أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الحقيقة ليست مزاراً، عن جدوى النقاش















المزيد.....


الحقيقة ليست مزاراً، عن جدوى النقاش


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 8268 - 2025 / 3 / 1 - 15:06
المحور: الادب والفن
    


شهدتُ، في مرحلة مبكرة من عمري، نقاشاً طويلاً أربك تصوري عن النقاش، ولست أدري كيف أو من أين جاءني ذاك التصور، فقد كانت قناعتي أن النقاش في السياسة أو الدين أو في أي شيء، هو وسيلة تعاون بين العقول للوصول إلى "الحقيقة" التي هي ضالة الجميع. كنت أعتقد أن للحقيقة وجوداً مستقلاً عن العقول الساعية إليها، كما يكون المزار مستقلاً عن الساعين إليه. النقاش الذي بلبل قناعتي تلك كان حول حادثة انفجار "ضرب ديناميت" في يد أحد أبناء قريتنا بينما كان يصيد السمك في النهر الصغير المجاور. رجل فقير بلا عمل وذو عائلة كبيرة، إلى ذلك كان بوهيمياً وساخراً ومتمرداً في حياته، حتى وهو يسعى لتأمين عيش أولاده. مزق الانفجار راحة يد الرجل وأفقده إصبع الإبهام.
أراد السهارى، كما لو في تمرين ذهني، تحديد السبب الرئيسي في هذا الحادث المؤسف. هل هو الفقر، أم الجهل وإنجاب الأولاد دون ناظم، أم مزاج الرجل واستهتاره، أم نوع الفتيل المستخدم في الضرب، أم التفاصيل الصغيرة التي أحاطت بالحادث، كما رواها الرجل نفسه، مثل تعثر قدمه واضطراب توازنه قليلاً بسبب ملاسة حصى النهر البيضوية، أم تردده، بعد أن أشعل الفتيل، في اختيار المكان الأنسب لرمي الضرب في الدوار، وما إلى ذلك من أسباب جعلته يتأخر في رمي الضرب. لم يخل النقاش من الرأي الذي ستجده في كل مكان، وهو القول إن السبب الحقيقي هو كل ذلك مجتمعاً. طال النقاش وحمي واختلفت المحاولات وتضاربت.
بعد ذلك النقاش الطويل الذي بدا لي، حينها، عبثياً أو نوعاً من التمرين العقلي على المحاججة اللانهائية، اختلط الأمر علي كثيراً وارتسم في نفسي شعور ثقيل بأن الوصول إلى "الحقيقة" أصعب مما تخيلت. و تساءلت، بعد ذلك، إن كان هناك أصلاً حقيقة يقبلها الجميع في مثل هذه المواضيع التي تبدو الحقيقة فيها ضائعة، ويبدو أن لكل رأي نصيباً فيها. وبت أتخيل أن الحقيقة ليست "مزاراً" محدداً يمكنك أن تبلغه بالنقاش، بل هي بالأحرى أشبه ببرتقالة انفجرت وتناثرت مادتها في كل اتجاه، حتى أصبح يمكنك العثور على أجزاء وآثار منها هنا وهناك وفي كل مكان، ولكن من المتعذر الإحاطة بها وإعادتها سليمة كاملة كما كانت، مهما طال النقاش. هكذا مزحت مع نفسي وقلت، ليس فقط الكون بدأ بانفجار كبير، بل والحقيقة أيضاً.
استعدت تلك القناعات والانطباعات المبكرة، بينما كنت في السجن. كان هذا بعد فترة من مباشرتي، مع صديق آخر، نقاشات دورية مع سجينين إسلاميين. كانت رغبتي في سماع حجج الإسلاميين كبيرة، لا تقل بشيء عن رغبتي القديمة والدائمة في معرفة أسرار السحر وفنونه. في الحالتين كان يبدو لي أن هناك ما يتجاوز قوانين الواقع ويدهش ويخض العقل ويثير الفضول. كيف يمكن لأحد أن يخرج حمامة حية من منديل فارغ؟ وكيف يمكن لأحد أن يسعى جدياً وأن يضحي من أجل بناء نظام سياسي يقتدي بنموذج يعود إلى عصور غابرة؟ أو كيف يمكن لأحد أن يدافع عن مبدأ يصنف ابناء بلده حسب ولادتهم على هذا الدين أو ذاك؟
لم يكن من السهل أن تجد بين الإسلاميين من يقبل مناقشة أحد من الشيوعيين. وبالمقابل كان لدى معظم الشيوعيين شيء غير قليل من الفوقية تجاه الإسلاميين "الغارقين في الماضي". لم يكن لديهم قناعة بجدوى أي نقاش مع الإسلاميين. منطلق الشيوعي في مناقشة الإسلامي لا تختلف عن منطلق هذا في مناقشة ذاك، المنطلق هو الهداية، أو الكسب، بعبارة أكثر وضوحاً. ومن يهدي لا يخالطه الشك في أنه على صواب، ويناسبه بالتالي أن يكون واعظاً أكثر منه مناقِشاً. النقاش يبقى بلا قيمة فكرية، إذا لم يكن لدى المناقش مقدار ما من الاستعداد للتأمل في ما يقوله غيره، أو مقدار ما من القلق حيال قناعته يدفعه للبحث عن "الحقيقة" التي في حديث صاحبه، وإلا ما الذي يدفع إلى النقاش؟
في كل حال، كان من الجيد أنه توفر بين السجناء الإسلاميين من قَبِل النقاش، متحملاً لوم زملائه. من جهتنا لم ننج نحن أيضاً من السخرية الخفيفة من جانب بعض أصدقائنا أو أبناء تهمتنا: "هل كان النقاش مفيداً يا شيخنا"؟ "جزاكم الله خيراً"، "نسأل الله أن لا يضيع تعبكم" ... الخ.
كان المشارك الأساسي في النقاشات أحد الإسلاميين المستقلين، رجل يكبرنا ببضع سنوات، يحمل شهادة دكتوراه في الهندسة من فرنسا، وكان قد اعتقل في 1980 عقب إضراب النقابات المهنية السورية احتجاجاً على القمع المعمم الذي تعامل به نظام الأسد مع المجتمع السوري حينذاك، مستغلاً أعمال العنف المسلح التي مارستها في تلك الفترة "الطليعة المقاتلة" الإسلامية ضد أفراد ومؤسسات النظام. كان رجلاً وسيماً ذا لحية حسنة التشذيب، أنيقاً في لباسه وفي سلوكه وحديثه، وتجعله الابتسامة المقيمة على وجهه قريباً من القلب. وكان إلى ذلك واسع الثقافة وذا اطلاع، ليس فقط على الفكر الإسلامي، بل وعلى الفكر الحديث.
لم تكن رغبتي في استكشاف دفاعات وحجج الإسلاميين أقل من رغبة هؤلاء في استكشاف حججنا بوصفنا بشراً يتنكرون لما في بيتهم وينظرون من النافذة مبهورين، يتطلعون لاقتناء ما لدى الآخرين مما لا يناسب بيتهم ولا أهل بيتهم. هذا هو التشبيه الذي استخدمه الدكتور للتعبير عن استغرابه من قناعاتنا. مضيفاً على سكة التشبيه نفسه، لا بأس من النظر إلى الخارج والاستفادة مما قد يكون لدى الآخرين، ولكن الأساس يبقى دائماً هو البيت ومن في البيت وما يناسبهم.
في حين بدا لنا كلامهم وحججهم انغلاقاً عن العصر وتعصباً وإعجاباً مريضاً بالذات وبالتخلف، بدا كلامنا لهم تغرباً وانسلاخاً عن منبتنا وبيئتنا وتاريخنا واستلاباً للآخرين. كانوا يغزلون على هذا النول حججهم بلا نهاية، ونعيد حججنا بلا نهاية عن ضرورة مواكبة العصر والخروج من أسر الماضي. وإذا كان طريق الخلاص في نظرنا هو التحرر من تعظيم ماضينا وجعله المرجعية الدائمة في البحث عن الحلول، كان الطريق في نظرهم هو المزيد من الالتزام والمزيد من التأكيد على الهوية.
لم تخرج النقاشات الكثيرة بيننا في أي يوم، عن مسار الاحترام التام المتبادل، ولكن بالمقابل لم يخرج أي منا عن مساره الخاص الذي بقي يدور فيه منذ بداية الجلسات حتى نهايتها على مدى حوالي سنتين.
هكذا نقلني الزمن إلى تصور يختلف عن تصوري الأولي، وهو أن الكثير من النقاشات لا تبحث عن حقيقة، فكل طرف مؤمن بأنه أدرك الحقيقة، وأن الغرض من الانخراط في النقاش هو الكسب أو حتى الإفحام الذي عبّر عنه العرب بالقول الشهير الثقيل "ألقمه حجراً". هكذا انتقلت من تصور النقاش بوصفه تعاوناً إلى تصوره بوصفه مواجهة.
أحياناً يخطر لي تشبيه النقاش بغناء أكثر من أغنية في وقت واحد، كل مغن يحرص على غناء لحنه الخاص، ويكون النجاح حليف من يبقي تركيزه على لحنه الخاص دون أن يعطي إذنه لأي لحن آخر، وإلا فإنه سوف يتعثر في غنائه ويخسر.
عدت أقول في نفسي إن الحقيقة ليست مزاراً، كما أنها ليست برتقالة متفجرة، إنها شيء خفي لا ندري كيف يتشكل داخل الرأس ويكون لدينا كامل الرضى عنه، فلا يروق لنا تغييره، ويصعب تتبع منشأ هذا الرضى لأنه ليس من منشأ عقلي فقط، بل وكذلك من منشأ شخصي ونفسي وجمالي حتى. هناك طرفة كردية بنفس الدلالة تقول، إن الله جمع الأرزاق ثم أعاد رميها، فركض كل شخص يريد حيازة رزق غيره، ولكن حين جمع الله العقول وأعاد رميها، فقد أسرع كل شخص لالتقاط عقله الخاص.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سورية ملونة وليست ألواناً
- الخطر الجاري الذي يهدد مستقبل سوريا
- درس علوي في سورية يجدر تأمله
- مخاطر الانتقال إلى سوريا جديدة
- عن مظاهرات السوريين العلويين
- هل انتصرت الثورة في سوريا؟
- الموالون وتلاشي نظام الأسد
- عن سورية والتطورات الأخيرة
- نزوع الضحية إلى السيطرة
- انتصارات إسرائيل الخاسرة
- عن اللوثة الطائفية في سوريا
- التكيّف مع الاحتلال
- تحول حزب الله من المقاومة إلى الردع
- نحن والاحتجاجات في إسرائيل
- عن انقسام عقيم يلازم السوريين
- أفكار في النقاش السوري العام
- سأبقى أذكر ذلك المساء المختلف في السجن
- غزة، التنافر بين الحق وتمثيله
- دروس قاسية تنتظر الفرنسيين
- القضاء الدولي، مقايضة شعوب بأفراد


المزيد.....




- -مذكرات آن فرانك- تجسد الخلود الأدبي بعد مرور 80 عاما على وف ...
- الشاعر المغربي صلاح بوسريف: النقد العربي بحاجة لمراجعات في ا ...
- فيلم -إميليا بيريز- للمخرج الفرنسي جاك أوديار يحصد سبع جوائز ...
- فيلم لأيقونة حركة -أنا أيضاً- اليابانية يترشح لجائزة الأوسكا ...
- تفاصيل صادمة حول وفاة النجم الأمريكي جين هاكمان وزوجته
- زاخاروفا تستذكر فيلم -قلب الكلب- في تعليقها على مشادّة زيلين ...
- فنان مسرحي ومدفعجي رمضان... رجائي صندوقة .. صوت هادر على تلة ...
- فنانو غزة يحولون الركام إلى لوحات احتفالية بقدوم شهر رمضان
- بعد سنوات من السطوة.. تحرير المركز الوطني للفنون البصرية في ...
- مصر.. إصابة الفنان أحمد السقا أثناء تصوير مسلسل


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الحقيقة ليست مزاراً، عن جدوى النقاش