أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - المجتمع العاقل بين الوهم والحقيقة: إريك فروموتشريح الاغتراب في الحضارة الحديثة














المزيد.....


المجتمع العاقل بين الوهم والحقيقة: إريك فروموتشريح الاغتراب في الحضارة الحديثة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8271 - 2025 / 3 / 4 - 17:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود

يعد كتاب "المجتمع العاقل" (The Sane Society) للفيلسوف والمحلل النفسي إريك فروم أحد أبرز الأعمال التي تتناول نقد المجتمع الحديث من منظور إنساني ونفسي واجتماعي. نشر هذا الكتاب عام 1955، وهو امتداد لأفكاره التي قدمها في كتابه الأشهر "الهروب من الحرية". في هذا العمل، يسعى فروم إلى تفكيك مظاهر الاغتراب النفسي والاجتماعي التي يعاني منها الإنسان في المجتمعات الصناعية الحديثة، متسائلًا: هل يعيش الإنسان في مجتمع عاقل فعلًا؟ أم أن ما نعدّه تطورًا وتحضرًا ليس إلا قناعًا يخفي أزمات عميقة تهدد جوهر الوجود الإنساني؟

الإنسان بين الحرية والاغتراب

ينطلق فروم من فكرة أن المجتمع الصناعي الحديث، رغم تقدمه التكنولوجي والمادي، قد خلق إنسانًا مغتربًا عن ذاته وعن الآخرين. لقد أدى التوجه نحو الاستهلاكية والرأسمالية المتوحشة إلى تحويل الإنسان إلى ترس صغير في آلة الإنتاج، مما جعله يشعر بعدم المعنى والضياع. يوضح فروم أن هذا الاغتراب لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتيجة مباشرة للنظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يحكم العالم الحديث، حيث يُنظر إلى البشر كسلع يتم تقييمهم وفقًا لقيمتهم الإنتاجية بدلاً من كرامتهم الإنسانية.

يرى فروم أن المجتمع الرأسمالي قد حوّل العلاقات الإنسانية إلى علاقات سطحية قائمة على المصلحة والمنفعة المتبادلة، مما أدى إلى انهيار الروابط العميقة بين الأفراد. الإنسان الحديث، وفقًا له، بات يعيش في حالة اغتراب تجعله يشعر بالعزلة حتى وهو محاط بالآخرين، لأنه فقد قدرته على إقامة علاقات حقيقية مبنية على الحب والتواصل الصادق.

الحرية الحقيقية مقابل الحرية الزائفة

أحد المحاور المركزية في "المجتمع العاقل" هو التمييز بين الحرية الحقيقية والحرية الزائفة. في المجتمعات الحديثة، يُروَّج لفكرة الحرية الفردية، لكن فروم يرى أن هذه الحرية وهمية، لأنها تخفي وراءها أشكالًا جديدة من العبودية، مثل عبودية السوق والاستهلاك والإعلام. الإنسان يظن أنه حر لأنه يستطيع شراء ما يشاء أو التعبير عن رأيه، لكن في الواقع، يتم توجيهه بشكل غير مباشر عبر الإعلانات ووسائل الإعلام والأنظمة الاقتصادية التي تحدد له ما ينبغي أن يريده وما يجب أن يفكر فيه.

يرى فروم أن الحرية الحقيقية لا تكمن في القدرة على الاختيار بين منتجات السوق، بل في تحقيق الذات وتنمية القدرات الإبداعية للإنسان. ولهذا، يدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الحرية بحيث يكون مرتبطًا بالمسؤولية الاجتماعية والتكافل الإنساني، وليس مجرد حرية استهلاكية زائفة.

نقد النموذج الرأسمالي والاشتراكي

لا يكتفي فروم بنقد الرأسمالية، بل يوجه سهام نقده أيضًا إلى الاشتراكية، لا سيما تلك النماذج التي اتخذت طابعًا شموليًا وقامت بمصادرة حرية الأفراد بحجة تحقيق العدالة الاجتماعية. يرى فروم أن الحل لا يكمن في الرأسمالية الجامحة ولا في الاشتراكية السلطوية، بل في نظام جديد يحقق التوازن بين العدالة الاجتماعية وحرية الإنسان.

في هذا السياق، يقترح فروم نموذجًا لمجتمع أكثر إنسانية، يعتمد على قيم الحب والتعاون والإبداع بدلاً من الاستغلال المادي والربح الأعمى. يعتقد أن الاقتصاد يجب أن يكون في خدمة الإنسان، وليس العكس، وأن المجتمع العاقل هو المجتمع الذي يضع رفاهية الإنسان العاطفية والعقلية في صلب أولوياته، وليس مجرد تحقيق النمو الاقتصادي بأي ثمن.

الدين والروحانية في المجتمع الحديث

يتناول فروم أيضًا دور الدين في تشكيل المجتمع الحديث، لكنه يميز بين نوعين من الدين: الدين السلطوي الذي يُستخدم كأداة للسيطرة على العقول، والدين الإنساني الذي يعزز الروحانية العميقة والتواصل الحقيقي مع الذات والآخرين. يرى فروم أن المجتمعات الحديثة، رغم أنها قد تخلت عن الدين التقليدي، إلا أنها استبدلته بأيديولوجيات مادية جديدة، مثل عبادة السوق والتكنولوجيا والنجاح الفردي، مما جعل الإنسان يعيش في فراغ روحي خطير.

نحو مجتمع أكثر عقلانية وإنسانية

في خاتمة الكتاب، يطرح فروم رؤيته لمجتمع أكثر عقلانية وإنسانية، وهو مجتمع يقوم على الحب والتفاهم والإبداع بدلًا من التنافس والاستهلاك الأعمى. يرى أن الحل لا يكمن في تغيير الأنظمة السياسية فقط، بل في إحداث ثورة داخلية في عقل الإنسان وقلبه، بحيث يتحول إلى كائن أكثر وعيًا بذاته وبالآخرين، وأكثر قدرة على بناء علاقات قائمة على الحب والاحترام المتبادل.

يرى فروم أن التغيير الحقيقي يبدأ من الفرد، فالمجتمع العاقل لن يتحقق إلا إذا بدأ كل فرد في إعادة النظر في قيمه وأسلوب حياته، وسعى إلى تحقيق ذاته من خلال الإبداع والتواصل العميق مع الآخرين، بدلًا من الانغماس في سباق الاستهلاك والتنافس المحموم.

كتاب لا يزال حاضراً في واقعنا اليوم

بعد أكثر من نصف قرن على نشره، لا يزال "المجتمع العاقل" كتابًا ذا صلة عميقة بواقعنا المعاصر. فروم لم يكن مجرد ناقد اجتماعي، بل كان مفكرًا إنسانيًا يسعى إلى إعادة الاعتبار لقيم الحب والتعاون والحرية الحقيقية. في عالمنا اليوم، حيث تزداد معدلات الاكتئاب والقلق رغم التقدم التكنولوجي والاقتصادي، تبدو أفكار فروم أكثر أهمية من أي وقت مضى. إن المجتمع العاقل ليس حلمًا مستحيلًا، لكنه يتطلب إعادة بناء الإنسان من الداخل، وإعادة النظر في القيم التي تحكم حياتنا، حتى لا نظل عالقين في دوامة الاغتراب والفراغ الوجودي.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب الأمريكية الإسبانية: صراع الإمبراطوريات وتحول القوى ال ...
- حرب الرفاق: جذور الصراع السوفيتي-الصيني عام 1969 وتداعياته ع ...
- عادة الساتي في الهند: طقس الموت المقدس ونهايته
- فارس الخوري: رجل الدولة الذي انتصر للعقل والوطن
- اليهود في إيران بعد 1979: بين الهوية الوطنية وشبهة الصهيونية
- مستقبل الأمن الأوربي في ظل التحولات الجيوسياسية العاصفة
- استشراف الأزمات: كيف يفكر جون كاستي في انهيار الحضارات؟
- موت الإله عند نيتشه: فلسفة ما بعد المقدّس وتداعياتها على الف ...
- إشكالية الحرية الدينية بين الإسلام والليبرالية: جدلية الهوية ...
- التحول الكبير: كيف فتحت زيارة نيكسون للصين الباب لصعودها كقو ...
- الدولة والدين: تحديات الولاء في عالم متغير
- الخطاب السياسي الاستشراقي: قراءة نقدية لانعكاساته على الثقاف ...
- الفلسفة العربية وإشكالية العقل الجمعي: قراءة في مفاهيم الترا ...
- الذاكرة الجماعية: دور المعرفة التاريخية في فهم الهوية والتغي ...
- الفلسفة المدرسية وقيم الحكم الرشيد: جدلية السلطة والأخلاق
- الدين والفلسفة في فكر أنطون فيلهلم: جدلية التكامل والتوازن
- مذبحة المحيط الأطلسي: مأساة سفينة زونغ وتجسيد البربرية الاست ...
- شركة الهند الشرقية: صعود الإمبريالية الاقتصادية وبدايات الاس ...
- كيف تعيد الخوارزميات تشكيل الأخبار؟ الصحافة التنبؤية في عالم ...
- المنهج الفينومينولوجي وتطبيقاته في العالم الإسلامي


المزيد.....




- مصر: زلزال بقوة 4.1 درجة يضرب شمال مدينة شرم الشيخ
- سوريا.. مظاهرة معارضة في السويداء تزامنا مع تفعيل قوى الأمن ...
- لوكاشينكو ينتقد ترامب: فكرة تهجير أهل غزة غير واقعية وفيديو ...
- صحة غزة تنشر حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- ضباط استخبارات سابقون لا يستبعدون -تهدئة- استخباراتية بين وا ...
- زيمبابوي تدق باب -بريكس- وتوقع مع روسيا اتفاقية بشأن تخفيف ع ...
- فيتسو: سلوفاكيا ترفض اقتراح الاتحاد الأوروبي تخصيص أموال لأو ...
- -نيويورك تايمز-: إدارة ترامب تبدأ حملة تسريح واسعة في صفوف و ...
- -رويترز-: إدارة ترامب تدرس خطة لتفتيش ناقلات النفط الإيرانية ...
- إصابة شخصين بانفجار في موقع لشركة -كونتيننتال- في هانوفر بأل ...


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - المجتمع العاقل بين الوهم والحقيقة: إريك فروموتشريح الاغتراب في الحضارة الحديثة