محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8272 - 2025 / 3 / 5 - 00:37
المحور:
الادب والفن
في صورةٍ باهتةٍ من رأس السنة عام 1961، يقف طفلٌ على عمودٍ في عين الرمانة، بين والده وشقيقته تريز. طفلٌ يرتدي كنزةً من فوق وشورتاً من تحت، في عزّ البرد، ممسكاً بمسدسٍ بلاستيكيٍّ رخيص. صورةٌ عائليةٌ بسيطةٌ، لكنها تضجّ بالحقيقة العارية.
إنها صورةٌ تختصرُ وجعاً أكبرَ من عمر الطفل، وحكايةً تتسرّبُ من عيونِ شقيقته، ومن "شحّاطة" الأب الذي حرسَ بيروت في الليل، وكان جزاراً في النهار، ثم رحل عن 38 عاماً، تاركاً وراءه بيتاً مملوءاً بالأيتام والأحلام المؤجّلة.
وحين تسأل عن الأم، تختفي من المشهد لأنها كانت في "بيت الشغل"، هناك في "وادي أبو جمِيل"، تخدمُ بيوتَ الآخرين كي تحمي بيتها الصغير. أمٌّ من معدنٍ نادر، اختصرت الحنان كله في تعبِ كفّيها، وربّت خمسةً، وأطعمت خمسةً، ثم رحلت دون أن تنتظر شكراً من أحد.
هذه العائلة ليست مجردَ عائلةٍ فقيرةٍ، بل هي مدرسةٌ في الكبرياء الصامت، وفي صناعة الحياة من ثقوبِ الجدرانِ المتهالكة.
شربل فارس، ذاك الطفلُ الذي حملَ المسدسَ البلاستيكيَّ، أدركَ مبكراً أن الحياةَ ستُصوِّبُ عليه أسلحةً أشدَّ قسوةً: الفقر، اليتم، الغياب، البرد، ووجه أمه المتعب. ومع ذلك، خرج من بين الركام مثل شجرةِ لوزٍ أزهرت رغم التربة المالحة.
اليوم، حين يروي شربلُ ذاكرته، لا يرويها ليشكو، ولا ليبحث عن شفقة، بل لأنه يعرفُ أن الحكاياتِ الجبارةَ تستحقُّ أن تُروى، وأن الفقرَ الذي لا يكسر الروحَ يتحوّلُ إلى وسامٍ على صدرِ الذاكرة.
نحن لا نبكي على شربل وعائلته، بل ننحني لهم. ننحني لأبٍ مات واقفاً، ولأمٍّ حملت عائلةً على كتفيها، ولأختٍ وسمت وجهها بمسحةِ البؤس النبيل، ولطفلٍ صار فناناً يحفر كلماته في الصخر، ويكتب وجعاً جميلاً، وجمالاً موجعاً.
سلامٌ لعين الرمانة التي أنجبتهم، وسلامٌ لتلك الصورة التي خرجت من ألبوم الذكريات لتصبح درساً في الكبرياء. وسلامٌ كبيرٌ لك، يا شربل، لأنك عرفتَ كيف تصنعُ من الفقر أغنيةً، ومن اليتم قصيدةً، ومن الألم مرآةً نرى فيها أنفسنا كما كنا: فقراء.. لكننا ملوكٌ في كرامتنا.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟