عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8268 - 2025 / 3 / 1 - 20:04
المحور:
الادب والفن
مؤلفاته :
من المعروف أن محمد بن عبد الجبار بن الحسن النِفَّريّ ( ت. ٣٥٤ هـ/٩٦٠ م) ، هو أحد أعلام التصوف الإسلامي ؛ ويشتهر بـ كتابيه "المواقف والمخاطبات" ، اللذين يعكسان فلسفته الروحيّة العميقة ، التي غالباً ما تتمحور حول التجربة الروحيّة المباشرة ، عن طريق الفناء والتأمل والاقتراب من الحق سبحانه وتعالى ؛ من خلال التجريد والتجلي والفناء في الإلهي.
وقد نشر أرثر يوحنا أربري كتابي المواقف والمخاطبات للمرّة الأولى ، بعد مقابلة سبع نسخ بـ عناية واهتمام وتصحيح ؛ حسب ما جاء في تصدير الكتاب المطبوع بـ مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة عام ١٩٣٤ م ، وتتكون المواقف من ٧٧ موقف ؛ يبدأ أول موقف بعنوان ”موقف العز“ وينتهي آخر موقف بعنوان ”موقف الكنف“.
بينما تتكون المخاطبات من ٥٨ مخاطبة تبدأ بـ "يا عبد! إن لم أنشر عليك مرحمة الرحمانية لطوقتك يد الحدتان عن المعرفة" وتنتهي المخاطبة الأخيرة بـ "وقال لي: إذا لم تبال ببطنك لم تبال ما ذهب منك فيّ وما بقى ، فإن لم تبال بأهلك ولا ولدك رضيت به إلى أن تلتقي".
لكننا لم نعرف من آثار النِفَّريّ إلا كتابي "المواقف والمخاطبات" حتى عام ١٩٥٢ م ، حيث قد قام آتش بـ الإشارة إلى وجود ثلاثة مخطوطات ، في مكتبتي قونيا وبورسا في مقالته المنشورة عام ١٩٥٢ م في مجلة Belleten ، وبعد ذلك قد قام فؤاد سزكين في مجلة GAS بنشر مقال أشار فيه إلى وجود مخطوطات أخرى نادرة وثمينة تتضمن الآثار الكاملة للنِفَّريّ في مجموعة حجي محمود تحت ترقيم ٢٤٠٦.
ومن خلال هذه المخطوطات أصبحت الأخطاء التي وقع فيها آربري ؛ واضحة وجلية أمام عين بولس نويا الذي نشر نتاج فكر النِفَّريّ مصوبًا بعض الأخطاء ، وقد قام قاسم محمد عباس معتمدًا على هذا الأخير ، بـ نشر وتحقيق وتدقيق آثار النِفَّريّ (بدون المواقف والمخاطبات) ومرتبًا لديوانه على القوافي لتكون آثار وميراث النِفَّريّ في صورة أقرب إلى الكمال ووجب الإشارة أن بعض المخطوطات الخاصة بـ النِفَّريّ كانت في حكم المخطوطات المطويّة قبل عام ١٩٥٢ م أي أن هناك أمل في العثور على الغامض من تراثنا.
أما بخصوص كتاب النطق والصمت ؛ فهو عبارة عن مجموعة نصوص صوفية ، يعود نسبها إلى النِفَّريّ وتتكون من ، الشذرات التي تحتوي على البعض من الشطح ، والمناجيات ، والأدعية ذات الطابع الصوفي ، والنثري الإيقاعي ، وديوان من الشعر عرفنا مدى خصوبة فكر هذا المتصوف وغزارته ، وعنوان "النطق والصمت" مستمد من فكر النِفَّريّ وفلسفته الروحيّة ؛ ويدل على الاشتباه والحيرة بين الصمت والنطق ، بالنسبة إلى العلوم الكشفية ، ومن الجدير بالذكر أن الكتاب لا يعتمد على أية أدلة نقلية سواء من القرآن الكريم ، أو الحديث النبوي الشريف ، لأن كتابة النِفَّريّ هي كتابة تعتمد على الوقفة والانفعال والوجدان.
جزء من تصوفه لم يسلط عليه الضوء!
من الجو العام للمواقف ؛ يرى النِفَّريّ أن الوصول إلى الحقيقة المطلقة ، لا يمكن التعبير عنه بالكلمات ؛ لأن الكلمات قاصرة عن الإحاطة بـ الحق ، وكلما حاول العارف أو السالك أن يقترب من النور الإلهي ، وجد نفسه عاجزًا عن وصف مشاهدته ؛ لأن اللغة عاجزة عن نقله ، فالحقيقة تُعاش ولا تُقال ، ومن ”موقف البحر“ (الذي هو السادس من المواقف ، الذي قال عنه عفيف الدين التلمساني أنه موقف لأهل البداية في السلوك).
تتبين لنا دلالتين مهمتين ؛ حيث يشير البحر ، في النص الصوفي ، إلى اللانهائية المطلقة لله ، بينما تشير اليابسة ، إلى المحدودية البشرية الآدمية ، ونرى عدة سمات هامة ، مثل النقاء الذي يتصف به الماء ، وغربة تذوق جمال الله ؛ من قِبل الإنسان الغافل ضعيف الإيمان ، بينما "أهل الماء" أي المقربين من الله ، يعيشون ويتنفسون من نوره الإلهي ، وتشير اليابسة إلى الصلابة والتفكك في نفس الوقت ، وعدم الديمومة ، والرؤية ذات الطابع الغباري.
والعارف الحق بالنسبة إلى ؛ النِفَّريّ ، هو من يتخلى عن اليابسة (المحدودية) ، ويلقي بنفسه في البحر (اللامحدودية) ، أي يتجرد من ذاته ليذوب في الحق ؛ حيث قد قال النِفَّريّ "قال لي: إذا دخلت البحر فلا تنظر إلى اليابسة ، فإن رجعت إليها غرقت" ، وهو تعبير عن ضرورة الانقطاع التام ، عن التعلقات الدنيوية ، ويؤكد النِفَّريّ أن الله لا يُدرك بالعقل ، أو بالبحث النظري ، بل بـ العجز عن الإحاطة به ؛ حيث أن المعرفة بـ الله ، ليست مسألة فكرية أو فلسفية ، بل هي تجربة روحية تتجاوز التصور العقلي.
مقاربات وجودية!
على الرغم من أن النِفَّريّ لم يكن فيلسوفًا بالمعنى التقليدي ، إلا أنه بعد إلقاء نظرة فاحصة لنصوصه في المواقف والمخاطبات ، يتبين لي أنه صوفي ، ذو تفكير أصيل ؛ يحمل بُعدًا أنطولوجيًا واضحًا ، ويمكن قراءة فكره ؛ وتفسيره ، من خلال عدسة الفلسفة الوجودية الحديثة ، خاصةً فيما يتعلق بـ الوجودية الكيركجورية ، والهايدجرية ، والسارترية.
حيث أن القلق الوجودي ، هو حالة تنشأ عندما يواجه الإنسان العدم والمجهول ، ونجد النِفَّريّ يُعبر عن حالة مشابهة ؛ حين يصف الإنسان في حضرة الحق ؛ حيث يقول النِفَّريّ "وقال لي: لا تسألني عن الطريق ، فإنك فيه" وهذه العبارة تعكس حالة الإنسان ، بين البحث عن المعنى ، وإدراك أن المعنى قد يكون غير قابل للفهم أصلاً ، أو أن اللغة عاجزة عن وصفه لأنه حق ، ويمكننا أن نقارب بين هذه الحالة ، وفكرة "السقوط" عند مارتن هايدجر ؛ حيث يجد الإنسان نفسه ، في موقف لا يملك السيطرة عليه تمامًا.
وأنا مثلما سبق وأشرت في مقال سابق ؛ لا أرى في الوجوديّة مذاهب ، لأنني أراها أفكار في حضن فلسفة إنسانية ، ومن هنا تجدني أُقارب بين فكر متصوف (ديني) ، وفكر فيلسوف يرى البعض أنه (لا ديني) ؛ لأن الفكر هو إنساني ، من أجل الإنسان ؛ أي أنه نابع من مواقفه ، من أجله ، وإليه ، وهنا نجد تعدد الأفكار في الفلسفة الوجودية ؛ حيث نجد منها ما هو ديني ، أو لا ديني ؛ لأن الوجودية فلسفة مواقف بامتياز.
يقول النِفَّريّ "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" ، وقد سبق و ناقشت هذه العبارة ، لكن في هذه العبارة بُعد فلسفي يتشابه مع ما يمكن أن نسميه بـ "فلسفة الصمت الوجودي" ، حيث يكون المعنى أكبر من اللغة ، لذا يكون من العبث ؛ التعبير عن هذا المعنى ، وتتشابة هذه الفكرة مع قول لودفيج فيتجنشتاين "ما لا يمكن الحديث عنه ، يجب الصمت عنه" ، وتجربة الوقوف في حضرة الحق سبحانه وتعالى ، عند النِفَّريّ تعكس تجربة العدم حيث يذوب الفرد (نتكلم بلغة الفلسفة هنا لا التصوف) ، ولا يبقى له وجود مستقل.
ويمكننا أن نقارب بين تجربة النِفَّريّ في المواقف ، وبين تجربة العدم داخل الوجود التي تحدث عنها سارتر ، في بحثه الأنطولوجي ؛ حيث يكون الإنسان مجبرًا على مواجهة نفسه دون أي يقين خارجي.
لكن ماذا عن الحرية عند النِفَّريّ؟
في الواقع نجد في الفلسفة الوجودية ، أن الحرية ليست مجرد اختيار ، بل هي حالة وجودية تتطلب تحمّل المسؤولية الكاملة ، عن الذات ، أو حسبما قال سارتر "الوجود يسبق الماهية" ، لكن عند النِفَّريّ نجد الأمر مختلفًا ، و ذو نزعة دينية على عكس النزعة الإنسانية الوجودية ؛ حيث نجد عند النِفَّريّ أن الحرية الحقيقة ليست في الاختيار ، بل في التخلي التام عن الذات والانقياد للحق.
حيث نسترجع قول النِفَّريّ الذي سبق تبيان ماهيته "قال لي: من لا فناء له لا بقاء له" ؛ هنا يمكننا اعتبار قول النِفَّريّ هذا قلبًا للمفهوم الوجودي التقليدي (لأنه متصوف وليس فيلسوف) ، حيث يرى أن الخلاص (الروحي) ، لا يكون بالتمرد كما عند فردريك نيتشه ، أو ألبير كامو ، بل الذوبان أو الفناء في المطلق الحق ، ويمكننا المقاربة بين هذه الفكرة ، وفكرة "التخلي عن الإرادة" عند شوبنهاور ، حيث يكون التحرر في النهاية ، هو التخلي عن الرغبة ، وليس تحقيقها!...
ومن الجدير بالذكر أن الوقوف عند النِفَّريّ ، قد يأخذ عدة مستويات ، بداية من السيكولوجي والأنطولوجي ؛ حيث أن الوقوف ليس مجرد موقف جسدي ، بل هو حالة وعي تجعل الفرد/السالك في مواجهة مباشرة ، مع الحقيقة المطلقة (الله) ؛ حيث قد تعكس تجربة "مواجهة المطلق" ، التي تحدث عنها كيركجور ، حيث يكون الإنسان إما مُسلمًا أو قلقًا في موقفه الوجودي ، ومن هنا نرى النِفَّريّ مُسلمًا بـ الاختيار ، وليس قلقًا ، أو متمردًا على عكس سارتر وكامو في وجوديتهما ، الفلسفية ، والحياتية ، والموقفية.
يتبع...
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟