شادي أبو كرم
كاتب سوري
(Shadi Abou Karam)
الحوار المتمدن-العدد: 8271 - 2025 / 3 / 4 - 14:15
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
لم يكن الاستبداد في سوريا نظام حكم فقط، فقد كان جزءاً من بنية ثقافية تعودت على وجود سلطة مطلقة تتخذ القرارات عن الجميع، تحمّل أعباء وجودهم، وتوفر لهم الشعور بالحماية، حتى من أنفسهم. هذا ما يجعل كل استبداد في سوريا ثقافة كاملة من الطاعة، تُمارس في العائلة، في المدرسة، في الشارع، وفي السياسة على أعلى المستويات.
لا أحد يحب أن يسمع ذلك، لكن الحقيقة أن المشكلة ليست فقط في المستبد، بل في الذين يريدون أن يحكمهم مستبد. في سوريا، السياسة ليست فن الممكن، بل فن الطاعة. الأب لا يُناقش، المعلم لا يُسأل، الرئيس لا يُخطئ، والطاغية لا يُحاسب. لهذا، حين يسقط طاغية، لا يبحث السوريون عن الحرية، بل عن طاغية جديد يجعل الحياة أكثر انتظاماً. لهذا السبب، رغم كل الدمار والتضحيات، ورغم أن الملايين قُتلوا وشُردوا، ما زالت هناك شرائح واسعة مستعدة لتقبّل الطغيان بحجة "الاستقرار". لكن أي استقرار هذا؟ ولمن؟ وعلى حساب من؟
الإعلان الدستوري الذي تم تسريبه هو عقد احتكار سلطة، وليس مشروع دولة كما يروج له. لا فرق جوهري بينه وبين أي نظام حكم استبدادي آخر، إذ يمنح الرئيس سيطرة مطلقة على الجيش والقضاء والبرلمان والسلطة التنفيذية وحتى التشريع. هذا ليس دستوراً، إنه مخطط لإعادة إنتاج الحكم المطلق، مغلفاً بعبارات قانونية مخادعة.
هذا الإعلان محاولة لإعادة تدوير الطغيان، لكنه أكثر خطورة لأنه يُباع هذه المرة تحت شعارات التغيير. كل مادة فيه تؤكد أن السلطة لم تتغير، فقط استبدلت أقنعتها: رئيس يعيّن مجلس الشعب، وقضاء "مستقل" تحت إشراف السلطة التنفيذية، وتشريعات تُحكم بالفقه الإسلامي بينما تتحدث عن المساواة. هذا إعادة إنتاج لكل ما خرج السوريون لإسقاطه، مع تعديلات شكلية تضمن استمرار النظام القديم بأدوات جديدة. الأسوأ أن هذا النموذج يُفرض كخيار وحيد، تحت تهديد "الفوضى"، وكأن السوريين مجبرون على الاختيار بين استبداد قديم واستبداد حديث الصنع، دون أن يكون لهم أي مكان في مستقبل بلادهم.
الأخطر من المواد نفسها هو العقلية التي تنتجها: فكرة أن الحاكم فوق المحاسبة، وأن الدستور يُكتب ليخدم سلطته لا ليحددها، وأن مؤسسات الدولة ليست أكثر من أدوات لتبرير بقائه. هذه ليست مرحلة انتقالية، إنها خطوة نحو تأبيد الاستبداد تحت مسمى الاستقرار، وبنفس الخدعة القديمة: "ليس الوقت مناسباً للحرية". لكن متى كان الاستبداد خطوة نحو الديمقراطية؟
كل هذا يمر، دون ضجيج، لأن السوريين تم ترويضهم على قبول "الضرورة". فالأحكام العرفية التي قُدمت كإجراء مؤقت أصبحت دائمة، وحالة الطوارئ تحولت إلى نظام حياة، والوقت الذي قيل لهم إنه ضروري للانتقال إلى الديمقراطية لم ولن يأتِ أبداً. لأن من يطالبك بالصبر، لا يريدك أن تحصل على شيء، ومن يطلب منك أن تنتظر، يريد أن يمسك برقبتك إلى الأبد. واليوم يُقال إن هذا الاستبداد الجديد ضروري، لأنه بدونه ستعود الفوضى.
لكن هل هناك دليل واحد في التاريخ على أن استبداداً بدأ كإجراء مؤقت، وانتهى كنظام ديمقراطي؟
كل الأنظمة التي بدأت بحجة "المرحلة الانتقالية" انتهت إلى استبداد مؤبد. عبد الناصر لم يكن ينوي البقاء في الحكم، لكنه وجد أن الطوارئ مريحة. حافظ الأسد جاء كجزء من تصحيح مسار الحزب، لكنه اكتشف أن "الأمن أولاً" يعني أن الديمقراطية لا يجب أن تأتي أبداً. كل ديكتاتور في التاريخ بدأ بوعود قصيرة الأمد، وانتهى إلى حكم مدى الحياة، لأن السلطة لا تُسلّم، والاستبداد لا يُصلح نفسه بنفسه. لكن المشكلة ليست فقط في من يحكم، بل في من يقبل بذلك.
الخوف هنا ليس من الفوضى، بل من الحرية ذاتها. فالحرية مرعبة لأنها تعني المسؤولية، ولأنها تضع الفرد أمام ذاته بلا حامٍ أو راعٍ. من نشأ في العبودية لا يعرف كيف يتصرف حين تتحطم القيود، لأنه لا يعرف ماذا يفعل بيديه إن لم تكن مرفوعة للتهليل. السوريون لا يختارون الطغيان فقط لأنهم خائفون، وإنما لأنهم لا يريدون التفكير في السياسة. لأنهم تعودوا أن الدولة هي الأب، وأن الحاكم هو السيد، وأن السياسة هي أمر يخص الآخرين. من نشأ في العبودية لا يريد الحرية، بل يريد سيداً أكثر رأفة، قفصاً أكثر اتساعاً لأنهم لم يتعلموا كيف يكونون خارج القفص. لأن النظام التعليمي الذي صُنِع لهم لم يكن ليخرج أجيالاً قادرة على التفكير السياسي، بل على انتظار التعليمات. لأن السياسة لم تكن يوماً مساحة للنقاش، بل ساحة للولاء المطلق، ولأن كل محاولة للتفكير في بديل كانت تُواجه بالسؤال الذي يقتل أي تغيير: "وما البديل؟".
الطاغية ليس بحاجة إلى أن يطلق النار كل يوم، هو فقط بحاجة إلى أن يقنع الناس أن النار ستطلق إن لم يطيعوا. هكذا، يتحول الخوف من خطر محتمل إلى نمط حياة، إلى قناعة داخلية بأن أي شيء خارج الطاعة هو كارثة. والكارثة الكبرى؟ أن من يخاف الطغيان، هو نفسه من يعيد إنتاجه.
لهذا السبب، لا يمكن لهذا المجتمع أن يتخيل دولة بلا زعيم مطلق، بلا قائد ملهم، بلا حاكم قوي يمسك بكل شيء. السوري لا يكره السجن، بل يكره أن يكون السجن ضيقاً جداً. لهذا، كل طاغية جديد يمنحه قفصاً أوسع قليلاً، فينطلق ليهتف له بحماسة. ليس حباً بالطاغية، بل كراهية للحرية التي تضعه في مواجهة مسؤوليته عن نفسه.
البديل معروف: دولة، دستور، مؤسسات، قانون، فصل سلطات. لكن السوريين اعتادوا على فكرة أن القانون نفسه هو لعبة في يد الحاكم، ولذلك، بدلاً من المطالبة بنظام لا يسمح لأي طاغية جديد بالظهور، ينتظرون الطاغية التالي، ويأملون فقط أن يكون أقل قسوة.
لنبدأ من الحقيقة القاسية: إسقاط النظام لم يسقط الطغيان، بل أسقط شخصاً واحداً فقط.
ما لم يدرك السوريون أن المشكلة لم تكن في اسم الحاكم، بل في طريقة تفكيرهم نفسها، فإنهم سيعيدون إنتاج الطغيان مرة أخرى. ما لم يفهموا أن الطغاة لا يولدون من الفراغ، بل من مجتمعات تُبرر لهم، فإنهم سيجدون أنفسهم قريباً يهتفون باسم طاغية جديد، يسجنهم باسم الاستقرار، ويبرر قمعهم بحجة "الأمن الوطني".
بالنهاية يجب القول، أنه لم تكن هناك محاولة جادة لبناء دولة، لأن العقلية السائدة لم تكن مهيأة لذلك. لم يكن السوريون ضحايا فقط، لكنهم أيضاً لم يمتلكوا الحرية الكافية ليكونوا فاعلين في مصيرهم. والنتيجة؟ غداً أو بعد سنوات، سيهتفون لطاغية جديد، يضعهم في قفص أوسع، ويبيع لهم الحكاية ذاتها من جديد. لأن الطغيان ليس قدرهم، لكنه كان دائماً خيارهم المفضل.
#شادي_أبو_كرم (هاشتاغ)
Shadi_Abou_Karam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟