بهجت العبيدي البيبة
الحوار المتمدن-العدد: 8268 - 2025 / 3 / 1 - 11:42
المحور:
الادب والفن
يأتي رمضان كزائر كريم، لا يشبهه زائر، يحمل بين أيامه نفحات من نور، ويمسح ببركته غبار الأيام المتعبة. هو شهر ليس كغيره، لا في وقته، ولا في أثره، ولا في ما يتركه من بصمات على أرواحنا، فتشعر القلوب فيه وكأنها عادت طفلة تتلمس طريقها إلى الطمأنينة، وكأن الزمن يتوقف ليمنحنا فرصة نادرة لنعود إلى ذواتنا في أصفى حالاتها.
لكن رمضان، رغم ثباته في الزمان، يختلف في المكان، فما بين أرض وأخرى، وسماء وأخرى، تختلف الأجواء وتتنوع المظاهر، ويبقى جوهره واحدًا، إلا أن الروح التي تسري فيه ليست واحدة، والدفء الذي يغمر القلب ليس نفسه في كل بقعة.
للمغتربين، رمضان هو اختبار آخر من اختبارات الغربة، فصل جديد من حكاية الحنين، فمهما حاولوا أن يستحضروا ملامحه، مهما أعدّوا موائده، وأضاءوا مصابيحه، وتبادلوا التهاني، فإن هناك شيئًا خفيًا يظل غائبًا، شيئًا لا تصنعه الطقوس ولا تعوّضه العادات… إنه تلك الروح التي لا تسري إلا على تراب الوطن، ذلك الدفء الذي ينبعث من الأزقة الضيقة حيث تصدح التكبيرات من المآذن العتيقة، حيث تتلاقى الأعين قبل الأيدي في تبادل التمر والماء عند الأذان، حيث صوت المسحراتي يشق سكون الليل، وحيث الأطفال يركضون في الشوارع بفوانيسهم الصغيرة، تعلو ضحكاتهم كما لو أنهم يركضون نحو السماء.
في الغربة، نحاول أن نصنع رمضاننا كما كان، نطهو ذات الأطعمة التي اعتدنا عليها، نجتمع في المساجد كما كنا نفعل، نتشارك الإفطار مع الأصدقاء كما كنا نتشارك مع الأهل، لكن شيئًا ما ينقص، شيء لا نستطيع أن نسميه بدقة، لكنه يظل فراغًا نشعر به في أعماقنا. ربما هو ذلك الشعور بأن الأرض التي نقف عليها ليست تلك التي درجت عليها أقدامنا أول مرة، وأن النسيم الذي يلامس وجوهنا ليس ذاك الذي حمل إلينا أصوات الأمهات في نداء الإفطار، وأن الشوارع التي نعبرها ليست تلك التي خطونا فيها أولى خطواتنا صائمين في صبانا، نحاول مقاومة العطش لكننا منتشون بذلك الإنجاز الصغير الذي كنا نظنه آنذاك عظيماً.
ورغم كل ذلك، يبقى رمضان أكبر من أن تحده الجغرافيا، وأوسع من أن تضيّقه المسافات، فالنور الذي يحمله لا يعرف حدودًا، والطمأنينة التي يبثها تتسلل إلى القلوب مهما بعدت بها الديار. قد نفتقد تفاصيله كما عرفناها، لكن روحه تظل معنا، تهمس في أعماقنا أن الفرح لا يزال هنا، وأن البركة تحل حيثما حل الإيمان، وأنه ما دامت قلوبنا معلقة بالسماء، فإن رمضان سيظل عيد الروح، سواء كنا تحت أنوار المدن البعيدة، أو فوق تراب الوطن الذي يسكننا وإن لم نسكنه.
#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟