صادق رحمة
الحوار المتمدن-العدد: 8272 - 2025 / 3 / 5 - 00:48
المحور:
الادب والفن
شهريار يغيّر مكانه) لصادق رحمة... فتافيت سردية / مقالي المنشور في جريدة ( عُمان)
في رسالة بعثها الكاتب عبدالرحمن منيف للدكتور شاكر خصباك خلال كتابته ثلاثية ( أرض السواد) شكا له شعوره بالإرهاق من كتابته روايته الطويلة، مؤكدا أن هذه التجربة لن يكرّرها مستقبلا، رغم أن عمله(مدن الملح) كان طويلا، أيضا، ونُشر بعدّة أجزاء، لكن الزمن تغير، والفنون لا تنفصل عن إيقاع العصر، ومتغيّراته، فاختفت الروايات الطويلة، مثلما اختفت الأغاني الطويلة، التي لم تعدْ تتناغم مع إيقاع الحياة العصرية السريع، وكان لابدّ للقصة القصيرة، رغم قصرها أن تُختزل، فظهرت القصة القصيرة جدا، وعلى أية حال، فهذا النمط من الكتابة ليس بجديد فقد كتب الأمريكي ارنست همنغواي عام 1925 قصّة من ست كلمات هي" للبيع حذاء لطفل لم يلبس قط"، وللكاتب الروسي تشيخوف المتوفى سنة 1904 قصة قصيرة جدا من خمسين كلمة، وفن التوقيعات من فنون النثر العربي رغم أن التوقيعات لم يكن فن العامة، فقد اقتصرت التوقيعات على الرسائل المتبادلة بين الخلفاء، والأمراء، والوزراء في عصور الخلافة الإسلامية، ومن بينها توقيع للخليفة عمر بن الخطاب(رض) لأحد ولاته" لقد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت"، وحين بعث عامل حمص رسالة إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز يخبره فيها أن حمص تحتاج إلى حصن، فبعث إليه توقيعا من ثلاث كلمات هي" حصّنها بالعدل والسلام"، بل بكلمتين، حين وقّع على رسالة لمحبوس يشكو حاله فوقّع على الشكوى" تُبْ تطلق " وقد تكلم النقاد القدماء عن فضائل الإيجاز، ومن بينهم الجاحظ الذي يقول" أفضل الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه ظاهرا في لفظه"، وشاع في عصرنا فن (القصّة القصيرة جدّا) وفي عمان تحديدا، فللدكتور عبدالعزيز الفارسي، رحمه الله، مجموعة حملت عنوان (مسامير)، ود. سعيد السيابي مجموعة عنوانها( مشاكيك)، ولكنّ الكاتب د. صادق رحمة محمد في مجموعته القصصية "شهريار يغيّر مكانه" الصادرة عن دار الورشة الثقافية ببغداد، يذهب بالمغامرة إلى أقصاها، فوضع عنوانا فرعيا هو" قصص مايكروية" إشارة إلى قصرها، ويفتتح مجموعته بمقولة للكاتب الأمريكي كين ليو " ليس هناك طريقة محددة لكتابة قصة جيدة" وبهذه العتبة أطلق العنان لخياله ليكتب بالطريقة التي تناسب موضوعاته، فجاءت قصص الدكتور صادق رحمة، أستاذ الشعر الإنجليزي الحديث والنظريات النقدية في كلية الآداب بالجامعة المستنصريّة على شكل (برقيات)، مطلقا صرخة احتجاج، وفي ذلك يقول في مقدمة كتابه " لقد هشمت الكوارث الكونية والحروب المجنونة الوجود الإنساني وحوّلته إلى كِسر يصعب سبكها من جديد، فكيف يمكننا أن ننشئ معمارا سرديا باذخا وسط هذا الخراب وهذا الهشيم وهذه الفتافيت التي نسميها أوطانا" ويراهن أن هذه التفاصيل مستلة من لحظات عابرة ، ومرجعيته الوحيدة هي الواقع، بكل تفاصيله وأحداثه، ويرى بكل ثقة أن هذا النوع من الكتابة السرديّة هو" جنس المستقبل السردي الذي نظن أنه سينمو ويتطور ويجترح أشكالا متنوعة"، فنوّع فأفرد فصلا أسماه( قصص بلا كلمات) مكتفيا بعنوان وعلامات ترقيم تاركا للقارئ أن يضع الكلمات المناسبة:
الحب في زمن الحرب
.........؟
وفي فصل آخر يكتفي بكلمة واحدة، بينما نجد العنوان من كلمتين، وهنا يصبح العنوان(العتبة) أطول من النص نفسه في نصوص تلقي بثقلها الكامل على العنوان، فبدونه من الصعب تحديد وجهة النص، فهو هنا يصبح جزءا عضويا فاعلا ومكمّلا للمعنى، كما في نص (غناء عراقي)
- أوف !
ولنتخيّل قراءتنا للنص بدون العنوان، على أيّة سكّة دلالية يمكننا وضع كلمة( أوف) التي ترد في الغناء تعبيرا عن شدّة الألم، على العكس تماما من نص آخر جاء العنوان من كلمة واحدة (مجزرة) بينما النص من كلمتين،
ومن ثلاث كلمات، يقول في قصته (شهرزاد راوية)
تعب الملك فنام
ويتدرج حتى يصل إلى كتابة ( قصص من أربع كلمات)، كما في (عبقرية):
أنا بدوي أحلم بالثلج
وخمس، (تعفف):
الجوع أشهى مرق في العالم
وست كلمات وسبع فأكثر، وكما لاحظنا لا توجد مقدّمات ولا رسم شخصيات، ولا وصف، فيجد القارئ نفسه، بشكل مباشر، في صلب الموضوع، فالحكاية تصل القارئ بدون قشور، لذا سمّي هذا النوع من القص بـ" القص الفجائي" محتفظا بالتفاصيل في ذهنه تاركا للقارئ اكمال النص، وتقدير المعنى ليكون شريكا في المنتج الإبداعي، فهو سرد تفاعلي لا يقف عند حدود معينة .
وهذا النمط من الكتابة السردية هو أقرب ما يكون إلى روح الشعر، الفن الذي يقوم على الاختزال وكثافة الألفاظ، والإيجاز، واللمح والإشارات، والقاسم المشترك بين هذا النمط من الكتابة القصصية والشعر: الومضة، ويروي الكاتب مفارقة جرت معه عندما قدم مجموعة قصصية للنشر، فقال خبير دار النشر أن هذه المجموعة ليست قصصية، بل شعريّة!
ولم ينكر شاعريتها العالية، خصوصا أنّ الشعر زحف على الكثير من الأجناس السردية، فأغرقها، ويمكننا أن نجعل هذا النمط خارج الأجناس المألوفة ليكون جنسا قائما بذاته في مشهد متعدد الأساليب والاتجاهات مفتوح على التجريب، وغالبا ما تكون لكل حرف وظيفة، بل لعلامات الترقيم دور كبير في تفسير النصوص وتوضيح دلالاتها كما نجد في نص (مجزرة):
-انتحاري !
- أين؟
ففيه علامة تعجب وعلامة استفهام، وعلامة شرطة، ولو قرأنا النص بدون علامات الترقيم، فسيزداد غموض النص، هذا الغموض من الممكن أن يدخل هذا النمط من الكتابة في منطقة الشعر، وهو ليس ببعيد عنه خصوصا أن الكاتب صادق له ثلاث مجاميع شعرية هي: مرايا المدن المحترقة، وتحولات السيدة نون، وأربعة وجوه للخسران، والمجموعة الأخيرة كتبها باللغة الإنجليزية)، ومن الواضح أن اطلاع الدكتور صادق الواسع على الأدب الإنجليزي أفاده في تخليص أفكار قصصه القصيرة جدا من شحوم اللغة، ليزيلها مبقيا على اللب، فجاءت نصوصه في هذا الكتاب على شكل فتافيت سرديّة.
رابط المقال:
https://www.omandaily.om/.%D8%B4%D9%87%D8%B1%D9%8A%D8...
#صادق_رحمة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟