، "البليغات"، الخليع، "الشباكية"، حلويات رمضان المفضلة التي يفضلها المغاربة بنكهة تقليدية، ومعها كل الفطائر والعجائن من "بغرير" و"ملاوي" وغيرها. في هذه الأجواء الروحانية ما قبل رمضان بقليل، التقيت صدفة بالشيخ والداعية محمد الفزازي، عرفته من أول نظرة، كما لو أننا كنا جيرانين من قبل، نلتقي في الحومة كل يوم. ولاعجب في ذلك، هو من قبيلة مرنيسة، وأنا كذلك. في ساحة الصفارين الشهيرة، وسط إيقاعات الحرفيين وجعجعة مطارقهم بين صعود ونزول، اكتشفت عن طريق الأستاذ عبد السلام الزروالي، مندوب الاتصال بفاس ومدينة العيون سابقا، أن انشغالي بلمعان النحاس والأواني التقليدية المغربية، كانت تلهيني عن التفكير في أشياء ثمينة وجديرة بالزيارة. لم أكن أعرف من قبل شيئا عن "مدرسة الصفارين" التاريخية الموجودة على اليمين من مدخل الصفارين الجنوبي بفاس البالي، وهي أولى المدارس التي بنتها الدولة المرينية سنة 720هـ1320م على يد أبي يوسف يعقوب المريني، وسميت بهذا الاسم لوجودها بين صفرة النحاس وحوانيت المشتغلين بصناعة الأواني النحاسية. كما عرفت قبل ذلك باسم مدرسة الحلفاويين والمدرسة اليعقوبية. المدرسة العتيقة ألحقت مؤخرا بجامعة القرويين، يقصدها الطلاب والطالبات، ولكن يلزم الإدلاء بتصريح من رئيس الجامع قبل الدخول إليها. يقول عنها الأستاذ الزروالي:"كان أبي رحمه الله واحدا من طلابها، قبل أن يحصل على شهادة التخرج، ويصبح بعد ذلك أستاذا في جامعة القرويين، وفيها درس على يديه الشاعر المغربي الكبير محمد السرغيني وغيره". على يسار مدخل الصفارين من جهة الجنوب، يوجد حمام بلدي مغربي تقليدي تاريخي أصيل. هو الآن متحف مفتوح في وجه الزوار، والدخول إليه مؤدى عنه، يزوره السياح الأجانب والمغاربة على السواء. وحسنا فعلوا، حين جعلوه خارج الخدمة، لأنهم كانوا سيحرموننا من تحفة معمارية وحضارية جميلة، ويحجبون عنا ثقافة مغربية موغلة في الأصالة، بكل ما يرمز إليه الحمام في قفاتنا المغربية، وله طقوس متفردة وتقاليد عريقة. الدخول إلى الحمام في الذاكرة الجمعية المغربية أكثر من مجرد استحمام، وأكثر من استرخاء أو التخلص من التعب اليومي وما يرافقه من ضغط نفسي. لا أخفي أنني انبهرت بما رأته عيني في فضاء "حمام الصفارين" الداخلي من زليج ونقش على الجبس والخشب، أحسست أنني في رياض أو قصر صغير وليس حمام. اطلعت فيه على عراقة المغرب وتقاليده الراسخة، ولا عجب أن يكون "حمام الصفارين" بتلك الجمالية والاتساع، لأن حي "سبع لويات" وما جاوره من أحياء أخرى كان معروفا باقتصاره على مساكن الأثرياء في فاس، وما يقابلهم من سياسيين وعلماء وشرفاء. وما زاد من إعجابي بالحمام أكثر، ما سمعته من مرافقنا في الداخل من شروحات حول طقوس وعادات دخول المغاربة رجالا ونساء إلى الحمام. يقول المرافق:"قديما، لم تكن علامات الغنى بادية للعيان كما اليوم: أرصدة في البنك، أملاك وعقارات، سيارات فارهة، خيول.. إلخ. ولذلك، كان الذهاب إلى الحمام فرصة لإظهار الرتبة الاجتماعية، وذلك من حيث عدد المرافقين ونوعية لوازم الحمام، سواء تعلق الأمر بالرجل أو المرأة. كان الناس يراقبون حجم الوفد المتجه إلى الحمام رفقة العريس أو العروسة، وما هو حجم الأمتعة التي يصحبونها معهم..". حين تجاوزت الباب الرئيسي، لاحظت أن الحمام مبني على أشكال هندسة متناسقة، وهو مقسم إلى نصفين: واحد للنساء وآخر للرجال. اليوم، أصبح الحمام تحفة معمارية ومعلمة تاريخية، بعد خضوعه إلى ترميم يليق بتاريخ وعراقة مدينة فاس، ولكن ما عجبت له، هو عدم وجود علامة أو إشارة تدل على المدرسة أو الحمام. عندما تجاوزنا "سبع لويات" استقبلنا الحاج محمد بناني ببشاشة أهل فاس في مدخل "فندق التطاونيين"، وهو بالمناسبة أشهر كتبي في فاس العتيقة، يمتلك معلومات مهمة حول تاريخ فاس، بعضها لا توجد في كتب ابن أبي زرع الفاسي أو علي الجزنائي والحسن بن محمد الوزّان الزياتي الفاسي المعروف بليون الأفريقي. يقول الحاج محمد بناني أن "ساحة الصفارين" اسمها الحقيقي هو "ساحة الحلفاويين"، لأن الحرفيين فيها كانوا يشتغلون على مادة "الحلفة" أو "الدوم". وكانوا يصنعون منها أطباقا ومواد مختلفة للاستعمال اليومي، ورقائق استعملت يومئذ في ملء المخدات". ويضيف قائلا:"كان حرفيو الصفارين يشتغلون بالقرب من مسجد الرصيف، ولكن عندما بني المسجد، أبعدوا عنه إلى مكانهم الحالي، حتى لا يزعوا المصلين في المسجد". وعن مسجد الرصيف الشهير الذي بناه مولاي سليمان بن محمد العلوي، يستطرد الحاج بناني:" اشتهر السلطان مولاي سليمان في زمانه بكونه"سلطان العلماء"، لاهتمامه بالعلم والعلماء على السواء. ويضيف بعد تفكير: "طلب أحد المهندسين من أعوان السلطان أن يأتونه بالبيض والنخالة، عندما أمر السلطان ببنداء مسجد تكون مئذنته الأطول في فاس، فرد عليه أن"لو وجدنا البيض فوق النخالة، فلا سبيل إلى البناء، لأن المكان مائل". وفي الأخير نجحت الخطة، وأعطتنا مسجدا فريدا من نوعه بصومعته العالية جدا. وعن السلطان مولاي سليمان، يقول بناني:" مولاي سليمان كان محبا للعلم وله مؤلفات، شيخه هو الفقيه التاودي بنسودة، وهو الذي حشره في قبره عند الممات. درس في جامعة القرويين، ثم أتم دراسته في الأزهر ..". وعن فندق "التطوانيين" أو "التطاونيين" الشهير بفاس العتيقة، يقول بناني دائما:"سمي بذلك، نظرا لتوافد تجار تطوان عليه، وهو أحد المعالم العمرانية بفاس البالي". ويضيف:"اسمه الحقيقي "فندق السطاونيين"، وليس التطوانيين، وكلمة تطوان بالعربية تعني العيون أو السواقي الجارية، والسطوان تعني المداخل، وهناك من يقول أن تطوان كانت هي المدخل إلى المغرب بالنسبة للاوروبيين. كان بها أكبر ميناء، ومنه استورد المغرب المواد التي كان يحتاجها من دول مختلفة، ومنها يصدر مواده كذلك". ذكر لي الحاج بناني في حديثنا أن ما أنجزه المرينيون من مدارس أقرب إلى تحف فنية، مثل مدرسة العطارين، مدرسة الرخام(المصباحية) المدرسة المتوكلية العنانية ومدرسة الصهريج وغيرها. ولم يغفل الحديث عن المرابطين، وقال:"يقال أنه حين وصلوا إلى الحكم، جاء بعض أمرائهم وخربوا عددا من زليج السقايات وزينة بعض المساجد". قلت له مبررا:" إن كان ما فعلوه صحيحا من الناحية التاريخية، فلأن المرابطين من كثرهم زهدهم، كانوا لا يحبون استعمال الزخرفة من قبيل الزليج البلدي المغربي والألوان"، وأن بعض المصادر تقول أن "الزليج الفاسي لم يسمح له بدخول مراكش إلا في عهد السعديين..". أما عن قصة الوطاسيين، ودعائهم للسلطان الأعظم في الباب العالي بإسطنبول، فقد كان للكتبي بناني رأي آخر وتبرير غريب، إذ اعتبر دعاء الخطباء للأتراك في المساجد كانت حيلة منهم، لتفادي مجابهة جيش لا يقهر. قلت له:"ولماذا قهرنا هذا الجيش الذي ذكرت في معركة وادي اللبن..؟". أجابتي على الفور والابتسامة تعلو محياه:"تلك حكاية أخرى..!!". ما أعجبني في الحاج محمد بناني، أنه لازال يصارع من أجل نصرة الكتاب في المدينة القديمة بفاس، بعد أن أغلقت أشهر المكتبات أبوابها وأصبحت محلات للشوارنا والأكلات السريعة، وهو رجل فضل أن يعيش مع الكتب وبينهم، أبوه كان تاجرا وجده قاضيا كما أقر لي الأستاذ الزروالي. كل هذه المعلومات التي وردت في معرض حديثنا على أهميتها، جاءت في سياق دردشة على إيقاع الحديث عن كتب تاريخية تهم مدينة فاس وتأسيسها، ولكن تبقى معلومات شفهية تحتاج إلى تدقيق تاريخي. ونحن صعود في زقاق الطالعة الكبيرة، سيسمي لي الأستاذ عبد السلام الزروالي الأشياء بمسمياتها، كونه ابن فاس العتيقة ومن مواليدها أولا، وبحكم خبرته الإعلامية كمندوب إعلامي سابق ثانيا. مررت كثيرا من "الطالعة الكبيرة"، ولم أنتبه إلى زاوية سيدي عبد القادر الجيلاني، ولا نظرت إلى الزقاق الذي سكن فيه ابن خلدون، ولا انتبهت إلى الدرب الصغير، حيث كان يسكن المؤرخ الحسن بن محمد الوزان الفاسي، ولا أعرت اهتماما إلى حيث سكن أحد الزعماء التاريخيين للحركة الوطنية وحزب الاستقلال علال الفاسي. كل هذه الأشياء لم تنبت لحظة مرورنا، ولكنها كانت موجودة من قبل، ولذلك تبقى فاس بوابة كبيرة يلزمها مفتاحا، ومتاهة كبيرة تبدأ ولا تنتهي، قد يتيه فيها الواحد إن لم يكن معه مرشدا. وكان وجود سيدي عبد السلام الزروالي إلى جانبي في جولتي الأخيرة، رفيقا وأخا، ومفتاحا ذهبيا ومرشدا صادقا في كل خطوة خطوناها معا في دروب فاس البالي على مدار أكثر من ثلاث ساعات من السير على الأقدام بين صعود ونزول.
#ادريس_الواغيش (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا أجد حرجا إن فضحتني طفولتي
-
توقيع كتاب“قضَايا ونُصوص في الأنثروبولوجيا“ بصفرُو
-
فاس، عِشقٌ أبَدِيّ وسِحْرٌ لا يَنتهي…!!
-
الشّعر يُسابق الرّبيع في تاونات
-
الزليج فرادة مغربية
-
الروائي كفيح ينتصر للغة العربية والهامش في الفقيه بن
...
-
خنيفرَة تختتم مهرجانها الدولي القصصي العاشر
-
في الحاجَة إلى الجَرّافة...!!
-
سوريا تحررت يا يعقوب..!!
-
قصة قصيرة : تَبَاريحُ الخُضَرِيّ
-
توصيات المناظرة الرابعة للإعلام في بني ملال
-
مناظرة في أبي الجعد وبني ملال تقارب العلاقة التكاملية بين ال
...
-
في مديح ماكرون للملكة المغربية الشريفة...!!
-
آنَ لخُطوط الطفل الكورسيكي كُبولاني أن تنمَحي
-
مَذاقُ الوَطن بنُكهَة العُيون
-
من أوزود إلى مرّاكش، فرَادة المَغرب المُتعَدِّد
-
التّقاعُد، آن لي أن أرتاح، قد تعبتُ من السّفر...!!
-
نوستالجيا: إحصاء، زواج وشعر...!!
-
شكري في زمن الأخطاء
-
مُنتدى “كفاءات تاونات“ يحتفي بمُتفوّقي باكالوريا 2024 في الر
...
المزيد.....
-
مازن الناطور نقيباً للفنانين في سوريا
-
الفنانة المصرية وفاء عامر تفاجئ أبطال مسلسل خليجي بـ-البط وا
...
-
الفنان داود حسين يكشف تفاصيل حالته الصحية (فيديو)
-
تعيين الفنان مازن الناطور نقيبا للفنانين السوريين
-
أمسيات الثلوثية.. ثقافة تثري ليالي رمضان
-
لتقديمه -رواية جديدة-.. تحرك رسمي في إيران ضد مسلسل معاوية
-
إيران تحظر دبلجة وبث مسلسل -معاوية-
-
شارك في -الحجاج- و-خالد بن الوليد-.. رحيل الممثل الأردني إبر
...
-
أبرز المسلسلات الخليجية في رمضان 2025
-
فيلم -أحلام عابرة- لرشيد مشهراوي: رحلة طفل من مخيم قلنديا إل
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|